ثمّة «ميم» منتشر على الإنترنت يخاطب قلوب الخجولين وعقولهم، ربما رأيتَه، كانت فحوى فكرته كالتالي: «المخ: أراك تحاول النوم؛ هلّا سمحتَ لي أن أعرض عليك أشد ذكرياتك حرجًا عَبر السنوات العشر الماضية؟»
بدايةً، يبدو غريبًا أنّ هذا الميم ذائعٌ ومنتشر بين أولئك الذين تُسميهم «جيل الألفية»(*)؛ الذين نشؤوا على ثقافة الاعتداد بالنفس في التسعينات؛ فنحن من تربَّى على أن نُحب أنفسنا؛ لا أن نُعذّبها تعذيبًا صامتًا بذكريات عمرها عقد كامل، تعلّمنا في فصولنا الدراسية كم نحن مميزون؛ وكان مفاد ثقافة علم النفس الرائج السائدة آنذاك أن الثقة العالية بالنفس طريقُنا نحو النجاح.
ومع ذلك تبيّن أن ذلك إعدادٌ رديء للتعامل مع إحراجات الإنسان اليومية، بدلًا من محاولة التركيز على حب نفسك؛ اسمح لي أن أقترحَ موقفًا عُرف عنه أنه نقيض الحُب: اللامبالاة.
في مطلع الألفية الثالثة؛ ومع شيخوخة ثقافة الاعتداد بالنفس؛ بدأ باحثو علم النفس في نشرِ سلسلة بحوث عمّا يُسمى بمسامحة النفس، التي تُعرِّفها «كريستن نيف» بما يلي:
«أن يكون المرءُ مُنفتحًا على معاناته ومتأثرًا بها؛ وأن يخُبر مشاعر العطف والعناية تجاه نفسه؛ مُتخذًا موقفًا مُتفهمًا وغيرَ تقييمي إزاء عيوبه وإخفاقاته؛ وأن يدرك أن تجربته الحياتية جزء من تجربة انسانية مشتركة».
سعت جلّ البحوث في ذلك الحين إلى المقابلة بين مسامحة النفس والاعتداد بالنفس؛ خذ -مثلًا- هذه الدراسة المتعلقة «بالميم» المذكور أعلاه؛ حيث طلب الباحثون من طلّاب جامعيين أن يتذكروا ذكريات محرجة وقعت لهم في المرحلة الثانوية، ثم بعد ذلك قُدّم لعددٍ من الطلاب مواضيعَ كتابية كان المقصد منها إظهار جانب مسامحتهم لأنفسهم؛ إذْ قيل لهم: «اذكر طرقًا خاضَ فيها الناس تجارب مماثلة» وعبِّر عن «تفهّمهم لأنفسهم، وعطفهم عليها، واهتمامهم بها كما لو كانوا يفعلون ذلك لصديق». بينما قُدّم لبقية الطلاب مواضيع كتابية كان الغرض منها تأجيج اعتدادهم بأنفسهم؛ فقد طُلب منهم أن «يكتبوا صفاتهم الإيجابية» وأن يصفوا لِمَ لم يكن الخطأ خطأهم، وأن الواقعة «لا تعكس، بأي حال من الأحوال، حقيقة شخصيتهم».
الفكرة التي يريد إيصالها الباحثون من تلك الورقة العلمية المعنونة بـ«توابع معاملة المرء لنفسه معاملةً عطوفة» (‘The Implications of Treating Oneself Kindly’)، مفادها أنّ اتِّباع مبادئ الاعتداد بالنفس سيقودك إلى محاولة إقناع نفسك بأن التصرّف الغبي الذي فعلته لم يكن غبيًا على أي حال، أو إن كان كذلك؛ فالخطأ خطأ شخص آخر.
سيقودك الاعتداد بالنفس إلى التركيز على صفاتك الإيجابية والمذهلة، بينما مفاد فكرة مسامحة النفس هي أن الاعتراف بدورك في لحظةٍ محرجة تصبّ في صالحك. حينما تعود الذكريات ليلًا، فشخصٌ متسامح مع نفسه سيقول لها: «هاه، نعم، لكَم كان ذلك محرجًا».
لكنه سيقول لنفسه -أيضًا-: «وماذا في ذلك؟»؛ كثيرٌ من الناس أحرجوا أنفسهم في مواقفٍ مماثلة. أظهرتْ هذه الدراسة -أخيرًا- أن أولئك الذين وُجّهوا نحو تعزيز الاعتداد بأنفسهم، قد ازداد شعورهم سوءًا بعدما تذكروا الموقف المحرج في المرحلة الثانوية، أكثر من أولئك الذين مالوا إلى مسامحة أنفسهم.
فقدتْ ثقافة الاعتداد بالنفس بريقها، ويبدو أن ثقافة مسامحة النفس قد أخذت تحِلّ محلها مع مرور الوقت. العناوين التي بدأت تظهر هي من قبيل: «لماذا حُب النفس مهمًّا وكيف نُنميه»، «8 خطوات نحو حب النفس»، «سر تحقيق السعادة الذي ليس سرًا: كن عطوفًا مع نفسك، حسنًا؟» (طيب. نعم، أنا من كتب المقالة الأخيرة). ينصبّ تركيز حكايات علم النفس الرائج على الجزء الأول من تعريف «نيف» البالغ خمسة عشر عامًا: «وأن يُخبر المرءُ مشاعر العطف والعناية تجاه نفسه؛ مُتخذًا موقفًا مُتفهمًا وغيرَ تقييمي إزاء عيوبه وإخفاقاته». بعد قراءة العديد من هذه المقالات يخال المرء أن مسامحة النفس تُطابق العطف عليها، ولا شيء عدا ذلك.
لكن الجزء الآخر من التعريف هو الذي أثبت نجاعته بالنسبة لي: «وأن يُدرك أن تجربته الحياتية جزءٌ من تجربةٍ بشرية مشتركة». مفاد الفكرة هو أن تنظر إلى نفسك من بعيد، وتدرك أنك متشابهٌ مع الآخرين أكثر من اختلافك عنهم، بل أن تأخذ في الحسبان أيضًا (وربما على وجه الخصوص) كم قد تكون سخيفًا. كما قالت «نيف» في إحدى مقابلاتها مع صحيفة «ذا أتلانتيك» عام 2016: «حينما نفشل؛ لا يجدر بنا قول: (كم أنا مثير للشفقة) بل (حسنًا، كلنا يفشل). كلنا نعاني؛ هذا ما يعنيه أن تكون إنسانًا».
في واقع الأمر؛ إن هذا الجزء من تعريف مسامحة النفس هو ما يجعلني أتساءل إن كان ينبغي أن نطلق عليه مسامحة نفس أصلًا. لا شأن لمفهوم «نيف» بملاطفة نفسك، أو ليس بإطلاق على أي حال، هذه الجزئية من التعريف ليست عنك فعليًا، بل هي عن أهمية التذكر بأنك لستَ إلا جزءًا صغيرًا من كلِّ متصل.
بالنسبة لي، مصطلح «اللامبالاة بالنفس» يُبلّغ هذا الجزء من رسالتها أكثر من مصطلحها نفسه: حينما يتعلّق الأمر باللحظات المحرجة؛ فذلك يعني أنك تسلّط الضوء على سلسلة عيوبك، وأن تعترف بأن، نعم، تلك اللحظة كانت بتلك الدرجة من السوء، لكنك ترد بِهزِّ كتفيك لا مباليًا. قد نُطلق على ذلك -عودة إلى فكرتي السابقة- «اللامبالاة بالنفس»؛ وأعني بها تلك الطمأنينة التي تجدها في إدراك أنك لستَ مميزًا.
وبالمناسبة، في حقيقة الأمر «اللامبالاة بالنفس» و«مسامحة النفس» ليست إلا مصطلحات جديدة لمفهومٍ قديم وهو: «التواضع». ننحو نحو الاعتقاد بأن التواضع يعني أن تُقلل من قيمة نفسك، وهذا سوءُ فَهْمٍ يبدو أنَّ دراسةً قريبةَ عَهْدٍ (في مجلة علم النفس التطبيقي) قد وقعتْ فيهِ؛ في دراستها للـ«قادة المتواضعين»؛ تواضع المدير -كما يرى هؤلاء الباحثون- يُعرَّف على أنه: «تقبُّل المرء لحدودهِ وتقصيره وأخطائه». أن تكون متواضعًا، في نظر هؤلاء الباحثين، يعني التركيز على عيوبك.
لكن الباحثين المعاصرين الذين درسوا التواضع يرونه رؤيةً مختلفة؛ لا يركز المتواضعون على عيوبهم -ليس بالخصوص على أي حال- بل بالأحرى هم لا يركزون على أنفسهم أصلًا. «لا يعني ذلك أن المتواضع لا يهتم بمصلحته ولا يسعى وراء اهتماماته، بل يراها ببساطة مترابطة مع مصالح الغير واهتماماتهم». كما كتب باحثون عام 2017 (في مجلة علم النفس الإيجابي): أنت مهم، وأهلٌ للحب. كما تعلمنا نحن أبناء جيل الألفية في المدارس. أنت مهم؛ لأن كل أحدٍ غيرك مهم. يذكرني ذلك -مجددًا- بتعريفٍ ما أسْمَتهُ «نيف» بـ«مسامحة النفس»، وهو ما أسميته بـ«اللامبالاة بالنفس»: «أن يدرك المرءُ بأن تجربته الحياتية جزءٌ من تجربة إنسانية مشتركة». فلعلّ أشد الأفعال تسامحًا تجاه نفسك هو أن تكف عن هوسك بها.
تلك هي الراحة العظيمة التي تبثها اللامبالاة بالنفس، خصوصًا في نفوس أولئك الذين نشؤوا على ثقافة الاعتداد بالنفس. الحقيقة هي أنك لستَ محور الكون. أوَليس ذلك رائعًا؟
(*) توجد اختلافات في تحديد من يمثل جيل الألفية في الغرب، وإن كان المصطلح نشأ من هموم بحث علمية؛ إلا أنه انتشرَ في الاستعمال اليومي بين الناس تحديدًا لملامح اجتماعية معينة لِطَيفٍ اجتماعي ولدَ ما بين الثمانينات إلى بداية الألفية الثالثة، وقد يكون أبرز هذه الملامح الاجتماعية هو استخدام أجهزة التواصل الحديثة بأريحية ودرجة أكبر من الأجيال السابقة. بيدَ أن استعمالَ هذا المصطلح له معنى آخر في سياقنا اليومي؛ إذْ إنَّ لغتنا اليومية تميّز بين الأجيال بناءً على العقود (مواليد الثمانينات، مواليد التسعينات.. إلخ) فتعني أيضًا بجيل الألفية من وُلد في بداية الألفية الثالثة وما بعدها، وهذا استعمال يبدو أكثر حضورًا في سياقنا منه في سياقهم.