مقالات

ماذا خسرنا بخسارة الدين – مارسيل غوشيه

ترجمة: محمّد الحاج سالم

 

كلمات دلاليّة: دين – حداثة – أنسنة – علمانيّة.

 

تقديم:

لعلّ أهمّ ما يُميّز أعمال الفيلسوف والمؤرّخ الفرنسيّ مارسيل غوشيه (Marcel Gauchet) على تعدّدها هو محاولته رسم جينيالوجيا الشّرط الحداثيّ انطلاقًا من التّاريخ السّياسيّ للأديان. وبعد عقود من عدم اهتمام الدّوائر المعرفيّة بجهوده، أضحى خلال السّنوات العشر الأخيرة من الفلاسفة المسموعة كلمتهم، وازداد طلب الجمهور عليه إلى درجة العجز عن عدّ المؤتمرات والنّدوات التي يستجيب لها فيلسوفنا لإلقاء الضّوء على زمننا الرّاهن عملًا بالمبدأ الذي ظلّ يدافع عنه منذ ثلاثين عامًا في مقالاته في مجلّة الحوار (Le Débat)  بمعيّة  بيار نورا (Pierre Nora) : أن لا نفكّر نيابة عن الناس، بل نعطيهم الوسائل كي يشكّلوا آراءهم الخاصّة بطريقة متبصّرة.

وُلد مارسيل غوشيه عام 1946 في منطقة المانش الفرنسيّة، من أبٍ عامل طرقات وأمّ خيّاطة. وتلقّى تعليمه في المدرسة العليا للمعلّمين (l’École normale d’instituteurs) التي انقطع عنها لفترة قبل أن يستأنف دراسة الفكر السّياسيّ في ماي 1968 تحت إشراف الفيلسوف كلود لوفور  (Claude Lefort)، ليتفرّغ من حينها تمامًا لهذا الأمر. وقد رسمت لقاءاته الفكريّة مع زوجته الطّبيبة النّفسانيّة غلاديس سوين (Gladys Swain)، والأنّاس بيار كلاستر (Pierre Clastres)، والمؤرّخ فرانسوا فُوري (François Furet)، والفيلسوف بيار مانانت(Pierre Manent) ، وآخرين كثر، مسارًا غير معهود في دراسة الفكر الديني والسياسي من زاوية إناسيّة، لكنّه مسار موسوعيّ وعميق بكلّ المقاييس. ويشغل مارسيل غوشيه حاليًّا منصب مدير دراسات بمدرسة الدّراسات العليا للعلوم الاجتماعيّة (l’École des hautes études en sciences sociales) ورئيس تحرير مجلّة الحوار (Le Débat)، وقد أصدر إلى حدّ الآن أكثر من عشرين كتابًا وأكثر من سبعين مقالاً [انظر أهمّها أدناه]. ونحن نقدّم له هذا المقال المختزل والمكثّف حول إشكاليّة دور الدين في المجتمعات الحديثة، وخاصّة في أوروبّا الساعية حثيثًا نحو عصر ما بعد الحداثة، مع عودة غير متوقّعة إلى الدين بوصفه آخر إمكان مُتاح لمعاودة أنسنة العالم.

*****

النص:

عنوان مقالي بالطبع استفزازي. وقد اخترته كي ينتفض جميع من هم مقتنعون، وأتصوّر أنّهم كثيرون، بأنهم غير مدينين للدين بأيّ شيء من قريب أو بعيد، ويعتقدون بالتالي اعتقاداً جازماً بأنّهم لم يخسروا شيئاً في التقلبّات الأخيرة التي نزعت عن العقائد المسيحيّة القسم الأكبر من النفوذ الاجتماعي الذي ما تزال تحتفظ به في أوروبّا. وبما أنّ الدين، وهذا طبيعي عند كلّ عاقل اليوم، مسألة اختيار فردي وانتماء شخصي وقناعة داخليّة، فإنّني لن أتحدّث عن هذا الدين. الأطروحة التي سأدافع عنها هي أنّنا مدينون كلّنا حتّى وقت قريب بشيء مّا للدين، بصرف النظر عمّا إذا كان ذاك الشيء معتقداً أو انتماءً أو التزاماً من أيّ نوع، وأنّنا فقدنا جميعنا شيئاً مّا في خضمّ التحوّل الهائل الذي نعيشه منذ ثلاثين عاماً والذي يعمل حاليّاً، من بين أمور أخرى، على تصفية بقايا الانتظام الديني التي ما تزال تعيش بيننا. إنّه شيء ذو علاقة مباشرة بـ “تجريد العالم من الإنسانيّة”، وهذا ما يقلقنا.

ولا تخلو هذه الظاهرة من تناقض، إذ تميّزت الحقبة الأخيرة في نواحٍ أخرى، بتبدّد ما بقي من الأحزاب الدينيّة بمنجاة عن التبعيّة وانتصار المبدأ الميتافيزيقي لاستقلاليّة البشري. ما من أحد منّا، بمن في ذلك المؤمن الأشدّ اقتناعاً، يشكّ في أن الرابطة المجتمعيّة التي تشدّ بعضنا البعض هي من فعل البشر، ومن فعل البشر وحدهم، دون أيّ سبب في التاريخ يقتضيها. ومن وجهة النظر هذه، لم تكن أديان الخلاص السياسي المزعومة أقل تأثّراً من الديانات الكبرى المتشكّلة. وبهذا المعنى الميتافيزيقي، فمن المعقول الحديث عن حصول تقدّم في أنسنة العالم. وحيث يرى المرء أنّ مسألة التجرّد من الإنسانيّة التي تشغلنا يمكن أن تكون ذات صلة بالطرائق العمليّة غير المتوقّعة لهذه الأنسنة الميتافيزيقيّة؛ فإنّ هذه الأنسنة يمكنها الحفاظ على صلة خفيّة مع الأشكال الاجتماعيّة الملموسة التي تتلبّس بها.

هذا الشيء الذي يتهرّب منّا والذي ندين به في رأيي لتراث الأديان، ليس سوى الشيء الذي يسمح لنا بإدراك مجتمعاتنا بوصفها مجموعات متماسكة والنظر في سُبُل التأثير عليها في الجملة بما يسمح بتغييرها بطريقة منسّقة، بغضّ النظر عن الكيفيّة التي نتصوّر بها فعل التغيير هذا، سواء أردناه تدريجيّاً، أو تمنّينا أن يكون جذريّاً. إنّ السجال لم يَعُدْ قائماً بين الإصلاح والثورة: لم يعد يُوجد إصلاح ولا ثورة، بل تُوجد تغيّرات علينا إدارتها أو تدبّرها بطريقة أو بأخرى، ولكنّها في العمق تستعصي عن إراداتنا.

إنّنا نعيش على اليقين المطمئنّ بأنّه يمكننا التحكّم في الشأن الجماعي وفكّ شفرة ديناميّاته الداخليّة، وإلى حدّ ما تحديدها، والتحكّم في بنائه لنفسه عبر الزمان. لم يكن هذا مجرّد افتراض، كان بديهيّة ملموسة. لكن هيهات، فقد كنّا نستند إلى طمأنينة خادعة. ذلك أنّ خضوع الاجتماعي لإرادة فاعليه ليس بدهيّاً ولا خاصيّة طبيعيّة فيه، بل هو يعكس حالة تاريخيّة معيّنة للمجتمعات التي تعيش الآن التفكّك. وفي الواقع، نحن ندين بمثل هذا الاتّساق والنفاذ النظري والعملي الناتج عنه، لإصرار النمط الديني على هيكلة المجتمعات البشريّة، وهو نمط هيكلة تمكّن من العيش في غير جلبة بعد موت الانتظام الديني للعالم.

لقد عشنا خمسة قرون من التحوّل الحديث (1500-2000)، وهي خمسة قرون جرى خلالها القطع البطيء مع النظام الإلهي ضمن رابطة اجتماعيّة ذات شكل ديني استمرّ قائمًا إلى الآن. ذلك أنّ التعريف الصريح لمدينة البشر من خارج الدين تمّ ضمنيّاً على أسس دينيّة، واستمرّت تلك المدينة في بناء تنظيمها المستقلّ شيئًا فشيئًا استناداً إلى هيكلة خارجة عنها يمكن القول إنّها كانت تفقد ثباتها تدريجيًّا، ولكنّها ما تزال باقية بعناد إلى حدّ وقت قريب. هذه هي القاعدة الضمنيّة التي سمحت لنا بأن نحلم بالزمن الذي سيشهد سيطرة المجتمع على نفسه سيطرة تامّة. وفي انتظار حدوث ذلك، سمحت لنا بالتأثير بطريقة حصيفة في المجتمعات الموحّدة بما يكفي لكي تتحمّل عبء السيطرة على آليّات اشتغالها.

لا يمكنني أن أدّعي في عبارات قليلة شرح طبيعة نمط الهيكلة الديني هذا ومضمونه، لكن سبيلي أن أؤكّد فحسب رسوخ بنيته في قاعدة المشروع الحديث من خلال ثلاثة ملامح أساسيّة، وهي: التراث والانتماء والهرميّة. ففي المقام الأوّل، علينا أن نُظهر كيف تغذّى التاريخ الجديد المدهش المتّجه نحو المستقبل باستمرار، من الارتباط الموحّد مع الماضي المتجسّد في التراث. كما علينا ثانيًا، بيان كيف استمرّ ترسيخ سلطان الفرد الحقوقي، في افتراض انخراط ذاك الفرد في مجتمعات، وهي مجتمعات قائمة على العضويّة الطوعيّة بالتأكيد، ولكنّها بصفة خاصّة جماعويّة بشكل مكثّف أكثر من كونها قائمة على مشاركة طوعيّة من أعضائها. كما علينا أخيرًا إظهار كيف تغذّى المثل الأعلى للحكم الذاتي والرغبة في إقامة مجتمع سياسي قادر على إنشاء قانونه الخاصّ، من الصورة القديمة لسلطة متوحدّة مع المجتمع، هي ما يصله بأسباب وجوده العليا.

وهذا التوافق المنظِّم بين مضمون مستقلّ وشكل مستمدّ ضمنيّاً من التبعيّة، هو ما ذاب مع اضمحلال إرث عصر الأديان. أمّا ما نحن مدينون به للتراث السحيق للأديان، فهو اكتساب السلطان على عالمنا والقدرة على التطلّع إلى مزيد من السلطان عليه. وهذا ما خسرناه.

وبمعنى من المعاني، وهذا ما ذكرته في البداية، فقد أكملنا استعادة السلطة على أنفسنا، بيد أنّ هذا الفتح الغيبي الأقصى قد اتّخذ وجهاً اجتماعيّاً غير متوقّع، إذ حقّق تحرّر الأفراد. لقد حرّرهم من تلك الأطر التي تكرّس بصمة النظام الديني في غمار مجتمع علماني، وخلّصهم ممّا يمكن أن يشكّل قيداً تجاه التراث. لقد حرّرهم ممّا يمكن أن يفرض عليهم واجبات تجاه الجماعة المرجعيّة، من الأسرة إلى الأمّة. لقد حرّرهم من التقديس الهرمي، من ارتباطات طاعة السلطة، حتى وإن كانت مقبولة. وفي كلمة واحدة، منحهم أو هو يميل إلى منحهم، مطلق السلطان على أنفسهم. لكنّه بفعله هذا، أفرغ كلّ سلطة جماعيّة محتملة من مضمونها.

نحن نتمتّع بحرّية لا مثيل لها في حكم أنفسنا بأنفسنا، كلّ منّا في ركنه المكين ولحسابه الخاصّ. لكن أفق قيام تدبير مشترك لشؤوننا، تبخّر. لم يعد لفكرة السيطرة على تنظيم عالمنا من أساس أو أدوات أو معالم، ولم يعد يمكننا مطلقاً تخيّل العمل التاريخي إلاّ كمحصّلة لعدد لا يُحصى من المبادرات المتناثرة، كلّها شرعيّة وكلّها مصمّمة تصميمًا راسخاً على عدم التفريط في شيء من استقلاليّتها. وبعبارة أخرى، لم يعد يُمكننا تصوّر التعايش الإنساني إلاّ تحت سقف سوق معمّمة، وكأنّه التجسيد الوحيد لإمكان التعايش بين حرّيات متساوية. وهذا ما يذكّرني، وأقول هذا بشكل عابر، بأنّ التشهير بالاقتصاد أو بالرأسماليّة التي تعاود الظهور مستقوية بالمكتسبات وبالعادات القديمة، أضحى بلا معنى. فهذا التشهير لا يتصدّى إلاّ لما هو نتيجة أو عَرَضٌ، دون أن يستهدف المصدر. وبهذا، فهو مجرّد وجه جديد نُضيفه إلى العجز الذي نناهضه ونحتّج عليه.

الحقّ أنّه قد يكون من الصعب احتمال مواجهة سبب معضلاتنا، إذ هو يُخاتل جميع ما تعلّمنا أن نفكّر فيه. وهذا التجريد الذي لا يأتي من الخارج، بل ينبثق من دواخل ذواتنا، أليس هذا هو الاسم الحقيقي لتجريد العالم من الإنسانيّة؟

 


 

أصدر مارسيل غوشيه أكثر من عشرين كتابًا، من أهمّها :

  • La pratique de l’esprit humain : L’institution asilaire et la révolution démocratique(en collaboration avec Gladys Swain), Gallimard, Paris, 1980.
  • Le Désenchantement du monde. Une histoire politique de la religion, Gallimard, Paris, 1985.
  • La Révolution des droits de l’homme, Gallimard, Paris, 1989.
  • L’Inconscient cérébral, Seuil, Paris, 1992.
  • Situations de la démocratie (en collaboration avec Pierre Manent et Pierre Rosanvallon), Seuil, coll. Hautes Etudes, Paris, 1993.
  • Dialogue avec l’insensé – À la recherche d’une autre histoire de la folie (en collaboration avec Gladys Swain), Gallimard, Paris, 1994.
  • Le Vrai Charcot : Les chemins imprévus de l’inconscient (en collaboration avec Gladys Swain), Calmann-Lévy, Paris, 1997.
  • La religion dans la démocratie : Parcours de la laïcité, Gallimard, Paris, 1998.
  • Le religieux après la religion (avec Luc Ferry), Grasset, Paris, 2004.
  • Un Monde désenchanté ?, Éditions de l’Atelier, 2004.
  • L’Avènement de la démocratie, t. I : La Révolution moderne, t. II : La crise du libéralisme, Gallimard, Paris, 2007.

كما نشر أكثر من سبعين مقالاً، من أهمّها:

  • « La logique du politique », Critique, n° 329, 1974.
  • « Politique et société : la leçon des sauvages », Textures, n° 10-11 , 1976.
  • « La dette du sens et les racines de l’État. Politique de la religion primitive », Libre, n° 2, 1977.
  • « De l’avènement de l’individu à la découverte de la société », Annales. Économies, sociétés, civilisations, n° 3, 1979.
  • « De l’inexistentialisme », Le Débat, n° 1, 1980.
  • « Fin de la religion ? », Le Débat, n° 28, 1984.
  • « On n’échappe pas à la philosophie de l’histoire. Réponse à Emmanuel Terray », Le Genre humain, n° 23, 1991.
  • « Le mal démocratique », Esprit, n° 195, 1993.
  • « Croyance religieuse et croyance politique », Le Débat, n° 115, 2001.
  • « Ce que nous avons perdu avec la religion », Revue du MAUSS, n° 22, 2003.
  • « Du religieux, de sa permanence et de la possibilité d’en sortir » (Discussion avec Régis Debray), Le Débat, n° 127, 2003.

المصدر:

Gauchet (Marcel), « Ce que nous avons perdu avec la religion. », Revue du MAUSS, 2/2003 (n° 22), p. 314-317.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى