من يعمل في البستنة، سيكون على دراية بما يسمّى “الجُذْمورُ” (Rhizome) كاصطلاحٍ في علم النّبات (Botany). إنّه نوع من النّباتات – تنتمي إليه النّبتة المعروفة باسم “اليهوديّ التّائه” (wandering jew) والّتي تتميّز بغزارة الإنتاج – تنبثق من الأرض وتمتدّ فوق منطقة واسعة، على شكل نباتات منفصلةٍ ومتجاورةٍ. ولكنّ الواقع، يكشف أنّ هذه النّباتات المنفردة “ظاهريًّا”، هي أجزاءٌ مترابطةٌ تحت الأرض، تنبثق من نبتةٍ كبيرةٍ واحدةٍ. وتكتسب هذه النّباتات دلالةً فلسفيّةً متميّزةً، إذ ترتبط بالثّنائيّ الفرنسيّ الشّهير، فيليكس غوتاري (Félix Guattari) و جيل دولوز (Gilles Deleuze).
في البداية، أودّ أن أقول “إنّ ما يلي هو مقاربةٌ لجانب واحد فقط من عملهما، وإذا كان لدى أيّ أكاديميٍّ متخصّصٍ بفلسفة دولوز وغوتاري، شكوك جديّة حول هذا الموضوع، فأنا أعترف بسهولةٍ أنّه عندما أقرأ هذه الفلسفة، أجد نفسي غبيًّا إلى حدٍّ ما – إنّ عملهما معقّدٌ بشكل غير اعتياديّ، لكنّه يستحقّ خوض غماره. إضافةً إلى أنّني حاولت أن أجعله متاحًا على قدر ما توصّلت إليه من فهم ودقّة.
في عمل دولوز و غوتاري، يعتبر “الجذمور” النّظير الفلسفيّ للمصطلح النّباتيّ. وإذا تتبّع المرء اتّجاه تفكيرهما، بطريقة متّسقة، يتبيّن له أنّ العديد من الأشياء في العالم وبالحريّ “كلّ الأشياء” – هي جذامير (ج:جذمور)، أو هي مترابطة ومتداخلةٌ جذموريًّا (Rhizomatically interconnected)، على الرّغم من أنّ مثل هذه التّعالقات، نادرًا ما تكون ظاهرةً.
يبدو أنّ الحيوانات أو الحشرات الّتي تعيش على نحو تكافليّ، هي مثال واضح على هذا المفهوم؛ فالتّماسيح عندما تتمدّد تحت أشعّة الشّمس فاتحةً فكّها الضّخم، تسمح للطّيور الصّغيرة أن تقتات بقايا اللّحوم العالقة بين أسنانها من دون أن تفترسها – وبهذه العمليّة المتبادلة، تُشكّل سويًّا جذمورًا. في الحقيقة، عندما يتعامل النّاس مع هذه القضيّة بشكل منفصل، فإن قلةً منهم يتوصّلون إلى هذه الفكرة ومفادها أنّ إدارة هذه الفصائل الحيوانيّة لحاجاتها الحياتيّة، هي عمليّات متلاصقةٌ بشكلٍ جذموريّ (Rhizomatically Conjoined).
هناك طريقة أخرى للتّعبير عن مفهوم الجذمور باستخدام لغة دولوز وغوتاري؛ وذلك من خلال النّظر إلى الطّيور والتّماسيح على أنّها تشكّل مع بعضها “مجموعةً مركّبةً (Assemblage)، والّتي بدورها تُشكّل جزءًا من مجموعةٍ أكبر أو جذمورًا، يشار إليها عادةً باعتبارها مجموع الكيانات الإيكولوجيّة أو البيولوجيّة المترابطة داخليًّا وغير المتجانسة (Heterogeneous) أو بعبارةٍ أكثر دقّةً، عمليّات “تختلف في الإيقاع والسّرعة”.
إنّ النّحل حينما يمتصّ رحيق النّبتات فهو يشكّل معها جذمورًا أو مجموعةً مركّبةً، تمامًا كما يفعل الكتاب، وفقًا لما ذكره دولوز وغوتاري في كتابهما “ألف هضبة” (A Thousand Pleatus). باختصارٍ، الجذمور أو المجموعة المركّبة – بحسب أنطولوجيا دولوز وغوتاري – هي نموذج يعمل عمل “البلّورة” (Crystal)؛ فباعتبار المنحى البتروليّ، إنّ البلّورة تتضمّن في حدّ ذاتها طبقات مكثّفة من المعدن، هي من الناحية الصّوريّة جذامير أو مجموعات مركّبة. ونعني بها، الطّبقات المتكدّسة أي “التّصفيح” (Lamination) للمكوّنات المترابطة بعلائق داخليّة، ديناميكيًة، وكميًة والمتمايزة نوعيًّا في الواقع الشكلي- الجذموري (Rhizomorphic Reality).
لفهم مصطلح “الجذمور”، يذكر دولوز وغوتاري بعضًا من خصائصه؛ يتميّز “الجذمور” عن الطّريقة التّقليديّة في التّفكير الفلسفيّ الّذي ينظر إلى التّرابط بين الأشياء على أنّه “شجريّ” (Arboreal) مثل ما يعنيه مصطلح “الجذر” (Root) تضمينيًّا. وبقدر ما تذهب إليه “مبادئ الاتّصال وعدم التّجانس” يأتي “الجذمور” ليشير، إلى أنّه يمكن ربط أيّ شيء بأي شيء آخر في أيّ وقتٍ، على عكس ما يفترضه خطاب-الجذر (Root-speech) “الشجريّ”، والّذي هو أساس التّفكير الثّنائيّ (Binary thinking).
وسواء أشئنا أم أبينا، نحن نعيش في تعدّد؛ لذلك، في ما يتعلق بمبدأ “التعدّديّة” (Multiplicity)، يجب أن نفكّر بنحو “جوهريّ”، ذلك أنّ للتعدّديّة أولويّة أنطولوجيّة، وهي ليست مجرّد “المتعدّد” (the Multiple). وفي هذا الصدد يقول دولوز وغواتاري: “التّعدّديّة ليست موضوعًا أو هدفًا، بل هي فقط تحديداتٌ، أحجامٌ، وأبعادٌ لا يمكن أن تزيد في العدّد دون تغيير التّعدّد في الطّبيعة”. وتاليًا، فإن قوانين التّركيب (laws of combination) تتزايد في العدد على قدر ما تنمو التّعدّديّة.
يبدو لي أنّ المقصود هو التّعقيد المتزايد للعالم؛ فالولادات تزداد في مقابل الوفايات، إضافةً إلى ظهور المزيد من المستويات الوجودية للتّعدّديّة، والّتي تتفاعل بالضّرورة مع المستويات الأخرى. فكّر في كل شيء يواجهه المرء في “الواقع الافتراضي” أو في “الفضاء الإلكترونيّ”، وتأثير هذه الظّواهر على الواقع الاجتماعيّ الملموس. فمنذ ظهور الإنترنت، والعالم يزداد تعقيدًا عبر تسارع وتيرة التّعدّديّة.
من ناحية أخرى، وعلى عكس فكرة “الدّلالة المفرطة للخروقات (Breaks) التي تفصل ببن البنى” – داخليًا أو خارجيًا – يقترح دولوز وغوتاري، المبدأ القائل بأنّ الجذمور “المصدّع” (Ruptured Rhizome) سيعيد إحياء نفسه دائمًا، مثل جذمور النّمل البيولوجيّ، والّذي سيعاود الظّهور حتى لو بدا أنّه تمّ إبادته. إذا كان ما فهمته صحيحًا، فهذا يعني أن الخروقات الدّائمة (Conclusive Breaks) أو الانفصالات (separations) غير متاحة في مجال التّعدّديّة الجذموريّة، كل شيءٍ مترابطٌ. وبصرف النّظر عن المكان الّذي تبدأ منه، يمكنك معاينة التّرابط من أي منطلقٍ أو ركن أو زاوية من زوايا “الواقع”، دون أي تجاوز أو تعالي (Transcendence) ممكن؛ فقط محايثة (Immanence). فضلًا عن أنّه، لا يمكنك أن تشغل نقطةً أو موضعًا ثابتًا إذ “لا يوجد سوى خطوط”.
أضف إلى ما سبق أنّ “المجموعات المركّبة هي بالتّحديد، هذه الزيادة في أبعاد التّعدّديّة الّتي تتغيّر بالضّرورة في الطّبيعة لأنّها توسّع اتّصالاتها”. أليس من الغريب أنّ أنصار ما بعد البنيويّة، قد استغرقوا وقتًا طويلًا لإدراك ما توصّل إليه هذيْن الفرنسييْن، أنّه كلّما زاد عدد الأنواع (Kind) – البشر، النّباتات، الحيوانات – كلمّا تغيرت طبيعتها ؟ قارن قريةً قديمةً مثل تلك الموضّحة في كتب أستريكس (Asterix) لجوسيني (Goscinny) وأودرزو ((Uderzo، بشخصيّاتها المتميزة الملوّنة مع مدينةٍ ضخمةٍ اليوم، من حيث العلاقات الدّاخليّة المحتملة بين “العناصر” التّأسيسيّة المفترضة أو في كيفيّة مقاربة الأفراد لها على اعتبارها شبه-تعدّديّة (Sub-Multiplicity). إنّها معضلة تُحيّر العقل !
من النّاحية التّخطيطيّة (Cartographically)، يزعم دولوز وغوتاري أنّ الجذمور هو “خريطة وليس تتبّعًا لآثارٍ”، لأنّه “موجّهٌ تمامًا نحو تجربةٍ حسّيّةٍ على اتّصال بالواقعيّة”. مثل لاكان (Lacan)، الّذي يدرك أنّ “الحقيقيّ” ليس هو نفسه “الواقع” الّذي نعيشه، ولكن يمكن مقاربت “الحقيقيّ” فقط من خلال النّظريّات العلميّة والإبداعات الفنيّة والمفاهيم الفلسفيّة، فضلاً عن الإجراءات السّياسيّة المبتكرة. يقدّم دولوز وغوتاري، الجذمور بوصفه خريطةً تدلّ على مرونة التّفكير الجذموريّ.
انطلاقًا مّما تقدّم، وبناءً على الشّرح الموجز للغاية لهذا الجانب من تفكيرهما، يتبيّن أنّ دولوز وغوتاري قد تخلّيا عن الميتافيزيقية/الوجودية الغربية النّموذجيّة للتفكير الأصوليّ (الجوهريّ) بشكل نهائيّ – أي الميْل إلى اعتبار العالم، يتكوّن من موجودات منفصلةٍ منعزلةٍ، بدلاً من كلّيّاتٍ مترابطةٍ لا يمكن أن يقال عنها إنها “كائنة” إلّا إلى الحدّ الذي تكون فيه العلاقاتُ التأسيسيّة بينها هي بذاتها، المكوّنات (العناصر) الأساسيّة للواقع. وهذه “العلاقات” ليست “أشياء” ثابتة، لكنّها عمليّات ديناميكيّة فاعلة ومستمرّة في حركيّتها.
يلحظ مفهوم الجذمور، ما هو مضلّل للغاية في المظهر العاديّ للأشياء الّتي يُظنّ أنّها “كينونات” منفصلة – ففي حالة النّبات الّذي ينتمي إلى الجنس الجذموريّ، عادةً ما تكون الرّوابط بين عناصرهِ غير مرئيّةٍ. وفي معظم الأحيان، يُدرك المرء الجانب الظاهرَ من “الأشياء”؛ إلى أن يدخل في علاقةٍ ما مع نوع منها. تشربُ فنجان قهوةٍ، وتقوم بتنظيف أسنانك بفرشاة أسنانٍ، تأكل تفاحةً، وتحدّق بشخص جميل (أكان رجلًا ام امرأة)، وتبدي إعجابك بعمل فنيّ، وتجلس على مرحاضٍ، تتمدّد على سرير، وتمشي في الشّارع، إلخ…هكذا هي “الأشياء”، ستكون غير مفهومة إذا لم تتبدّى عبر الأنشطة الّتي من خلالها تظهر – لأوّل مرّة – أنّها “أشياء”. بعبارة أكثر دقّة، يجب النّظر إلى “الأشياء” على أنّها نقاط عقيديّة (Nodal Points)، تتبلور في مجال قوّة النّشاط الّتي تنتمي إليه (هي في حدّ ذاتها شبه- تعدّديّة).
بمجرّد أن تصل إلى هذا التفتّح الذّهنيّ، فأنت على استعداد للانتقال إلى طريقة جديدة للتّفكير الجذموريّ، والّتي تدخلك في فهم العالم باستعمال عبارات علائقيّة: العلاقات هي “الأساسيّات” الديناميكيّة للواقع تمامًا كمفهوم التعدّديّة، وليست أشياء أو كينونات منفصلة. وبمجرّد أن تفهم ذلك، فأنت على استعداد ل “ما بعد أنسنة” (Posthuman) – يجب التفريق بين مصطلحي (Posthuman) و (Transhuman)– حقيقيّة للعالم أو للمستقبل، إذا كنّا نعني “بالإنسان”، ذلك الكائن الذي يحاول دائمًا فرض هيمنته على العالم، عن طريق اختزال كلّ الموجودات وجعلها “أشياء” أو “كينونات” يمكنه السيّطرة عليها والتحكّم بها.