مقالات

مونتين وفنّ الحياة – ستيفن غامبارديلا

ترجمة: محمد السعيد | مراجعة: إبراهيم الكلثم

ضمن مقالات خاصة بمنصة معنى

 

إنْ قرأتَ للفصيلة الجديدة من كتّاب تطوير الذات، من أمثال «رواقيو السيليكون فالي»[1] و«البرين هاكرز»[2] وعلماء المستقبليات (futurists) لعصرنا التنافسي؛ فستعتقد أن الحياة علم.

يبيع مؤلفو كتب تطوير الذات الأفضل مبيعًا نصائحَ منمّقةٍ بمصطلحات تقنية وماليّة؛ وذلك رغبةً في إيهامنا أن نتعلّم كيف يمكننا «تحسين» حياتنا على أكمل وجه، و«تهكير» عقولنا، و«استغلال» مواهبنا. إنّ الأجيال المتعاقبة ترى ما حولنا من الأجهزة الإلكترونية كخلاصة مُتَمِمة للوعي الإنساني، كما يغدو الطفل الذي ربّته الذئاب نصفَ ذئبٍ.

نرى انعكاسًا مموهًا لإنسانيّتنا على صفحات «المرايا السوداء» التي نحدّق فيها يوميًا. يريد بعضهم أن يقنعنا بأن الجسد والعقل يعملان كأجهزة الحاسوب؛ فبمجرد كتابة أوامرٍ صحيحةٍ، نستطيع أن نصبح أكثر كفاءة في تحقيق أهدافنا، حتى وإن كانت أفكارنا عن هذه الأهداف -مثل الصحة والسعادة والغنى- غبشاء ومُصوّرة في عقولنا تصويرًا خاطئًا. ونعلّق آمالنا على ما قيل بأنه سيمنحنا السعادة الحقيقية؛ لأننا لم نفكّر قط فيما سيجعلنا كذلك.

أقول لمن يجد علميّة الحياة فكرةً كئيبة: إنّ كتابات ميشيل دي مونتين[3] هي عزاؤه، إذ يرى مونتين أن الحياة فنّ، وعملية بدهيّة للاكتشاف والتفكّر وإيجاد المتعة خلال رحلتنا فيها.

بل لقد سكّ مونتين لفظ «مقالة» من الفعل الفرنسي «يجرّب» لوصف كتاباته؛ فهو «يجرب» فقط حلّ المشكلات عندما تكون الإجابات شحيحة، ولا يوجد سوى الغموض والحيرة. إنّ مونتين دواء علة هذا العصر: هوس القطعيّة والوثوقية.

قال الكاتب النمساوي الجليل ستيفان زفايج بأننا تأخرنا في معرفة مونتين ككل الأشياء الجميلة في الحياة. يمكننا، بالتأكيد، التعرَض لحكمة مونتين في سن الشباب، لكن نفور الفيلسوف من اتخاذ موقفًا مُلتزمًا إزاء أيه قضية لن يجذبنا في أشدّ فترات حياتنا عنادًا وجموحًا.

كتب زفايج: «يحتاج الشباب المُثل العليا وحس المسؤولية والالتزام لكبح الطيش المشتعل في قلوبهم» ومن منطق مرحلة الشباب، مرّ زفايج على مونتين مرورَ الكرام، إذْ يقول زفايج الشاب عن مونتين: «إن حكمته رقيقة ومتّزنة، ولكنها لا تلامسني».

وبعد تقدّمنا في العمر وتعلّمنا من التجارب، نتمنّى أنه لو كانت لدينا المعرفة في الماضي لكي نُثمّن ما امتلكناه حينها: الفتوّة، والصحة، والحب اليافع، وحتى السذاجة. ولكن يا لقسوة الحياة؛ إذ يبدو أنها تؤجّر هداياها لنا، ولا تستردها إلا حين نقدّر هذه الهدايا حقَ قدرها.

نقول لأنفسنا: «يا ليتني عرفتُ آنذاك ما أعرفه الآن»، ولقد تمنّى زفايج لو عَرف مونتين حَق المعرفة؛ إذ كتب فيه زفايج: «إنّ جيلًا كهذا الجيل، قذفتهُ الأقدار في أمواج العالم العاتية، سيجد في فكره الحر والمتّزن مساعدة لا تُقدر بثمن».

عاشا زفايج ومونتين في أزمنة اِتسمتْ بأمارات الجنون؛ فقد كتب مونتين تحت ثورات حركة الإصلاح البروتستنتية[4]، إذ كانت أوروبا ممزقة، حيث الجار يطعن جاره في الحروب الأهلية الذي سببها انشقاق المسيحية الجَسِيم.

لقد كانت كتاباته معارضة لموجة التطرف الأيديولوجي التي علَت فترة الإصلاح، فقد اتّسمت هذه الفترة بالرؤوس اليابسة والخرافات التي ساهمت في جعل العالم أكثر فوضوية.

كتب مونتين: «في خضم هذا الجنون الذي عشناه في الثلاثين سنة المنقضية، ربما يجد كل فرنسيّ -بأي معنى نفهم «الفرنسي»- نفسه يعاني انتكاس حظّه في أي لحظة».

كتب زفايج في منفاه من نمسا النازية خلال الحرب العالمية الثانية سيرة مونتين. وعندما كشفت الحرب عن ساقها، عثر زفايج العزاء في نصوص مونتين، وكأن مونتين يقول لسان حاله كمنفيّ:

«لقد ترك العالم واتّبع أزقّته الملتوية مفكّرًا بشيء واحد: أن يكون ذا سلامٍ داخلي، وأن يبقى إنسانًا في زمن غير إنساني، وأن يبقى حرًا داخل هذه الجلبة».

ولكن ماذا استفاد زفايج من مونتين؟ ليس أقل من «كيف أحافظ على غور روحي العزيزة، وعلى ما يكوّنها؛ إذ إن ذلك ينتمي إليّ أنا فقط، وأن أحافظ على جسدي، وعلى عافيتي، وعلى أفكاري، وعلى مشاعري من الوقوع في شباك خيلاء الآخرين».

يتعجب زفايج من ثبات مونتين في الأزمات؛ إذ آلى مونتين على نفسه، كما كتب زفايج بمهارة، «أن يعيش حياته، وليس أن يعيش وحسب» عندما «لاذ إلى برجه» لمدة عقد من الزمان بعد أن وافت المنيّة والده، وصديقه الأعز إيتيان دو لا بويسي[5].

فمن منّا يعيش حياته كما ينبغي علينا أن نعيشها، وليس أن نعيش وحسب؟

التواضع والغنى

كانت عائلة مونتين حديثة عهد بالأرستقراطية الفرنسية، وكان جدّ ميشيل الأكبر من عائلة ميسورة الحال تشتغل في تجارة السمك وتدعى إيكِم. ثم أصبح تاجرًا، وفي عام 1477 أمّنت له استثماراته شراء قصر مونتاني من أساقفة بوردو.

خدم والد مونتين في الجيش الفرنسي، وسافر إلى إيطاليا حيث شهد ريعان عصر النهضة. واهتمّ بالفنون والتاريخ على عكس أبيه، وكان عازمًا على تربية أبنائه لكي يكونوا مثقفين ومواطنين ذوي أخلاق كريمة.

ثم أودع ميشيل الصبي إلى نجّارين متواضعين يقطنون في إقطاعية عائلة مونتين؛ لتعليمه بأنه لا خيار لغالبية الناس سوى في حياة التقشف والزهد، ولجعله يتخالط مع الأشخاص الذين سيعوّلون عليه مستقبلًا.

ظلّ مونتين ممتنًا لوالده لتعريضه على الطبقة الكادحة وهو صغير السن، إذ اعتقد أن ذلك قد حررّه من خيلاء وغرور الكثير من أطفال العوائل الثريّة.

كان الفتى يصبح على الموسيقى يوميًا، وكان منغمسًا في اكتساب اللغة اللاتينية من معلم ألماني وظفه له والده لأنه لا يجيد اللغة الفرنسية. ولعل هذا الانغماس في الفنون والثقافات القديمة كان كفيلًا بإشعال شك الفيلسوف وفضوله.

إن تجربته في التعلم بالتلقين عند ارتياده مدرسة داخلية أورثته ارتيابًا مزمنًا من التعليم الرسمي. أصبح مونتين فيما بعد محاميًا، حيث تتطلب هذه المهنة مهارة في موازنة آراء متعارضة، ولقد أمست مهارته في تحليل الجدالات ثمينة في تحصيله العلمي وفكره الفلسفي.

وكان في البداية يطمح ويصبو إلى دخول عالم السياسة، ولكنّه تخلّى عن هذه الفكرة عندما لاقى نجاحًا ضئيلًا في تأمين الدعم اللازم للحصول على منصب سياسي. فيما بعد قُدرت إمكانيّاته الدبلوماسيّة التي أجبرته على التغلغل في الحياة العامة.

الفيلسوف الثائر

تُوفيّ إيتيان دو لا بويسي جرّاء الطاعون في عام 1563، وكان هذا الشاعر نجيّ مونتين. تلاه بخمس سنين موتُ والده بسبب حصى الكلى، ومن ثمّ أخوه بنزيف حاد. اسودّت حياة مونتين باكتئاب لا مناص منه لتعاقب هذه الأحزان والصدمات من فقدان أعز الناس إليه.

وهو في سنّ الثامنة والثلاثين عزم على «التقاعد» من الخدمة في الحياة السياسية العامة، عاكفًا على الدراسة. لقد كان يمتلك مكتبة تحتوي على ألف وخمسمئة مجلّد مبنيّة داخل برج حصن قديم، -أو ما أسماه «معقله»- على أراضي عائلته. لقد حفر كاتبًا على أحد الرفوف نيّته لتكريس نفسه لحياة تتسم بـ«الطمأنينة، والحريّة، والراحة».

بدأ بالتخلّص من اكتئابه من خلال السعي في مهمة تفريغ غمّه اللصيق باحثًا عن العزاء في حِكَمِ العالم القديم.

لقد همّ بالمطالعة ليواجه خوفه من الموت الزؤام، إذ تعاظم هذا الخوف بعد أن قُض مضجعه بوفاة خليله وأقاربه. وكتب عن تعاقب هذه المنايا: «مع الأمثلة المتكررة للرحيل المتواتر والعادي أمام ناظرنا، كيف نستطيع التخلًص من فكرة الموت، وأنه آخذٌ بتلابيبنا في كل لحظة؟».

حدث شيء عجيب عند قِراءاته وتأمله في فترة «تقاعده»، فقد بدأ مونتين بالكتابة؛ إذ لم يعد هناك صاحب يشاركه أفكاره، وكتب قائلًا:

«بدا لي أن لا شيء يفوق تسليم روحي للتنعّم بأفكارها الناجعة […] مثل الخيل الجامحة حين تعدو في مكان فسيح. لقد هاجت في رأسي قطعان من الكايميرا والأوابد الغريبة، كأنهم جراد منتشر من دون أي منطق واضح، ولأواجه هذه العبثية والغرابة برأس صافية، أخذتُ أقيّدها على الورق».

لقد استحالت أفكاره كلمات. بدأ بالكتابة عن كل الأشياء التي في متناول يده بعد أن فرّغ أفكاره في فترة حزنه. لقد كتب مئة وسبعة (107) مقالة حول مختلفِ المواضيع، وكتب عن عظيم القضايا؛كالحزن والموت، وضئيلها؛ كمقالة إرسال الرسائل، أو مقالة عن أصابع الإبهام[6]، أو حتى مقالة عن الروائح[7].

لقد كانت مقاربته المعرفية متواضعة، ولكنها في نفس الوقت حضنت الفلسفة الشكيّة. تبعًا لبيرون، مؤسس مذهب الشك في الفلسفة القديمة، كان مونتين ينبذ فكرة أن بإمكانه التوصّل للحقيقة في كتاباته؛ إذ كانت الكتابة بالنسبة له بمثابة سعي معرفي، وليس غايةً في ذاتها، ولقد حافظ على مستوى معين من التواضع الواعي في نصوصه:

«ليس واجبًا عليّ الحفاظ على شكوكي أو أن أكون مسؤولًا عنها، فإنني أستطيع، بلا شك، التخلّص منها متى ما أردت؛ أو أن أسمح للقلق والمخاوف أن تعتريني، وأن أعود إلى نمط تفكيري المهيمن: الجهل»

لقد رسَم هذه الكلمات على سقف مكتبه: (Que-sais je?) أو «ماذا أعرف؟».

لقد عرف غايته في ظلّ الكتابة. لم يكن أسلوب التأمل الذاتي في عصره تقليديًا، حيث دعاه لمعرفة هدفه وهو عيش الحياة، فلم يكن متقيدًا بسعيه الفلسفي، ولم يكن مؤمنًا بأي مبادئ أو بدهيات عن هذا العالم. وقد صرح:

«إن مهنتي (métierوفنّي، عيش الحياة».

فن العيش

أراد الفيلسوف ببساطة صقل فنه في العيش. لقد جعلته تربيته اللاتقليدية بالإضافة إلى مذهبه الشكّي يبحث عن القيمة العمليّة في التعلّم. «إن معرفة تاريخ معركة كاناي والقدرة في قراءة مؤلفات ليفيوس وبلوتارخ قليلة الأهميّة […] فلا يوجد معنى في الحقيقة الجامدة والباردة، بل فيما تحتويه من العنصر الإنساني والعاطفيّ»، أي، ما هي الأشياء التي يمكننا تعلّمها من أجل العيش؟

لقد أضافتْ دراستُه لامبالاة على لامبالاته، فأصبح مرنًا أكثر لمواجهة وجهات النظر المتعارضة في تفكيره. وعدّ نفسه «المفكّر الجوّال» (pensée vagabonde) الذي لم يؤمن بأي عقيدة أو منهاج؛ وبفعله لهذا، نجده فيلسوفًا حداثيًا أو سقراط هذا العصر.

لقد ارتضى مونتين الغموض كشخص متدين للغاية. كانت أفكار الآخرين بالنسبة له مثيرة للاهتمام، ولكن لا أفضلية لها ولا عليها مقارنةً بالأفكار الأخرى؛ فلم يلزم نفسه في التسليم لأي حقيقة فلسفية كبرى؛ لأن هذا ينقض فن العيش. كتب: «من يتّبع الآخرين مثله مثل الخروف؛ يتّبع سرابًا يحسبه ماءً حتى إذا جاءه لم يجده شيئًا».

كانت الكتابة ذريعةً للتدوين والبحث في الوقت ذاته. كان الفيلسوف صريحًا مع نفسه حول إمكانياته: فلقد اِعترف برداءة كتابته، ولم يكترث بقلة بضاعته في النحو، وبأنه ضعيف الذاكرة، وبأنه لا يعبّر بدقة عما يدور في خلده. وكان يستخدم بكثرة اقتباسات غير معزاة لأصحابها تعويضًا عما لا يستطيع التعبير عنه بكلماته.

ولكنه عنيد أيضًا. فكان ينقل طاقته فيما يحب فعله، حتى مع إذعانه بأنه لا يجيد ذلك. «لقد استثمرتُ كل طاقاتي في الكتابة. وهناك تكمن غايتي الوحيدة، وحرفة حياتي. إنها مهنتي الوحيدة، ومهمتي المٌفردة».

وبفضل مثابرته، لم يَضيع عمله في قضاء آلاف الساعات في المطالعة والكتابة؛ إذ يعدّ الآن واحدًا من أجلّ كتّاب أوروبا.

وهذا لا يعني أنّ مونتين أثقل على نفسه، فكان يعتقد بأن الكثير من الفلسفة شيء مؤذ، وكانت النظريات المعقّدة تخيفه. إنّ الجهد المبذول كافٍ للاستمتاع بالحياة. كتب مونتين في سعيه للزهد «لن أحطم رأسي باسم العلم».

تتعارض هذه الكلمات مع تيار عصرنا التنافسيّ حيث تبدو الحياة سباقًا لـ«تحطيم رؤوسنا» من أجل أن نتقدّم، وأن نعثر على السعادة سواء أكانت موجودة أم لا في نهاية المطاف. تكمن السعادة في رحلة البحث، وليست كنزًا بذاتها. كانت رحلته في الفلسفة متزنة، وكان يستلذّ بطعم المعرفة.

الاتّزان

إن الاعتدال لَهُوَ المفتاح. بالطبع، هذا كلام مبتذل، ولكن اعتدال مونتين مستقى من شكّه؛ ولا يؤيد مونتين ارتضاء أي متعة أو أي قضية تتضمن فقدان حالة طبيعية من الطمأنينة.

«داخل المنزل، أو في غرفة المطالعة، أو أثناء جميع الأنشطة، ينبغي على المرء السعي للاكتفاء داخل حدود المتعة وألّا يتخطّاها، وإلّا تسللت إليه المعاناة».

إن حالة الزهد التي سعى مونتين لعيشها تتماثل مع مفهوم الأتاراكسيا[8] (الطمأنينة) التي تبنّتها المدرسة الشكوكيّة.

آمن المتشككون أن الطمأنينة هي الحالة الطبيعية للعيش. وأن أي اضطراب يخالطها وليدُ الرغبات الزائفة. تعترينا المخاوف والتوترات لأننا نعطي حُكمنا على الأشياء قيمةً مفرطةً، فتتولّد هذه الرغبات الزائفة نتيجة هذه الأحكام.

ليست الأتاراكسيا متعةً إيجابيّة التعريف، بل إنها غياب الاضطرابات، وغياب الرغبات الزائفة التي توبئ الإنسانية. إنها نوعٌ من التوازن الوجودي، إنْ كنتَ ترى الوجود ممتعًا في نفسه.

من فوضى الرغبات التي تجلب لنا البؤس، انتقد مونتين واحدة بسبب صلتها الوثيقة بعصره الذي مزّقته الحروب: «إن التعطش للسؤدد أعقم وأتفه وأزيف عملة يتداولها البشر».

لم يكن «تقاعد» مونتين الذي دام عشر سنوات سوى مرحلة في حياته، إذ لعب الفيلسوف دورًا حاسمًا -كما سمحت له فترته التأمليّة ووجاهته الاجتماعيّة- في السمسرة بين الفصائل المتحاربة في الحرب الدينية الفرنسية من الكاثوليكيين والبروتستنتيين الهوغونوتيين[9]. إن المفكّر الذي يعترف بأنه لا يعرف شيئًا هو أفضل مبعوث للسلام بين الاعتقادات المتحاربة.

الحرية

عزم مونتين على السفر في عام 1571 عندما أُصيب بحصى الكلى (نفس الداء الذي قتل والده). لقد زار إيطاليا ولكنّه لم يعر أي اهتمام لما يركز عليه السيّاح من المدن كالبندقية وفلورنسا وروما، بل التمس الناس. تحدّث إلى أكبر عدد ممكن من الناس لمعرفة شغفهم، بدءًا من البابا حتى أصغر الفلاحين. لقد كان البشر محطّ اهتمامه كمرآة تعكس شخصه.

وكان واسع الآفاق بشكل صادم لعصره. عندما اُستعرض القبليون البرازيليون للمتفرجين المتزمتين بوصفهم «همجًا متوحشين» في مدينة روان الفرنسيّة، اعتقد مونتين أنهم يتصرفون وفقًا لعاداتهم وتقاليدهم ببساطة، والتي لم تكن ملائمة لعيشِ حياة طيبة أدنى أو أزكى من الأوروبيين. بل ربما على العكس، لقد كانت حياتهم أطيَب.

مَقَتَ مونتين الغرور. لا في مجرد كون الأوروبيين يزعمون التفوّق على الجماعات البشريّة التي تم اكتشافها في استعماراتهم وحسب، بل عبّر عن خلافه في أن البشريّة متفوّقة هي الأخرى. كتب في مقالته الشهيرة اعتذار لريموند سيبوند (Apology for Raymond Sebond)[10] الآتي:

«إنه لمن السخافة التّخيل بأن هذا الكائن الشقيّ البائس [الإنسان] الذي لا يملك نفسه، الخاضع لضرر جميع الأشياء، والذي لا يملك سلطانًا في معرفة جزيءٍ من الكون، فضلًا عن حكمه كاملًا، أن يدعو نفسه سيّده وإمبراطوره؟».

ركّز مونتين على كيف ينبغي له أن العيش، ولم يأمرنا أو يشجعنا أبدًا بالعيش بهذه الطريقة أو تلك. «ليس هذا منهاجي؛ وهذا ليس درس الآخرين، بل إنه درسي، ودرسي وحدي». إننا لا نجد تعاليم في كتاباته، بل إلهامًا من أسلوب حياته.

ويعود كل الفضل إلى إصراره على الحرية، وخلاصتها محاسبة النفس والتوقف عن إصدار الأحكام على الآخرين. «لي قانوني ومحاكم عدلي، وهم الموكلون في إصدار حكم بشأني».

 

 


[1] جماعة حديثة من أثرياء السيليكون فالي رأت في الرواقيّة طريقة في تحمّل الألم ومتاعب الحياة، بل وتصنفها كشيء إيجابي (م)

[2] جماعة تستخدم تقنيات للتأثير على الحالة العقلية وآليات التفكير للشخص سواء في الألعاب أو التسويق أو برامج الهاتف وغيرها لأسباب عديدة منها تقوية الذاكرة، وزيادة الإنتاجية في العمل. (م)

[3] كاتب فرنسي شهير في عصر النهضة، ويُعزى له فن المقالة. (م)

[4]  مذهب مسيحي منشق من الكاثوليكية ويعود إلى الحركة الإصلاحية في القرن السادس عشر الميلادي (م)

[5](م).  كاتب وقاضي فرنسي وصفيّ ميشيل دي مونتين وكتب مقالة بديعة بعنوان العبودية المختارة

[6] فيها يتكلم مونتين عن أهمية أصابع الإبهام لدى الرومان والبرابرة (م). للاستزادة انظر

Michel de Montaigne: The Complete Essays. Translated by M. A. Screech. P.784

[7] فيها يتكلم مونتين عن أهمية الروائح في قيمتك كإنسان. للاستزادة انظر

Michel de Montaigne: The Complete Essays. Translated by M. A. Screech. P.352

[8] كلمة إغريقية تعني التحرر من كل قلق وخوف (م).

[9] أعضاء كنيسة فرنسا في حركة الإصلاح الدينية (م).

[10] وهي طولى مقالات مونتين وتعدّ الأروع نثرًا على الإطلاق بين مقالاته (م). للاستزادة انظر

Michel de Montaigne: The Complete Essays. Translated by M. A. Screech. P.489

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى