وإنّ يوماً يأتي يُوقظ فيه الطاعون جرذانه، مصيبةً للناس وتعليمًا لهم، ويُرسلها تموت في مدينة سعيدة.
ألبير كامو- الطاعون
- سيناريو للاستبعاد:
يعيش العالم اليوم تجربة تاريخية تكاد تكون تجسيدًا سينمائيًا لرواية شهيرة تتحدث عن عالم ما بعد انتشار فيروس قاتل، يصيب العالم بأسره بهلع ٍوفزعٍ ورعبٍ لا يمكن وصفه بأي وصف كان. لقد جعل فيروس “كورونا (كوفيد-19)” العالم يصير تحقيقًا حيًّا لما تخيّله مبدعون كُثر، أمثال جيوفاني بوكاتشيو وجاك لندن وألبير كامو وجوزيه سراماغو وغيرهم… حيث تشتد كثافة الأنانية -وحتى التضامن بشكل مقابل- وتتقوى غريزة البقاء وحتى الصراع من أجله كلما اقتربنا من الموت. ما يجعلنا نتحقق من أن “الشر ليس مسألة الفرد الواحد، إنه مسألةٌ عامةٌ تخص البشرية كاملة”، فهو متجذّر في الإنسان وعنصر من عناصر تطوره وتكونّه وحتى تحضّره… فما أن يصير البشر عرضةً للموت والهلاك حتى يميلوا إلى إبراز غريزتهم من أجل البقاء بكل ما أتوه من قوة. وكلما اقتربنا من الموت اشتدّت رغبتنا في الحياة، واستعدّ كل الاستعداد للصراع من أجل العيش.
ومن ثم فحالة من الديستوبيا أو حالة من اللانظام، هي ما يصاحب حالة الهلع والفزع والميل الشديد نحو البقاء، حيث تتحول كل المدن إلى خلاء، أراضٍ خاوية من البشر الذي يتحصنون بما أتوه من أبواب هروبًا من الموت الذي يطاردهم خارج البيوت، فتصبح عملية “الخروج من البيت مغامرةً خطيرة”، كما عبّر كافكا. بل إن القيام من السرير لمخاطرة غير محسوبة العواقب. هذا ما يجسده لنا الأدب عبر تلك القصص والروايات التي تناولت كل تلك السيناريوهات المحتملة، فيكفينا أن نقلب صفحات “1984” لجورج أورويل أو “البرتقالة الأوتوماتيكية” لأنتوني برجس أو غيرهما من الروايات… حتى نتحسّس ما يمكن أن تقع فيه البشرية بعد الدخول في حالة “الديستوبيا” حيث تسود الأنظمة الفاشية أو عالم ما بعد الخراب، حيث لا يسود أي شكل من أشكال النظام؛ لهذا قد تكون الرواية بكل ما تحمل من خيال وتخيل منفذنا الوحيد للنجاة، أن نضع نصب أعيننا كل تلك الأحداث المتخيلة لتجاوزها -واستبعاد هذا السيناريو- أو على الأقل معرفة كيف تداركها وإصلاح عواقبها.
- النار المشتعلة:
يعمل الأديب إذن، عمل “الكهنة في المعابد” وهم يحاولون التنبؤ بما تخبّئه السماء من مستقبل. وها نحن نجد أنفسنا أمام ما تناوله كامو في روايته “الطاعون”، حيث لا يتعلق الأمر بالطاعون فقط، والحالة هنا الكورونا، بل بالعزلة والحصار الذي سيشتكي الناس منه. فالحصار والعزلة لا يقلان خطرًا عن الوباء المتفشي. ومع الشكوى يكبر الشك من كون الأمر مجرد مؤامرة، فيقع الكل في صراع بين عزل أنفسهم وبين الخروج للتسكع لأن الأمر مجرد في نظرهم مؤامرة لحصرهم وعزلهم؛ وأليس شعار النجاة –اليوم- من الوباء المستجد هو “الزموا بيوتكم”؟… بعد عزلهم يصابون بـ”العمى”، مُنقادين نحو الخراب، باحثين عن أي مصدر للطعام والغذاء غير مهتمين إلا بأنفسهم وبجماعتهم، مستعدين كل الاستعداد “للقتل” من أجل البقاء والإبقاء على الجماعة التي يستشعرون الأمان داخلها.
يحاول الأدب أن يبحث عن معنى خفي وراء كل ما يحدث، المعنى هنا ليس من حيث إنه حقيقة، ولكن من حيث إنه إشارات ودلالات تتحول إلى طريق للخروج من النفق المظلم الوشيك. أي عملية ترميم للقادم، إصلاح قبل الأوان. إصلاح ماذا؟ إصلاحٌ لكل تلك العواقب التي قد تعرفها البشرية وهي تدخل حالة الفزع والخوف، حينما يتغلب وباء ما على كل القدرات الإنسانية، وتسقط الدول وتنهار القوى ولا يبقى في وجه الفرد سوى “إتباع الطريق” للنجاة، (لنراجع رواية “الطريق” لكورماك مكارثي)، والطريق هو وحده طريقة ومنهج البقاء، بل إن “البقاء وحده لا يكفي”. يجب أن يجد الفرد الواحد جماعةً ما تُقدم له الأمان، وبالتالي يتحول العالم إلى جماعات صغيرة وأخرى قزمة، تحارب بعضها البعض من أجل أن تعيش، قد يصل بها الحال “إلى حد أكل لحم البشر” (رواية الطريق). وهذا أسوأ سيناريو يمكن تخيله، بل إنه لحالة الرجوع إلى الحيوانية المطلقة، حيث يضيّع الإنسان كل حس ثقافي فيه، ويفقد “النار المشتعلة” في داخله. فيختفي كل معنى وكل سبيل للبقاء، فيغدو الموت نجاة وخلاصًا.
- التمسك بالأمل:
تحاولُ كل تلك الروايات أن تخبرنا بأن المستقبل ليس آمنًا وليس أرضًا للخير المطلق، فالشرّ كامنٌ في أشياء خفية وغير متوقعة، وليس كل شيء قابل للسيطرة؛ والإنسان مهما فعل فإن العالم يتمرد وينفلت من قبضته. لكن في ظل كل ذلك تظل هناك “نار مشتعلة” يقودها “طفل” يعثر على أناس أخيار، يقودونه في الطريق نحو الخلاص، نحو بناء عالم جديد، بشر مثله، وليس كائنات سماوية قد تعيد بناء العالم من جديد (لنراجع فيلم النبوءة). فلا مكان للإنسان للعيش إلا “الأرض”، وعليه أن يكون في كامل الاستعداد لما سيواجهه من أجل البقاء عليها، وأن يتعلم أن التضامن والتكافل والتعاون والحبّ هي “الطريق” إلى النجاة والخلاص. بل لا يتحقق كل ذلك إلا بالحب باعتباره غريزة وهبة ألوهية متعالية في نفس البشر، إنه خلاص من الشر المحدّق بنا في زمن الوباء والعمى…
تركز كل تلك الروايات على عاطفة المحبة، التي تقوي الوشائج وتمنح الإنسان الأمل، هذا الشعور النبيل الذي يقول عنه نيتشه على لسان بطله زاردشت “إنني باسم الحب والأمل أهيب بكم، لا تستبعدوا البطل الموجود في نفوسكم، تمسكوا بقداسته بأقصى أمل”. إن التمسك بالأمل هو ما يُبقي على الشعلة مُتَّقِد في صدور الناجين وهم يقودون البشرية صوب الضوء في آخر النفق. فيكتشف الإنسان نفسه، كما يسعى ألبير كامو لتبيانه في روايته الطاعون، ويتخلص بالتالي من العبودية، فيصبح كل الأفراد جماعة واحدة لا جماعات قزمة ومتفرقة، وتصير البشرية أكثر إنسانية مما كانت عليه. لنتخلص من العبث المطلق الذي يحيط بنا من كل جانب. لكن نحتاج لذلك لقائدين شجعان، لمُخَلِّصين واعين بالوضعية وذوي النار الـمُتَوَقِّدة على الدوام، إلى أمثال “زوجة الطبيب” في رواية العمى لسرماغو، وإلى “الطفل” في رواية الطرق وإلى الدكتور برنار ريو في رواية الطاعون… نحتاج إلى من تتملكهم غريزة الحب ويشتعل في قلوبهم الأمل.
- التخيّل والأدب علاجنا:
علاجنا من كل عبثية العالم والمستقبل المجهول هو الأدب، بل من “التخيل” من حيث إنه، معرفة الصورة كما يقول جون بول سارتر، وإنه ليأتي من الإدراك. ويضيف بأنه “الإدراك المطبق على الانطباع المادي الناتج في المخ، هو الذي يعطينا وعيًا بالصورة. ولكن الصورة ليست موضوعة أمام الوعي كموضوع جديد للمعرفة، بالرغم من اتسامها بالواقعية الجسمية، فذلك يمضي إلى ما لانهاية بإمكان العلاقة بين الوعي وموضوعاته. فللصورة تلك الصفة الغريبة، وهي القدرة على تسبيب أفعال النفس، فحركات المخ التي علتها الموضوعات الخارجية، وإن كانت لا تتضمن شبهها، إلا أنها توقظ في النفس أفكاراً، والأفكار لا تأتي من الحركات، بل هي فطرية في الإنسان”. إذن فإن ما يقوم به هؤلاء الأدباء المتنبّؤون هو مجرد تحريك فطرتهم الإنسانية، لمواجهة المجهول. إن التخيّل سلاحهم الفعّال لذلك. فما إذن يقوم به المبدع هو تحوير الخيالي إلى واقعي والواقعي إلى خيالي، مكثفًا دلالاته ورموزه لبناء عالم ما سيأتي.
- الإنسان الأخير:
تسعى جلّ روايات الوباء وعالم المدن ما بعد الفوضى أن ترسم لنا حياة “الإنسان الأخير” (أستحضر هنا رواية ماري شيلي)، مقابل “الإنسان الأول” ذلك الإنسان الذي يخرج من صلبه العالم. “الإنسان الأخير” يتحرّك في الطريق حاملًا على ظهره الماضي والمستقبل، مواجهًا كل الصعاب، باحثًا عن ملاذٍ آمن يزرع فيه البذرة ليخرج العالم كالعنقاء من رماده. إنه بالتالي يحمل هموم وخلاص العالم كاملًا. ولكن ألا يمكن أن يكون “الإنسان الأول” في الأسطورة هو “إنسان أخير” في عالم سابق؟
يستطيع الأديب أن يخلق عوالم تتقاطع من التجربة الإنسانية في حاضرها ومستقبلها، بل إن كل نصٍّ إبداعي تخيّلي أو واقعي، بل مهما كان النص واقعيًا فهو تخلي، يحمل في طياته دلالات قابلة للتأويل وإعادة التأويل بشكلٍ مضاعف… ما يجعل كل عمل سردي تخيلي قابلًا أن يتحقق أو تتحقق أجزاء منه على أرض الواقع، لأنه يحمل في طيّاته خبراتٍ وتجارب إنسانية ومعيشية. فلا ينفصل الواقعي عن المتخيل، وأما النص الإبداعي فهو حاصل ما خبره وجرّبه المبدع وما راكمته الإنسانية عبر تاريخيها من أحداث وأفكار ورؤى فلسفية واجتماعية… وإلى جانب كون المبدع ذاكرة لمجتمعه وحتى للعالم، فهو مرآة لهما أيضًا، مرآة تنعكس عليها كل تلك الرؤى والأفكار على امتداد الخط الزمني بدءاً من الماضي، ومرورًا بالحاضر، وصولًا إلى المستقبل البعيد والمجهول.
- الحل الخفيّ:
لربما تجد حكومات العالم اليوم نفسها ملزمة بإعادة فتح كل صفحات تلك الروايات والأعمال السردية، أن تبحث عن الحل الخفيّ في طياتها، وأن تعيد ترتيب علاقة السياسي بالأدبي والواقعي بالمتخيل. فكل تلك الروايات تحاول أن تعيدنا إلى الحالة الإنسانية، أن تجعل النار المتأجّجة فينا مشتعلة إلى الأبد. وأن تبعد عن كل تلك الإيديولوجيات التي تضلّل الفرد وتحيده عن “الطريق”. لهذا ينتصر كل هؤلاء المبدعون للإنسان، لا لشيء آخر.
وبما أن الإنسان قد تخلّص من أساطيره القديمة، أو يكاد، فهو اليوم يخلق أساطير جديدة تقوده إلى النجاة في هذا العالم المعاصر، أساطير نعرف كتابها ونعرف أين كتبت ومتى كتبت، أساطير نسميها “روايات”… لكنها قابلة للتحقق من حيث إنها قادمة من ذات مبدعة وإنسانة، لا من عوالم ميتافيزيقية تتجاوز الواقع والـمـُعاش. وبالتالي تغدو كل الشخوص البطلة في تلك الروايات شخوصًا أسطورية تحمل على أكتافها صخور سيزيف، بعدما أن تحدث كل تلك المصائب حاملة لنا “خريطة الخلاص في الطريق الطويل للمستقبل المجهول والمتقلب”، لنفتح النوافذ رافعين رؤوسنا إلى الأعالي لرؤية أشعة الشمس والتخلّص من الوباء والعمى.