إيليا كازان، أحد أهم الأسماء في تاريخ السينما، المخرج الذي أثار الكثير من الجدل الفني والسياسي وجدّد في صناعة السينما وأثّر في أجيال من صنّاع السينما. قصة غير عادية على المستوى الفني والشخصي، ومسيرة حافلة امتدت لأكثر من ثلاثين عامًا أخرج خلالها ١٩ فيلمًا طويلًا فقط، كانت ذروة أعماله في الخمسينات، حيث أخرج في ذلك العقد الكثير من الأعمال الخالدة في تاريخ السينما، مثل “عربة اسمها الرغبة” ، ” على الواجهة البحرية” و “شرق عدن” وآخر أفلامه في ذلك العقد، الذي نتناوله هنا “وجه في الزحام”.
وجه في الزحام
بعد تعاون ناجح بين إيليا كازان والكاتب بود شولبرغ في فيلم “على الواجهة البحرية 1954” ينتجان مرة أخرى بعد ثلاثة أعوام “وجه في الزحام 1957″ حيث يعود بود شولبرغ لقصة قصيرة كتبها بعنوان ” ” ويحوّلها هو بنفسه إلى سيناريو للشاشة الكبيرة. ليُخرج كازان أحد أكثر أفلامه جرأة وحديّة، يُسند فيه دور البطولة لأندي جريفيث، في أول فيلم له على الإطلاق (يعده الكثيرون أهم وأفضل دور قام به) خطوة جريئة ربما لا يتجاسر عليها أي مخرج، حيث أن “النجم” هو حتمًا من أهم العناصر التي تجذب الجمهور وتحقق الانتشار المأمول للفيلم.
ولادة نجم
يبدأ الفيلم بصور مختلفة لولاية أركنساس: الشوارع، البنايات، الناس، والأجواء العامة (يهتم كازان بحسّ المكان في أفلامه وارتباط شخصياته به) لا يأخذ وقتًا طويلًا ليقدّم لنا شخصيتيه الرئيسية، حيث تُذهب مُقدّمة برنامج (وجه في الزحام) الإذاعي مارشيا لأحد سجون الولاية لتجري لقاءً إذاعيًا مع السجناء.
نتعرف هنا على الشخصية الرئيسية “لاري” المسجون بتهمة الإفراط في شرب الخمر، وتعرف مارشيا من السجناء الآخرين أن لاري عازف غيتار ومغنّي بارع، تطلبه أن يؤدي أغنية لبرنامجها الإذاعي؛ يقابلها بصد ورفض عنيدين، ولكن يقبل هذا الطلب بعد أن أخبره المدير أنه إن غنّى للبرنامج، سيطلق سراحه في صباح الغد. يمسك غيتاره ويرتجل أغنية من وحي اللحظة، أغنية “رجل حر في الصباح” ما أن يمسك غيتاره، يشعّ لاري بكاريزما وحيوية غير عادية، طاقة وحضور تأسر جميع من حوله، مما يدفع مارشيا للتفكير بضمّه للإذاعة، وهذا مايحدث.
يبدأ لاري في إذاعة أركنساس في ساعة مخصصة له كل صباح، ما يفاجئ مارشيا وجميع طاقم الإذاعة، أن لاري لا يكتفي بالغناء في ساعته، بل يحكي قصصًا، يطلق نكات، يتحدث بروح حرّة لسكان أركنساس، حديث حقيقي غير متكلف، يجذب له مئات من المستمعين، وفي أيام قليلة يساهم في رفع معدلّات الاستماع للإذاعة إلى أرقام لم تحلم بها من قبل، ويصبح اسمًا لامعًا في أركنساس، في هذه الأثناء تتطور علاقة لاري بمارشيا، تقترب منه وتعرف تاريخه، حيث عاش بلا أب، مع أم قاسية ومهملة. نلاحظ لاري في جميع أوقاته، هو لاري نفسه في ساعته الإذاعية. لايهتم كثيرًا بالنجومية ولم يتغير شيء في أسلوب حياته، يمارس عمله الإذاعي كمتعة شخصية ووسيلة للحديث مع سكّان مدينته لا أكثر. ولكن، ولحضوره الطاغي وكثرة مواهبه وحب الناس له، تزداد نجومية لاري إلى أن تصل خارج نطاق المحليّة، وتبدأ الطلبات تنهال عليه من إذاعات ومحطات أكبر.
انفصال عن الذات
ينتقلان لاري ومارشيا إلى ممفيس استجابةً لعرض من إحدى المحطات التلفزيونية، يصل لاري إلى ممفيس ويبدأ برنامجه التلفزيوني، ومنذ أول حلقة يفرض شخصيته المميزة على الشاشة، لم تقدر الكاميرا على الحدّ من جرأته وحريّته في الكلام، فنجده يقترب من الكاميرا ويحرّكها ويتحدث ساخرًا عن الطاقم الذي يوجهه خلف الكاميرا. بعد أيام قليلة يصل من خلال برنامجه إلى جمهور أكبر ويلمع اسمه في فضاء التلفزيون، ويصبح حديث العامة وحديث الإعلام.
يهتم لاري بأن يكون تلقائيًا، صادقًا وحرًا أمام جمهوره، وعند أول اصطدام مع صورة من صور الإعلام الضرورية والحتمية (الإعلانات) حيث توقع القناة عقد مع إحدى الشركات ينصّ على أن يعلن لاري ويسوّق في إحدى فقرات برنامجه لهذه الشركة. نتعرف على موقفه الرافض بأن يقوم بهذا الدور. بعد ضغوطات من إدارة القناة يقدم لاري فقرة الإعلان بأكثر الأساليب سخرية وتهكمًا، مما يغضب إدارة القناة التي تضطر إلى طرده، ولكن، هناك عرض قادم من نيويورك.
من نيويورك، حيث مضخات الإعلام وكبار رجال الأعمال والسياسيون، من هناك تبدأ سلسلة التحولات في شخصية لاري، ويبدأ الصعود الخارق لنجمه وجماهيريته، يبدأ انفصاله عن ذاته عند قبوله للترويج والإعلان لحبوب “فايتجكس” التي يرغب أن يقدمها بقوة أحد أكبر رجال الأعمال بصورة الحبوب السحرية التي تؤثر بشكل إيجابي في جميع نواحي الحياة.
ما أن يقبل لاري بهذا الإعلان الزائف، تبدأ رحلة كازان المجنونة في الغوص في كواليس التلفزيون والصناعة الإعلامية، وفي مفاهيم الشهرة والنجومية، تأثيرها على الفرد نفسه، وعلى الجمهور خلف الشاشات. بذكاء إخراجي وعبقرية فذة يحوّل كازان إيقاع الفيلم ليحاكي التغيرات التي تطرأ على الشخصية وعلى أسلوب حياته، ففي الربع الأول من الفيلم حيث الشهرة مازالت محلية والشخصية متسقة مع ذاتها نلاحظ أن إيقاع الفيلم يتسم بشيء من الهدوء وملاحظة التفاصيل الجمالية والحوارات المستغرقة والطويلة، ولكن بعد نيويورك وبعد الشهرة العالمية يصبح كل شيء سريعًا ومضطربًا، يستغرق لاري في شهرته وصورته الإعلامية، تخطفه مضخات الإعلام من نفسه تدريجيًا بصورة مرعبة لتحوّله إلى وجه آخر زائف ومعلّب. يدخل لاري حالة تشبه حالات الإدمان، حيث يتعلق يومًا بعد يوم بشهرته ونجوميته، يتغذّى على حب الجماهير، ويطمع في المزيد والمزيد.
في الخلفية، هناك علاقة تتطور بينه وبين مارشيا، لتصبح علاقة حب متبادل، ولكن مارشيا تعيش صراعًا معقدًّا (تجسده ببراعة الممثلة باتريشيا نيل)، فهي ترى مدهوشة التغيرات الهائلة التي طرأت على لاري، انفصاله عن ذاته، وتقمص ذاتٍ أخرى كان هو أول من يرفضها. “الفتى الريفي البسيط” الذي أحبّته أصبح “النجم المشهور على مستوى أميركا” الذي انتزعت منه الأضواء كل ما هو خاص وفريد وإنساني، وأصبح نفسًا طماعة مهووسة بذاتها وبصورتها أمام الشاشات. ولأنها مكتشفته وصانعته وعلاقتها به لا تقتصر على الحب، وإلا كان انسحابها سهلًا بعد أن انتفت منه الصفات التي أحببتها فيه، تستشف الآن أنه يذهب في طريق مدمر وخطير، فتصارع الذنب التي تحسّه من خلال وقوفها بجانبه واستمرارها معه.
هو في المقابل، ولأنه في وسط مليء بالمنافقين، ويعج بصداقات واهية ومبنية على مصالح متبادلة يجد فيها ملجأ في أوقاته الصعبة، يدرك أنه لن يجد أصدق منها وأكثر حبًّا له، وهكذا في إحدى الليالي يطلبها للزواج.
زواج أمام الكاميرات
بعد عودته من السفر، تستقبله مارشيا بلهفة، لتُفاجأ بأنه ينزل من الطائرة صحبة زوجته، راقصة استعراضية تصغره بعقد من العمر (تقوم بدورها لي ريميك في أول فيلم لها) ومنذ أول مشهد لتفاعل الزوجين أمام الكاميرات، ندرك صورة هذه العلاقة وغايتها من الأساس، الفتاة ترفع فستانها إلى ما فوق الركبة وسط تصوير وتواجد إعلامي كبير، زواج إعلامي، ومزيد من اغتيال الخصوصية. يصوّر كازان هذه العلاقة بدقة وذكاء ملفتين وكأنك تشاهده يحاكي بعض علاقات مواقع التواصل الاجتماعي اليوم. بعد عودة لاري إلى برنامجه (أصبح هناك حضور جماهيري في الاستديو) يدخل بصحبة زوجته بفستان الزفاف، في مشهد أيقوني تلتقط فيه كاميرا كازان في لقطات علوية شكل الزفاف وسط الإضاءات والكاميرات، وتصّور تفاعل الجمهور وصراخهم الجنونيّ. بعد أن ينزفّ العريسان أمام الكاميرات، تخلع زوجته فستانها، وتُبقي ما تحته، لباس الرقص الاستعراضي، يقدّمها زوجها المذيع لجمهوره متغزلًا في جمالها وجاذبيتها. مشهد لم يُفقده الزمن معناه، ومازال متصلًا بواقعنا اليوم كما هو متصل بواقعه في ذلك الوقت.
ولأنه زواج غير سوي، ينتهي بشكل غير سوي، فبعد أن يكتشف لاري أن زوجته تخونه مع وكيل أعماله، ينهي العلاقة بـ”أنتِ مطرودة” وكأن الزواج عقدٌ إعلاميٌ آخر، ينتهي بالطرد، وليس بالطلاق.
الهوس وتراجيديا السقوط
يدخل لاري في حالات من الهوس والجنون، بارانويا صارخة، حيث يقضي أيامه في ركض متواصل، يخترع آلة تصفق وتضحك له بضغطة زر، يتغذّى على حب الجمهور، وعلى معدلات المشاهدة العالية، ذلك الرجل البسيط في أركانسس الذي كان حرًّا في السجن، أصبح الآن مملوكًا في أكبر المنازل وأفخمها، لقد نجحت مكائن الإعلام الضخمة في طحنه ونزع كل مبدأ إنساني كان يحافظ عليه لتحوّله إلى كائن مزيّف، سلعة، شكل إعلامي يحبّه الجمهور.
كازان لا يتوقف مع تعاطي هذا النجم مع رجال الأعمال أو شركات الإعلان الضخمة، بل يأخذ فيلمه إلى آفاق أبعد وأكثر جرأة، حيث يقترب لاري من كبار رجال السياسة، وفي إشارة إلى تأثير النجم على الجمهور، يصوّر كازان مشهدًا طويلًا، يوجّه فيه لاري أحد المرشحين السياسيين إلى الطرق التي يجب أن يظهر بها في الإعلام -ليحصل على حب الجمهور وبالتالي تصويتهم- كيف يمشي، كيف يتكلم، عن ماذا يتكلم، “ليس من المهم أن يحترموك، المهم أن يحبوك”.
يزداد هوس لاري وجنونه، ويبدأ مدح نفسه باستمرار والهجوم على الجمهور في محادثاته الخاصة “إنني أمتلكهم، إنهم يفكرون مثلي” لينفصل لاري إلى شخصيتين، واحدة أمام الكاميرا والأخرى خلفها، خلاف بداياته في برنامجه الإذاعي، حيث كان شخصية واحدة صادقة على الهواء أو تحته.
وتزداد أيضا معاناة واضطراب مارشيا أمام هذا (الوحش) الذي صنعته. تحاول بشتى الطرق أن تخلّصه من استعباد النجومية ولكن بلا جدوى، إلى أن تضطر فإحدى حلقاته -التي تنتهي بشارة موسيقية يتلفظّ فيها لاري ساخرًا من جمهوره أمام الكاميرا لعلمه أن صوته مقطوع- تضطر أن تفتح الصوت ليسمع جمهوره العريض كلماته القذرة التي يتهجم بها عليهم لتنهي نجوميته.
وبالفعل في مشهد عبقري، يدخل لاري المصعد نازلًا عشرات الطوابق ليصل إلى الدور الأرضي، يوجه كازان الكاميرا على الأرقام في المصعد، ويعرض لقطات مونتاجية سريعة لاضطراب الجمهور والصحافة والإعلام وهجومهم الصارخ على لاري، ويستمر المصعد في النزول، وهكذا يسقط لاري سقوطًا سريعًا، فتلك القيمة والمكانة غير الحقيقية، سقوطها يكون سريعًا ومدويًا، وليس غريبًا أن يكون نجم أميركا الأول في ساعات رجلًا منسيًا يلفظه الجمهور.
ينتهي الفيلم بمشهد خالد يتحدث فيه لاري مع نفسه وكأنه أمام الكاميرات في صالة كبيرة، وسط ضحكات وتصفيق من الآلة التي أخترعها، يبدو لاري وكأنه فقد عقله بعد أن فقد الحب من جمهوره الكبير، اللقطة الأخيرة، بلا موسيقى، ترحل مارشيا مبتعدة، وسط صرخاته “مارشيا! لاتتركيني!”
ختامًا
كازان صوّر فيلمه وجه في الزحام بنبرة غاضبة، ساخطة، جريئة، في وقت كان التلفزيون تحديدًا فيه يبدأ بالظهور والانتشار، ومختلف وسائل الإعلام بشكل عام (من الواضح أن جرأة كازان في تصويره لخفايا العالم المرئي ولا أخلاقيته بأسلوب غاضب وثوريّ، كانت ملهمة لكثير من أفلام ظهرت بعده، لعل أهمها Network لسيدني لوميت) يصوّر رحلة النجومية وكواليس الإعلام بعمق مستحضرًا أدق التفاصيل وأكثرها تعقيدًا، ويحافظ طوال الفيلم على الواقعية الشديدة، والتركيز على شخصياته وصراعها مع ذاتها وما يحطيها، خاصيتين تجدها دائما في سينما كازان، التي تلاحق الانسان دائما وتتعمق في دواخله، كيف يتأثر وكيف يؤثر.
من المعروف عن كازان اهتمامه الشديد بأداء الممثل في أفلامه، مما يُخرج أفضل ما لدى ممثليه من طاقات تمثيلية، حيث كان إيليا كازان أحد مؤسسي استديو الممثل الذي أخرج أسماء كبيرة في عالم التمثيل، مثل مارلون براندو، جيمس دين، دي نيرو، آل باتشينو، وغيرهم من ألمع الأسماء في عالم التمثيل. في وجه في الزحام، الدور الأول لأندي جريفيث، يستحوذ تمامًا على الشاشة، استحواذًا يجعلنا نتفهّم تأثيره الطاغي على جمهوره الواسع، ويعبّر بدقة عن الحالات المعقدة والمختلفة التي مرّت بها الشخصية، تحديدًا في حالات الهوس والجنون في الربع الأخير في الفيلم.
وجه في الزحام، عمل بجانب قيمته الفنية العالية، هو مهم أيضًا، ليس فقط لفهم تأثير النجومية والشهرة على المشاهير أنفسهم، بل في فهم واقعنا نحن من حيث تعاطينا مع الإعلام، تأثير الصورة الإعلامية علينا وعلى نظرتنا لأنفسنا ومن حولنا، وإن كان الفيلم يبحث في تأثير التلفزيون، فإننا يمكن أن نقيس هذه الحالة على تأثير مختلف مواقع التواصل الاجتماعي اليوم. لم يُفقده الزمن قيمته وتأثيره، تشاهده اليوم فيبدو وكأنه وليد العصر.