قصة البدايات: دور المؤسسات السعودية في نمو تعليم الفنون – فوز الجميل

يعاني تاريخ تعليم الفنون في المملكة العربية السعودية من عدم التوثيق لمراحله، وعدم تدوين للمشهد الثقافي والاجتماعي الذي نشأ فيه منذ بداياته. ويرى العديد من المؤرخين للتاريخ السعودي أن الاعتماد على التاريخ الشفوي كان أكبر من المكتوب؛ لأنه لم يكن هناك دعم من الهيئات أو المؤسسات الرسمية للقيام بذلك (عبد العزيز الخضر، 2010). فعلى صعيد المشهد الفني تحديدًا بدأت المراجع الجادة المكتوبة عن تاريخ الفن التشكيلي السعودي، والتي تضمنت تأريخ تعليم الفنون، في عام 2000م، أي بعد ما يقارب 55 عامًا من بدء التعليم الفني الرسمي في البلاد.
يرى العديد من الفنانين الرواد والباحثين ومؤرخي الفن المعاصرين بأن البداية الفعلية للفنون في المملكة العربية السعودية حدثت بعد اعتماد التربية الفنية عام 1945م بصفتها مادةً أساسية في التعليم العام، ومنذ ذلك الحين، كانت وزارة المعارف ١٩٥٣م تمثّل أول اهتمام للمؤسسات الرسمية بالفن التشكيلي. وفي سبعينيات القرن السابق الميلادي شهد المشهد الفني السعودي بداية أخرى، وهي اهتمام المؤسسات الخاصة المملوكة لفنانين تشكيليين بتعليم الفنون، وكان هذا الاهتمام مختلفًا في أبعاده عن الاهتمام الرسمي، من حيث توفير المناهج الحديثة، والجمهور المستهدف، وتوافر الإمكانات البشرية والفنية. وفي الفترة التاريخية ذاتها ظل تعليم الفنون في المدارس العامة مستمرًّا إلى وقت قريب في تعليم أنواعٍ بسيطة ومحدودة من الفنون، جميعها منقطعة عن نظريات تعليم الفنون ومدارسه في العالم آنذاك، والتي كانت تشهد حراكًا ملحوظًا خصوصًا في مدارس أمريكا الشمالية وأوروبا. ما أناقشه في هذه الورقة هو محاولة لتقصي حال الفنون وتعليمها قبل الاعتماد الرسمي، ومن ثم متابعة رصد ذلك النمو والتحول في الاهتمام بتعليم الفنون في التاريخ السعودي من المؤسسات الحكومية إلى غير الحكومية، ومن ثم قياس أثر ذلك في الفنون التشكيلية في البلاد؛ حيث سيكشف لنا هذا الرصد أنه في لحظة معينة من التاريخ، أُجرِي تحوّل موجّه في هذا التركيز أو النمو الفني جعل من الفن التشكيلي منقطعًا عن التعليم الرسمي بعد أن نشأ منه، ومن ثم بعيدًا عن اهتمام المجتمع وتشجعيه. وسنلحظ أيضًا أن نتائج هذه التحولات كانت سلبية في معظمها؛ حيث هُمِّش تطوير مناهج تعليم الفنون وطرقه في المدارس العامة بشكل متعمد، فانعكس ذلك بشكل عام على الثقافة المجتمعية ورؤيتها للفنون، ولمدرسي الفنون، ولمناهج الفن.
الفترة التاريخية قبل ١٩٤٥م:
بالعودة لعدد من الأعمال الفنية السعودية التي ظهرت في الفترة التاريخية من تأسيس الدولة السعودية وحتى الاعتراف الرسمي بالفنون بصفتها مادةً في التعليم العام؛ أي في الفترة الزمنية التي ما بين ١٩٣٢م وحتى ١٩٤٥م نجد أن هناك ضعفًا في التدوين التصويري بشكل عام، وقلةَ اللوحات أو الأعمال الفنية التي تناولت الأحداث السياسية والاجتماعية أو حتى التصوير التعبيري عن الذات وهمومها الوجودية. بينما في المقابل سنجد ازدهارًا في الاهتمام بالخط العربي ومدارسه، والذي كان نتاجًا للاهتمام بتدوين القرآن الكريم في العصر العثماني قبل ذلك. وكانت التجربة الأولى الموثقة في هذه الفترة التاريخية في مدينة مكة المكرمة؛ إذ دُرِّست مادة الرسم في مدرسة العرفية عام 1908م، والتي أسّسها محمد حسين الخياط، وكانت مناهج الفنون في هذه المدرسة مبنية فقط على النقل والمحاكاة من تصاميم محددة مسبقًا (نسخ). وفي عام 1912م حسب الوثائق التاريخية درَّست كلٌّ من مدرسة الفلاح في جدة – التي افتتحتها زينل علي رضا – والمدرسة الأميرية عام ١٩٣٧م بالأحساء الخطَّ العربي بأنواعه وفنونه بوصفه موادَّ فنيةً ذات بُعد جمالي، وكان الاعتماد الأساسي في تدريسها على المحبرة والريشة (السليمان، ٢٠٠٠م). وبعد قيام الدولة السعودية عام 1932، استمر هذا التدريس المحدود للفنون؛ حيث دُرِّس الخط العربي بشكل نظامي بكونه مادة أساسية يدرِّسها معلم غير متخصص في الخط؛ حيث تحول المنهج فيها إلى تعلّم نسخ الخط فقط وليس تعلمًا لفنونه. وفي الفترة نفسها، بدأ بشكل أكثر عمومية تدريس مادة الرسم في المدارس بصفته نشاطًا غير ملزم؛ حيث تُزوّد المدارس العامة بخطة سنوية ذات أهداف تربوية لتطبيقه في المدارس الثانوية مرة واحدة في الأسبوع (السليمان، ٢٠٠٠).
ما يجعلنا نتساءل عن تاريخ تعليم الفن في تلك الفترة التاريخية في الجزيرة العربية وعن المصادر والكيفية التي كان تُنتَج بها المنتجات الفنية، وهو وجود الرسومات في مجالس البيوت القديمة، كوجود التصاميم الفنية المدروسة على منسوجات السدو، ووجود زخارف القط العسيري وغيرها، وغياب ملحوظ لوجود اللوحات الفنية والتي كانت في أوج نشاطها في أوروبا وأمريكا، باستثناء وحيد للوحاتٍ قليلةٍ للفنان السعودي محمد راسم؛ لذلك نسأل هل كان تعليم الفنون مجرد حرفة أو صنعة وظيفية تنتقل فيما بين الناس في تلك الفترات التاريخية وفقًا للاحتياج والتكسب المعيشي منها، أم أن وجودها لأغراض جمالية كان متحققًا أيضًا؟ أم أن وجود هذه الحرفة بحد ذاته شهد تحولًا في معناه كما حدث في الغرب؟ فالحرفي الذي ينتج هذه الأعمال شهد تطورًا تدريجيًّا في التعريف به، فمفهوم المعلم Master في التاريخ الفني الأوروبي والأمريكي مر من كونه معنيًّا بالشخص الذي يتقن حرفة يدوية تظهر مهارة جمالية بثلاث مراحل؛ فمن المعلم الحرفي لأغراض وظيفية إلى المعلم الفنان لأغراض وظيفية وجمالية ملحوظة ثم تم الانتقال الجذري للوصف؛ بحيث أُطلِقت تسمية فنان على من ينتج تلك الأعمال الفنية ويدرسها في الأكاديميات الفنية التي انتشرت في نهاية القرن السادس عشر (جيمس دايتشند، 2020). وعلى ضوء ذلك هل يمكننا تطبيق عملية التحول هذه على تاريخ التعليم الفني في السعودية والذي يبدو أنه شهد أيضًا تحولًا متأخرًا في ذلك؟
في ثلاثينيات القرن التاسع عشر جادل هوراس مان 1796م مؤسس حركة المدارس العامة في أمريكا بأن التعليم العام سيجعل الناس عمالًا أفضل، وأن الرسم الذي أراد تضمينه في المدارس العامة ستكون له تطبيقات وفوائد تجارية (جيسي رابر، 2017)، وذلك في إشارة منه لربط الفن بالاقتصاد لتعزيز مكانته اجتماعيًّا، وهذا ما حدث فعلًا في مدارس أمريكا التي شهدت ولادة الكثير من نظريات النمو الفني ومناهجه على إثر تلك الدعوات حتى يومنا هذا. وفي ثلاثينيات القرن العشرين حين نتأمل التراث الفني المميز لكل منطقة من مناطق السعودية نجد أن هناك خصوصية تصميمية فنية تظهر في صناعة الأبواب والبيوت الطينية على سبيل المثال في مناطق المملكة كلها. وكان لهذه المنتجات التي تحمل أبعادًا جمالية في مظهرها ارتباطها المباشر بالعمل وبوجود الفائدة المعيشية من قبل ذلك الوقت بزمن، وكان غائبًا بالنسبة لنا طريقة تعليمها وتداولها بين الناس. مع أنه بدراسة تلك الأشكال نجد أنها لا تخلو من كونها تخطيطًا تصميميًّا ولونيًّا مدروسًا مرتبطًا بالطبيعة المحيطة، وتنم هذه التصاميم على أنها كانت تنطلق من عملية منهجية ربما لم تكن مدونة طرقها إلا بذلك الشكل التصويري النهائي كمنتج على أبواب البيوت الطينية وأنسجة السجاد البسيطة وبعض الملابس النسائية التراثية وغيرها. ومن بين أمثلتها الشهيرة القط العسيري والذي سُجِّل مؤخرًا في اليونسكو 2017. ولم تدوّن أي وثيقة تاريخية عن التصاميم الأولية لبدايات هذه الصناعات؛ بالتالي لم نتمكن من رصد تاريخ نشأتها في كل منطقة من مناطق المملكة؛ لكن يمكننا الآن فنيًّا تصنيفها على أنها خصوصية فنية وثقافية لتلك المناطق. أيضًا لا توجد مصادر علمية موثقة من ذلك العصر تشرح كيفية انتقال تلك الخصوصية التصميمية بين أفراد المنطقة الواحدة بغير امتهانها بصفتها حرفة وظيفية بين أفراد العائلة الواحدة؛ بغرض التكسب المعيشي الذي ساد على روح ذلك العصر في المنطقة العربية قبل ظهور آثار الاستعمار الثقافية على توجهات الفن وأساليبه.
الفنان السعودي الذي توجد له لوحات فنية يمكن عدُّها امتدادًا لحركة الفن في أوروبا وأمريكا في ذلك الوقت هو الفنان السعودي محمد راسم، والذي له أعمال فنية مدونة منذ بداية ثلاثينيات القرن الماضي في السعودية، راسم من مواليد منطقة الطائف، عاصر الحرب العالمية الأولى حيث كان عمره حينها ثماني سنوات، ودرس الفن في إسطنبول لمدة أربع سنوات. وتصور أعماله القليلة المنشورة الحياةَ الحجازية آنذاك، ففي بعض لوحاته نجد ظهورًا مبكرًا للمرأة في الفن السعودي. صوّر راسم ذلك كله بأسلوب تصويري معاصر للفن الدارج في أوروبا وأمريكا في تلك الفترات التاريخية، وذلك من حيث استخدام الألوان الزيتية، وظهور البورتريه بالأساليب الفنية الحديثة في ذلك الوقت. وقد أقام معرضًا فنيًّا للوحاته في بداية ثلاثينيات القرن الماضي في البنك البولندي الذي كان يعمل فيه (السليمان، ٢٠٢٠). ما يثبته وجود لوحات راسم أن هناك حالات فردية كانت تمارس الفن بأساليب فنية معاصرة لكنها غير مدونة تاريخيًّا لغياب التدوين الكتابي. ويؤكد أيضًا على عدم وجود مدارس فنية في عشرينيات وبداية الثلاثينيات من القرن العشرين في الجزيرة العربية على وجه الخصوص تعنى بالفنانين وتطور من مواهبهم.
الفن والتعليم ١٩٤٥م:
على عكس ما حدث في تاريخ تعليم الفن الأوروبي والأمريكي الذي بدأ من الأكاديميات الفنية، ثم انتقل للمدارس الحكومية يجد المتتبع لتاريخ تعليم الفنون في السعودية أنه بدأ أولًا من المدارس الحكومية وبعد سنوات انتقل للتعليم الجامعي. فمن خلال تتبع تدريس الفن في المملكة العربية السعودية، سأستعرض ببعض التفصيل والنقد تسلسل تطور تعليم الفنون الإداري منذ قيام الدولة السعودية عام 1932. وسأركز من خلال هذه المراجعة التاريخية على دور بعض المؤسسات التقليدية وغير التقليدية، وسأراجع مناهج الفن في كلا النوعين من المؤسسات. من هم أنصاره؟ وكيف استفاد الناس منه؟ وما الأنشطة التي قدمها؟ وكيف اختلف الموضوع الفني في المؤسستين؟ ومن الجدير بالذكر الإشارة هنا إلى أن الاجتهادات الفردية كانت موجودة برغم ضآلتها وحتى انعدام تدوين تجاربها.
وبالعودة إلى مناهج تعليم الفنون في المؤسسات الحكومية بعد ١٩٤٥م والمؤسسات الخاصة بعد ١٩٧٠م نجد أن مناهج تعليم الفن في المؤسسات التقليدية تمثلت في تدريس مبادئ التكوين وعناصر التصميم، والتراث الزخرفي الإسلامي، وأبسط أشكال تعلّم النسيج. أما وجوده في المؤسسات الخاصة فتم عن طريق تدريس الفنون بأساليب حديثة وبأنواع مختلفة من مدارس الفن الحديث، وكان موجهًا ومحدودًا لطبقة اجتماعية محددة؛ مما جعله محصورًا لجمهور معين بسبب ارتفاع أسعار التسجيل له.
منح فنية رسمية:
مدرسة تحضير البعثات بمكة المكرمة 1937م:
في واحدة من أهم الاتجاهات المبكرة لدعم تحديث التعليم بشكل عام في المملكة العربية السعودية وتعليم الفنون على وجه الخصوص افتتحت وزارة المعارف في عام 1939 “مدرسة تحضير البعثات”على يد محمد طاهر دباغ، وتؤهل المدرسة الطلابَ للحصول على منح دراسية خارج البلاد في مختلف التخصصات، وذلك بعد إنهاء الدراسة الثانوية لمدة ثلاث سنوات في هذه المدرسة. وكان معظم المعلمين في هذه المدرسة من غير الجنسية السعودية. وكان الرسم من بين التخصصات التي ابتُعِث الطلبة فيه. وبعد نهاية السنوات الثلاث الأولى من افتتاح هذه المدرسة أُرسل بعض الطلاب السعوديين لدراسة الفنون الجميلة في دول أخرى، كما أُرسل الطلاب المهتمون بتعلم الفنون إلى إحدى القوائم الآتية للدول والمدن:
روما عام 1960. من أهم الطلاب الذين درسوا في روما الفنان السعودي الشهير عبد الحليم رضوي (1939-2006)، الذي أعدَّ دورات تدريبية للمعلمين في المملكة العربية السعودية بعد عودته (حمزة، 2006) (انظر الشكل 1).
إيطاليا عام 1967. كان الفنان ضياء عزيز ضياء وزوجته ليلى حمزة شحاتة من أهم الطلاب الذين أرسلوا، واللذان أسهما فيما بعد في تطوير الفنون في المملكة العربية السعودية (انظر الشكل 2).
أكاديمية الفنون الجميلة بفلورنسا عام 1969. كان الفنان محمد السليم من بين الطلاب الذين أرسلوا، والذي بدأ بعد عودته بتدريس فنه الخاص (انظر الشكل٣). قصة الفنان محمد السليم الفنية مثيرة للاهتمام؛ حيث أسهم إسهامات كبيرة في التاريخ الفني السعودي، وتوفي في ظروف غامضة في شقته بإيطاليا.
الولايات المتحدة، 1971-1980. خلال هذه الفترة الانتقالية في تاريخ التعليم الفني السعودي ومن أجل دعم التربية الفنية، أُرسِل 80 معلمًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
المعهد العالي للتربية الفنية بالقاهرة (جامعة حلوان حاليًا). كان الفنان محمد الرصيص (عبد الرحمن السليمان، ٢٠٠٠) من أهم الطلاب الذين أسهموا بعد عودتهم في تطوير الفنون في المملكة العربية السعودية.

التربية الفنية في المدارس الحكومية 1953م:
عندما تأسست وزارة المعارف برئاسة الوزير فهد بن عبد العزيز عام 1953م، عُدِّلت مناهج التعليم الحكومية في جميع المدارس، ومن بين التعديلات المهمة الموافقةُ على تدريس الرسم في جميع المدارس الحكومية بشكل إلزامي، وكان لهذا القرار تأثيرٌ كبيرٌ في مشهد الحركة الفنية في المملكة العربية السعودية؛ إذ بدأ الطلاب الذين تعلموا الرسم في الخارج بالعودة للبلاد وتكوين وعي مجتمعي بأهمية الفنون في مجتمع لا يمتلك المعرفة الفنية المعاصرة. وفي ذلك الوقت، واجه تعليم الرسم معارضة شديدة من بعض علماء الدين الذين احتجوا على تدريسه في مدارس التعليم العام، وجادلوا في عدد كبير من الفتاوى بأن الرسم هو التصوير، وأن التصوير محظورٌ قطعًا في الإسلام، فتمت مقاومة هذه الاعتراضات بالحد من المناهج والمواضيع الفنية التي تدرّس ولم تلغَ المادة؛ بل حُدِّدت الموضوعات بما يتناسب مع الرؤية الشرعية والمحافظة حينذاك، فمنع رسم الإنسان والحيوان والطيور، واكتُفي بالسماح برسم المناظر الطبيعية والزخارف الإسلامية الهندسية والنباتية؛ وذلك لمواصلة خطط التعليم في المملكة.
وطوِّرت المناهج الدراسية الأولى المعتمدة للتربية الفنية في المراحل التعليمية الابتدائية والمتوسطة والثانوية في عامي 1957م و1958م، وكانت هذه هي البداية نحو المسار الصحيح، فعُدِّل عنوان المادة ليصبح (التربية الفنية) بدلاً من (الرسم والأشغال) ١٩٦٢م، وبُدئ بالاهتمام في ذلك الحين بوضع أهداف تربوية مرتبطة بنظريات النمو الفني لدى الأطفال والمراهقين، ومرتبطة بدعم الأهداف التعليمية الأخرى التي تسهم في تطوير شخصية الطالب وإعداده ليكون مواطنًا صالحًا (عبد الهادي الحسيني 1987). علاوة على ذلك، أصبح الهدف تثقيف الطلاب وتعديل سلوكهم جماليًّا وفنيًّا من خلال تطبيق الدروس والأعمال الفنية التي سبق أن أعدتها وزارة المعارف. ولم يكن يسمح للمعلم التعديل أو الخروج عن المنهج تخوفًا من ردة فعل المجتمع الذي كان مشحونًا ضد الفنون التشكيلية وتعلمها من ناحية، ولعدم توافر أي إمكانات مادية تساعد المعلم من ناحية أخرى. فكل الأدوات الفنية في المدرسة وخارجها تخدم أغراضًا فنية وموضوعات محددة مسبقًا.
الموافقة على تدريس الرسم في مدارس بنات الرئاسة العامة لتعليم البنات 1957م:
في حين اعتُمد قرار إلزام تدريس التربية الفنية رسميًّا في جميع مدارس المملكة العربية السعودية عام 1957م؛ غير أنه لم يُوافق عليها في مدارس البنات حتى عام 1959م. وفي ذلك الحين أُضيفت مادة الرسم بصفتها موضوعًا رئيسًا في مناهج مدارس البنات الابتدائية والمتوسطة، واعتمد المنهج المقدم على محاكاة النماذج الفنية الجاهزة والتقليد ورسم المنظور باستخدام أدوات فنية بسيطة كقلم الرصاص وأقلام التلوين الخشبية وألوان الشمع والفحم (طارق زقزق، 2014). حدث هذا في الوقت الذي كانت فيه أسماء نسائية بارزة اليوم تصنع بداياتها الفنية في دول عربية، وأبرز أمثلة هذه الفترة هما الفنانتان صفية بن زقر ومنيرة موصلي اللتان تلقيتا تعليمهما الأكاديمي في مصر وبريطانيا، وعادتا لإثراء الفن النسوي السعودي بالخبرة والأدوات الفنية المعاصرة، وأقامت الفنانتان معارض فنية في تلك الفترة المبكرة، وكان ذلك كبادرة أولى للوجود الفني النسوي في صالات العرض السعودية.

أول معرض فني للمدارس الحكومية عام 1953م:
في عام 1953م ونتيجة لهذا الانتشار في تدريس الفنون في جميع المدارس السعودية، أقيم لأول مرة أول معرض فني أنتجه الطلاب في مقر وزارة المعارف بالرياض وافتتحه الملك سعود بن عبد العزيز، وعُدّ هذا الحدث تتويجًا لقرار وزارة المعارف بتعليم التربية الفنية في المدارس وتبنيها رسميًّا للفنون الجميلة. ومنذ ذلك الحين ساعدت الوزارة على تنظيم معارض فنية مدرسية في جميع مناطق المملكة وكانت هذه المعارض المدرسية هي المرة الأولى التي تُقدَّم فيها الفنون للمجتمع بشكل رسمي، وكانت أيضًا الأماكن الأولى لتسليط الضوء على المبدعين فيها ومنها انطلقت أسماء فنية بارزة في تاريخ الفن التشكيلي السعودي. استمرت المعارض الفنية المدرسية تقام بشكل سنوي، وفي عام 1959م أقيم أكبر معرض جماعي للمدارس الثانوية في المملكة بالرياض (الرصيص، 2009).
الدورات التدريبية للمعلمين بالطائف 1954-1964م:
في إحدى المدن السعودية اللامركزية، الطائف، انطلقت أولى الدورات التدريبية لمعلمي الفنون في تاريخ السعودية. بين عامي 1954م-1964م، فنرى أن المعلمين بدأوا بمحاولات التأهل أكاديميًّا لتدريس الفن في المدارس العامة، فعقدت هذه الدورات بشكل دوري ودرَّسها في البدايات معلمون من جمهورية مصر، ثم بعد نجاح مخرجات مدرسة تحضير البعثات التعليمية بدأ الفنانون السعوديون العائدون من الخارج بتدريب المعلمين الجدد على ما تعلموه في الأكاديميات الفنية خارج المملكة العربية السعودية. كان الفنانان عبد الحليم رضوي ومحمد السليم من أوائل المعلمين الذين درّسوا في هذه الدورات الفنية في الطائف (الرصيص، 2009).
معهد التربية الفنية بالرياض 1965م:
منذ عام 1957م أُنشِئ العديد من المعاهد لتدريب المعلمين على العمل في المدارس العامة كمعلمين للفنون. ومن أهم هذه المؤسسات وأكثرها فاعلية معهد التربية الفنية الذي أسسته وزارة التربية والتعليم في مدينة الرياض عام 1965م. وكانت مدة الدراسة في المعهد ثلاث سنوات تشمل التدريب الميداني في المدارس، والأنشطة المختلفة للمناهج الدراسية غير المنهجية، ومعرض فني في نهاية العام الدراسي. ولتشجيع الطلاب على دراسة الفنون في هذا المعهد دُفِعت جائزة مالية شهرية لكل طالب بمعدل 90 دولارًا في الشهر، وقدم معهد التربية الفنية جميع المواد والمستلزمات الفنية اللازمة لدروس الفن. وكان الفنان عبد الحليم رضوى، بعد عودته من روما، أول سعودي يدرّس في هذا المعهد، ونقل خبراته الأكاديمية والفنية خلال دراسته بالخارج إلى طلاب المعهد. لًاحقا نشأ معهد مهم آخر لبدء حركة تعليم الفنون في المملكة العربية السعودية وهو مركز الفنون الجميلة، الذي أنشئ في مدينة جدة عام 1968م تحت إشراف وزارة التربية والتعليم، وكان مديره أيضًا الفنان عبد الحليم رضوي. واستمر هذا المعهد في تقديم دورات فنية للراغبين في تعليم الفنون لمدة سبع سنوات، ثم أُغلق في عام 1974؛ لأنه عُيِّن مؤسسو المركز في وظائف عليا في التعليم العام (الرصيص، 2009).
التربية الفنية في الجامعات السعودية 1975م:
بدأ تدريس التربية الفنية في الجامعات السعودية عندما قُرِّر بدء منح درجة البكالوريوس في التخصص في كلٍّ من جامعتي الملك سعود بالرياض عام 1975م وجامعة أم القرى بمكة المكرمة عام 1977م. وفي ثمانينيات القرن الماضي، بدأت الحكومة السعودية بدعم تدريس العلوم الإنسانية في جميع الجامعات. وخلال تلك الفترة، افتُتِحت 52 كلية للعلوم الإنسانية في جميع أنحاء البلاد، وقدمت خمس منها برنامج التربية الفنية كدرجة علمية (الرصيص، 2009). ومن حيث مناهج الفنون قُدِّمت أربعة تخصصات في تلك الجامعات: السيراميك والنسيج والمعادن والطباعة، وتستمر هذه الأقسام الأربعة بمناهجها نفسها في كثير من الجامعات الحكومية حتى يومنا هذا مع بعض الإضافات البسيطة. ومنذ ذلك الوقت، بدأت الحكومة تدريجيًّا بدعم تدريس الفنون بكثافة، وذلك عبر افتتاح كليات الفنون في جميع الجامعات السعودية (السليمان، 2000). وتدرس الجامعات تاريخ الفن الأوروبي وأهم فناني القرن التاسع عشر ضمن المواد العامة في السنتين الأولين من الكلية. وفي السنة الثالثة، يختار الطلاب حقلين فقط من الأربعة الرئيسة وذلك لدراسة التخصص الدقيق والحصول على درجة البكالوريوس. أيضًا، في كلا العامين، ولمدة ثلاثة أشهر يحصل الطالب على معرفة عملية لتدريس الفن في المدارس العامة. وبعد أربع سنوات، يحصل الطلاب على درجة البكالوريوس في الآداب في التربية الفنية. ومن بين الأنشطة التي تقام لدعم الفنون في الجامعات الحكومية آنذاك هو وجود معرضين فنيين سنويًّا لكل من الطلاب وأعضاء هيئة التدريس في الجامعة. تلا ذلك بسنوات افتتاح جامعة أم القرى برنامج الماجستير في التربية الفنية عام 1989 م، تلتها جامعة الملك سعود عام 2003.
وفي الفترة التاريخية ذاتها نرى أنه من عام 1970م فصاعدًا، بدأت العديد من الجهات الحكومية والهيئات الخاصة في دعم الفنون بشكل أكبر في المملكة؛ فشهدت هذه الفترة تأسيس الجمعية السعودية للثقافة والفنون عام 1973، وافتتح أكثر من عشرة أفرع لها في مدن المملكة. وافتُتحت الرئاسة العامة لرعاية الشباب؛ حيث أُنشِئت إدارة الشؤون الثقافية فيها ومن بين برامجها قسم خاص لرعاية الفنون التشكيلية وإقامة معارض فنية جماعية تخصص لها الجوائز، وتشمل المعارض المعرض العام للنحاتين، والمعرض العام لمناطق المملكة، ومعرض الفن السعودي المعاصر (السليمان، 2000).
كان افتتاح هذه الهيئات أول علامة على التحول في الاهتمام بالفنون خارج المدارس أو مجال التعليم الرسمي. وأصبح دعم المنتجات والأعمال الفنية والترويج للفنانين داخل المملكة العربية السعودية وخارجها أكبر مما سبق. بدأت الجمعية السعودية للثقافة والفنون بمشاريع مختلفة خلال المناسبات الوطنية الكبرى مثل اليوم الوطني السعودي، ومهرجان الجنادرية السنوي، أو للاحتفال بالذكرى المئوية للبلاد. وأصبح الفنانون والمعارض الفنية منتشرة بشكل أوسع، وتجد دعمًا سخيًّا في أنحاء المملكة العربية السعودية كافةً، في حين ظل التعليم الفني في المدارس العامة على حاله منذ إنشائه (الرصيص، 2009).
في عام 1999م أصدرت وزارة التعليم خطة لتطوير المناهج العامة لجميع المواد الدراسية، ومن ضمن ذلك شُكِّلت لجنة من الخبراء والمتخصصين في المناهج لتطوير منهج التربية الفنية، وصدرت بعده وثيقة منهج التربية الفنية عام 2003 بعنوان “تطوير التربية الفنية”. ومنذ عام 2005، ينتظر العديد من معلمي الفنون في المملكة العربية السعودية إصدار المناهج الدراسية التي طورتها وزارة التربية والتعليم، والتي أعدتها وأعيد صياغتها من مجموعة من الخبراء في التربية الفنية.
منذ عام 1970م استمرت مناهج الفنون في تقديم الفن الكلاسيكي في المدارس العامة، والذي يتضمن دراسة الزخارف الإسلامية، وصنع منتجات الطين على الطراز التقليدي، والخياطة، والتطريز. وفي الوقت نفسه، تقدم المؤسسات والهيئات الفنية الخاصة أساليب الفن المعاصر ومدارسه وأدواته بمقابل رسوم مادية باهظة الثمن، والتي حالت دون تعرّض جميع فئات المجتمع لهذه الفنون المعاصرة، وكانت سببًا في تقييد ومحدودية الوصول إلى التعليم الفني في مجالات الفنون المعاصرة ونظرياته.
من أشهر هذه المؤسسات الخاصة أكاديمية الفنون الجميلة للفنانة السعودية صفية بن زقر 1940م، وهي من أوائل الأكاديميات الخاصة لتدريس الأساليب المعاصرة في الفن التشكيلي في السعودية، بالإضافة إلى دمجها الأساليب التقليدية في المناهج. وتنظم الأكاديمية ورش عمل للصغار والكبار، وندوات ومحاضرات فنية، وتتضمن مكتبة فنية مهمة ومتحفًا مجهزًا بالمرافق واللوازم اللازمة لإقامة المعارض الفنية.

وتعد دار صفية بن زقر من أهم وأكثر الأكاديميات الخاصة تنظيمًا في تلك الفترة التاريخية، من حيث وضوح هدفها، وذلك بتقديم الفنون المعاصرة في قالب أكاديمي متخصص؛ مما أسهم في استمرار وجودها حتى اليوم. وشكلّت هذه الأكاديمية توجهًا مهمًّا في الفن السعودي؛ حيث جمعت بين الدراسة الأكاديمية وإقامة المعارض والأنشطة الفنية والثقافية في ذات الوقت ذاته. ونشأت معها في الفترة ذاتها عددٌ من الدور المهمة كدار الفنون السعودية التي أنشأها الفنان محمد السليم؛ ولكنها كانت معنية بتزويد الساحة الفنية بالأدوات الفنية الجديدة والمعاصرة وإقامة المعارض للفنانين أكثر من دعمها لتعليم الفنون بشكل أكاديمي. وقدمت دار الفنون السعودية خدماتها للفنانين وليس للمدارس العامة؛ مما أسهم في وجود ذلك الانفصال التام بين كلٍّ من فنون المدارس وفنون المؤسسات والهيئات الخاصة.
هذا الانفصال الحاد في تقديم الدعم لتعليم الفنون والعناية بها بشكل جدي ودائم بين كلا المؤسستين الحكومية والخاصة انعكس بشكل واضح على جودة الفنون أولًا، ومن ثم على تقدير الفنون في المجتمع؛ فنجد أنه أُهمل تطوير الفنون في المؤسسة التعليمية الرسمية والتي هي البوابة الأولى لترسيخ قيم الفن في المجتمع، ومن ثم قُدِّمت الفنون المعاصرة والمناهج الحديثة ونظريات تعليم الفن في المؤسسات الخاصة لفئات محدودة وموجهة. وسبب هذا التركيب المشكلة في تأخر العناية بمنظور الفن بشكل كامل في السعودية، والذي نجده ناجحًا بشكل أكبر في تجارب تعليم الفنون ونشرها في بقية الدول في المنطقة العربية.
المراجع
عبد العزيز الخضر، .(2010) المملكة العربية السعودية، سيرة الدولة والمجتمع. بيروت، الشبكة العربية للبحث والنشر.
محمد الرصيص، (2009). الفنون الجميلة في المملكة العربية السعودية. تونس: المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم.
السليمان، أ. (2000). الفن في المملكة العربية السعودية. المملكة العربية السعودية: وزارة الإعلام.
الحسيني، م. (1987). التربية الفنية وأساليبها. مكة المكرمة جامعة أم القرى.
دارة صفية بن زقر. 1995 الموقع الإلكتروني: http://daratsb.com/
حمزة، ب. (2006). قراءة نقدية على تجربة الفنان عبد الحليم رضوي. مكة: جامعة أم القرى.
لطفي، د. (2018). فهم ديناميكيات التربية الفنية في المملكة العربية السعودية داخل المدارس الثانوية والكليات. نيويورك: كلية المعلمين، جامعة كولومبيا.
زقزق، ت، 2014 م. ظهور وتطور التربية الفنية في المملكة العربية السعودية، قسم التربية الفنية، كلية التربية – جامعة طيبة، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية.