غيّر افتراضاتك تتغيّر حياتك! – عبدالله البريدي

وجد الأخوان التوأمان الشابان شاكرُ ونبيهُ نَفْسيهما أمام منعطف خطير في حياتهما، إذ أخفقا معاً في تأمين المعدل الأكاديمي المطلوب للقبول في الجامعة في التخصص الهندسي الذي كانا يَحلمان به منذ نعومة أظفارهما، أحدهما في الميكانيكا والآخر في الكهرباء. هذا موقف عبوس مُتجَهِّم بلا شك، وتفاصيله “الموضوعية” هي هي لكليهما، بيد أن التوأمين اختلفا مع ذلك في التعاطي معه. حيث عمد شاكر إلى التسليم بأن “غير المرغوب” قد حدث فعلاً، وأنه لا مجال سوى التكيف الذكي السريع معه، مُستبطناً حكمةَ جدتِه “الخيرة خفية”، فَراحَ يستذكرُ صداقاتِه القديمةَ مع مجالات معرفية ارتبط بها في مراحل سابقة من طفولته وشبابه عبر قراءات جيدة ونقاشات بناءه مع والديه وزملائه، لعله يجدُ في أحدها ما يأمنه على طموحاته المستقبلية.
في الضفة الأخرى، طفِق نبيه يرقب أوضاع زملائه الذين تمكَّنوا من الوصول إلى مقاعد الهندسة في الجامعة ذاتِها، لا بسبب كفاءة معدلات الأبناء وإنما لفعالية محسوبية الآباء، وأولئك الذين حصلوا على دعم كافٍ من عوائلهم لدراسة الهندسة في كليات أهلية، ووجد نفسه مُقتاتاً لمشاعر ناقمة سلبية. لم يَطُل المقام بشاكر، حيث توثَّقتْ علاقتُه مع الأدب، واكتشف أنه ما زال يهواه، فسجَّل في كلية الآداب وخلع قُبعة الهندسة، وأعاد طلاء أحلامه. أما نبيه، فلم يُطق تجاوز دائرة التأزم، وقرر بأنه لن يُرغِم نفسَه على اختيار أي تخصص آخر في الفصل الأول وربما في العام الجامعي برمته، فهو يرى أنه يمتلك حلماً مشروعاً بأن يكون مهندساً ميكانيكاً مرموقاً، وبخاصة أن أحد أخواله مَنَّاه بأنه سيسعى بواسطة قوية في الفصل الموالي.
لا أطيل عليكم، فشاكر تخرَّج قبل أسابيع بعد أن اكتسب قدرات مذهلة في الكتابة الإبداعية، تبشر بميلاد كاتب مميز مع إمكانية الحصول على وظيفة جيدة، وأما نبيه فتسَمَّر في مكانه، واستحال إلى “شبح مهندس” مع عدم وقف التنفيذ!
الحياة حياتان، حياة داخلنا (نظراتنا وافتراضاتنا لما حولنا) وأخرى خارجنا (ما حولنا من الأوضاع والأحداث). الحياة الخارجية تمثل ما يمكننا وصفه بـ “الحياة في نفسها” أي الحياة كما هي في حقيقتها (=نومين الحياة)، وأما الحياة الداخلية فتعكس ما نفهمه نحن من الحياة أي ما يظهر لنا منها (=فينومين الحياة) ويدخل في ذلك تأثيرها علينا. نجهد في كثير من الأحيان لتغيير حياتنا عبر ما لا نملك (تماماً كما فعل نبيه مع الحياة الخارجية وإصراره على الهندسة)، ونتغافل عما نملكه حيال حياتنا نحن، وهي تعديل الافتراضات، فالحياة ليست سوى افتراضات (كما صنع شاكر في الحياة الداخلية وترحاله المرن إلى الأدب).
قولنا إن الحياة هي افتراضات لا يعني أننا نستخف بحقيقة الحياة كما هي أو أننا ننكرها، كلا وإنما مُرادنا فقط هو تأكيد أن معالجتنا في هذا المقال هي معالجة نفسية أو سيكولوجية وليست إبستمولوجية، وهذا يعني أننا لن نشتغل البتة على الحياة من جهة حقيقتها كما هي في واقع أمرها، وإنما من جهة ما يظهر لنا منها وما نُقدِّر من آثارها المحتملة علينا. والمعالجة التي نتبناها لا تدعو إلى هجر الشعور بالتحدي والتصميم على تحقيق أحلامنا في الحياة، كلا فهذا له مساره المقدر المحترم المقبول في سياقاته الملائمة، وإنما هي دعوة لـ “المرونة النفسية” حيال أحداث عنيدة، لا نملك إزاءها أي شيء، سوى أمر واحد، وهو تغيير افتراضاتنا أو تعديلها.
دعونا نَقُم بتصنيف الافتراضات الحياتية، لإيضاح الفكرة أكثر من زاوية، ولكي نقطف ثماراً عملية من زاوية ثانية. سوف نقسمها بدون تعقيدات إلى أربعة أنواع فقط، وهي:
1- افتراضات صحيحة
هذه الافتراضات ليست سياقية، فهي أشبه ما تكون بالافتراضات المطلقة أو لعلها كذلك في بعض الأحايين. هنا نكون قُبالة حالة لا تتطلب أي إجراء إضافي، سوى المحافظة على هذه الافتراضات وتغذيتها، والقيام بما يجب حيالها من الصيانة الدورية والعلاجية. تمثل هذه نسبة لا بأس بها من افتراضاتنا في الحياة، وهي تختلف من شخص إلى آخر، بطبيعة الحال، بحسب العديد من العوامل المعرفية والنفسية والخبرات والنضج وما إلى ذلك. ضمن هذه الافتراضات المطلقة ما يخص الانتماء الوطني والولاء التام له، ممثلاً بانحيازك الدائم لمصالح وطنك وما يحقق أهدافه وغاياته الكبار، وتقديم الغالي والنفيس له.
2- افتراضات مغلوطة
في هذا الوضع، نحن متورطون في افتراضات مغلوطة تماماً، وقد نكون على وعي بذلك، وقد لا نكون كذلك. لا يكفي الوعي بكونها مغلوطة لهذا السبب أو ذاك، إذ يجب السعي سريعاً لتغييرها “جوانياً” حتى لا تتفاقم خسائرنا، وقد نتكبد إن تلكأنا سعادتنا برمتها. هذا الوضع يتطلب منا مثالاً واقعياً. منصور أربعيني مستقر في حياته العائلية والعملية، ولديه حس مرهف جداً، ولذا فهو يتعامل مع كل الناس بطريقة لَبِقة، ومن ذلك أنه لا يتأخر في الرد على اتصالاتهم ورسائلهم في شبكات التواصل الاجتماعي، فهو مثلاً لابد أن يرد على رسائل الواتس أب. بمثل هذا التعامل، تَخلَّق لديه افتراضات أن الجميع يتوجب عليهم فعل الشيء ذاته معه، ولذا فهو يتضايق كثيراً حينما لا يجد جواباً على رسائله في الواتس أب، لا سيما أنه يختارها بعناية، مرسلاً إياها لبعض معارفه وأصدقائه. التضايق ازداد عنده، وتَطوَّر في البداية إلى الكف عن الإرسال، ثم وجد نفسه مُشبَّعاً بمشاعر سلبية تُجاههم، إذ يقول في نفسه، إنهم لم يكلفوا أنفسهم إرسال أي رسالة طيلة فترة توقفي والتي تجاوزت أشهراً.
قبل أن تتيبس مشاعرُه على نفور وكُره، أوصلْنَا له فكرةَ تغيير الافتراضات، وصنَّفنا له الناسَ حيال الفعالية التواصلية، إذ منهم من يكون جيداً في التواصل الحياتي المباشر، ولكنه ليس كذلك في التواصل الإلكتروني، كما أننا أبلغناه بأن التواصل الإلكتروني مبني على قاعدة التسلية المُتبادَلة، ولذا فإن كثيراً من الناس لا ينتظرون منك أن ترد على رسائلهم، في الوقت الذي يغيب عنهم تماماً مشهدُ انتظارك “الحار” لردودهم. لم يقتنع في البداية بمثل هذه الفكرة وهذا التشخيص، ولكنه وجده دقيقاً بعد قليل من التأمل، مبدياً شكره على معاونته على تغيير هذه الافتراضات التي وصفها هو لاحقاً بأنها: “مثالية بَلهاء”.
3- افتراضات لم تعد صحيحة
هذه افتراضات “سياقية” بامتياز. نعم، ثمة افتراضات تكون صحيحة في أوقات أو مراحل حياتية معينة، إلا أنها تفقد صحتها أو نجاعتها أو فعاليتها في أوقات أو سياقات أخرى. هذا النوع من الافتراضات تستلزم مراجعة دورية، للتأكد من كونها محتفظة بصحتها السياقية، أي أنها أشبه ما تكون بالرخصة المهنية التي تُجدَّد كل فترة زمنية معينة. هنا نحتاج إلى مثال أيضاً، وليكن مُنتزعاً من الحياة الصحية. عبداللطيف موظف حكومي، وقد زحف خِلسةً على الخمسين، مقتنياً مَرَضَيْ السكر والضغط. لم يفطن جيداً للتنبيهات التي كان يُسديها له طبيبُه المخلص قبل نحو عشر سنوات، والتي مفادها أنه تجاوز مرحلة التهام “الحلويات” و”الأيس كريم” و”التمر”، وكميات كبيرة من الخبز والأرز.
لم يدرك عبداللطيف أن افتراض التمتع بالأكل لما لذَّ وطاب قد يكون معقولاً أو مقبولاً في فترة الشباب شريطة ممارسة الرياضة، وحسب أن هذا الافتراض هو مطلق وليس سياقياً، فخسر صحته ومتعته وحريته في الأكل والعديد من الأمور أيضاً. فتش عن هذا النوع من الافتراضات، فهو من أخفى الأنواع وأكثرها مكراً وخداعاً. قد لا نتمكن نحن من اكتشافها، وفي الغالب يتم ذلك عبر صديق نوعي مخلص!
4- افتراضات صحيحة/مغلوطة جزئياً
هذا الوضع يتضمن افتراضات صحيحة أو مغلوطة جزئياً، أي أننا نتوفر على قدر من الصحة في بعض أبعادها، وهذا ما يستوجب التعديل للافتراض في طبيعته أو في مقدراه. هنا سأعطي مثالاً واقعياً مُلتقطاً هذه المرة من الحياة الاجتماعية. هِنْد ثلاثينية تشتكي من أن شقيق زوجها يتدخل في شؤونهما الخاصة وبخاصة أنه غير متزوج ومتقاعد، مما يجعله متوفراً على وقت كافٍ للقبض على أكثر التفاصيل. صَعَّدًتْ كثيراً وطلبتْ الطلاقَ بعد قرابة السنة من الزواج. دعونا هذه الزوجة إلى التدقيق في افتراضاتها، وقلنا لها بأنه لا يلزم أن يكون كل ما يقوله الشقيق هو “تدخل” فعلاً، وإنما بعضه “مشورة”، وبعضه مجرد حكي وتزجيه للوقت، وربما كان بعضه تدخلاً غير جيد، ولكن ذلك يحدث في بيوت كثيرة. اقتنعت، وغيَّرتْ افتراضاتِها، وتعيش حالياً بسلام وسعادة. لم يكلفها الأمر سوى تعديل افتراضاتها! هذا النوع من الافتراضات ليس سهلاً أيضاً اكتشافها، وذلك لكونها تتضمن قدراً من الصحة أو العقلانية، الأمر الذي يتطلب درجة عالية من الاستبصار الذاتي أي تفكيرنا في طريقة تفكيرنا، أو التماس نصيحة من صديق حكيم أو مستشار حاذق في القضية ذاتها.
سأختم هذه المقالة الصغيرة بموقف شخصي حدث لي قبل فترة، حيث جرى لي شيء يدعو إلى التضايق والتبرم. بعد شيء من التفكير توصَّلتُ إلى هذه القاعدة: “قد لا يتطلب عدم انزعاجك أكثر من قرار بعدم الانزعاج!”. بمثل هذه الفكرة الظريفة عدَّلتُ افتراضاتي بقدر من الانسيابية، وخَلَّصتُ نفسي من شعور بئيس بلا طائل يُذكر، متذكَّراً الحديث النبوي الكريم “طيْبُ النفسِ مِنْ النعيم”، فيطيَّبوا أنفسَكم بالإيجابية، تَطِبْ لكم الحياة.