مراجعات

فيلم شيرين لكيارستامي: الحكي والموسيقى والحجاب والحبّ، في مشهدٍ واحد- محمد الوزيري

معمار سينمائي يستحق النظر والتفكير ومشاركة نتائج عمليتي النظر والتفكير فيه من وقت لآخر.

فيلم شيرين للمخرج الإيراني عباس كيارستامي (1940 – 2016) موجود بالكامل على منصة يوتيوب بحاشية ترجمة انجليزية. وأستخدم كلمة حاشية لأن مشاهدة الفيلم بها لها وقع وعمل أي تُمثِل حالة تلقي، وبدونها تُمثِل حالة تلقي أخرى، كلا الحالتين لهما درجة من الاستقلالية، وهنا لا أتحدث عن كمال أو نقصان أو أفضلية.

– رابط لمشاهدة الفيلم كاملاً:

https://youtu.be/whHb4GUegDY

المشاهدة / تلقي العمل الفني عند عباس كيارستامي أحد مراحل إنجاز الفيلم. من الممكن أن نكتب الآتي:

الفكرة / الدافع + المعالجة [لا يكتب سيناريو] + معاينات واختبارات ما قبل التصوير + عملية التصوير + المونتاچ وتصميم شريط الصوت + المكساچ + المشاهدة = فيلم لعباس كيارستامي.

إن صح هنا استخدام كلمة تأويل لجزء من أو كـ «نتاج» لعملية المشاهدة، أي لعملية التفاعل بين مرحلة المشاهدة ونتاج المراحل التي سبقتها، فمن المهم توضيح أن معنى التأويل هنا يطمح لأن يكونَ غير محكم، أن يكون لا تأويل، أو تأويل غير محكوم بمناهج أو طرائق أو استراتيچيات نقدية، تأويل منفلت نوعاً ما أو منفلت حد استطاعتي، تأويل: غرائزي، حسي، جمالي، عاطفي، ثقافي، تقني، عقلي، حقوقي، سياسي. بمعنى آخر هذا ليس ريڤيو أو مقال نقدي، هذه محاولتي / محاولة من محاولات إنجاز الفيلم.

في مقال سابق كتبتُ عن وحدة المكان ووحدة الزمان في المشهد السينمائي[1]. المكان في فيلم شيرين صالة عرض سينمائي[2]، يُعرض داخلها فيلم عنوانه أيضاً «شيرين».

لو قسمنا الفيلم السينمائي لشريط صورة + شريط صوت، فيمثل شريط الصوت هنا فيلم شيرين المعروض على الشاشة الذي نسمع أحداثه ولا نشاهدها، ويمثل شريط الصورة تتابع عدد اللقطات المُقربة Close shots ل 113 سيدة من الحضور في صالة العرض مضافا إليهم تتر البداية وتتر النهاية، في زمن مدته 1:30:57، أي ساعة ونصف تقريباً.

كيف جعل كيارستامي ساعة ونصف تمثل وحدة زمنية واحدة؟

فعلها بشريط الصوت الموحد، كل شخصيات فيلم الصورة صامتة، تستمع إلى نفس فيلم الصوت في نفس اللحظة الزمنية. فيلم الصوت عبارة عن حكاية «شيرين وخسرو وفرهاد»، من قصص الحُب التي خلدها التراث الفارسي وتُعاد روايتها جيلياً[3]، أعطى هذا لفيلم الصوت قوة الحكاية، ولوجوه 113 امرأة دور الحكاءات، ولنا دور الجمهور في الساحات أو المهرجانات أو دور المسرح نشاهد عرض الحكي، وفي عروض الحكي وحدة الزمن هي وحدة زمن كل حكاية، تبدأ مع بدايتها وتنتهي مع نهايتها. ولأنهن الحكاءات وضع العنصر الرجالي من الحضور في صالة العرض في ال Background للكادرات حال ظهورهم، فعدد مرات ظهورهم داخل الكادرات كانت غير كثيرة.

هذا معناه ببساطة أن فيلم شيرين، فيلم مكون من مشهد واحد.

تتر النهاية نزل قبلما ينتهي فيلم الصوت، أي أنهى كيارستمي فيلم الصورة قبل فيلم الصوت، هذا القطع الحاد المقصود أنهى أدائي في دور الجمهور، في هذه اللحظة تحديداً / لحظة نزول تتر النهاية بالضبط، حدث لي Derole. وهذا جزء من المشاركة بعملية المشاهدة في إنجاز الفيلم.

هل فقط ثالوث «الحكاية، والحكاءات والجمهور» هو ما جعل الساعة والنصف وحدة زمنية واحدة؟

معمار الفيلم مدهش. التكرار بتفريدات متنوعة لكل آلة موسيقية على خط لحني أساسي، هو ما منحنا كبشر موسيقى الچاز. هذا بالتمام والكمال ما قام به كيارستامي، مهد له أثناء التصوير، وأتمه في مرحلتي المونتاچ والمكساچ. المُلفت أيضاً توسع كيارستمي على غير عادته في استخدام الموسيقى، والأغاني المبنية على أشعار فريد الدين العطار.

الخط اللحني الأساسي هو حكاية «شيرين»، وتكرار نفس حجم الكادر لـ«بورتريهات» عدد من وجوه النساء / الممثلات الإيرانيات -اشتركت معهن الممثلة الفرنسية چوليت بينوش- هو التفريدات على اللحن الأساسي:

1- 113 وجه ليس كمثلهن شئ صادفته في فن التصوير الفوتوغرافي والسينماتوغرافي، جمال عظيم لدرجة الألم. القطع بينهن / بين اللقطات المقربة خشن أخاذ الجمال، وكذلك الإضاءة أخاذة الجمال لبساطة تقنيتها ووظيفيتها ولجمال الوجوه الساقطة عليها.

2- الآلة الموسيقية هنا هي البورتريه، والتفريدة الشعورية / الموسيقية تُعزف بواسطة ما يكسي هذا الوجه من مشاعر العازفة / الممثلة.

3- هناك وجوه تكررت أكثر من مرة سواء في ال Foreground أو ال Background للكادرات المتعاقبة، لو تم تجميع لقطات نفس الممثلة -خاصة في ال Foregrounds – بشكل متعاقب، تتكون عندنا الحكاية الخاصة بها.

المخرج المصري داود عبد السيد قال ذات مرة ما معناه، إن ما يطمح إليه هو تحويل أو رفع رتبة شريطه السينمائي إلى المؤلفة الموسيقية، أظن أن هذا ما نجح فيه عباس كيارستمي في فيلم شيرين.

مع بدايات الفيلم، تقريباً الدقائق الثلاثة الأولى، تحمل تعبيرات الممثلات إيهاماً أنهن خارج الفيلم المعروض على الشاشة، وبعد ثلاث دقائق أو أكثر بثوان تحمل تعبيراتهن إيهاماً آخر بأنهن بدأن الدخول في الفيلم / فيلم الصوت، لكن بعد قليل كن قد دخلن داخلهن هن، كأن كل امرأة منهن وحدها لا أحد حولها ولا أحد يراها أو يراقبها، رغم ذلك اشتركن في متوالية لنفس الحركة لضبط غطاء الرأس في محاولة لضبط تعري من نوع آخر، تعري أن تخرج على الجمهور لتقدم لهم نفسك من خلال نفسك وليس من خلال شخصية تؤديها / تلعبها، وهذا يكاد يكون جوهر فعل / أداء الحكاءة.

أثناء التصوير لم تعرف الممثلات أن شريط الصوت سيحمل حكاية «شيرين»، فقط عرفن أنها قصة حُب. أكد كيارستمي عليهن أن قصص الحب عادة تعيسة النهايات، لأنه من الحكمة إدراك أن السعادة شعور مؤقت.

فنانات إيرانيات من مُختلف الأعمار في لحظة تاريخية -صُورَ الفيلم عام 2008- تحت حكم ديني، هذه قصة حب تعيسة مع الحياة ذاتها. قد تكون بعضهن ارتدين الشادور / الحجاب كفعل احتجاجي لإظهار التمرد أثناء أحداث الثورة الإيرانية على الشاه محمد رضا بهلوي، الذي حظر والده رضا بهلوي ارتداء الحجاب في إيران عام 1936. أتى هذا التمرد في واحدة من أكثر الثورات إلهاماً بنظام يرأسه فقيه يعتقد أنه نائباً للإمام الغائب المعصوم، المُعين من قبل الله بنصٍ صريح نطق به النبي محمد في القرن السابع الميلادي. فكان من البديهي أن يبدأ هذا الفقيه ونظامه -سواء أكان روح الله الخميني أو المرشد الحالي علي الخامنئي- في تفعيل القوانين الإلهية خاصة على النساء. فُرِضَ الحجاب إلزامياً على كل امرأة إيرانية بغضِ النظر عن دينها ومذهبها، ومن تكسر هذا القانون، تتعرض لعقوبة تصل إلى 70 جلدة أو السجن 60 يوماً. صرحت هالة أفشار [4] الأستاذة في دراسات المرأة في جامعة يورك البريطانية: «السؤال الحقيقي هو ما أقصى مسافة يمكن للمرأة أن تزيح الحجاب عن شعرها؟ للنساء مساحة صغيرة للمقاومة ويتمثل ذلك بدفع الحجاب إلى الخلف»[5].

في الفيلم كانت هذه المساحة الصغيرة للمقاومة موجودة عند كل الفنانات باستثناء واحدة، كانت حريصة على تثبيت غطاء الرأس على كامل شعرها بإحكام.

في الفيلم أيضاً رسالة اعتذار من كيارستمي نفسه عن سيطرة العنصر الرجالي على الأدوار الرئيسية في معظم أفلامه، في إحدى لقطات الفيلم -أظن مرتين- ظهر في ال Background لأحد الكادرات همايون إرشادي بطل فيلمه طعم الكرز، الذي حصد كيارستمي بسببه -أي الفيلم- السعفة الذهب من مهرجان كان عام 1997. لكن عدد كبير من النساء الإيرانيات كن أقل سوداوية أو تشاؤماً وسقف مقاومتهن أعلى من عباس كيارستامي نفسه، الذي وصفه ستيوارت چيفريز في مقال شهير بالجارديان ب«هدام حاذق، يتعين عليه أن يمشي بحذر»[6].

في إحدى تصريحاته أقر وزير الداخلية الإيراني عبد الرضا رحماني فضلي: «إن كل السنوات الماضية من استخدام الشدة والعنف، بهدف إجبار النساء على الالتزام بالحجاب كانت بلا نتيجة»[7].

من مظاهر هذا العنف وهذه الشدة في السجون الإيرانية وأثناء التحقيقات، سواء لإجبارهن على الحجاب أو غير الحجاب «التعذيب الجسدي والنفسي بالإضافة إلى الأهمال الطبي، والاعتداءات الجنسية»[8].

لذا كان طبيعياً جداً عند سماعنا أصوات ضحك جماعي صاخب ومنفلت ومبهج وشبق من فيلم الصوت، أن تعزف صاحبة البورتريه في فيلم الصورة، تعبيرات الضحك على وجهها كمن تسترجع سيرتها الأولى كامرأة ليس عليها حساب مستوى ترددات صوت ضحكتها، أو كام سنتيمتر من خصلات شعرها أو بشرة عنقها معرضة للهواء والشمس. رصدت لنا هالة أفشار بعضاً من هذه المظاهر: «تغطي النساء شعورهن مجرد خروجهن من باب الصالون[9]. لن ترى اليوم ما كان في السابق حين كانت المرأة تمشي مرتدية أقراطاً كبيرة وتضع الماكياچ. كل فساتين الزفاف المعروضة غربية، ترتدي الإيرانيات ما يشأن طالما أن ذلك وراء الأبواب المغلقة. يستأجر بعض الناس حراساً لمراقبة الباب [10]، في حين يرشي آخرون الشرطة المحلية لغض الطرف عنهم»[11].

في لقطة أخرى نجد امرأة في Background أحد الكادرات على اليمين Infocus -تكوينات الـ Background في كل الكادرات رغم أن اللقطات مقربة كانت Infocus- مُعنفة مكسورة الأنف، هذه حكاية صولو من لقطة واحدة تحكي قصة واحدة من بين كل 3 نساء في العالم، أي أن ثلث نساء  الكوكب تعرضن لعنف جسدي أو جنسي مرة واحدة على الأقل في حياتهن.

تكوينات ال Background في كل الكادرات كانت Infocus، استخدم المخرج لذلك عدسات مناسبة لتحكي مثل هذه الصولو حكايات، ولتُكمل حكايات بدأت في Foregrounds أخرى، ولتجمع الشخصيات مع بعضها أحياناً، ولتظهر أن هناك رجالاً داخل صالة العرض السينمائي وهذا مهم في خلق عالما للفيلم فلا تنزع عنه صفة التصنيف السينمائي، وطبعاً لتثبيت شرطي وحدة المكان ووحدة الزمن. حافظ كيارستامي بصرامة أيضاً أثناء المونتاچ على صحة العلاقات بين اتجاه نظرات نفس الممثلين مع عدد مرات ظهورهم في ال Foregrounds وال Backgrounds.

عند سماع أصوات الاقتتال في معارك فيلم الصوت الحامل لحكاية شيرين، كان استدعاء انعكاسها كتعبيرات على وجه الممثلات الإيرانيات أسلس بكثير من عند سماعهن أصوات الضحكات الجماعية الصاخبة المنفلتة المبهجة الشبقة، كأن الحرب مخزون موجود أو مُعاش لا يحتاج استدعاءً. وبسلاسة كبيرة أيضاً استدعين مخزون [الغضب + الحسرة + التألم لدرجة البكاء] -من اللحظات الأولى للفيلم كانت عيونهن مشحونة بدموع غير سائلة- عند سماعهن أصوات وجمل العشق الآتية من شريط الصوت، في كل حالات العشق سواء شديدة الرومانسية أو الخاصة بالفراق وكسرة القلب ورحيل أحد المحبين الثلاثة «فرهاد وخسرو وشيرين». والملفت جداً أن هذا الاستدعاء الغاضب المتحسر المتألم الباكي لحواديت حبهن سواء أكانت مع [إنسان(ة) آخر، أو مع التراث، أو مع التاريخ القريب أو البعيد أو الأبعد، أو مع الوطن، أو مع العالم، أو مع الكون، أو مع الله، أو مع الذات]؛ كان بصورة حسية تعصر القلب على وتوقظ الرغبة في كل هذا الجمال المسكوب والمهدر في هذا العالم بلا سبب منطقي واحد.

أثناء اختبارات ما قبل التصوير، قالت ممثلة إيرانية متقدمة في السن لعباس كيارستمي:

– هذا ليس مرحاً.

رد عليها:

– إن مجرد وجودكن هو من مرح هذه الحياة.

– عنوان الفيلم: شيرين

– إنتاج: 2008

– المشرف على الأداء الصوتي: منوچهر اسماعيلي

– كاستنج: هدية تهراني

– النص الأدبي: فريدة غولباو

– السيناريو: محمد رحمانيان

– مساعدو تصوير: كوهيار كلارى – نيما دبير زاده – روزبه رايكا

– صوت: محمد رضا دلپاگ

– تسجيل صوت: ماني هاشميان – رضا نزيمي زاده

– مونتاج: عباس كيارستمي – آرش صادقي.ل.ن.

– سينماتوغرافي: محمود كلارى – هومن بهمنش

– تصحيح ألوان ومؤثرات خاصة: كامبيز صفارى

– موسيقى: حشمت سنجرى – مرتضى حنانه – حسين دهلوي – ثمين باغجه بان

– قيادة أوركسترا: منوچهي صهبادي

– غناء: حسين سرشار – سولماز نراقي

– إنتاج وإخراج: عباس كيارستمي

 

 


 

الهوامش:

(1) [ريڤيو عن مشهد واحد: “ريحة زمان” ليست عبارة مبتذلة بالضرورة] – 26 سبتمبر 2020.

(2) مكان التصوير الحقيقي، غرفة في منزل عباس كيارستمي في طهران.

(3) النص الذي اعتمده عباس كيارستمي لفيلمه، كتبته الصحفية والقاصة والباحثة الإيرانية فريدة غولباو، وهي مبني على النسخة الواردة في كتاب [الكنوز الخمسة] للشاعر نظامي كنجوي. هناك نصوص أخرى موجودة في مصادر عدة مثل المحاسن والأضداد للجاحظ، وشاه نامة للفردوسي وغيرهما.

(4) نشأت هالة أفشار في إيران في ستينيات القرن العشرين.

(5) راجع التقرير المنشور على موقع بي بي سي عربي بتاريخ 9 فبراير 2019 بعنوان [نساء إيران: كيف غيرت الثورة الإسلامية حياتهن].

(6) نشر المقال بتاريخ 26 أبريل 2005، ونقله للعربية الأستاذ أمين صالح، كاتب وقاص من البحرين.

(7) راجع مقال [المرأة الإيرانية: حقوق مهدورة بين سلطوية الشاهات وقمع الملالي] – الكاتب كريم شفيق – نُشِرَ بتاريخ 18/7/2019 على موقع حفريات.

(8) نفس المصدر السابق.

(9) تقصد صالونات تصفيف الشعر.

(10) تقصد في حفلات الزفاف المختلطة.

(11) راجع التقرير المنشور على موقع بي بي عربي بتاريخ 9 فبراير 2019، بعنوان [نساء إيران: كيف غيرت الثورة الإسلامية حياتهن].

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى