الشطرنج ليس تنافسيًا دائمًا، يمكن للشطرنج أن يكون جميلاً.
بيث هارمون
أربعة وستون مربعًا من الأبيض والأسود، رقعة خشبية تتحكم فيك بقدر ما تتحكم فيها، ما من مجال للصدف هنا، ما من معجزات بإمكانها أن تمنحك الفوز، وحده عقلك يهمس لك في صمت عن الحركة الأولى التي تبدأ بها لعبة ملكية بنكهة الحرب الباردة.
لم نتوقع أن ينتهي عام 2020 بعمل درامي يجذب انتباهًا إلى أن قدمت لنا منصة نتفلكس واحد من أهم مسلسلاتها لهذا العام وأكثرها شعبية The queen’s gambit. دوّن فئة كبيرة من المشاهدين إعجابهم بالمسلسل ولم يغفلوا التصريح بعدم توقعهم أن يعجبوا بعمل درامي يتحدث عن لعبة مملة كلعبة الشطرنج. بدا لي هذا الاعتراف غريبًا ولافتًا، خاصة وأن لعبة الشطرنج دائمًا توصف بأنها لعبة دهاء، ثرية، ذهنية بالأساس، ولا تخلو من الإثارة والدراما في كل تفاصيلها، وهذا يضعنا أمام تساؤلٍ جوهري: كيف نجح المسلسل في تجنّب الوقوع في فخ الملل؟ وكيف قدم لنا رحلة لاعبة الشطرنج “بيث هارمون” الغنية بكل تفاصيلها؟
هوس العبقرية
يصف الأديب “ستيفان زفايغ” في روايته الشهيرة “لاعب الشطرنج” بطل الرواية الذي لا يستطيع أن يلعب الشطرنج دون رؤية رقعة الشطرنج، بمعنى أنه لا يستطيع تخيلها واللعب من ذاكرته، يقول: “لقد كان عاجزًا تمامًا عن تمثّل رقعة الشطرنج في الفضاء اللانهائي لمخيلته، وكان يجب عليه أن يشاهد بعينيه وبشكل دائم الرقعة الخشبية البيضاء والسوداء بمربعاتها الأربعة والستين وأحجارها الاثنين والثلاثين… كان هذا العجز التافه في حد ذاته كافيًا للكشف عن قصور حاد في المخيلة”. كان بطل الرواية محل تعجب لعدم قدرته على تخيل اللعبة في عقله، على النقيض، تذكرني هذه السطور ببطلة المسلسل “بيث” التي بدأ هوسها بالشطرنج باللحظة التي لم تقوَ فيها على النوم لأن رقعة الشطرنج تُطارد خيالها وتلاحقها في ساعات الليل عندما يغفو الجميع في النوم.
كل شيء في طفولة بيث يجعلها في موضع مثير للشفقة، فتاة صغيرة تعيش في ملجأ للأيتام، صامتة، هزيلة، غير اجتماعية، يبدو العالم من حولها أكبر من استيعابها، ويبدو أيضًا أن ما من شيء مميز قد يصدر عن هذه الفتاة الهشة ذات الشعر الأحمر والوجه العابث، وفي اللحظة المناسبة يظهر “مستر شايبل” في حياتها ليعلمها –بعد إصرار منها- أول دروس الشطرنج، وكأنه يضعها على العتبات الأولى لحياتها القادمة. تعتاد بيث وزميراها في الملجأ على تناول حبوب مهدئة، يقال إن انتشارها في حقبة الستينات كان قويًا بين الأطفال والأمهات من أجل تهدئتهم، كان تأثير الحبوب على أطفال الملجأ مجديًا، لكن بطلتنا، ولأنها مختلفة، كانت المهدئات تساعد عقلها على النشاط بدرجات أكبر، تجلس على سريرها في الليل وتتخيل رقعة الشطرنج تتدلى من سقف الغرفة، في البدء تعجبت بيث، ثم أدركت أن الشطرنج هو هوسها الحقيقي، ومن هنا قررت أن تخوض اللعبة مع خيالها الذي ينذرنا بإشارات واضحة أننا أمام فتاة غير عادية.
تكبر الفتاة ويتسع عالمها الخاص، تخرج من الملجأ لترى الحياة مرة أخرى في بيت جديد تريد فيه الأم شخصًا يؤنسها أكثر مما تريد ابنة حقيقية للتبني. تتطور علاقة “بيث” بالشخصيات الجديدة في حياتها من ناحية، والشطرنج من ناحية أخرى، وعلى مستوى الصورة، الديكورات، الأزياء، وحتى الموسيقى، نستمتع بعناصر فنية تنقل لنا أجواء تلك الفترة الزمنية باحترافية، وشيئًا فشيء تتحول “بيث” إلى جزء من هذا العالم، تتغير أزياءها، تتحول صورتها إلى تماهي مع الإطار الكبير لشكل الحياة من حولها.
السقوط المتتالي لمن مروا من هنا
تبدو لي حياة “بيث” أشبه بلعبة شطرنج لا نهائية، لعبة على مدار حلقاتها يتساقط العساكر والأحصنة والفيلة، تلعب الشخصيات دورًا في حياة بطلتنا ويتركوا أثرًا جليًا ثم يختفوا، وتمضي بيث وحدها في طريقها الذي ينشد النصر، لكن ما من لاعب واحد أمامها، ربما الحياة هي التي تلاعبها باللون الأسود وبيث تصمم بعناد أن تلعب بلونها الأبيض المفضل. ظهور “مستر شايبل” في حياتها يشبه الحركة الأولى للعسكري في اللعبة، لولا الحركة الأولى لن تكون هناك مباراة، “مستر شايبل” هو المرشد والمعلم السري الذي يهمس في أذنها وبمجرد تأكده من قدرتها على المضي قدمًا يتراجع دوره ليفسح الساحة لأحجار الشطرنج الأخرى لتلعب أدوارها في حماية حصن الملكة “بيث”. تأتي من بعده صديقتها “جولين”، ثم الأم بالتبني، ثم “بيلي واتس”. تتبدل الشخصيات التي هي رقع تحاوط الملكة وتحميها من الهزيمة، هناك من يسقط للأبد وهناك من يتوارى بعيدًا ثم يظهر في الوقت المناسب، بالأحرى في الحركة المناسبة، ما من شيء مضمون في الحياة أو ساحة اللعب حتى لو كان لديك خطة قوية ومحكمة لدك حصون عدوك في لعبة يتبارز فيها اللاعبين بأسلحة صامتة.
في نهاية الحلقة الرابعة تموت الأم فجأة، وكأن موتها خطوة في سلسلة من السقوط غير المتوقع في حياة بطلتنا، تتعثر الفتاة وتظن لوهلة أن حياتها تجمدت خاصة بعد هزيمتها أمام اللاعب الروسي خصمها الأكبر وكأنها تسأل نفسها “ماهي الحركة القادمة؟ هل استسلم الآن؟” إلى أن تنهض في أخر مشهد مرتدية ثوبها الأسود، وكأن جسدها تحول إلى رقعة شطرنج مستعدة لاستكمال اللعبة بعد أن قُضي على طابيتها، وكأنها تختزل اللعبة وتسير بها وتفكر في خطط بديلة طالما أن الملكة غير مستعدة بعد للاستسلام.
“يواجه أمثالك المصاعب.. وجهان لعملة واحدة: لديك موهبتك، ولديك ثمنها. من الصعب توقع ثمنها لكِ. ستحظين بالشهرة لوقت ما، لكن إلى متى؟ يسكنك غضب كبير، عليكِ توخي الخذر”
المسلسل
دراما الطاولة
دائمًا ما ترتبط الطاولة في أذهاننا بالعلاقات الفاترة، حبيبان يجلسان متقابلان في عشاء ليلي على ضوء الشموع، زوجان يتأهبان للانفصال، أفراد عصابة يلتفوا حول الطاولة ويحيكوا المكائد لبعضهم البعض. يحلو لي أن أتذكر الآن مشهد من فيلم The Godfather عندما يلتقي “مايكل” بزعماء المافيا على طاولة الطعام، في إحدى مطاعم المدينة، قبيل أن يشهر سلاحه ويفجر رؤوسهم. تنذر الطاولة بصراع بين الجالسين على أطرافها، وكذلك الحال في كل طاولة جلست عليها “بيث” أمام خصمها في اللعب، واللافت أن ثمة شخص أخر تتصارع معه بيث أثناء اللعب، ليس الخصم قبالتها، ولكن نفسها، إنها في كل مرة تخوض صراعًا داخليًا يتمحور حول قدرتها على النصر وحماية الملكة من الهزيمة أو الخضوع للاستسلام، صراع حول الشيء الوحيد الذي تجيده بيث في الحياة وهو الشطرنج، مسألة حياة أو موت، إنه شغفها وهوسها ومسعاها الوحيد وما من سبيل أمامها سوى الجلوس على الطاولة ومصافحة خصمها بابتسامة هادئة وخوض المعركة في صمت. وهذا يضعنا أمام عنصر هام من عناصر تجسيد الصراع الدرامي ألا وهو وجه الممثلة “أنيا تايلور”.
واحد من أصعب الأداءات التمثيلية هو تمثيل المشاعر في صمت، ما من كلمات يمكن أن تخرج من فم بيث ولا من خصمها لتكشف مشاعرها، ما من كلمات يعلق بها المحيطين بها المشاهدون للمباراة، نحن أمام لعبة عقلية، كل شيء يدور بداخل رأسها وينعكس على الطاولة، نحن فقط أمام وجهين، وما يعنينا في المسلسل هو وجه بطلتنا، نظراتها للخصم بعد كل حركة وكأنها تقول له: “ها أنا أهدد الوزير، ماذا ستفعل؟” في كل مشهد لمباريات “بيث” بإمكاننا أن نخمن ما يدور في رأسها لكننا في النهاية نصطدم بوجهها، حركات جسدها، نظراتها، عيناها المفتوحتان على اتساع دائمًا، تعبر بهما وتكشف عن ثقة أو اضطراب أو خوف مكتوم. هنا أيضًا يلعب المونتاج بالتوازي دورًا كبيرًا في نقل توترات اللعب، نحن لسنا ملمين بمقدار الخطورة أثناء اللعب، نعرف من معلق المباراة الوضع الحالي لكننا لن نتنبّأ بمن يحقق الفوز. قطعات المونتاج بين وجه بيث وخصمها ثم طاولة اللعب، كل حركة يعقبها نظرة، كل نظرة يعقبها تحديق من الجمهور المحيط، كل خطوة جديدة تتقدم بالوقت وتجعل اللعبة أكثر توترًا، أما شريط الصوت يتبدل في كل مباراة بين صوت دقات الساعة، الموسيقى التصويرية، أو الصمت الذي يعكس ويترجم حالة التوتر والضغط التي يغرق فيها اللاعبان.
تعكس مشاهد المباريات احترافية بصرية في نقل تفاصيل اللعبة لتعكس بالصورة ما يحدث على رقعة الشطرنج. قطعات المونتاج السريعة لا تمكنا من متابعة سير المباراة بدقة، ليس الهدف أن نعرف بالتحديد ما الذي يحدث بالتحديد على الرقعة، لكن الصورة تخبرنا على طريقتها ما يحدث، ومن يتفوق على من. يحلل الناقد الأمريكي “توماس فلايت” المشهد التالي حيث المباراة الأولى بين “بيث” و “هاري بيلتك”، وكيف تكشف زوايا الكاميرا موضع كل لاعب ودلالاته على مشاعره الآنية منذ اللحظات السابقة لبدء المباراة مرورًا بنهايتها: زوايا التصوير متساوية، يتنقل المونتاج بإيقاع ثابت بين الكادرات الثلاثة، والأمر ليس اعتباطيًا بل مقصودًا ليعكس لنا حالة التساوي، اللاعبان متساويان في أحجامهما على الشاشة لأنهما متساويان في اللعب، حركاتهم سريعة، ما من أحد متقدم على الأخر، يلعبون بتكنيك عنيد وشبه متوقع، لا يهم أن يتابع المشاهد بدقة حركات رقع الشطرنج ليفهم ما يحدث، يكفي أن ينقل لنا الإيقاع أنهما متعادلان. في كادر لاحق تسند بيث” رأسها بكلتا يديها، تحني الرأس وتلتقط الكاميرا وجهها في لقطة مقربة جدًا، هنا تخبرنا الكاميرا أن “بيث” تمعن في التفكير وتحتاج إلى حسم أمرها، لا نرى الطاولة، لا نعرف ما يدور في رأسها، فقط الكاميرا تخبرنا بكل شيء ببراعة صامتة.
نعود هنا إلى التفكير في حيل السيناريو التي كان بإمكانها أن تسهل على صناع المسلسل فك شفرات ما يدور داخل عقل بيث أو عقل خصومها أثناء اللعب، حدث الأمر مرة عندما حكت “بيث” لأمها ما جرى في اللعبة وسردت مشاعرها بالتفصيل لكن بعد أن انتهت المباراة، هذا أحد الحلول. كان من الممكن اختيار الصوت الداخلي أو الـVoice over ليكون طريقة سهلة ومباشرة لكسر حالة الصمت وكشف المشاعر الداخلية للبطلة، لكن براعة السيناريو في توظيف كافة العناصر البصرية لتحكي لنا عوضًا عن الكلمات هو في ذاته خيار فني ذكي ولا يبعد عن الثيم العام للمسلسل الذي يقدم لنا لعبة عقلية لا تحتاج إلى تشويش وتشتيت بالحكي، يكفي الحركات السريعة لرقع الشطرنج التي تحكي الكثير دون كلمات.
دلالات الأبيض والأسود
ما من ألوان في عالم الشطرنج، فقط أبيض وأسود، خصمان واضحان، لكن الأبيض دائمًا أقوى، الأبيض يبدأ اللعب أولاً. تعلمت بيث ذلك الدرس مع معلمها الذي خاض معها أول لعبة لها في حياتها، كان هو الأبيض وصاحب الحركة الأولى، أي أنه المتحكم في مسار اللعبة، يعرف الخطة التي سيبدأ بها وغالبًا ما يحسم الأمر لصالحه. في أخر لعبة لبيث في المسلسل أمام خصمها الروسي الأهم “بورغوف” كانت هي اللاعبة باللون الأبيض، ثمة دلالة تخبرنا بها الألوان، في أغلب المرات التي تكون فيها بيث صاحبة الرقع البيضاء يحالفها حظ الفوز، وهو ما حدث، انتصرت على خصمها الروسي الشرس.
في أخر مشاهد المسلسل تظهر بيث بثوب أسود ومعطف أبيض أنيق، إنها ملكة الشطرنج وسيدة ألوانه، في النهاية تظهر لنا بكلا اللونين، بإمكانها الآن –بعد نصرها الكبير- أن تتلفح بكلا اللونين. على مدار المسلسل تلفت ثيابها البسيطة الأنظار وتعكس شيئًا عن علاقتها بالعالم، هذه الفتاة لا تعرف سوى الأبيض والأسود، اعتاد نظرها على هذين اللونين وعلى تقاطعات الرقع المربعة والمضلعة، وثيابها تعكس شخصيتها، تتأرجح ألوان ثيابها بين الألوان الفاتحة والداكنة، والكثير من الملابس المضلعة كرقعة الشطرنج التي تنفلت من تفكيرها في الصحو والنوم في دلالة واضحة أن بيث لا تعرف شيئًا عن العالم عدا الشطرنج، حتى أن بقية الألوان لا تثير انتباهها.
دائمًا ما تُختزل لعبة الشطرنج في أنها لعبة استراتيجية أشبه بالمناورات السياسية، لعبة سياسية باردة، استغلال لرقع مصمتة؛ ليخبر كل طرف للأخر أنه الأكثر ذكاءً ودهاءً، تماماً كما حدث عام 1972 في مباراة بطولة العالم في الشطرنج بين الأمريكي بوبي فيشر والروسي وريس سباسكي، والتي وصفت بأنها لعبة سياسية بين قطبي العالم أمريكا والاتحاد السوفيتي آنذاك.
نبدأ المسلسل مع بيث وحدها وننتهي بها وحدها أيضًا، لا تمضي بصحبة أحد، تكمل حياتها كأنها الملكة الوحيدة في رقعة الشطرنج، تسير في كل الاتجاهات بخطوة واحدة لكنها متعثرة وبحاجة إلى حماية. ضاعت بيث في الحياة التي لا تشبهها، تتشتت حياتها بين المال والسفر وشرب الكحول، يبدو أن موازينها اختلت، لكنها بحاجة إلى حركة أخيرة من قطعة شطرنج تُعيد لها توازنها من جديد، ولا ننسى أننا منذ البداية أمام رحلة صعود، لذلك لابد من لحظة يتغير فيها مسار البطلة إلى القمة بدلاً من السقوط، وهنا تأتِ اللحظة التي تعرف فيها بوفاة “مستر شايبل” وترى بعينها أن معلمها الأول كان فخورًا بها وعرفانًا بالجميل آن لها أن تستعيد مجدها من جديد.
عندما أخبرها ” شايبل” في أول مرة أن الشطرنج ليس للفتيات كان الأمر محفزًا أكبر لها لتتعلم هذه اللعبة، وأن تكون المرأة التي عرفت كيف تضع لنفسها مكانة لائقة بين الرجال، تلاعبهم وترعبهم، وإذا انتهت اللعبة لا تتوقف، بل تبدأ من جديد بنفس النظرة الحادة والإصرار على الفوز أمام كل خصم جديد.