المتن الفلسفيالمتن الفلسفي

2/ في مضمون محاورة «النواميس» – الطيب بوعزة

-3-

شخوص المحاورة ودلالة المكان

 ثلاثة شخوص التقت على غير ميعاد في الطريق نحو مغارة زيوس:

  • أحدهم هو كلينياس الكريتي، وهو غير كلينياس المذكور في المحاورات الأفلاطونية الأخرى، فذاك من أثينا، بينما نرى هذا منسوبًا إلى كريت.
  • والثاني ميغيلوس الإسبرطي الذي لا يتدخل في الحوار إلا بمقدار ضئيل، وكأنه يجسد فعلًا الطبع الإسبرطي العسكري غير المنجذب إلى الحوارات الفكرية.
  • أما الثالث، فهو “الغريب الأثيني”، الشخص المحوري في المتن؛ حيث يشغل خطابه المساحة الكبرى، وتبيانًا لهويته قال شيشرون: إن “الأثيني” في نص “النواميس” يمثل أفلاطون الذي لأول مرة يسجل حضوره بذاته كمحاور في متنه؛ ولكن التواضع منعه من إشهار نفسه بالاسم([1]).

وهنا يحق أن نتساءل:

هل يعد استبعاد سقراط، واصطناع شخصية محورية جديدة مسماة بـ”الغريب الأثيني” في “النواميس” دليلًا على أن أفلاطون في هذه المرحلة المتأخرة من حياته، كان بصدد تعديل جوهري في الشخص المركزي لمحاوراته؛ فقرر أن يقدم فكره تحت مسمى جديد هو “الأثيني”؟

إذا قرأنا التآليف الأفلاطونية الأخيرة وفق الترتيب الزمني المفترض لكتابتها؛ سنلحظ أن المحاورتين الأخيرتين اللتين خطَّهما أفلاطون قبل “النواميس”، أي “طيماوس” و”كريتياس”، تتميزان بضمور حضور سقراط؛ حيث لا يرد له خطاب مقابل لخطابَيْ محاوريه في تينك المحاورتين، بل سِيق بوصفه قد تحدث سابقًا؛ الأمر الذي يكشف بالفعل أن أفلاطون حرَص في نهاية حياته على التقليل من حضور الشخصية السقراطية، إلى حد تغييبها مطلقًا من متن “النواميس”.

لكن من الغريب جدًّا أن يغفل أرسطو عن هذه الملحوظة، ويرتكب خطأً صريحًا، عندما تحدث في كتابه السياسة([2]) عن “نواميس” أستاذه قائلًا إن فيها حضورًا لسقراط كمحاور. وقد حِرْنا في تفسير هذا الخطأ. تُرى هل كان أرسطو يتحدث عن نسخة أخرى لـ”النواميس” استعمل فيها أفلاطون الشخصية السقراطية؟

نستبعد ذلك، ومن ثم يمكن أن ننسب الأمر إلى مجرد غفلة من أرسطو، أو أنها حاصلة من تأويله لهوية الغريب الأثيني بوصفها دالة على شخص سقراط.

ثم إن الشخوص المحركة للحوار في هذا المتن لا يتساجلون؛ بل الأمر أقرب إلى المحادثة الهادئة؛ مما أفقد النص حس المشاكسة الذي نلحظه في مختلف المحاورات الأفلاطونية الأخرى.

كما أن الملفت للانتباه أن المحاوِرَيْن ينتهيان إلى الاقتناع بأطروحة الغريب الأثيني مبكرًا، وبالضبط منذ نهاية الكتاب الثالث يفصح كلينياس بأنه كُلِّفَ بوضع تشريعات لمستعمرة كريتية، وهو شديد الرغبة في أن يساعده الأثيني على تقنينها!

وهذا ما جعل الحوار باردًا لا يشهد أي تصادم فكري حقيقي، كما أن الشخصية المحورية لم تحسن الاستفزاز الاستفهامي لعقلية مخاطبها، كما هو المعهود في المحاورة الأفلاطونية؛ لذا يحق لنا القول إن أفلاطون خَسِرَ في “النواميس” سحرَ سقراط؛ إذ أبدله بذلك العجوز الـمُمِلِّ المسمى “الغريب الأثيني”!

ذاك في شأن الشخصيات المتحاورة، أما الفضاء الذي تلاقوا فيه؛ فهو الطريق إلى مغارة زوس في جزيرة كريت.

وهنا ينبجس سؤال مشروع:

لِمَ اختار أفلاطون الطريق مكانًا لإجراء حوارية سياسية؟

هل كان الحافز لاختياره مجرد استعادة للأسطورة التي تقول إن قانون كريت استوحاه مينوس من الإله زوس في تلك المغارة؟

لكن الأسطورة تفيد بأن ذلك الوحي التشريعي حصل لمينوس([3]) داخل المغارة لا في الطريق إليها. فلماذا لم يجعل أفلاطون مكان الحوار هو المغارة ذاتها؟

أيكون وضع الحوار في الطريق لا في المغارة المقدسة دلالةً على أن النواميس ليست ترسيمًا للنظام المثالي؛ بل مجرد توصيف لنظام رُوعِيَ في وصفه أن يمتلك القابلية لأن يوجد في الواقع؟

أنقول استلهامًا لرمزية الطريق كمكان للمحاورة:

إن مدينة “النواميس” تقع في الطريق نحو المثال، وليست هي المثال ذاته؟

ثم لماذا أُجري الحوار على قارعة الطريق لا داخل مدينة كريت أو داخل غيرها من المدن الإغريقية؟ أيكون ذلك بسبب نوعية موضوعه، أي إن نقد النظم السياسية، وبيان اختلالاتها، والتنظير لبديل مغاير لها، لا يناسبه إلا الطريق، وليس بيتًا أو فضاءً عامًّا داخل مدينة من المدن، وتحت سلطتها المباشرة؟

تلك استفهامات لا ينبغي أن نتوقع من أفلاطون التصريح بجوابها؛ بل هو كعادته في تأسيس متونه، قد ينثر بعض الإشارات والتلميحات دونما إفصاح عن المدلول.

ثم إذا أكثرنا من تأويل رمزية المكان سيغضب الفارابي؛ إذ وجدناه قد استثقل من بعض الشراح إيغالهم في تفسير رمزية الأوصاف التي وصف بها أفلاطون فضاء المحاورة فقال في “التلخيص”: “وذكر أفلاطون أشجار السرو. وذكر الطريق الذي كان المجيب والسائل يسلكانه ومنازله. فظن أكثر الناس أن تحت ذلك معاني دقيقة، وأنه أراد بالأشجار: الرجال، ومعاني صعبة متعسفة مستكرهة يطول بذكرها القول”([4]).

-4-

في تعليل مُباينة “النواميس” لـ”الجمهورية”([5]):

إذن لقد اختار أفلاطون ثلاث شخصيات لتأسيس الحوار، مع الحرص على تنسيبها إلى مواطن مختلفة؛ وذلك لاستثمار معطيات ثقافية وتاريخية لثلاث مدن يونانية، مشهورة بثلاثة نظم سياسية مختلفة هي: كريت وإسبرطا وأثينا؛ مما يفيد حضور قصدية للمقارنة بين النظم السياسية الإغريقية والمفاضلة بينهما، بل ونقدها من أجل بلورة فكرة نظام سياسي بديل لها جميعًا. وهكذا تنتظم المحاورة على نقد النظام السياسي الكريتي، الذي يزعم أصحابه بأن مصدره إلهي، استنادًا إلى الوارد عند هوميروس الذي يفيد بأن زوس أوحاه إلى ابنه مينوس في مغارة بجزيرة كريت([6]). ونقد النظام السياسي الإسبرطي، الذي يُنسب إلى المشرع ليكورغ Lycurgue([7])، الذي يتميز بصرامته في تقنينه للمجتمع، وتهيئته الدائمة للحرب. ثم النظام الأثيني الذي ينسب إلى المشرع صولون أحد الحكماء السبعة.

وإذا كان الحوار يبدأ بسؤال من نوعية الأسئلة الأفلاطونية الكلية: “ما أصل القوانين؟”؛ فإن المحاورة سرعان ما ستتطور إلى حديث في دقائق النظم والقوانين؛ فينصرف الغريب الأثيني إلى توصيف دقيق للتشريعات الناظمة للعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، مع تحديد العقوبات الجنائية، بما يحفظ استقرار المدينة وتماسكها…

وهنا نلحظ أن التصور السياسي الذي ضمنه أفلاطون في كتاب “النواميس” مختلفٌ عما كان قد أورده في الجمهورية. صحيح أن ثمة تشابهات في بعض الفِكَرِ، وخاصة فكرة التقسيم الطبقي للمجتمع التي نجدها حاضرة هنا أيضًا، لكن ثمة مائز جوهري بين “الجمهورية” و”النواميس”([8])، وهو مثالية الفلسفة السياسية في “الجمهورية” إلى درجة أن جعلت أفلاطون نفسه يبدي الشك في إمكان تجسيدها؛ بينما في “النواميس” يبدو أحرص على بلورة وسومات نظام سياسي قابل لأن يتنزل في الواقع، ومن علامات ذلك تراجع أفلاطون عن بعض النظم التي كان قد أرساها في “الجمهورية”، مثل مشاعية النساء والأطفال، وحرمان الحكام والجنود من المِلْكِيَّةِ؛ حيث تبدو مؤسسة الأسرة في متن “النواميس” قاعدة رئيسة للنظام الاجتماعي([9])، كما أن الملكية الخاصة غير منتفاة. ولعل هذا التعديل يرجع إلى إدراك أفلاطون أن مدينته الفاضلة التي رسم ملامحها في الجمهورية كانت بمقدار من التعالي المثالي جعلها غير قابلة لأن تتجسد في الواقع.

نقول هذا بالمقارنة مع الجمهورية، وليس دلالة على أن متن “النواميس” هو فعلًا حاصلُ صياغة تشريعية واقعية، على نمط التشريعات التي كان نُظَّارُ القانون يقدمونها للمدن الإغريقية. ويكفي هنا أن نورد على سبيل الطرفة كيف سخر أثيني النقراطيسي Athénée de Naucratis([10]) من “نواميس” أفلاطون بدعوى غير واقعيتها، وأنها لو كانت كذلك لما تجاهلتها مدينته أثنيا!

-5-

موجز المحاورة

يبدأ أفلاطون نواميسه بسؤال من الأثيني لكلينياس ولميغيلوس يستفهم فيه عن أصل القوانين الناظمة في مدينتيهما:

ما مصدرها؟ هل هي من وضع بشري أم أمر إلهي؟

وبعد أن أجاب كلينياس بأن الذي شرع تلك القوانين هو الإله، رد الأثيني مستحضرًا بعض جزئيات تلك القوانين، متسائلًا: لماذا تلتزمون بحمل السلاح، والقيام بالتمارين الرياضية…؟

وكان الجواب هو أن القوانين المعتمدة سواء في كريت أم إسبرطة قُصد منها التهيؤ للحرب؛ لذا كان مقصودها تحقيق فضيلة الشجاعة، وما تستلزمه.

لكن الأثيني يوجه انتباههما إلى أمر منهجي في معالجة القوانين وَسَنِّهَا، وهي أن تكون موضوعة لما هو أكثر ديمومة، أي السلام، لا لما هو طارئ، أي الحرب. وأن يكون الهدف منها تحقيق الأفضل. ثم يلفت انتباههما إلى المقارنة بين الحرب والسلام، منتهيًا إلى أن السلام هو الأفضل لا الحرب؛ وعليه فالقوانين يجب أن توضع لهدف السلام لا لقصد الحرب.

وفي هذه الحيثية نجد الفارابي يعلق قائلًا:

“وبَيَّنَ [يقصد أفلاطون] صدق حاجة الناس إلى رفع الحروب من بينهم وشدة ميلهم إلى ذلك لما فيه من الصلاح، ولا يمكن ذلك إلا بلزوم الناموس، وإقامة أحكامها؛ وأن الناموس متى أمرت بالحروب فذلك لطلب السلم، لا لطلب الحرب”([11]).

كما أن فضيلة الشجاعة منفردةً ليست هي ما يحتاج إليها المجتمع، بل لا بد أن تجتمع الشجاعة مع ثلاث فضائل أخرى هي الحكمة والاعتدال والعدل؛ إذ كما أن من الأفضل للفرد أن يكون حكيمًا معتدلًا عادلًا مع شجاعة، من أن يكون شجاعًا بلا عدل ولا اعتدال ولا حكمة؛ فكذلك المدينة تحتاج إلى العدل والاعتدال والحكمة مع الشجاعة.

وهكذا فالاختلالات التي تعتور القوانين المتداولة في كريت وإسبرطة راجعة إلى وضعها لفضيلة الشجاعة في المرتبة الأولى، بينما ترتيبها الصحيح هو الرابعة لا المحل الأول.

أما عن وجاهة هذا الترتيب؛ فترجع – حسب أفلاطون – إلى أن الخيرات نوعان:

  • نوع إلهي.
  • ونوع بشري صادر عن النوع الأول.

يقول الفارابي:

“وقسم الفضائل وَبَيَّنَ أن منها ما هي إنسية، ومنها ما هي إلهية؛ وأن الإلهية آثر من الإنسية، وأن المقتني الإلهية لا يعدم الإنسية، والمقتني الإنسية ربما فاتته الإلهية والإنسية”([12]).

والحكمة هي أعلى الفضائل جميعها، وشرط تحقق غيرها. ثم تأتي بعدها فضيلة الاعتدال، ومن امتزاج الحكمة بالاعتدال تنبثق الفضيلة الثالثة التي هي العدل، ثم تأتي رابعًا فضيلة الشجاعة.

ويستفيض أفلاطون في الكتاب الثالث في تحليل ونقد النظم السياسية الكريتية والإسبرطية والأثينية. وفي بيانه للقوانين البديلة لهذه النظم يستحضر الطبيعة الإنسانية؛ ليشير إلى أن الإنسان يتأثر باللذة والألم، ومن ثم يجب على القانون أن ينظم باعتدال ملذات الإنسان، ويستعمل العقاب (الألم) لكي يوجهه نحو الخير ويمنعه من ارتكاب الشرور؛ وعليه يجب أن يكون للمجتمع حاكم ذو علم بماهية الإنسان والاجتماع؛ لذا لا بد للمدينة من عناية كبيرة بوظيفة التعليم؛ لأن به ترتهن خيرية الحاكم والمحكوم.

ونظرًا لأهمية التعليم وضرورته، يشير أفلاطون في الكتاب السابع إلى وجوب بَدء التعليم منذ الطفولة، وأن يكون إلزاميًّا إلى سن الثامنة عشرة، حيث يجب توجيه المتعلم لقضاء عامين من الخدمة العسكرية؛ وبعد ذلك يحق له أن يقرر هل يتابع دراسته أم لا. ثم إذا قرر الاستمرار في التعليم يجب أن يخضع طيلة عشر سنوات لتعميق المعارف التي تلقاها من قبل. ويضيف إليها الحساب والهندسة والفلك… وبعد تمكنه من هذه العلوم يمكن له أن يقبل على دراسة الفلسفة. وهكذا يأتي التعليم الفلسفي في مرحلة عالية كتتويج؛ لأنه يتطلب تكوينًا سابقًا يُمَرِّنُ عقلية المتعلم على صياغة المفاهيم المجردة.

وفي توصيفه للنظام التعليمي نرى “الغريب الأثيني” يقدم ملحوظات كثيرة، كتوصيته بأن لا تكون العقوبات الموجهة للأطفال مهينة لهم، وتوكيده وجوب الفصل بين الذكور والإناث بدءًا من سن السابعة([13])، وتعليم الشعر([14])، والموسيقى([15]) … الخ.

ويستفيض أفلاطون في تسطير القوانين الإدارية الناظمة لحياة المدينة ومعاشها، محددًا كيفية أداء وظيفة مفتشي الأسواق، وموظفي التعليم، والمحاكم، وكيفية تقنين الزراعة والحرف والتجارة والملاحة. كما يذهب إلى وجوب الضبط الصارم للزواج… ثم يتابع في الكتابين التاسع والعاشر بالتشريع الجنائي… وهكذا لا يكاد يترك وضعية مجتمعية إلا ولاحقها بالتقنين والضبط.

وهذا الإكثار من التقنين نراه مبررًا بفكرة يضمنها أفلاطون في الكتاب التاسع، مفادها أن الإنسان ليس له استعداد طبيعي للخضوع للعدالة؛ ولذا فإن القوانين ضرورية؛ لأنه بدونها ستسود الفوضى، وتستسلم المدينة لقانون القوة السائد في مملكة الحيوان. وهذا لا يعني بأن الأصل في الطبيعة الإنسانية هو الشر؛ بل يقول أفلاطون بوضوح: “إن كل الرجال الأشرار هم أشرار بدون إرادتهم على الدوام”([16]). أما أكثر الأسباب الدافعة إلى فعل الشرور فهو الجهل. وعليه يكون التعليم ضروريًّا جدًّا لاستقامة المدينة؛ لأن عليه يرتكز إمكان ترقية المجتمع للتخلق بفضائل الحكمة.

وهكذا يؤكد الأثيني بأن كلينياس وميغيلوس أخطآ عندما ظنا أن الإله أراد من القوانين أن تهدف إلى الشجاعة في المقام الأول؛ لأن هذه الفضيلة إذا لم تكن منضبطة بالحكمة والاعتدال، فإنها لن تكون خيرًا؛ ولكي تتحقق تلك الفضائل لا بد من التعليم.

وعليه، يصح أن نستنتج بأن الدرس المركزي في محاورة “النواميس” هو أن التعليم شرط أساس لقيام المجتمع الفاضل.

وفي سياق البيان ينتقد الغريب الأثيني النظام التعليمي الممارس في إسبرطة؛ بسبب كونه يركز على الجسد ويتجاهل الروح، بينما ينبغي إعطاء اهتمام كبير إلى التربية النفسية، دونما إهمالٍ لتربية الجسد.

أما على المستوى السياسي العام، فإن الأثيني ينتقد الأوليغارشية التي يعيب عليها أن طبقة قليلة هي التي تسود وتغتني، كما ينتقد ضديدها، أي النظام الديموقراطي. وبديلًا لهذين النظامين يقترح أن يكون للمدينة منظومة مغايرة تقوم على تقسيم المجتمع إلى طبقات؛ بحيث تكون لكل طبقة وظيفتها واستحقاقاتها الخاصة، وهي الفكرة التي كان قد عبر عنها في الكتاب الثامن من الجمهورية (من الفقرة 545 ب إلى الفقرة 553 أ) تحت مسمى النظام التيموقراطي. وهذا النقد الأفلاطوني المزدوج جعل أرسطو([17]) يتأول النظام السياسي في “النواميس” بأنه وسط بين الأوليغارشية والديموقراطية. وفي نعته ذاك إشارة نقدية إلى أن متن “النواميس” يخلو من التحديد الواضح لماهية النظام السياسي البديل؛ حيث يقول أرسطو في كتاب السياسة (الفقرة 1265 أ 2) إن أفلاطون أسهب في بيان التشريعات دونما انتباه إلى وجوب التحديد الكلي لماهية النظام؛ فكان الكتاب مثقلًا بتفاصيل التقنين وضامرًا من حيث التأمل الفلسفي.

ونرى هذا الحكم الأرسطي مجحفًا في حق المتن الأفلاطوني، بل إذا أردنا أن نذهب بعيدا في خِصَام أرسطو؛ سنقول إن الذي يصدق عليه حقًّا هذا الوصف هو كتابه “دستور الأثينيين”([18]) وليس “نواميس” أفلاطون!

لكن أغرب من هذا أن أرسطو الذي عاب في كتاب “السياسة” على أفلاطون ضمور تأمله الفلسفي النظري في “النواميس” بسبب انصرافه إلى التقعيد التشريعي، نراه قد نسي حكمه هذا في كتابه “الأخلاق إلى نيقوماخوس”، حيث يقول: “إن السابقين تركوا موضوع التشريع دون بحث، الأمر الذي يحملنا مسؤولية بحثه بأنفسنا”([19]).

-6-

وختامًا، على الرغم من أن متن “النواميس” لم يثر اهتمام الفلاسفة والشراح بالمقدار الذي أثاره متن “الجمهورية”، فقد كان له بعض الحضور قديمًا؛ حيث تلقى نقودًا عديدة، نستحضر منها تلك الملاحظات التي خَصَّت منهجية أفلاطون في عرض النظم القانونية، التي كان منها ملحوظة بوسيدونيوس الذي رأى الأسلوب الأفلاطوني غير مناغم لطبيعة النص القانوني؛ إذ يجب – حسب بوسيدونيوس ([20]) – أن يكون وجيزًا، دونما تعليل أو شرح. بينما لا يوافقه شيشرون حيث يرى أن العرض الأفلاطوني كان موفقًا، إذ لم يقدم الأحكام القانونية فقط بل أسهب في وضع التبرير العقلي لها.

والحقيقة لقد كان أفلاطون واعيًا بهذا التمايز، بل هو الذي أعلنه في مقارنته بين المشرع والطبيب([21]). حيث أشار إلى أن الطبيب يمكن أن يسلك طريقتين: الأولى تقتصر على تشخيص المرض وتعيين الدواء. والأخرى تضيف إلى تشخيص المرض وتعيين الدواء؛ تعليلًا وتبريرًا لإقناع المريض. مضيفًا أن المشرعين اكتفوا بتعيين القوانين ووضع العقوبات، أي استعملوا القوة لإلزام الناس بالقانون لا إقناعهم بقيمته.

من هنا نفهم لماذا حرَص أفلاطون على تقديم “نواميسه” في صيغة جديدة تسهب في التبرير العقلي، وكأنه كان بصدد إقناع الناس بالالتزام بتلك القوانين وتأسيس مدينة على مقاسها، ولعل هذا ما جعله يتنازل عن أفكار كان قد دافع عنها في محاورة الجمهورية.

لكن هل يفيد ذلك أن أفلاطون قطع مع فلسفته السياسية القديمة؟

أم نقول إنه لم يقطع إنما قَدَّمَ متنًا راعى فيه ضعف الطبيعة الإنسانية، مع بقاء المثال كمطلب؟

أيكون توكيد أفلاطون على فضيلة الاعتدال في متنه هذا توكيدًا على منظور منهجي في صياغة النظم، وليس فقط توكيدًا على فضيلة أخلاقية من بين الفضائل؛ أي إن الثابت المنهجي المحرك له في ابتداع القوانين والنظم هو الاعتدال؛ الأمر الذي يفسر توسطه حتى في ترسيمه للنظام السياسي العام بين الديموقراطية والأوليغارشية؟

كيف نفسر التباينات الجوهرية بين “الجمهورية” و”النواميس”؟

هل نرجعها إلى أزمة أفلاطون في صقلية، فنقول إن تلك الأزمة التي كادت أن تودي بحياته، علمته استعصاء تنزيل النظرية السياسية المثالية في الواقع؟

قبل “النواميس” انخرط أفلاطون في كتابة مشروع تخييل تاريخي لنموذج سياسي مثالي، مبني على ثلاثية، لم يكتب منها سوى محاورتين اثنتين هما “طيماوس” و”كريتياس”، ثم توقف ولم يتبعهما بكتابة “هيرموكراطيس” لاستواء تلك الثلاثية المعلنة؛ ولذا يمكن أن نفترض أنه خلال كتابته لـ”طيماوس” و”كريتياس” بدأ يختلج بداخله موقف نقدي تجاه نظريته السياسية القديمة التي تميزت بالتعالي المثالي؛ لذا انتقل إلى متن “النواميس”، الذي بلور فيه نظرية حَسِبها قابلة للتنزيل والتجسيد.

 

لكن إذا قلنا إن الهاجس المعرفي الذي حكم أفلاطون في هذه المرحلة هو النزوع الواقعي، فلا بد من أن نستحضر موقف أرسطو([22]) الذي لم ير للنظرية السياسية الثاوية في “النواميس” أي إمكانية للوجود في الواقع، مثلها في ذلك مثل النظرية التي عبر عنها أفلاطون قديمًا في محاورة “الجمهورية”، على الرغم من أنه تراجع في “النواميس” عن مشاعية النساء وعن منع الحكام والجند من الملكية الخاصة، أي تراجع عن تينك الفكرتين اللتين شدد في نقدهما أرسطو، ناظرًا إلى أنهما يجعلان جمهورية أستاذه مستحيلة التطبيق!

 

 


[1] – Platon, Les lois, trad, Emmanuel Becker, ‎Lefèvre, Paris 1842, p1.

 

[2] – Aristote, Politique 1265ª

[3] – تشير الأسطورة إلى أن مينوس ملك كريت ابن زوس من زواجه بأوربا، ذهب إلى المغارة لتحصيل وحي أبيه زوس الذي كان تشريعات لتنظيم المدينة.

[4] – الفارابي، تلخيص نواميس أفلاطون، نشرها عبد الرحمن بدوي، أفلاطون في الإسلام: نصوص حققها وعلق عليها: م س، ص 37-38.

[5] – سنستند إلى تأسيس هذه السطور على المتن الكامل للمحاورة، مع الاستهداء بشرح الفارابي من كتابه “تلخيص نواميس أفلاطون”.

[6] – هي المغارة ذاتها التي سَيَّرَ أفلاطون محاوري متنه نحوها.

[7]– حتى النظام الإسبرطي ثمة إشارة في النص إلى لاهوتية مصدره.

[8] – أشهر من أكّد على هذا الاختلاف بين “الجمهورية” و”النواميس”، الفيلسوف والمؤرخ الألماني إدوارد زيلر في:

Eduard Zeller: Die Philosophie der Griechen in ihrer geschichtlichen Entwicklung dargestellt, Teil 2, Abteilung 1, 4. Auflage, Leipzig 1889, S. 975.

[9] – إذ قلنا إن مركزية الأسرة أمر ملحوظ في “النواميس”، وأنه إشارة إلى أن أفلاطون تراجع عن موقفه الذي كان قد عبر عنه في “الجمهورية”، فلا بد من التنبيه أيضًا أن دور الدولة حاضر بقوة، إلى درجة أنها تتدخل في تربية الأطفال، وضبط قوانين الزواج وتحديد توقيته…الخ. وعليه فمركزية مؤسسة الأسرة لا تعني نفي سلطة الدولة عليها، بل هي خاضعة لها وممتثلة لتقنين أدق تفاصيلها. كما نلحظ في الكتاب الثامن من متن “النواميس” توكيدًا على أهمية الزواج، ورفضًا شديدًا للمثلية الجنسية، حيث يراها أفلاطون تضادًا مع الطبيعة، وسلوكًا معاقبًا عليه قانونيًّا. وذلك على عكس الموقف الذي نجده قد عبر عنه في محاورة “فيدريس”.

[10] – Athénée, Deipnosophistes, 11,507f–508b

[11] – الفارابي، تلخيص نواميس أفلاطون، م س، ص 39.

[12] – الفارابي، تلخيص نواميس أفلاطون، م س، ص 39-40.

[13] – أفلاطون، النواميس، 794ج.

[14] – أفلاطون، النواميس، 801أ.

إذا كان أفلاطون في الكتاب العاشر من الجمهورية قد طرد الشعراء من المدينة، فإنه في متن النواميس استعادهم، وجعل لنتاجهم وظيفة تربوية مهمة في النظام التعليمي.

[15] – أفلاطون، النواميس، 802 د.

[16] – أفلاطون، المحاورات الكاملة، المجلد السادس، محاورة “النواميس”، م س، ص 353.

[17] – أرسطو، السياسة، الفقرة 1265 أ5 والفقرة 1265 ب 26.

[18] – “دستور الأثينيين” كتاب لأرسطو خَطَّه في ثلاثينيات القرن الرابع قبل الميلاد. وظل النص متداولًا بين المهتمين بالفكر الفلسفي إلى أن فُقد في القرن التاسع الميلادي. وظل الأمر كذلك إلى أن اكتُشف مقطع منه عام 1879 في مصر ضمن ما صار يعرف بـ” برديات أوكسيرينخوس”، ثم اكتشف النص “الكامل” عام 1890م؛ لينشر عام 1891. والكتاب مُهَيْكَلٌ على قسمين، أولهما سرد تاريخي لتطور النظم السياسية الإغريقية (من الفصل الأول حتى الفصل الواحد والأربعين، أما القسم الثاني (من الفصل الثاني والأربعين حتى التاسع والستين) فهو وصف دقيق لحاضر أرسطو، حيث يقدم تحليلًا لمؤسسات مدينة أثينا وقانون المواطنة وشروط تسنم الوظائف الإدارية.

وظاهر من موضوع الكتاب أن أرسطو لم يقصد التنظير الفلسفي المحض؛ إنما هو قراءة وصفية، وإن لم تخل من اعتبارات وأحكام قيمة، مع محاولة تأسيسها على معيار “الوسطية” على اعتبار أن التنظيم السياسي يجب أن يوفق بين المصالح الفردية والجماعية، وفي سبيل ذلك لا بد من انتهاج المنظور الوسطي لتقعيد التقنين المناسب.

ولكتاب “دستور الأثينيين” ترجمتان عربيتان، أولاهما أنجزها طه حسين نقلًا عن الفرنسية عام 1921، والأخرى لـ”الأب أوغسطينس بربارة” نقلًا عن الأصل اليوناني صدرت عام 1967.

[19] – أرسطو، الأخلاق إلى نيقوماخوس10.9.1181ب، 12-14.

[20] – Poseidonios, Fragment 451.Poseidonios: Die Fragmente, Bd. 1: Texte, Berlin 1982, S. 372.

[21] – أفلاطون النواميس، الكتاب الرابع، الفقرتان 722ب- 722 ج.

[22] – انظر المقارنة التي أجراها أرسطو بين “الجمهورية” و”النواميس” في كتابه السياسة من الفقرة 1264 ب – إلى الفقرة 1265.أ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى