“آن للإنسان أن يزرع ما يُنبت أسمى آماله، فأرضه خصبة. لكن سيأتي اليوم الذي تجدب فيه؛ ويمتنع أن تنمو عليها أية شجرة”.
– نيتشه
لماذا تتغير الأشياء؟
كثير من الناس قد يجد هذا السؤال غريبًا. سيعتقدون أنها إحدى حقائق الحياة التي لن نتمكن من فهمها على الإطلاق. لكن إذا كان لنا أن نجد في مكان ما نظرية عن علة تغير الأشياء، فقد نقترب من كيفية استخدام التغير بشكل إيجابي.
كانت علة تغير الأشياء هي إحدى المسائل التي شغلت عقول المفكرين منذ بداية الفلسفة الغربية. أعتقد بارمينيدس Parmenides (المولود تقريبًا في عام 515 ق. م) أن التغير وهم، وأن جميع الأشياء هي نفس الشيء الواحد. اعتقد الفيلسوف أن العالم في حالة سرمدية من “الوجود Being”.
أعتقد هرقليطس Heraclitus من أفسس (تقريبًا 535 – 475 ق. م) أن الكون ليس في حالة “وجود” ثابت، وإنما في حالة “صيرورة Becoming” أبدية، وأن الكون في الحقيقة تغير. وشبهها بالنار الأبدية.
“هذا العالم، بنظامه المتماثل لجميع الموجودات، لم يصنعه أحد من الآلهة أو من البشر. لكنه كان وسيكون دومًا: نار حية أبدًا، تشتعل وتنطفيء باعتدال”.
فالواقع تيار مستمر من التغير. لقد أعطانا هيراقليطس القول المأثور الذي كثيرًا ما يستخدم، “لا أحد ينزل إلى النهر نفسه مرتين”. وقد كتب أيضًا هذا الفيلسوف ما قبل السقراطي عن العنف والحروب بعبارات تدل على كونها أحد مظاهر التغيّر، وأن البشر ببساطة تحت رحمة قواه وحده.
وقد اتفق فريدريك نيتشه (1844 – 1900) مع هيراقليطس على أن العالم صيرورة دائمة، وليس مجرد وجود ثابت. فنحن وكل ما حولنا في حالة تَحَوّل مستمر. فلا شيء راسخ، والحروب والصراعات هي التعبير الأدق عن هذه الحقيقة.
وبينما كان هيراقليطس يعتقد أن نارًا كامنة داخل كل شيء هي التي تقود التغير، قال نيتشه بفكرة أكثر حداثة ولكنها مشابهة، تلك التي أطلق عليها “إرادة القوة” (Wille zur Macht).
فعندما كان نيتشه شابًا، وقع تحت تأثير آرثر شوبنهاور Schopenhauer، الذي بدأ في قراءة أعماله عام 1865. وضع الألماني الأكبر سنًا نظرية مفادها أن القوة البدائية التي أطلق عليها اسم “الإرادة” هي التي تقود التغيّر في الكون.
وفقًا لشوبنهاور، فإن “إرادة الحياة” – مظهر من مظاهر “الإرادة” في الكائنات الحية – هي علة الرغبة في البقاء على قيد الحياة والإنجاب. لكن الفيلسوف الأكبر سنًا بتشائمه اعتقد أن إرادة الحياة لا تسبب شيئًا سوى الألم لأنها كانت مصدر الرغبات النهمة. وقد رأى شوبنهاور أن أفضل ما يجب فعله هو التخلي عن هذه الإرادة وإيجاد السلام بدلاً من ذلك في الفن والتعاطف.
أثارت فكرة شوبنهاور عن الإرادة إعجاب نيتشه، الذي تشير كتاباته المبكرة بشكل متقطع إلى “إرادة” عاملة في الأشياء. لكن فكرة إرادة الحياة لم ترضِ نيتشه، وبدأ الفيلسوف الشاب في تطوير فكرته الخاصة عن القوة الدافعة وراء التغيّر.
في أوائل ثمانينيات القرن التاسع عشر بدأ نيتشه الكتابة عن “إرادة القوة” كجزء مهم من تفكيره. كانت هناك مشاكل في نظرية شوبنهاور، والتي بدت متناقضة، وغير قادرة على تفسير العديد من السلوكيات التي تبدو مازوخية في البشر والحيوانات. فكتب في روايته الفلسفية “هكذا تكلم زرادشت” في قسم “في التغلب على الذات”:
“ليس للعدم إرادة، لكن ذلك الذي هو موجود كيف له أن يطلب الوجود؟ فقط حيث توجد حياة، هناك أيضًا إرادة: لا إرادة للحياة، ولكن – كما أعلمكم – إرادة القوة!”.
يلاحظ نيتشه حدوث شيئين أساسيين: كل الأشياء تتغير، والكائنات الحية تسعى إلى الازدهار. والإنجاب هو فقط أحد جوانب الازدهار. والدافع للازدهار في الكائنات الحية هو ما يجعلها دائمًا في حالة صراع.
أدرك نيتشه أن الكائنات الحية غالبًا ما تخاطر بالموت من أجل الازدهار. بدأ يفكر من منظور إرادة القوة بوصفها محركَ كفاح الإنسان والحيوان، والمظهر الكوني للتغيّر نفسه.
فبداية من الكائنات وحيدة الخلية وصولًا إلى النباتات والحيوانات، تجد جميع الكائنات الحية نفسها في صراع من أجل البقاء. حتى عندما تكون مريضًا بمرض شائع مثل الأنفلونزا أو البرد، فإن جسمك في صراع من أجل البقاء مع كائن حي – في هذه الحالة فيروس – يسعى إلى الازدهار.
لكن ما الذي يدفعنا إلى الازدهار؟ إن رغباتنا هي دوافعنا. وفي كثير من الأحيان لا ندرك حتى هذه الدوافع. كل يوم نواجه عقبات تعوق رغباتنا. يمكن أن تكون هذه العقبات حواجز طبيعية أو زملاء أو أصدقاء أو أفراد الأسرة. نحن في أغلب الأحيان نتنازل. لكن عندما لا نفعل ذلك، فإن نوع خاص من المتعة يغمرنا، حتى ولو للحظات. هذا التوق إلى القوة هو ما يعتبره نيتشه القوة الدافعة، التي سنقوم بمجازفات كبيرة من أجل الوصول إليها. فكتب:
“يجب أن يفكر علماء الفسيولوجيا مرتين قبل أن يصنفوا دافع الحفاظ على النفس باعتباره المحرك الأساسي للكائن العضوي. لأنه قبل كل شيء، يريد الكائن الحي أن يطلق العنان لقوته. إنّ الحياة نفسها هي إرادة القوة: أما الحفاظ على النفس فليس سوى إحدى النتائج العرضية والنادرة لهذا الأمر”.
ويبدو أن الميل إلى القسوة التي لا معنى لها هو أيضًا أحد مظاهر إرادة القوة بالنسبة لنيتشه. بل إن أفكار شوبنهاور المعارضة للإرادة – التعاطف والفن – كانت، بالنسبة لنيتشه، مجرد تجسيد للإرادة في صور مختلفة وليست نقيضها بالتأكيد. فلا يمكن أن يكون هناك نقيض لقوة شاملة مثل الإرادة.
لكن النقطة التي اختلف حولها الفلاسفة والمؤرخون هي ما إذا كان نيتشه قد قصد أن تكون نظرية إرادة القوة ظاهرة كونية للتغيّر، وليست مجرد ظاهرة نفسية أو بيولوجية. فيشير الاقتباس السابق من كتاب “هكذا تكلم زرادشت” إلى انتشار إرادة القوة بشكل متغلغل، ولكن ليس بشكل متجاوز “للحياة”.
لكن في حين أن أعمال نيتشه المنشورة تشدد إلى حد كبير على كون إرادة القوة ظاهرة نفسية، فإن دفاتر ملاحظاته من ثمانينيات القرن التاسع عشر تعرض فكرة أن إرادة القوة شاملة للكون ومحيطة به، تمامًا مثل “إرادة” شوبنهاور. فقد كتب نيتشه في إحداها:
“هذا العالم هو وحش من الطاقة، بلا بداية أو نهاية، كمٌ ثابت لا يتغير من الطاقة، لا أكثر ولا أقل، لا يتبدد مطلقًا، وإنما يتحول فقط، بحجم غير قابل للتغيير ككل، وبرصيد بلا نقصان أو خسائر، ولكن بالمثل بلا زيادة أو أرباح، يحده “العدم”. […] هذا العالم هو إرادة القوة – ولا شيء غير ذلك!”.
ويبدو أنه تم تدوين تلك الملاحظات استعدادًا لما كان نيتشه يعتقد أنه سيكون أهم أعماله، ولكن تم التخلي عنه في السنوات التي سبقت انهياره العقلي عام 1889. بعد أن مرض نيتشه، جمع ناشر نيتشه هاينريش كوسليتش Heinrich Köselitz وأخته إليزابيث فورستر نيتشه Elizabeth Förster-Nietzsche مئات الصفحات من الملاحظات الفوضوية في كتاب بعنوان “إرادة القوة The Will to Power”، على الرغم من إعراب نيتشه عن عدم رغبته في استخدام تلك الملاحظات.
فليس من الواضح إذن إلى أي مدى تبنى نيتشه هذا المفهوم “الكوني” عن إرادة القوة بشكل جدي. فربما اعتبر الفكرة مجرد تكهن، أحد مخرجات عقله أثناء تشكل الأفكار غير المختبرة.
لكن من المؤكد أن إرادة القوة في شكلها المنشور تفتقر إلى البراعة الأسلوبية التي ميزت كتب نيتشه الأخيرة في ذلك الوقت، وكأنه تم حياكتها من شذرات متفرقة وملاحظات سريعة (إلى الحد الذي ادعى فيه النقاد أن ذلك الكتاب قد زوَّرته أيدي فورستر-نيتشه وكوسليتش). ومع ذلك، تشير أعمال نيتشه المنشورة إلى إرادة القوة بوصفها قوة غير مشخّصَة، ولكن لعلها التي لا تُلحظ إلا في العالم الحي.
قوة الغوغاء:
لقد أسِيَء فهم فكرة إرادة القوة على نطاق واسع. فظن الكثيرون أن نيتشه يثني على الوحشية والاستبداد، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن النازيين – بمساعدة فورستر نيتشه، والتي كانت هي نفسها قومية ألمانية- فسروا النظرية على هذا النحو.
لم يساعد نيتشه نفسه في هذا الصدد، حيث أن آرائه غير مستساغة لغالبية القراء المعاصرين. لكن ربما أن آراء مثل إعجابه بالطغاة الوحشيين مثل نابليون Napoleon، وتعليقاته الحاقدة ضد المرأة في ملاحظاته المعدة لأجل كتاب “إرادة القوة”، تخبرنا عن نقاط ضعف نيتشه أكثر من أن تضيف شيء إلى نظرية إرادة القوة. تشيع المرارة في كتابات نيتشه بوضوح يماثل وضوح العيوب في التماثيل الرخامية.
لكن إرادة القوة ليست نظرية فجة لمجرد الصراع والهيمنة. فالقوة تتشكل عبر تصرفات الأفراد والجماعات بعدة طرق؛ فيمكن أن تمارس من خلال إفادة الناس بنفس قدر إمكانية ممارستها من خلال إيذائهم. وإذا كانت إرادة القوة موجودة في كل مكان في العالم الحي، فبالتأكيد تصبح جميع الأفعال تعبير عن الإرادة.
قد يبذل المرء جهدًا يُحسن به إلى غيره؛ لأن من نُحسنْ إليهم سيدينون لنا. فالنظم الأخلاقية هي أشكال من استخدام القوة، وخلق القيم، وفرضها على الجماهير.
ويعتقد نيتشه أنه بينما يمارس الأفراد الأقوياء القوة بشكل مباشر، فإن الضعفاء يستخدمون أنظمة القيم لردع الأقوياء بشكل غير مباشر. كان نيتشه نخبويًا، فشعر بأن “الغوغاء” يمتلكون القوة لتشكيل الحضارة في أوروبا.
إن العاطفة الجماهيرية التي وصفها نيتشه بالكلمة الفرنسية “ressentiment” (كراهية الجماهير للنخبة) قد وجهت قوة الجمهور عبر أنظمة اعتقاد تخنق الإمكانيات الإبداعية للأفراد العظماء.
فبالنسبة لنيتشه، العدل والمساواة أساسهما الحسد. والمطالبة بالمساواة هي مطالبة بتقليص سلطة الفرد، وفرض حظر للبهجة على الجميع بشكل متساوٍ، وكانت أنظمة الاعتقاد تلك دينية، وسياسية، و-في جوهرها- فلسفية.
لكن في حين أن هذه الأنظمة هي تعبيرات عن إرادة القوة، إلا إنها حتميًا تنهار لأنها تتعارض مع حقيقة إرادة القوة. فإرادة القوة بلا هدف. ولهذا فرغم ممارسة أنظمة الاعتقاد للقوة، إلا أنها تفشل في النهاية لأنها تقدم مزاعم كاذبة عن الحقيقة والهدف. ويعتقد نيتشه أنه عندما تسقط هذه الأنظمة، تبدأ مرحلة العدمية Nihilism.
العدمية:
بحلول القرن التاسع عشر، أعتقد نيتشه أن الحضارة الأوروبية تمر بأزمة بسبب تزعزع أنظمة الاعتقاد الأساسية الخاصة بها. فقد أصبحت أوروبا فريسة في براثن العدمية المنتشرة مما أمرض حضارتها.
وتعد العدمية أحد المفاهيم الهامة بالنسبة لفكر فيلسوفنا لأنها السيف الذي تواجهه الكثير من أفكار نيتشه. تنشأ هذه الظاهرة عندما يخيب أمل الناس، مما يجعلهم متشككين ومتشائمين. رأى نيتشه نفسه طبيبًا فلسفيًا بوسعه تشخيص واقتراح علاج لهذا المرض الجماهيري الذي أصاب الحضارة والروح.
أعتقد نيتشه أن الحضارة الأوروبية زرعت بذور دمارها بداخلها. فكتب: “أعلى القيم تُفقِد نفسها القيمة. الهدف مفقود، ولا يوجد إجابة عن (لماذا)”.
فقد لاحظ الفيلسوف أن الحضارات تبني أنظمة اعتقاد أساسية. وهذه الأنظمة تمنح لحياة الناس هدفًا ضمن فهم موحد للكون تؤكده الحقيقة. يصف نيتشه ثلاثة أنواع من العدمية النفسية في ملاحظاته المستخدمة في كتاب “إرادة القوة”. ويعتقد أن هذه الأنواع أثبتت أن الانهيار الحتمي لهذه الأنظمة هو جذر العدمية التي تستند إليه.
النوع الأول هو الافتقار إلى وجود هدف: عندما نبحث عن معنى في الوجود لا يمكن العثور عليه. فإذا توقف المرء عن الإيمان بالنظام الأخلاقي للعالم، وامتثال جميع الأشياء لهذا النظام، فإنه يشعر بأن كل هذا كان عبثًا.
النوع الثاني هو الافتقار إلى الوحدة: عندما ندرك أننا كنا سابقًا نؤمن بنظام أو وحدة أو ترتيب للعالم لم نعد نؤمن به الآن. يمكن أن يفقد المرء الاعتقاد في قيمته الذاتية إذا تراءى له أنه ليس جزءًا من كلٍ أكبر.
إذا شعر الناس بالإحباط بسبب شكلي خيبة الأمل أعلاه، فإنهم يخترعون عالمًا مفارقًا لهذا العالم. فيرون أن العالم الذي تعيش فيه أجسادنا وهمي وناقص ومعيب، بينما العالم المفارق حقيقي وكامل. أفضل مثال على ذلك هو “مثل” أفلاطون. لكن هذه المحاولة لإيجاد المعنى لا يمكن أن تصمد أيضًا، في رأي نيتشه، فتؤدي إلى نوع من خيبة الأمل، مما يجعلها النوع الثالث والأخير من العدمية.
إطلاق العنان للطاقة:
بالنسبة لنيتشه، “السيرورة والتغيير هما الواقع الوحيد”. فكتب عن أزمة العدمية بوصفها صراعًا من أجل البقاء، واختبار لقوة للأفراد:
“أعتقد أنها واحدة من أعظم الأزمات، لحظة أعمق تأمل ذاتي للبشرية. أما ما إذا كان الإنسان سيتعافى منها، وإذا ما كان سيصبح مسيطرًا عليها، فهذه مسألة تتعلق بقوته”.
يواجه نيتشه هذه الأنظمة الأخلاقية والميتافيزيقية الفاشلة بإرادة القوة التي يعبر عنها إبداع وحيوية الأفراد الأقوياء. يولي نيتشه اهتمامًا خاصًا لما أسماه “التغلب على الذات”: استخدام إرادة القوة لأغراض السيطرة على الذات، والإبداع، والتسامي. عندما تُستخدَم إرادة القوة بشكل صحيح، فإنها تكون متعلقة بالنمو والإبداع أكثر من الاستبداد والوحشية.
هذا لا يعني الإبداع بالمعنى الذي نفهمه؛ أي، الأشخاص الذين -على سبيل المثال- يكونون مبدعين في مجال أو مجالين من التخصصات الفنية مثل الشعر والرسم. فقد كره نيتشه فكرة “العبقري” الحديث ذو التخصص الواحد فقط.
يقول زرادشت الناطق بلسان نيتشه للجمهور إن الرجال الذين “لديهم القليل جدًا من كل شيء والكثير جدًا من شيء واحد” هم “عاهات معكوسة”: “رجال يفتقرون إلى كل شيء باستثناء شيء واحد، لديهم منه بإفراط، هم رجال ليسوا سوى عين عظيمة أو فم واسع”
ويصف مازحًا أنه وجد في طريقه “أذن عملاقة”، لكنه وجد شخصًا ملتصقًا بها وكأنه ساق صغيرة، شخص وصفه الناس بأنه “رجل عظيم، وعبقري”.
اعتقد نيتشه أن التخصص الحديث قد حول الناس إلى مجرد شظايا مبعثرة. فقارن زرادشت السير بين الناس بالسير بين الأطراف الممزقة وأشلاء القتلى في ساحة المعركة: “أسير بين الرجال وكأنهم بقايا وأطراف رجال!”
أُعجب نيتشه بالموسوعيين الذين نموا القوة واستخدموها في العديد من جوانب حياتهم. مستلهمًا نظرية التطور، حاجج نيتشه بأن “الإنسان الأعلى”Ovbermensch يجب أن يحل محل البشر، الذين سيصبحون، بوصفهم أسلافًا له، مصدر إحراج لمثل هذا الكائن.
“الإنسان حبل مربوط بين الحيوان والإنسان الأعلى – حبل منصوب فوق الهاوية. العظيم في الإنسان هو كونه جسرًا وليس نهاية: ما هو مستحب في الإنسان هو كونه مقدمة ومَغلُوب”.
تضمنت نماذج الإنسان الأعلى الأولية يوهان فولفجانج فون جوته Goethe ونابليون بونابرت، اللذين تفوقوا في العديد من المواهب دون أن يعيقهم ما وصفه نيتشه بـ “أخلاق القطيع”. مثل النباتات التي نمت بشكل متضخم، خاطر هؤلاء الرجال بسمعتهم بل وحتى بحياتهم من أجل الازدهار، لاستخدام القوة التي كانت لديهم في إعادة تشكيل أنفسهم والبيئة من حولهم.
لكن لم يكن أي من هذه الشخصيات التاريخية إنسانًا أعلى، ولم يكن نيتشه واضحًا أبدًا بشأن ما يمكن أن يعد تحقيقًا لهذه المرتبة. فيبدو أن الغرض من مفهوم الإنسان الأعلى هو تقديم مثال روحي معارض للمثل العليا الاعتيادية للفضيلة الأخلاقية. بالنسبة لنيتشه، هذه المثل العليا سلبية بلا شك، فهي تمنع الناس من السيطرة على ذواتهم.
يضع نيتشه الإنسان الأعلى في مواجهة ما أسماه “الإنسان الأخير”: الإنسان الحديث الكسول الغارق في العدمية والساعي فقط إلى الرضى والراحة. فعلى النقيض منه، يقف الإنسان الأعلى وهو على استعداد بالمخاطرة بكل شيء لتحقيق التفوق والسيطرة على الذات.
“يلزم على المرء أن يحوي قدرًا من الفوضى حتى يتسنى له إنجاب نجم راقص. الحق أقول لكم: لا تزال هناك فوضى في ذواتكم. لكن للأسف، اقترب الزمان الذي سيعجز فيه الإنسان عن إنجاب النجوم. للأسف، اقترب زمان الإنسان الحقير، هذا الذي لم يعد قادرًا على احتقار نفسه”.
“النجم الراقص” لزرادشت هو الإنسان الأعلى، ومفاد تحذير نيتشه هو أنه يلزم على البشرية ألا تدعه إلى ما بعد فوات الأوان. تتضاءل “الفوضى” الإيجابية بداخلنا مع ترشيد (rationalized) العالم؛ أي، عندما تصبح الراحة هدفنا، عندما نتعامل مع الحياة بوصفة ميزانية عامة، فنقوم بحساب تكلفة كل شيء دون تقدير أي شيء.
لقد حذرنا نيتشه من أن تربة الإمكانات البشرية ستظل خصبة ما دام “يزرع الإنسان ما يُنبت أسمى آماله”. فبالنسبة لنيتشه، كانت العدمية في العالم الحديث تخنق تلك الإمكانات. وإذا لم نسخر إرادة القوة لأغراض السيطرة على الذات، فقد نقع في شبكة قوة تتجاوز قدرتنا على التحكم بها.