تلقّى الأخ محمد بنيس دروسه الجامعية خلال النّصف الثاني من القرن الماضي، على يد جيلٍ يمكن أن نقول إنّ سارتر هو الذي حدّد علاقته بالأدب. كان سارتر وقتها، كما أشار بورديو، قد تمكّن من أن يصبح “بؤرة” يتجمع عندها مختلف العناصر التي كانت تشكّل “الشخصية” الاجتماعية للمثقف التي ظهرت معالمها مشتّتة مبعثرة فيما قبل. لذا فقد ساهم في بلورة رؤية مغايرة إلى المثقف و”التزامه”، وأبرَز ما ينطوي عليه الأدب من “طاقة”، وما تتمخضّ عنه الكتابة من بُعد سياسي، فأمدّ ذلك الجيل بمفهوم جديد عن الأدب، كما جدّد علائقه بالماركسيات، وساهم في بلورة رؤيته إلى التاريخ ونظريته عن الكتابة ودورها الاجتماعي. كان سارتر قد نبّه أن حرية كلّ منا تمرّ عبر حرية الآخر، وأن الأعمال الأدبية ليست بالضرورة أعمالاً أكاديمية أو إغراقًا في التأمل، وأن مكانها ليس هو الجامعة بالضرورة. لقد أمدّ سارتر مثقفي منتصف القرن الماضي بفلسفة تزاوج بين عبث الوجود والمسؤولية الأخلاقية، بين “قوة الأشياء” و”قوة الكلمات”، فحاول أن يُنقذ الإنسان من الغرق في بحر التاريخ الذي عيّنته الفلسفات الجدلية.
ولم يكن مفعول سارتر السّلبي ليقلّ عن هذا المفعول “الإيجابي”. فربما كان هو الذي حال بين ذلك الجيل وبين بعض الفلسفات وحجَب عنه، لوقت غير قصير، بعض المفكرين أمثال فرويد ونيتشه.
مجمل القول، إذن، إن سارتر، كان بالنسبة للجيل الذي تتلمذ عليه شاعرُنا دليلَ المثقف العربي على درب التاريخ و”دروب الحرية”. فلم يكن مثقفُ الستّينات في العالم العربي ليلجأ إلى مفهومات اللاشعور والإيديولوجيا والوعي الطبقي لتحليل واقعه الفكري، بل إلى مفهوم “الالتزام” وفلسفة معينة عن العمل، ومفهوم خاصّ عن “الحرية”.
قام مفهوم “الالتزام” أساسًا ضدّ تصوّرين عن الأدب: التصوّر الذي كان يروّجه دعاة الفنّ للفنّ، وذاك الذي كان يعتمده الماركسيون. لكن من هؤلاء الماركسيين من سيستفيدون من الدّرس السارتري ومن أعمال بعض الماركسيين المجريين، وعليهم سينفتح محمد بنيس الذي يظهر أنه لم يقنع، وربما لم يقتنع، بما أخذه عن أساتذته؛ فالظاهر أن النموذج الذي احتذوه لم ينلْ رضاه. لذا سيعمد في رسالته لدبلوم الدراسات العليا إلى تطبيق منهج يخالف ذاك الذي اعتمده سارتر في دراسته لبودلير أو سان جوني وفلوبير، ليستنجد بالبنيوية التكوينية كمنهج لدراسة “ظاهرة الشعر المغربي المعاصر”. وقد أنجز ذلك البحث كدبلوم للدراسات العليا تحت إشراف المرحوم عبد الكبير الخطيبي.
هذا الاحتكاك بالخطيبي، فضلًا عن التفتّح على بعض الشعراء المحدثين من الشابّي إلى السيّاب، سيفتح شاعرَنا على آفاق جديدة، لا تبتعد عن سارتر وحده، وإنما حتى عن المنهج الذي يستلهم الماركسية، ليغرف من آفاق تنحدر من الشكلانيين الروس حتى رولان بارث مرورا بتزفيتان تودوروف.
نعلم أن ارتباط العمل الأدبي بما يسمّيه لوكاتش “النظرة إلى العالم”، يخفّف عن الكاتب نوعًا ما من مسؤولية الكتابة، ليلقيَها على المجتمع وربما على الحركة التاريخية برمتها. كلّنا يذكر عبارة غولدمان: “إن نحن اعتبرنا أن الفرد هو الذّات المبدعة، فإن أهمّ جزء من العمل المدروس سيظلّ عرَضيًا”. لا مفرّ إذن من الخروج من قوقعة الفرد، لكن نحو ماذا؟ لن يكتفي شاعرُنا هذه المرّة بالخروج نحو البنية الدالة والنظرة إلى العالم، وإنما نحو جهاز يسري في الجسم الاجتماعي بكامله، نحو اللغة.
في هذه المرحلة إذن سيتبلور اهتمام شاعرنا بمسألة الحداثة ليس في الشعر وحده، وإنما في اللغة، بل في الثقافة، إذ سيعتبر أن “تحديث اللغة العربية في المغرب، كما كتب، هو المهمة الأسبق في كل عملية تقصد تحديث الثقافة”. بل إنه سينيط الشعر بمهمة التحديث هذه. إذ هو من الجيل الذي سينفتح على نظرة تعتبر الأدب استعمالًا للغة بطرق خاصة، و”نوعًا من الكتابة التي تُمثل عنفًا منظَّما يُرتكب في حقّ اللغة” كما كان يقول أحد رواد الشكلانيين الروس.
سيعتمد هذا الجيل نظرة إلى الأدب والعمل الثقافي تقوم على نظرية مغايرة في توليد المعنى. فبينما كان جيل سارتر يعتقد أن الإنسان هو الذي يخلق المعنى، فإن هذا الجيل الجديد أصبح يرى أن المعنى يحصل ويجيء إلى الإنسان ويقتحمه. سيتمخض عن ذلك مفهوم مغاير عن الكتابة، وسيكتب شاعرنا: “الشّعر لا يوجد خارج الممارسة النصيّة”. وهكذا لن يسارع هذا الجيل الجديد إلى ربط العلة النهائية بأوّل علة كما كان يفعل الجدليون ومن نحا منحاهم، وإنّما سيكتفي بوصف “لعبة التسلسل” التي لا تبتدئ عند “علّة أولى”، ولا تنتهي عند “علّة نهائية”. إن شئنا فلنقل إن هذا الجيل سيحتفظ للنصّ بمعناه من غير إدراجه داخل منطق كلية موحِّدة وموحَّدة. أو لنقل إنه يحتفظ للفعل بمعناه من دون إدراجه في معنى للتّاريخ واتّجاه معيّن له. سيميّز هذا الجيل بين معقولية الحدث ومعقولية التاريخ، وسيعتبر أن للأشياء منطقَها من غير أن تتسلسل في منطق كلي. لعلّ هذا هو أحد الإسهامات الأساسية لما عُرف بالاتّجاه البنيوي، وخصوصًا في مباحثه في ما يتعلق بالمتخيّل في شتّى تجلّياته. لقد أوضح هذا الاتّجاه كيف يتقنّع السياسي ويتشكل ليظهر في الأسطورة والأعمال الفنية والكتابة الأدبية، وكيف أنّ الممارسات الدّالة لا تكون، في المجال البشري، انعكاسًا أو “تعبيرًا” عن شيء خارج عنها، “وإنّما هي ما يدركه المجتمع على أنه يُعوز تنظيم ممارسته” على حدّ تعبير ميشيل دوسرتو. من منّا يستطيع أن ينفي علاقة ر. بارث أو ت. تودوروف أو ج. كريستيفا بالسياسي؟ ومع ذلك فهؤلاء جميعُهم لم يذهبوا أبعد من تحليل نصوص أدبية، أو على أكثر تقدير، دراسة قواعد ذلك التحليل. غير أنهم بيّنوا، على حدّ تعبير بارث، أن قيمًا بورجوازية تسكن أشكال الكتابة، وقواعد الملبس والمأكل، وخطاب الموضة، ولكن من غير أن يضعوا شكسبير في قفص الاتّهام، أو يجعلوا بريخت “زعيمًا فنيًّا”، أو بيتهوفن “خطأ” تاريخيًا كما ادّعى بعض الماركسيين. لقد بيّن هؤلاء أن السياسي يعلق بجهاز يخترق المجتمع ويرتبط بتاريخ البشرية في مجموعه، هذا الجهاز هو اللغة التي تتسم بالجزم والتقرير، وتبعية التكرار والاجترار، كما تتّسم بترديد نماذج متحجرة وعبارات جاهزة، وبرغبة ملحة في التوجيه والحث والإرغام. اللغة هي مجال الـ Ordo بلا منازع، أي مجال النظام والإرغام.
لكن المفارقة هنا أن أداة الإرغام هذه تظل هي القناة التي أخذ المثقف يمرّ منها للانفتاح على الحداثة. فإن كانت هي مأوى النماذج المكرورة، وملجأ المحافظة والتقليد والجمود، إن كانت، كما يقول بنيس، “لغة الجسد الميت”، فلن يتبقى للمثقف سوى “مراوغتها” لجعلها “لغة راقصة” كما يقول شاعرنا الذي نقرأ له أيضًا: “إن بناء قصيدة منشغلة باللانهائي والذاتية، بالغريب والمشوب، تتعرض لإبدالات مفاجئة. فاللغة الشعرية، المكتوبة على هامش الأدب، لا تتوقف عن تقويض التركيب (النحوي)، تباغت الصورة، تفتّت العروض وتشوّه النظام الذي يدّعي الخصوصية. “في هذه الخلخلة للغة، مبنى ونظامًا وروحًا وقوامًا، نلمس عند شاعرنا صدى “مجلة شعر” التي ذهبت حتى تكريس القول بـ”الاعتداء على اللغة” بهدف الوصول إلى فصاحة مضادة، وغناء مضاد، ما أكثر ما تحول إلى غضب.
كل تحديث يمرّ عبر تحديث اللغة، لأن كل شيء يمرّ عبر اللغة، لأن العالم لغة، أو، كما كتب بلانشو، لأن “العالم نصّ”. هذا الرّبط بين التحديث واللغة هو نوع من “الموضعة”، إذ لا ينبغي أن ننسى أن أهمّ الخصائص التي أصبحت تعزى للّغة، وكما يجملها بلانشو: “هي الخاصية اللاشخصية ووجودها المستقل المطلق الذي تحدّث عنه مالارمي (الذي لا بد أن نذكر اسمه منوّهين بجرأة بنيس على ترجمة قصيدته باعتبار أن الترجمة أداةُ تحويل للغة وبالتالي أداةُ تحديث)”.
إن بقي معنى، والحالة هذه، للحديث عن الالتزام فلن يكون إلا عبر الكتابة. هذا ما دفع بارث إلى أن يميز بين: 1 – اللغة التي هي منظومة من القواعد والعادات التي يشترك فيها جميع كتاب عصر بعينه، وبين 2 – الأسلوب الذي هو الشكل، ما يشكل كلام الكاتب في بعده الشخصي والجسدي، ثم أخيرًا 3 – الكتابة التي تتموضع بين اللغة والأسلوب، وعن طريقها يختار الكاتب ويلتزم. الكتابة هي مجال الحرية والالتزام. اللغة والأسلوب قوى عمياء، أما الكتابة فهي فعل متفرّد تاريخي. اللغة والأسلوب موضوعان، أما الكتابة فهي وظيفة. إنها عالقة بين الإبداع والمجتمع، وهي اللّغة الأدبية وقد حوّلها التوجيه الاجتماعي، هي الشكل وقد أُدرك في بعده الإنساني، وفي ارتباطه بالأزمات الكبرى للتاريخ.
ما أبعدنا عن الجيل الذي تلقى عنه شاعرنا دروسه الجامعية الأولى. ما أبعدنا عن التزام سارتر. ذلك أن صاحب “ما هو الأدب” كان يربط الأدب بالالتزام السياسي للكاتب، والمحتوى المذهبي لعمله. وهكذا فان نظرية الالتزام، أو ممارسة الالتزام عنده على الأصحّ، إذ من الصّعب الحديث عند سارتر عن نظرية، إن ممارسة الالتزام كانت تقوم على مفهوم ما عن الحرية، ولكن أيضًا على مفهومين معيّنين عن النصّ وعن “المؤلّف” لم يكونا ليقويا على الاستمرار أمام تطورات الشعرية المعاصرة. لذا سرعان ما جاء جيل هو جيل شاعرنا الذي يرفض، على حدّ قوله، “أن يكون شاعر قبيلة من نوع جديد”، إنه الجيل الذي حاول تأسيس نظرية مغايرة عن الالتزام تتعايش مع “موت المؤلف”، ليربط الالتزام لا بالكاتب وإنما بالكتابة، وليعلن مع بارث “أن قدرات التحرر التي تنطوي عليها الكتابة لا تتوقف على الشخص المدني، ولا على الالتزام السياسي للكاتب، الذي لا يعدو أن يكون إنسانًا بين البشر، كما أنها لا تتوقف على المحتوى المذهبي لعمله، وإنما على ما يقوم به من خلخلة للغة”.