تَـمْهِيد:
نعملُ عبر هذه المقالة على دراسة أوجه تداخل التأريخي بالتخييلي في أحد الأعمال الروائيّة لمنوبي زيّود (1954)، “عفريت القائد عيّاد”، تثمينًا للمُنجز الروائي للكاتب منّوبي زيّود الّذي أكّد غير مرة على قُدرتهِ المُتميّزة على الارتقاء بمستوى الخطاب الروائي فنيًّا وبنيويًّا ودلاليًّا، ونجاحه في توظيف خامة التاريخ وصهرها وإذابتها في ماء الأدبِ لإنتاج خطاب روائي يُزاوج بين الإحالة التأريخيّة والبراعة الإبداعيّة، وإضفاء مسحة من التخييل عليها دون السقوط في التزوير أو التزييف؛ ليقف بذلك بجدارةٍ في مصافّ النماذج المُتميّزة من الروائيين المعاصرين.
1-السّرد والتاريخ: أيّ علاقة؟
إنَّ علاقة الرّواية بالتّاريخ ليست أمرًا عرضيًّا أو طارئًا؛ بل هي علاقة ضاربة في القدم[1]، فمُنذُ برزت الرّواية بصفتها جنسًا أدبيًّا لهُ خُصُوصياته الّتي تُميّزهُ عن سائرِ الأجناس الكتابيّة الأخرى؛ شكّل التّاريخُ مادّةً ينسج منها الروائيون خيوط مادتهم الحكائية مضفين عليها مسحة من التخييل تخليصًا له من الصبغة التقريريّة الجافّة في سرد الأحداث من ناحية، ولتجذيرها – الرواية التاريخية – في تربة الإبداع الروائي من ناحية أخرى، ويُعد سليم بستاني (1848-1884) المُؤسّسَ الفعلي للرواية التاريخيّة في الأدب العربي، وكانت قصّته “زنوبيا” (1871) فاتحةَ القصص التاريخي في الأدب العربي تلتها رواية “بدور” (1873) و”الهيام في فتوح الشام” (1874) ثمّ جرجي زيدان الذي تبلورت معه الرواية التاريخيّة وعرفت أوج نضجها. كان التأثر بالأدب الأوروبي خلال هذه الفترة – فترة البدايات – واضحًا عن طريق “تقليد نماذج من الأدب الأوروبي ولعِبت الظّروف السياسيّة دورها بتشجيع تأثير الأدب الفرنسي عُمومًا والأدب الإنكليزي جُزئيًّا وبتهميش يكادُ يكونُ تامًّا للأدب الألماني الذي إذا كانَ يحْظى في بعض الأحيانِ بأهميّةٍ ما؛ فإنَّ هذا الاهتمامُ كان يأتي عن طريقِ الأدبيْن المذكوريْنِ أعلاهُ”[2].
وعلى الرّغم ممّا شهدته الرواية العربيّة من تطوّر واكتمال عبر مراحل ومحطّات عرفت خلالها الروايةُ ابتعادًا عن التاريخ وانحيازًا في المقابل نحو الواقع بمختلف تجاذباته وتصدُّعاتهِ نقدًا له ومحاكاة ومعالجة دراميّة، وما عرفتهُ الآداب الإنسانيّةُ من مدارس وتيارات حديثة تُغري الكاتبَ بالإقبال عليها وتجريب الكتابة فيها؛ فقد ظلّت ثيمة تسريد التاريخ تستميل أقلام الروائيين؛ “ممّا يشي بتواصل الحاجةِ إلى هذا اللّون من الإبداع، وبقُدرتهِ على الاستمرار، واستجابتهِ لمُتطلّبات التطوُّر الفنّي والتحوّل الاجتماعي”[3]؛ إمّا لما ينطوي عليه أولئك الكُتّابُ من ثقافةٍ تاريخيّةٍ لم يجدوا طريقة في تصريفها وإفادة القرّاء بها سوى الإبداع الروائي بصفته الطريق الأقرب والأيسر لوجدان القارئ العازف بطبعه عن قراءة تاريخهِ؛ فتكون بذلك الرواية التاريخيّة حافظةً لموروث ثقافي تاريخيٍّ لمجموعة ما – بكونه يُشكّلُ أحد عناصر المُشترك القيمي لها – من الضّياع والاندثار. أو رغبةً في تطوير تجربة الرواية التاريخيّة التي عرفت ظهورها في مرحلة مُبكّرة من مسار الرواية العربيّة وهي الطور الجنيني، فتكون هذه العودة بمثابة استكمال لما كان قد شرع فيه الروّاد برؤية إبداعيّة مُعاصرة تمتحُ من نظريات ما بعد الحداثة، خاصّةً وقد “تشكّلَ في أثناء هذه المُدّةِ متنٌ نقديٌّ خِصبٌ ومتنوّع اغتنى بأفكار فلسفيّة ونقديّة مُتباينة يدورُ حول الكشْف عن شعريّة هذا الانشغال الجديد بالرواية التاريخيّة بشكل عام، والرواية الميتاروائيّة بشكل أخصّ”[4]، عاضَدَ هذا الجهد النقدي مراكمة في الفعل الإبداعي فتتالت المنجزات الروائيّة نذكر من بينها “ليون الإفريقي” لأمين معلوف و”عزازيل” ليوسف زيدان و”جنوب غرب طروادة” و”جنوب شرق قرطاجة” لإبراهيم الكوني و”باب العلوج” و”باب الفلّة” و”عام الفزوع” لحسنين بن عمو و”دفاتر الجلاد موسى” و”عفريت القائد عيّاد” لمنوبي زيود؛ لتثير هذه الروايات عددًا من الإشكالات في علاقة بالتمثّلات والعلاقة بين الآني والمرجع التاريخي وغير ذلك، وحدود التبادل بين المتخيل والتاريخي، ونسبة وجود كلِّ واحدٍ منهما في الآخر… وهو ما سنحاول التطرّق إليه في القسم الثاني.
2- تخييل التاريخي وتأريخ الروائي في رواية عفريت القائد عيّاد:
يُمكنُ تعريفُ الرواية التاريخيّةِ على أنّها منطقة وُسطى بين الرواية (خطاب سردي قوامهُ التّخييل) والتاريخ (خطاب سردي قوامه التطابق والمشاكلة)، غير أنَّ الإشكال الذي يُطرح في هذا الصّددِ: ما نسبة حضور التاريخ في الخطاب الروائي؟، هل هي نسبة تفوق (<) أم تقلُّ (>) أم تساوي (=) نسبة التخييل؟ إنّ توسيع حدود النظر في مُدوّنة النصوص الروائية التاريخيّة يُحيلنا إلى معادلة غير متكافئة تُرجّحُ ميلان كفّة التاريخ على حساب التخييل أو العكس؛ فـ”إمَّا أن يطغى التاريخي ويكون الروائي مُجرّد مطيّة لإحياء التاريخ… أو أن تكون الروايةُ أصلًا والتاريخُ حلية لا غير”[5]، فتكون الرواية وفقًا لذلك إمَّا خادمة للتاريخ أو مُستخدمةً لهُ. هذا التبادل بين المتخيّل والمرجعي أنتج “كونًا خياليًّا تضمحلُّ فيه العلاقة التقابليّة القائمة على الانعكاس وتحلُّ محلّها علاقة تواشج وتنافذ تقوم على الحوار”[6].
في روايته “عفريت القائد عيّاد”[7] يُحاول “المنوبي زيّود” تسليط الضوء على فترة من أحلك الفترات التي مرّت بها جزيرة جربة خلال القرن التاسع عشر إبّان حكم عائلة بن عيّاد، وهي عائلة حكمت زمن الدّولة الحُسينيّة بين سنتي 1172ه/ 1759م و1264ه/ 1848م على مرحلتين؛ الأولى منذ سنة 1172ه حتى سنة 1209ه، والأخرى منذ سنة 1229ه حتى سنة 1264ه تخلّلهما حكم كلٍّ من القائد محمد قارة والحاج علي الجزيري ومحمد المورالي، وأوّل من تولّى الحكم من أبنائها “الشيخ أبو الفضل قاسم بن عيّاد” حسب ما ذكر الشيخ سالم بن يعقوب في مؤلّفه تاريخ جربة وعلمائها[8]، ثمّ خلفه ابنه حميدة بن قاسم بن عيّاد سنة 1209ه/ 1794م حسب ما ذكر يوسف الباروني في كتابه “جزيرة جربة في موكب التاريخ”[9] دون أن يُحدّد عددَ مَن حكموا من هذه العائلة؛ لكنَّ الشيخ سالم بن يعقوب ذكرهم تباعًا محدّدًا فترة حكم كلِّ واحد منهم[10]، ونُلاحظُ أنَّ “المنوبي زيّود” قد غفل سهوًا، أو عمد قصدًا، عن ذكر مَنْ مِنْ حكّام عائلة بن عيّاد كان يقصدُ؟
تساعدنا بعض الإشارات الطفيفة في النصِّ على حصر شخصيّة القائد عيّاد المُتحدّث عنها في النصِّ في شخص محمد بن حميدة بن عيّاد المُكنّى بأبي عبد الله، والّذي عرّفه ابن أبي الضياف في كتابه إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان في جزئه الثامن بقوله: “نشأ هذا الوجيه في خدمةِ الدّولةِ، مُتفيِّئًا ظلالها، وبيتُهم في خدمة الدّولة معروفٌ… واستكفى به الوزير شاكير صاحب الطابع، واعتمد رأيهُ في أمورهِ، وبرأيه تقدّم… ثُمَّ إنَّ هذا الوزير تنكّر لابن عيّاد”[11]، لا سيما وقد تحدّث الكاتب عن علاقتهِ بشاكير صاحب الطابع الذي تولى منصب الوزير الأول بين 1829 و1837 التي بدأت تسوء، وعن حضوره زواج المُشير أحمد باشا باي بالأميرة آمنة المعروفة باسم منّانة، وعام الوباء الذي اجتاح الإيالة التونسية سنة 1849…، بيد أنّ التقدُّم في التعريف الذي أورده ابن أبي الضياف حول هذه الشخصيّة سرعان ما يجعلنا نعدلُ عن تخميننا هذا عندما يقول: “وكان هذا الرّجُلُ من أفراد الدُّنيا… غيورًا على أهل جربة، يرى صغيرهم ابنًا وكبيرهم أخًا، يقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم، معاونًا لهم على نوائب الدّهر”[12]، وهو ما لا يتوافق مع ما صوّره الكاتب وما استقرَّ في الذّاكرة الشعبيّة المحليّة من جور هذا القائد وبطشه الذي أثقل كاهل الأهالي بالضرائب المُشطّة، وحكَم بقبضة من حديد خاصّة وأنّ أبا عبد الله محمد بن عيّاد قد التزم منذ جمادى الآخرة من سنة 1257ه/ 1841م وظيفة دار الجلد بسبعمئة ألف ريال، كما أشار إلى ذلك ابن أبي الضياف[13]؛ وهو ما يجعلنا نرجّح أحد ابنيْ محمد بن عيّاد؛ إمّا القائد عبد الرّحمن بن محمّد بن عيّاد الذي تولّى الحكم سنة 1240ه واستمرّ في هذه الخطّة خمس سنوات، وهي الفترة التي جرت فيها معظم أحداث الرواية، أو ابنه محمود المعروف باختلاس مداخيل الحكومة والتي أرسلها “إلى فرنسا واحتال على السّراح للسفر إلى هناك للتداوي عندما علم هو وشريكهُ أنّ عاقبته وخيمة وأحس بمباديها، وسرحه الوالي ولم يُحاسبه الوزير حتى سافر من غير حساب، فلما سافر إلى هناك احتمى بدولة فرنسا وأعلن بعدم الرّجوع”[14]، رغم ما أدخله “زيّود” من تعديلات على التاريخ الرّسمي وما أضفاه من تحويرات خدمةً لمُقتضيات الكتابة الروائيّة أعادت إنتاج التاريخ وفق إحداثيات جديدة؛ إلا أن “هناك فرقًا بين استعادة الماضي واستخدامه”[15] في الرواية التاريخية، ومن غير الجدير بالاهتمام البحث في “صحّة تاريخيّة الأحداث أو تعقّب القرائن التي تكشف ذلك”[16]، بقدر الاهتمام بكيفية تمثل هذا التاريخ والاستفادة منه في نسج خيوط الحكاية؛ لنجد أنفسنا أمام تاريخين: “الأول التاريخ الموضوعي، الذي يشمل حدوث واقعة ما في زمن محدد وجريان حسي معلوم. الثاني هو التاريخ المروي عن هذا التاريخ. الثاني، أكتابيًّا كان أم شفاهيًا، ليس جزءًا عضويًّا من الواقعة؛ لكنه جزء تاريخي أيضًا بحكم الزمن، وجزء تاريخي بحكم صلته التفاعلية، باعتباره حزمة من التصورات السلبية أو الإيجابية عن الحدث التاريخي الفعلي. إنه ردود الفعل البشرية على الحدث، وعلاقة الحدث بالمحيط والبيئة الثقافية والسياسية والاجتماعية التي أنتجته، وصلته بتطور أشكال الوعي الاجتماعي ووسائل بنائه. إن ما نسمِّيه عادةً بالتاريخ، هو النسخة الذاتية (فردية أو جماعية) للحدث التاريخي الموضوعي الموجود باستقلال عن الوعي، إنه تاريخ مكمِّل، واستطالة تأثرية بالتاريخ الواقعي”[17].
يتّخذُ منوبي زيود في رواية عفريت القائد عيّاد من التاريخ الرسمي المحلي لجزيرة جربة مُتّكأً ومنطلقًا لنسج خيوط حكايات فرعيّة متخيّلة تُعنى بالمهمشين والمنسيين؛ فيترك القصر والقائد وحاشيته ويُركّزُ النّظر على المدحورين اجتماعيًّا وطبقيًّا ودينيًّا، لعلَّ أهمّها قصّة زبيدة زوجة القائد مع عبدها مسعود، ويبدو أنَّ “زيّود” قد تأثّر كثيرًا برواية برق الليل لبشير خريَّف والتي تدور أحداثها في فترة مُتقدّمة نسبيًّا عن الفترة التي جرت فيها أحداث “عفريت القائد عيّاد”، غير أنَّ الروايتين تتقاطعان في إسناد الكاتبيْن البطولة إلى شخصيّة خياليّة هي الزّنجي برق الليل – الزنجي مسعود، الأوّل تربطهُ علاقة حُبٍّ بسيّدة حسناء سافر زوجها إلى البقاع المقدّسة، أمّا الآخر فربطتهُ علاقة حبٍّ بمالكته، وهما علاقتا حُبٍّ حالت دونهما المواضعات والأعراف الاجتماعيّة.
لم يُلغِ هذا التوظيفُ للمتخيّل المرجعي “ففي الرواية التاريخيّة يُبدع الروائي كونًا مُتخيّلًا روائيًّا يتألّف من عناصر متخيّلة وأخرى واقعيّة في آنٍ واحد، فالتاريخ الحقيقي موجود في الرواية ممتزج بقصة متخيلة مرتبط بها”[18]؛ إذ تدور معظم أحداث الرواية في قرية صدغيان، أين يوجد قصر القائد بن عيّاد وما جاورها من قرى الجزيرة، منها ما زال قائمَ الوجود، كغار مجماج وجامع سيدي زايد وسوق حومة السوق وسانية البرجي، ومنها ما اندثر كمرسى التفّاح (نزل دار جربة حاليًّا) الذي كان مرفأً للسفن التي تخرج محمّلة بهذه الغلّة الشهيرة لقصر الباي بالعاصمة أوهنشير الغولة أو تغيّر كغابة سدويكش “التي كانت تدرُّ على المجبي آلاف الريالات”[19]. ونلاحظ أنَّ هذه الأماكن التاريخيّة استأثرت بجلِّ الأحداث، أمّا الأماكن المُتخيّلة كغار الكلب مثلًا فكانت مجرّد محطات انتقاليّة لشخصيات الرواية، وفي الواقع حتّى الأماكن الواقعيّة لم تكن لها تلك القيمة الفنيّة المتّفق عليها باستثناء وجودها التاريخي. ويعمدُ السّاردُ إلى استدعاء أحداث تاريخيّة متقاربة زمانيًّا كالتاريخ الذي ألحقهُ بأمر الباي فيما يخصُّ إبطال تقدير الزكاة بالظنّ والحدس بتاريخ غرة ربيع الأوّل 1243ه، وعام الوباء الذي حلّ بجربة سنة 1244ه وهو “وباء لم يُبق من الخلق إلّا القليل وشبّهوه بالوباء الجارف الواقع في صدر الإسلام، وتوفّي فيه الولي الصالح الشيخ يعيش بن موسى الخيري وطلبته عن آخرهم”[20]، “إنَّ هذه الأوتاد التاريخيّة تضطلعُ بدور أساسٍ في تدجين التخييل الروائي وشدّهِ إلى أرضيّة ثابتة هي بمثابة العمود الفقري أو النواة التي تنشأ حولها هباءات توجد لنفسها مدارات تشُدُّها إلى تلك النواة”[21]، فكاتب الرواية التاريخيّة وإنْ غلّبَ الجانبَ المُتخيّل على الجانب المرجعي مطالبًا بأن ينزّل الشخصيّات والأحداث في إطار زماني… قوامه المشاكلة”[22]، ولمزيد من الإمعان في إضفاء الواقعيّة على الأحداث يعمدُ الكاتبُ إلى استدعاء شخصيّات مرجعيّة إمّا ذكرًا مُجملًا لا تفصيل فيه بذكر ألقابها، كعائلات الشماخي وابن حمزة وابن يعقوب والتنكار والفساطوي واليونسي، أو كناها أو صفتها كشيوخ الأخماس ومشائخ العزابة، آغا النوبة والبولكباشيّة والإنكشاريين، شيخ بني ديس وإمام جامع القصبيين، أو بذكر اسمها والسكوت عن لقبها كالشيخ عبد الرحمن مُدرّس الفقه وعلم الكلام أو يحيى ممثّل العزّابة عن حومة غيزن، أو بذكر لقبها والتعمية عن اسمها كالشيخ المصعبي، أو بذكر اسمها ولقبها مثل اليهودي داويد بيرص، وأحمد بن سعيد الشماخي وقاسم بن يحيى الشماخي. ينضاف إلى هذه الشخصيات المرجعيّة أخرى متخيّلة كزبيدة زوجة القائد وشقيقها عبد الجبّار ومسعود الزنجي والخادم حمدان وزوجته صفيّة والشيخ بركة وحمودة حفيظ جامع الشيخ. وهو توظيف كان لغاية إنماء الأحداث؛ إذْ “توفر الشخصية الخيالية المزيد من الحرية لمبدعها؛ ولكن يجب أن تمتزج مع الوقت. العمل الوثائقي لمطابقة مثل هذه الشخصية مع القصة هو أمر ضروري، وأحيانًا يكون أكثر صعوبةً، مقارنةً بالشخصية التاريخية. هذا التمرين محفوف بالمخاطر؛ لأن الفترة والبيئة الموصوفة غريبة على المؤلف: لقد أكد جورج دوبي على الصعوبة الشديدة في تخيل عقلية رجل من العصور الوسطى اليوم؛ لكن على الروائي أن يجربها”[23]. ولا يتوقّفُ الأمر عند هذا الحدّ؛ بل يعمدُ الكاتب إلى إسناد أعمال تاريخيّة إلى شخصيات متخيّلة”، ومن ثمَّ فإنَّ الشخصيّة في الرواية التاريخيّة محلٌّ يتقاطعُ فيه التاريخي والروائي، والعام والخاص والمرجعي والجمالي”[24].
إن ما يُلاحظ في رواية عفريت القائد عيّاد تغليب الراوي التخييل على الواقع؛ بل إنَّ حضور التاريخ كان لمجرّد الإيهام بالواقعيّة وشدِّ الأحداث إلى أرض الواقع دون نسف المرجعي أو تشويهه؛ إذْ “لا يمكن اعتبار سرد وقائع التاريخ – أو التأريخ – أمرًا حقيقيًّا من جهة أنّه مهمّة تعكف على ذكر الوقائع مثلما حدثت. ولا يجب أن نعتبره أمرًا مجانبًا لأي شكل من أشكال المحاضر الساردة للوقائع الحقيقية أو للحقيقة مثلما جرت العادة. إذا ما افترضنا جدلًا بأن التاريخ هو سرد – عندما يكون فعلًا سردًا – للوقائع التي حدثت فعلًا، فإن هذا السّرد تنجر عنه أحداث أخرى، دون تأثير منه”[25]، فلم تكن غاية منوبي زيود نقل الوقائع التاريخيّة بدقائقها وتفاصيلها كلها؛ بل كانت رغبة في الانفتاح على مشاغل الواقع وقضاياه؛ إذ لا يُمكننا قراءة هذا الخطاب الروائي دون ربطه بالوضع السياسي السائد زمن كتابته (فترة حكم بن علي)، ليغدو التاريخ بذلك قناعًا على حد عبارة محمد القاضي يتخفّى وراءه السارد، ليلغ ما يؤرّقه ويعالج قضايا حاضره.
[1] يُشيرُ جورج لوكاتش (1885-1971) أنّ الرواية التاريخيّة عرفت نشأتها أوائل القرن التاسع عشر، تقريبًا فترة سُقوط نابليون بونابرت، وفي سياق حديثه عن الظروف الاجتماعيّة والتاريخيّة لنشأة الرواية التاريخيّة يؤكّدُ أنّ الثورة الفرنسيّة وتداعياتها كانت القاعدة التاريخيّة التي بُني عليها روايات والتر سكوت التاريخيّة. انظر:
Gérard Vindt et Nicole Giraud, Les grands romans historiques, L’Histoire à travers les romans, Édition: Gilbert Labrune, p 12.
[2] إكناتي كراتشكو فسكي، الرواية التاريخيّة في الأدب العربي الحديث ودراسات أخرى، ترجمة وتقديم: عبد الرحيم عطاوي، دار الكلام للنشر والتوزيع، ص23.
[3] محمد القاضي، الرواية والتاريخ، دراسات في التخييل المرجعي، دار المعرفة للنشر، تونس، ط1، 2008، ص30.
[4] فاضل ثامر، التأريخي والسردي في الرواية العربيّة، ابن نديم للنّشر والتوزيع، دار روافد الثقافيّة، ناشرون، ط1، 2018، ص15.
[5] سعديّة بن سالم، التبادل الروائي والتاريخي في رواية بلارة للبشير خريّف، الحياة الثقافيّة، العدد 287، جانفي 2018، ص96.
[6] محمد القاضي، الرواية والتاريخ، دراسات في التخييل المرجعي، ص80.
[7] منوبي زيّود، عفريت القائد عيّاد، المغاربية للطباعة والنّشر والإشهار، تونس، 2006.
[8] الشيخ سالم بن يعقوب، تاريخ جربة وعلمائها الإباضيّة، 2009.
[9] يوسف بن أمحمد الباروني، جزيرة جربة في موكب التاريخ، كتاب مخطوط، تحقيق وإعداد: سعيد بن يوسف الباروني، منشور بالموقع الإلكتروني للمكتبة البارونية http://elbarounia.com/LIVRE_youssef.pdf، ص ص51-53.
[10] الشيخ سالم بن يعقوب، ص92.
[11] أحمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، تحقيق: لجنة من وزارة الثقافة، الدار العربية للكتاب، المجلد الرابع، الجزء الثامن، ص ص89-90.
[12] المرجع السابق، ص90.
[13] المرجع السابق، المجلد الثاني، الجزء الرابع، ص55.
[14] محمد بيرم الخامس التونسي، صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار، الجزء الأوّل، دار الكتب العلمية، 1997، ص218.
[15] Christine Di Benedetto, Quelques modalités d’intégration de l’histoire récente dans le roman espagnol de la fin du millénaire, https://journals.openedition.org/narratologie/767#ftn5
[16] Ibid.
[17] سلام عبود، حدود التاريخ في الرواية التاريخية، موقع معابر، http://maaber.50megs.com/issue_november12/literature1.htm
[18] André Daspre, Roman historique et histoire, Revue d’histoire littéraire de la France, Mars,Juin, 1975, p 235.
[19] المنوبي زيّود، عفريت القائد عيّاد، ص137.
[20] محمد أبو راس الجربي، مؤنس الأحبّة في أخبار جربة، حقّقه ومهّد له: محمد المرزوقي، قدّم لهُ: حسن حسني عبد الوهاب، نشريات المعهد القومي للآثار والفنون بتونس، 1960، ص127.
[21] محمد القاضي، الرواية والتاريخ، دراسات في التخييل المرجعي، ص96.
[22] المرجع السابق، ص25.
[23] Gérard Vindt et Nicole Giraud, Les grands romans historiques, L ‘Histoire à travers les romans, p 13.
[24] محمد القاضي، الرواية والتاريخ، دراسات في التخييل المرجعي، ص37.
[25]Michel Vanoosthuyse, Le roman historique: Mann, Brecht, Döblin, perspectives germaniques, 1996, p 39.
قائمة المصادر والمراجع:
- المصادر:
منوبي زيّود، عفريت القائد عيّاد، المغاربية للطباعة والنّشر والإشهار، تونس، 2006.
- المراجع:
- العربيّة:
إكناتي كراتشكو فسكي، الرواية التاريخيّة في الأدب العربي الحديث ودراسات أخرى، ترجمة وتقديم: عبد الرحيم عطاوي، دار الكلام للنشر والتوزيع.
محمد القاضي، الرواية والتاريخ، دراسات في التخييل المرجعي، دار المعرفة للنشر، تونس، ط1، 2008.
فاضل ثامر، التأريخي والسردي في الرواية العربيّة، ابن نديم للنّشر والتوزيع، دار روافد الثقافيّة، ناشرون، ط1، 2018.
سعديّة بن سالم، التبادل الروائي والتاريخي في رواية بلارة للبشير خريّف، الحياة الثقافيّة، العدد 287، جانفي 2018.
الشيخ سالم بن يعقوب، تاريخ جربة وعلمائها الإباضيّة، 2009.
يوسف بن أمحمد الباروني، جزيرة جربة في موكب التاريخ، كتاب مخطوط، تحقيق وإعداد: سعيد بن يوسف الباروني، منشور بالموقع الإلكتروني للمكتبة البارونية http://elbarounia.com/LIVRE_youssef.pdf
أحمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، تحقيق لجنة من وزارة الثقافة، الدار العربية للكتاب، المجلد الرابع، الجزء الثامن.
محمد بيرم الخامس التونسي، صفوة الاعتبار بمستودع الأمصار والأقطار، الجزء الأوّل، دار الكتب العلمية، 1997.
سلام عبود، حدود التاريخ في الرواية التاريخية، موقع معابر، http://maaber.50megs.com/issue_november12/literature1.htm
محمد أبو راس الجربي، مؤنس الأحبّة في أخبار جربة، حقّقه ومهّد له: محمد المرزوقي، قدّم لهُ حسن حسني عبد الوهاب، نشريات المعهد القومي للآثار والفنون بتونس، 1960.
- الأجنبيّة:
Gérard Vindt et Nicole Giraud, Les grands romans historiques, L’Histoire à travers les romans, Édition: Gilbert Labrune.
Christine Di Benedetto, Quelques modalités d’intégration de l’histoire récente dans le roman espagnol de la fin du millénaire, https://journals.openedition.org/narratologie/767#ftn5
André Daspre, Roman historique et histoire, Revue d’histoire littéraire de la France, Mars,Juin, 1975.
Michel Vanoosthuyse, Le roman historique: Mann, Brecht, Döblin, perspectives germaniques, 1996.