غالبًا ما يُنسب الفضل إلى الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت في اكتشاف معضلة العقل والجسد، وهو لغزٌ لا يزال يطارد الفلاسفة حتى يومنا هذا، ولكنّ الواقع أعقد من ذلك.
قلّب نظرك في جسد الإنسان، بكل ما بداخله، من أعضاء وأجزاء داخلية وخارجية؛ المعدة والأعصاب والدماغ والذراعين والساقين والعينين؛ وكل ما فيه. من المدهش -حتى مع كل هذه العتاد؛ بما فيه الأعضاء الحسية- أن نتمكن من إدراك الأشياء البعيدة عنا في العالم إدراكًا واعيًا؛ إذْ إنني قادر -على سبيل المثال- على فتح عينيّ في الصباح ورؤية كوب من القهوة في انتظاري على طاولة السرير. هناك، على بعد قدم، وأنا لا ألمسهُ، لكنهُ بطريقةٍ ما يُظهرُ نفسه لي. كيف أراه؟ كيف ينقل النظام البصري إلى وعيي أو ذهني صورةَ فنجانِ القهوة؟
الجواب ليس بتلك البساطة. مفاد التفسير الفيزيائي لذلك هو أن الضوء يدخل عيني من فنجان القهوة، وهذا الضوء يصطدم بشبكيتين في خلفية العينين. كما تعلمنا بعد ذلك من العلوم الفسيولوجية، ترسل شبكتا العين إشارات كهربائية تتجاوز التصالب البصري أسفل العصب البصري، ثم تُنقل هذه الإشارات إلى ما يسمى بالقشرة البصرية في الجزء الخلفي من الدماغ؛ وبعدها، تحدث المعجزة: تنشط القشرة البصرية، وأرى فنجان القهوة. حتى أننا قد نقول أنا أعي الفنجان، على الرغم من أنه ليس من الواضح ما يعنيه هذا وكيف يختلف عن القول إنني أرى الفنجان.
قبل ثواني من رؤية الفنجان كانت الخلايا العصبية تنقل الإشارات الكهربائية فيما بينها، ولا توجد صورة لفنجان القهوة، وفي لحظات، ها هو؛ أرى فنجان القهوة على بُعدِ قدم. كيف تواصل معي عصبوني أو عقلي أو وعيي، وطُبعت هناك صورة فنجان القهوة؟
إنه لغز، هذا اللغز هو معضلة العقل والجسد.
إن معضلة العقل والجسد لدينا ليست مجرد صعوبة متعلقة بكيفية ارتباط العقل بالجسد، وكيف يؤثر كل منهما على الآخر؛ بل الصعوبة تكتنف أيضًا كيفية ارتباطهما وكيف يمكن أن يؤثر كل منهما على الآخر. إن خصائصهما المميزة مختلفة تمامًا، مثل الزيت والماء، والتي ببساطة لن تختلطا، بالنظر إلى طبيعتهما.
توجد وجهة نظر شائعة جدًا مفادها أن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت اكتشف أو اخترع هذه المعضلة في القرن السابع عشر. حسب ديكارت، المادة هي أساسًا مكانية، ولها الخصائص المميزة للأبعاد الخطية. الأشياء في الفضاء لها حيزٌ؛ أي لها -على أقل تقدير- ارتفاع وعمق وطول. من ناحية أخرى، لا تمتلك الكيانات العقلية هذه الخصائص. إذْ إننا لا نقول إن العقل عبارة عن مكعب مساحته 2 × 2 × 2 بوصة، أو كرة نصف قطرها بوصتان، تقع في حيز الفضاء داخل الجمجمة. ليس لأن له شكل آخر في الفضاء، ولكن لأنه يستحيل تعيينه وتحديده بالمكان[/الفضاء].
يقول ديكارت إن ما يميز العقل هو أنه واعٍ، وليس أن له شكلًا أو يتكون من مادة فيزيائية. على عكس الدماغ، الذي يتمتع بخصائص فيزيائية ويحتل حيزًا، إذْ لا يبدو منطقيًا وصفه بالأوصاف المكانية. باختصار، أجسادنا موجودة بالتأكيد في الفضاء، ولكن عقولنا ليست كذلك، وبعبارة مباشرة: تخصيص الأبعاد والمواقع الخطية للعقل أو لمحتوياته وأنشطته أمرٌ غيرُ مفهوم. ومن اللافت للنظر أن هذا الاختبار المباشر لمادية الشيء قد بقيَ رغم جميع التغييرات الفلسفية منذ ديكارت.
أثارت هذه المعضلة اهتمامًا كبيرًا بعد نشر أطروحة ديكارت عام 1641 »تأملات في الفلسفة الأولى« والتي تضمنت الطبعة الأولى منها اعتراضات على ديكارت كتبها مجموعة من مفكرين متميزين ومعاصرين له، وردود الفيلسوف عليها. على الرغم من أننا نجد في «التأملات» نفسها التمييز بين العقل والجسد، الذي رسمه ديكارت بحدة، إلا أنه في الواقع لم يذكر معضلة العقل والجسد. لا ينزعج ديكارت من حقيقة أن العقل والمادة، كما وصفهما، مختلفان تمامًا: أحدهما مكاني والآخر ليس كذلك؛ وعليه، يستحيل أن يؤثر أحدهما على الآخر. كتب ديكارت في رده على أحد الاعتراضات: «لا يرد الإشكال في مثل هذه الأسئلة إلا من افتراض خاطئ يستحيل إثباته بأي شكل من الأشكال؛ ألا وهو: إذا كان الجسد والروح من طبيعتين مختلفين؛ فإن ذلك يمنع تأثير أحدهما على الآخر».
من المؤكد أن ديكارت محقٌ في هذا: فـ«طبيعة» حلوى ألاسكا المخبوزة، على سبيل المثال، تختلف تمامًا عن طبيعة الإنسان، لأن أحدهما حلوى والآخر إنسان، ولكن قد يؤثر أحدهما على الآخر دون صعوبة، لأنه على سبيل المثال، عندما يأكل الإنسان حلوى ألاسكا المخبوزة؛ قد تتفاعل معه هذه الحلوى بالمقابل بألم في المعدة [فاختلاف الطبيعة لا يحول دون تأثير أحدهما على الآخر].
لكن مكمن الصعوبة ليس أن العقل والجسد من طبيعتين مختلفتين؛ بل لأنهما مختلفان اختلافًا يستحيل معه تأثير أحدهما على الآخر؛ لأن ذلك ينطوي على تناقض. فكما قال ديكارت إنّ من طبيعة الأجساد أن تكون في الفضاء، ومن طبيعة العقول ألا تكون فيه؛ فلكي يتفاعل العقل والجسد؛ لا بد أن يؤثر ما ليس في الفضاء على ما في الفضاء، ولكن يحدث الفعل على الجسد في مكان في الفضاء؛ حيث الجسد. ويبدو أن ديكارت لم ير ذلك على أنه مشكلة. ومع ذلك، فقد ذكرها بوضوح اثنان من منتقديه، الفيلسوفان الأميرة إليزابيث من بوهيميا وبيير غاسندي. وقد أشارا إلى أنه إذا كانت الروح ستؤثر على الجسد فعليها أن تتصل به، ولكي تفعل ذلك يجب أن تكون في الفضاء، ولها امتداد. في هذه الحالة، تكون الروح جسدية بمعيار ديكارت.
كتبت الأميرة إليزابيث إلى ديكارت في رسالة مؤرخة في مايو 1643: «أتوسل إليك أن تخبرني كيف يعقل للروح البشرية -كون الروح مجرد جوهر واعي- أن تحدد حركة الأرواح الحيوانية في الجسد لأداء الأعمال الإرادية. لأن تحديد الحركة يبدو أنه دائمًا يأتي من دفع الجسم المتحرك؛ أي أن الجسم المتحرك يعتمد على نوع المحرّك الذي يحركه، أو لأقولها مجددًا، على طبيعة سطح هذا الشيء الأخير وشكله. الآن الشرطان الأولان ينطويان على الاتصال، والثالث يتضمن أن الدافع [الشيء] له امتداد؛ لكنك تستبعد تمامًا الامتداد من مفهومك عن الروح، ويبدو لي الاتصال غير متوافق مع كون الشيء غير مادي».
يتطلب الدفع و «نوع المحرك» الذي يحرّك الجسد اتصالًا، وتتطلب «طبيعة وشكل» سطح الموقع الذي يتم فيه الاتصال بالجسم امتدادًا. نحتاج إلى توضيحيين إضافيين لفهم هذه الفقرة.
التوضيح الأول: عندما ذكر وديكارت و الأميرة إليزابيث «الأرواح الحيوانية» (العبارة مأخوذة من الطبيب والفيلسوف اليوناني القديم جالينوس) فهما يعنيان شيئًا يماثل ما تقوم به الإشارات العصبية تقريبًا في الألياف العصبية في وظائف الأعضاء الحديث. لم تكن الأرواح الحيوانية أرواحًا بمعنى المظهر الشَبَحِي بالنسبة لديكارت، ولكنها جزء من نظرية زعمت أن العضلات دُفِعَت عن طريق الانتفاخ بالهواء، ما يسمى نظرية المنطاد. لقد كانت الأرواح الحيوانية عبارة عن تيارات هوائية تضخم العضلات. («الحيوانية» Animal لا تعني الوحوش المعروفة، ولكنه صفة مشتقة من anima؛ أي الروح).
التوضيح الثاني: عندما كتبت الأميرة إليزابيث «أنك تستبعد تمامًا الامتداد من مفهومك عن الروح»، فإنها تشير إلى أن ديكارت يُعَرّف العقل والمادة تعريفًا يستبعد أحدها الآخر. العقل هو الوعي، الذي ليس له امتداد أو بعد مكاني، والمادة ليست واعية؛ لأنها محددة تمامًا من خلال أبعادها المكانية وموقعها. فتعترض إليزابيث بقولها إنّ العقل يفتقر إلى الموقع والأبعاد المكانية، فلا يمكنه الاتصال بالمادة. وهنا تحديدًا نرى معضلة العقل والجسد بأبهى صورِها.
ديكارت نفسه لم يرَ بعد معضلة العقل والجسد؛ بل كان لديه – في نظره- شيء يرقى إلى حل المعضلة. كان منتقدوه هم الذين اكتشفوا المعضلة في حل ديكارت لها، على الرغم أنه من الصحيح أيضًا أن الأمر كان واضحًا بسبب تمييز ديكارت الحاد بين العقل والجسد. تضمن التمييز الخصائص المحددة أو «السمات الرئيسية»، كما أسماها، للعقل والجسد، وهي الوعي والامتداد.
على الرغم من أن ديكارت كان محقًا بلا شك في أن أشياءً التي لها طبيعة مختلفة جدًا قد تتفاعل مع بعضها بعضًا، إلا أنه في الواقع لم يكن محقًا في تفسيره لكيفية تفاعل أشياء لها طبيعة مختلفة من قبيل اختلاف طبيعة العقل والجسد. كان اقتراحه، في رسالته الفلسفية الأخيرة؛ «انفعالات الروح»، أنهما يتفاعلان من خلال الغدة الصنوبرية، التي هي، كما كتب، «المقر الرئيس للروح» والتي تحركها الروح لتُحرك الأرواح الحيوانية أو تيارات الهواء من الحويصلات المجاورة لها. كان لديه أسبابه لاختيار هذا العضو، حيث أن الغدة الصنوبرية صغيرة وخفيفة وليست ثنائية الجانب وموقعها مركزي. مع ذلك فإن الفكرة برمتها محكوم عليها بالفشل منذ البداية؛ لأن الغدة الصنوبرية مادية مثل أي جزء آخر من الجسد. إذا كانت هناك معضلة حول كيفية تأثير العقل على الجسد، فستظهر نفس المشكلة حول كيفية تأثير العقل على الغدة الصنوبرية، حتى لو وجدت رواية محكمة تحكيها عن المكونات الهيدروليكية للـ«هوائي pneumatic» أو الجهاز العصبي.
ورثنا التمييز الحاد بين العقل والجسد -وإنْ لم يكن ذلك بنفس صياغة ديكارت للتمييز- لكننا لم نرث حل ديكارت لمعضلة العقل والجسد. إذن، تبقى لدينا المعضلة، مطروحًا منها الحل. نحن نرى أن التجارب التي نمتلكها، مثل رؤية اللون، هي في الواقع مختلفة تمامًا عن الإشعاع الكهرومغناطيسي الذي ينتجها، أو عن نشاط الخلايا العصبية في الدماغ. لا بد أن نتساءل: كيف يمكن للإشعاع غير الملون أن ينتج اللون، حتى لو كان يمكن تتبع آثاره بقدر الخلايا العصبية في القشرة البصرية. بعبارة أخرى، نحن نميز بشكل حاد بين الفيزياء وعلم وظائف الأعضاء أو الفيسيولوجيا من ناحية، وعلم النفس من ناحية أخرى، دون طريقة مبدئية تربط بينهما. تتكون الفيزياء من مجموعة من المفاهيم التي تشمل الكتلة والسرعة والإلكترون والموجة وما إلى ذلك، ولكنها لا تشمل مفاهيم مثل الأحمر والأصفر والأسود وما شابه ذلك. يتضمن علم وظائف الأعضاء مفاهيم الخلايا العصبية والخلية الدبقية والقشرة البصرية وما إلى ذلك، ولكنه لا يشمل مفهوم اللون. في إطار النظرية العلمية الحالية، يعتبر مصطلح «الأحمر» مصطلحًا نفسيًا، وليس مصطلحًا ماديًا. إذن، قد نصف معضلتنا بشكل عام على أنها صعوبة وصف العلاقة بين الجسدي والنفسي، حيث -كما لاحظ أدركت وغاسندي والأميرة إليزابيث- أنهما يشتركان في مضامين المصطلحين [النفسي والمادي].
ألم تكن هناك معضلة عقل وجسد قبل ديكارت ونقاشاتهِ مع منتقديه عام 1641؟ بالطبع، قبل ديكارت بزمن طويل، تحدث الفلاسفة والمفكرون الدينيون عن الجسد والعقل أو الروح وعلاقتهما. كتب أفلاطون، على سبيل المثال، حوارًا رائعًا، «الفيدو» أو «عن النفس»، والذي يحتوي على حجج لبقاء الروح بعد الموت، وخلودها. ومع ذلك، وجود الروح أو العقل في الجسد -ومن ثم تركه- لم يكن إشكالًا مطروحًا على أفلاطون؛ إذْ اْنصبَ اهتمامه على حقيقة أن الروح تبقى بعد الموت، وليس كيف، أو بأي معنى يمكن أن تكون في الجسد. وينطبق الشيء نفسه على المفكرين الدينيين؛ فقد كان همهم هو الإنسان -وربما على منفعة الجسد- ولكن تركز اهتمامهم الأساس على منفعة ومستقبل الروح البشرية. إنهم لا يصوغون مشكلة تتعلق بالدقة التقنية التي فُرِضَت على الأميرة إليزابيث وغاسندي بواسطة ثنائية ديكارت التي حددها تحديدًا دقيقًا.
من الواضح أن شيئًا مهمًا قد تغير في توجهنا الفكري خلال منتصف القرن السابع عشر؛ إذْ أصبحت التفسيرات الميكانيكية هي النظام السائد آنذاك -مثل تفسير ديكارت للجهاز العصبي بنظرية المنطاد- ولكن هذه التفسيرات تركت سؤالًا دون جواب: بمَ نفسر العقل البشري والوعي البشري من وجهة النظر المادية والميكانيكية؟
ماذا يحدث -على سبيل المثال- عندما نقرر القيام بأمر بسيط مثل رفع فنجان واحتساء رشفة منه؟ يتحرك الذراع، لكن من الصعب أن نفهم كيف يمكن للفكر أو الرغبة أن تجعل ذلك ممكنًا؛ فيبدو الأمر كما لو كان الشبح يحاول رفع فنجان القهوة. يفترض المرء أن ذراعه الشبحية ستمر ببساطة من خلال الفنجان دون التأثير عليه ودون أن تكون قادرة على التسبب في رفعه أو رفع الذراع الجسدية في الهواء.
إنّ الأمر لا يقل غرابة من أن تتسبب في إخراج مال من صراف آلي بمجرد تفكيرك بذلك على مبعدة أمتار منه؛ فلا فائدة -حينها- من الإصرار على أن عقولنا ليست مرتبطة ماديًا بآلة الصراف الآلي، وعليه، من المستحيل التأثير على مخرجات الصراف الآلي؛ لأنه لا يوجد معنى معقول نقول به معه إنها مرتبطة ماديًا بأجسادنا. وقياسًا أقول: عقولنا ليست مرتبطة ماديًا بأجسادنا! كيف يعقل ذلك إذا كانت العقول غير مادية؟ هذه هي النقطة التي أصرَّ غاسندي والأميرة إليزابيث على أهميتها بشكل أوضح ممن سبقهما؛ بمن في ذلك ديكارت نفسه.
هذه المقالة مقتطف من كتاب جوناثان ويستفال «معضلة العقل – الجسد» وهو جزء من سلسلة المعرفة لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.
(ضمن اتفافية ترجمة خاصة بمنصة معنى).