المكان الذي تقف فيه حين تتحدث إلى أحدهم سُلوكٌ انعكاسي، ويختلف من ثقافةٍ إلى أخرى.
قد لا ينتبه معظم الناس للأمر إذ إنه يحدث بعفويّة وتلقائية، إلا أنّ المسافة الجسدية التي تُبقيها بينك وبين الآخرين ليست عشوائية. ويرجِع ذلك بنسبة كبيرة إلى المكان الذي نشأت فيه والشخص الذي تتحدث إليه، وعلاوةً على ذلك فإنّ هذه المسافة تختلف من ثقافة إلى أخرى. لنفرض موقفًا التقيت فيه بإحدى معارفك في الشارع وتوقفت لسؤالها عن عملها الجديد، فستختار دون وعي أن تقف على مسافة محددة -ثقافيًا- منها. بالنسبة للأمريكيين، فإنّ محادثات الرصيف العابرة هذه ستكون مُربكة لو كانت على مقربة بحيثُ لا يفصل بين الشخص والآخر سوى مسافة بوصتين أو أقل. بينما في بُلدان أخرى، فإنّ الموقف سيبدو غريبًا إن وقفت على مسافة عدة ياردات أثناء الحديث ورفعت صوتك ليسمعك الطرف الآخر، في المثال الأول قد يتراجع الشخص الذي تتحدث إليه ويوسّع المسافة بينكما، بينما في المثال الثاني قد يتخذ خطوة لتقليص المسافة أثناء الحديث.
اتضح أنّ مسألة «مقدار المسافة التي نتركها بيننا» هذه لها مصطلح وهو «القربيّات» Proxemics ويمكن تعريفه بأنه «مقدار المسافة التي يحافظ عليها الفرد بتأثير من ثقافته». صاغَ المصطلح إدوارد هال عام 1966 وهو إحدى جوانب التواصل غير اللفظي، وقد أجرى هال مقابلات مع عدد كبير من الأشخاص من جميع أنحاء العالم لمعرفة ما إذا كان هناك انتظام في المسافة الشخصية. إذ قد تكون المسألة متعلقة بالخصوصية الشخصيّة وتندرج تحت الاختلافات الفردية، ربما يتذكّر معجبو مسلسل «ساينفيلد» الأمريكي الحلقة التي يظهر فيها صديق إيلين الجديد، الذي يلعب دوره القاضي رينهولد، ويتم وصفه على أنه «مُتحدِّث عن قرب». المضحك في الحلقة هو الإرباك الذي تسببه هذه الشخصية للشخصيات الأخرى، وبلغ ذروته في المشهد الذي يتراجع كريمر للخلف بينما يقترب «المُتحدّث عن قرب» للحديث معه، كما لو أنه يتفادى هجومًا من نوع ما، لقد لاحظ هال ارتباطًا في ذلك مع مفهوم المسافة الشخصية. في الواقع فقد استخلص قياسات دقيقة للمساحات التي تحيط بجسم الفرد، لكننا سنستغني عن الأرقام هنا ونلخّص المسافات الأربع للمساحة الشخصية التي قدّمها.
تُسمى أقرب هذه المناطق بـ «المسافة الحميمة»، وهي تتضمن ما يقع فيها اتصالًا جسديًا -كالعناق- إلى الهمس لأحد المقرّبين. من النادر أن تحدث تفاعلاتنا الاجتماعية العامة ضمن هذا المجال؛ حتى المصافحات فإنّها غالبًا تميل لكونها بعيدة عن هذا المسافة؛ حيثُ يقف طرفا التحيّة من مسافة واضحة مع مدّ الأيدي للمصافحة. المسافة الثانية تمتد إلى ما بعد المسافة الحميمة، وتسمى «المسافة الشخصية». وهي المنطقة التي يتفاعل فيها الأشخاص مع أفراد العائلة أو الأصدقاء. وبالطبع، هناك أوقات يتم فيها انتهاك المسافة الشخصية -أو حتى المسافة الحميمة- من قِبل الغرباء. هذا وارد الحدوث في الحياة اليومية، في مصعد مزدحم على سبيل المثال. ولكن، الانزعاج الذي يشعر به الناس هنا عادةً ما يكون مؤقتًا، إذ إن معظم الأوقات في المصعد لا تستغرق سوى لحظة أو اثنتين. بالنسبة لمترو أنفاق مُكتظّ بالناس فهذه حالةٌ أخرى، في هذه الحالة قد يستمر التقارب غير المرغوب فيه لفترات أطول من الوقت، مصحوبًا بالتدافع الجسدي أثناء تحرك القطار وعندما يدخل الأشخاص المقطورة ويخرجون منها. غالبًا ما يتعامل الأشخاص مع هذا الانزعاج بإخراج أنفسهم ذهنيًّا من الموقف، على سبيل المثال، بإغلاق أعينهم أو من خلال الاستماع إلى الموسيقى من خلال السماعات. في طوكيو وسيؤول وريو دي جانيرو ومدن أخرى، يوجد في قطارات الأنفاق مقطورات خاصة للنساء لتجنب انتهاك الرجال لمساحتهم الشخصية.
عندما يتعلق الأمر بالتفاعل مع المعارف، ننتقل إلى المسافة الثالثة، وهي أبعد وأوسع من المسافة الشخصية، وتُسمى بـ«المسافة الاجتماعية». أثناء الحديث مع زميل في العمل، فمن المحتمل أنك تحافظ على مسافة اجتماعية. في الواقع، لو افترضنا أنّ اثنين من زملائك في العمل تجمعهما معرفة خارج نطاق العمل لم يُكشف عنها، من المحتمل ضبطهم وهم دون وعي يقلّصون من مسافتهم من المسافة الاجتماعية إلى مسافة أكثر حميمية، ولن يدركا أنهم يرسلان إشارات واضحة للآخرين أيضًا.
أخيرًا، هناك «المسافة العامة»، وهي المسافة المستخدمة في الخطابة، يُمكننا ملاحظة أن الأفراد يقومون بعدد من التغييرات اللاواعية على سلوكهم عند التقديم أمام الجمهور. على سبيل المثال، يتحدثون عادة بصوت أعلى وقد يغيرون وضعياتهم الجسدية لإبراز أصواتهم لتمتد إلى مدى أبعد. ولكن بطبيعة الحال، فإننا لا ندرك هذه التغييرات إلا إنْ طرأ أمرٌ ما.
وليس مُفاجِئًا معرفة أن المساحة الشخصية تختلف من ثقافة إلى أخرى. في المملكة العربية السعودية على سبيل المثال، إذا اقترب شخص غريب منك للتحدث معك، فقد تجد نفسك تتراجع دون وعي -كما في حالة كريمر والمُتحدِّث عن قُرب- وفي الشرق الأوسط، فالمسافة الاجتماعية أقرب مما هي عليه في الولايات المتحدة، لذلك عندما تتراجع أثناء الحديث، قد يحاول من يتحدث معك تقليص المسافة مرة أخرى. من السهل تخيل تتابع مُحرِج على الرصيف، حيث يتراجع أحد الطرفين ويتقدم الآخر مع استمرار المحادثة.
النقطة المهمة هنا هي أن الموقفَ الذي تقف فيه عندما تتحدث إلى شخص سُلوك تلقائي. على الرغم من أنك لا تقيس المسافة جسديًا، إلا أنك تحسبها ذهنيًا، وعندما تتعارض المسافة اللازمة في عقلك مع المسافة الفعلية في الموقف؛ فإنك في هذا الموقف ستفكرفي نفسك قائلًا: لماذا يقف هذا الشخص أقرب من اللازم؟ يمكن أن تساعد نظرية هال حول المساحة الشخصية في الإجابة عن هذا السؤال. أحيانًا يقف الشخص أقرب مما نحن مُعتادون عليه لأن ذلك ما هو مُعتاد في ثقافته، وأحيانًا قد يقترب الشخص لأنه في الحقيقة انتهازي أو عدواني. وينشأ سوء تفاهم بين الثقافات المختلفة عندما نُفسِّر بعض التصرفات تفسيرًا خاطِئًا. على سبيل المثال، قد نقرر أن شخصًا ما انتهازي (تفسير شخصي) بدلاً من إدراك أن فكرته حول المسافة الاجتماعية قد تكون مختلفة (تفسير ظرفي).
في منغوليا، عندما يصطدم شخصان ببعضهما البعض عن غير قصد -مثل ركل ساق شخص بالخطأ تحت طاولة- فمن المتعارف أن يتصافحا على الفور، ليُعاد تحديد المسافة الشخصية الصحيحة اللازمة إلى حدٍّ ما. ولكن إن اصطدم بك شخص ما على رصيف مزدحم في أولان باتور -عاصمة منغوليا-، فهل يفترض بك مصافتحه أو وضع يدك على محفظتك؟ للأسف فإنّ نظرية هال ليست ذات فائدة في مثل هذه المواقف. إذن كما هو مهمٌ التنبّه لتأثير العوامل الثقافية فمن المهم أيضًا عدم المبالغة في تفسير كل شيء بها. والخلاصة أنّ معرفتك ووعيك بمفهوم «القربيّات» والجوانب الثقافية المختلفة حول مسألة المساحة الشخصية قد يجعلك تفكّر قبل اتخاذ خطوتين للخلف عندما يقتحم شخصٌ ما -حرفيًا- منطقة راحتك.
المصدر (ضمن اتفافية ترجمة خاصة بمنصة معنى).