
فيما يخص العقل المعاصر، ما عسى أن يقول رجل انشغل أساسًا بالعصور الإغريقية القديمة، وتساءل، فيما يتعلق بالعقل، حول أصوله البعيدة، عوضًا عن أن يدرس الأشكال التي يتخذها اليوم؟
يبدو لي أن هذه العودة إلى الأصول، قد لا تكون من غير جدوى بالنسبة لهذا الشكل الجديد من المعقولية الذي يجد نجاحه في الرياضيات والفيزياء المعاصرتين، والذي يثبت صلاحيته كذلك من خلال التقدم الذي تعرفه علوم الإنسان الناشئة. من شأن هذه العودة أن تمدنا بثلاثة مستويات من الدروس.
فماذا نحن نفعل عندما نسأل عن أصول العقل اليوناني، وعندما نتساءل ما هي الشروط الاجتماعية والنفسية التي سمحت بظهور شكل جديد من التفكير في ركن صغير من آسيا الصغرى يقطنه مستعمرون إغريق، وهو تفكير من حقنا أن ننعته بأنه عقلاني من حيث إنه مثّل قطيعة حاسمة مع ذلك النوع من الخيال الأسطوري الذي يبدو أنه يشكل أكثر صور الفكر البشري انتشارًا؟ إن ما نفعله هو أننا نطلب من العقل نفسه أن يفصح لنا عن أسبابه. لإدراك طبيعة الفكر العقلاني ووظيفته، فإننا، بكيفية من الكيفيات، نوجّه ضده أسلحته ذاتها، فنخضعه لمتطلبات تمحيص عقلاني، ونطبق عليه القواعد التي بنتها باسمه وتحت رعايته الدراساتُ العلميةُ، وعلمُ التاريخ على وجه الخصوص.
تتمخض هذه الطريقة عن نتائج حاسمة. يمكننا أن نقول إنها، بمسعاها ذاك، تقوّض مفهومًا معيّنًا عن عقل ثابت خالد مطلق، ما زال يسود، على ما أظن، كثيرًا من الدوائر «العقلانية». إنها الفكرة العزيزة على رجال الثورة الفرنسية، عن عقل-إله ينير طريق البشرية، ويقضي على ظلمات الجهل، وأشباح الاعتقادات الخرافية أو أوهام الإحساسات.
حينئذ، ما أن نتساءل عن شروط ميلاد العقل، فإنه لا يستطيع أن يظل هذا الشكل-الإله فحسب، بل لن يعود بإمكانه أن يظهر كقيمة مطلقة تجاهلها الناس لمدة طويلة، ثم تجسدت ذات صباح، في القرن السادس قبل الميلاد، بطريقة ربّانية عند شعب مختار، هو الشعب اليوناني، مثلما سيحدث، ستة قرون فيما بعد للروح القدس أن تتجسد بشكل معجز عند شعب مختار آخر.
عندما نسأل العقل عن أصوله، فإننا نقحمه في التاريخ، ونعامله توّا، على أنه ظاهرة بشرية، ومن ثمة، على أنه نسبي خاضع لشروط تاريخية معينة، متقلب بتقلّب تلك الشروط.
وبذلك فإننا ننتقل من مفهوم لاهوتي، أو مفهوم ميتافيزيقي على الأقل، عن العقل، إلى شيء مخالف تمام الاختلاف: وأعني إلى تاريخ أشكال الفكر العقلاني في تنوّعها وتحولاتها التي يزداد عمقها أو يقل. فما يُطلِق عليه المؤرخ عقلًا هو أنماط محدّدة من التفكير، ودراسات عقلية، وتقنيات ذهنية تختص بها ميادين معينة للتجربة والمعرفة. إنها أشكال مختلفة من الاستدلال والبرهان والتفنيد، وأنماط خاصة لتقصي الوقائع وتدبير الحجج، وأنواع متباينة من التمحيص التجريبي.
من الواضح أن تقنيات التفكير هذه تتغير وتتبدل تبعًا لما تنصب عليه من موضوعات. إنها تتباين حسبما إذا كانت تستعمل اللغة الطبيعية -مثلما يتم الأمر في المنطق من النوع الأرسطي- أو ما إذا كانت تستعين بمنظومات رمزية عدا اللغة كما هو الشأن في الرياضيات. ثم إن هذه الأشكال من التفكير ترتبط كذلك بالمستوى التقني لتطوّر العلم، وبالأجهزة والأدوات العلمية التي، وإن كانت تشكل نظريات مجسدة في وقائع مادية، إلا أنها ترتبط كذلك بالتاريخ التقني والاقتصادي للمجتمعات البشرية في كليته. ليس في وسعنا، والحالة هذه، افتراض عقل خارج عن مجرى التاريخ، عقل يهيمن، من خارج، على تقدم العلوم ويسيّرها من عل، فيحدد، انطلاقًا من مبادئ عقلية وضعت مسبقًا وبصفة نهائية، مسارَ الحركة العلمية في مجموعها. إن العقل محايث للتاريخ البشري في جميع مستوياته. ولا يمكننا البتة، أن نفصله عن المجهودات التي ما ينفك الإنسان يبذلها ويجددها لفهم العالم الطبيعي والاجتماعي. العقل يصنع ذاته ويحوّلها عندما يصنع الأدوات التقنية والوسائل العقلية التي يفهم عن طريقها الأشياء. إنه يبني ذاته حينما يشيّد مختلف مجالات المعرفة العلمية. لقد بينت الإبيستمولوجيا المعاصرة، بما لا يدع أدنى شك، أنه ليس بإمكاننا، في أيّ قطاع من قطاعات العلم، أن نفصل فيما بين أشكال التفكير وأدواته ولغته والموضوعات التي ينصب عليها. فلكي يصبح ميدانٌ معين من ميادين الواقع موضوع علم، ينبغي أن يجد التعبير عنه في لغة مناسبة، وأن توضع منظومة من الرموز ملائمة له، وقابلة لأن تعدل على الدوام. هذه الرموز تكون موضع عمليات ذهنية، ومجموع هذه العمليات يخضع لمبادئ موجِّهة وقواعد تشكِّل منطقَ المنظومة. وكلما ازداد علم ما تقدّمًا، واتسع ميدانه، واغتنى موضوعه، تحوّلت لغة هذه الدراسة كي تسمح بقيام عمليات جديدة، فتوضع المبادئُ الموجِّهة موضعَ سؤال، ويعاد النظر في منطق المنظومة بدوره. على هذا النحو، فإن موضوعات الرياضيات الحديثة، على سبيل المثال، من أعداد وأمكنة، ناهيك عن المجموعات، لم تعد كما عهدتها الرياضيات الإغريقية. فإلى جانب تعميم مفهوم العدد، ابتداء من العدد الصحيح إلى الكسور، والأعداد السلبية فالجذرية فالتخيلية، هناك تحوّل في لغة الرياضة، وأشكال جديدة من العمليات الرياضية ومنطقٌ رياضي آخر.
بمقدار ما يزداد العلم تقدّمًا، فإن التوازن بين جميع مستويات صرحه يصبح مهددًا أو مختلًا، ابتداء من موضوع العلم حتى المبادئ الموجِّهة للدراسة. وعندما يكون التقدّم هائلًا وينكشف ميدان جديد من الواقع، فإن المنظومة كلها تكون في حاجة إلى صياغة جديدة. بإمكاننا إذن أن نقول إننا ما أن نتخذ منظورًا تاريخيًا ونتخلى عن وهم عقل مطلق كي نفحص كيف بنى الإنسان عقله بالفعل من خلال تقدّم مختلف العلوم، حتى ندرك أن قانون تقدم الفكر العقلاني هو النمو عبر الأزمات، بله الأزمات الشديدة. فتاريخ العقل يعرف هو كذلك ثورات.
إذا كانت الصعوبات النظرية التي تثيرها الرياضيات والفيزياء المعاصرة تبدو وكأنها فضيحة من الفضائح في نظر بعض العقلانيين المتشبثين بتصور ثابت مطلق عن العقل، فعلى العكس من ذلك، من يطبق على العقل مسلسل النسبية الذي يميّز كل نهج عقلاني، لا بد وأن يرى في هذه الأزمة ذاتها علامة على صحة جيدة. فقط عندما يشد العقل بكل قبضته على الواقع ويمسك بتلابيبه، حينئذ يكون مرغمًا على أن يضع موضع سؤال مبادئه الموجهة، وينسلخ من جلده. بهذا المعنى يمكن أن نقول إن الجدال الذي يدور اليوم حول العقل، والقلق الذي يكشف عنه، دليل كذلك على حيوية الفكر العقلاني وتقدمه واكتساحاته، وعلى المكانة التي ما فتئ يتبوؤها يوما عن يوم، لا في القطاعات التقليدية للفكر العلمي وحدها، وإنما حتى في ميدان الممارسة والحياة الاجتماعية.
هذا هو المستوى الأول من الملاحظات التي كنت أودّ أن أبديها. أما المستوى الثاني فلا يتعلق بمحتوى العقل بقدر ما يهمّ الشروط الشكلية لفعاليته. والحال أنه فيما يخص هذه النقطة، بوسعنا أن نستخرج بعض السمات الدائمة من حيث إنه يبدو أن هناك على المستوى الاجتماعي والفكري، شروطًا دنيا لا يمكننا من دونها أن نتحدث عن فكر عقلاني. ليس من قبيل الصدفة كون العقل انبثق عند اليونان كنتيجة لذلك الشكل من المؤسسات السياسية الذي ندعوه مدينة. فمع ظهور المدينة، ولأول مرة في تاريخ البشرية، اعتبرت مجموعة بشرية أن شؤونها المشتركة لا يمكن البت فيها، ولا يمكن أن تتخذ قرارات تكون في الصالح العام، إلا بعد جدال عمومي متناقض، مفتوح للجميع، حيث تتعارض فيما بينها خطابات مدعّمة بالبراهين. إذا كان الفكر العقلاني قد ظهر في المدن الإغريقية لآسيا الصغرى مثل ملطية، فذلك لأن قواعد اللعبة السياسية في إطار المدينة -الجدال العمومي المدعّم بالبرهان والمتناقض فيما بينه بكيفية حرة- قد غدت كذلك قواعد اللعبة الفكرية. يقتضي ذلك في نظرنا، أن العقلانية، ومفهوم الجدال، والمحاجة التي تقبل باختلاف الآراء وتضاربها يشكلان شرطا أساسيًا للعقلانية. فلا عقلانية إلا إذا قبلنا أن جميع الأسئلة والقضايا يمكن أن تكون موضع جدال مفتوح عمومي ومتناقض. ليس هناك مطلق يمكننا أن نزعم باسمه إيقاف الجدال في لحظة بعينها. (…)
المستوى الثالث من الملاحظات: كان العقل الإغريقي يعبر عن نفسه أساسًا في الخطابات. إنه كان عقلًا خطابيًا حالاّ في اللغة. وقد عمل مفكرو اليونان على إبراز مبادئ هذا العقل انطلاقًا من تحليل أشكال الحجاج الشفوي والقواعد المتحكمة في استعمال اللغة. وقد تمكّن عالم اللسانيات إميل بينفنيست E.Benvéniste من أن يبين إلى أيّ حدّ قُدّت المقولات التي يقوم عليها منطق أرسطو على المقولات النحوية الخاصة باللغة الإغريقية، وكيف أنها لا تعبر عن حالة اجتماعية فحسب، وإنما عن واقع اللغة اليونانية في لحظة معينة. والحال أن منطق الخطاب هذا، هذا المنطق التحليلي للكلام، قد فقد اليوم كثيرًا من قيمته وأهميته، على الأقل فيما يتعلق بالفكر العلمي.
بإمكاننا أن نميز بين توجهين اثنين للعقل المعاصر. فهذا العقل قد ابتعد عن لغة الكلام كي يتوجّه نحو لغة الرياضيات، ويقيم منطقًا للعدد والكمّ عوض منطق المفهوم والكيف. ثم إنه توجه من ناحية أخرى نحو الملاحظة المنظمة للوقائع، والفحص الدقيق للواقع. هذا التوجّه المزدوج هو الذي جعل عقل اليوم فكرًا تجريبيًا.
لا يعني هذا أن أشكال المعقولية القديمة لم تعد تحيا في مستويات أخرى من التفكير. ففي الحياة اليومية لكل منا، وفي الجزء الأعظم من حياتنا الاجتماعية، وعند كثير من الفلاسفة، وعند كل الساسة تقريبًا، مازال عقل الخطاب هذا هو الذي يعمل. هذا العقل اللفظي هو عقل تبريري إن لم نقل إنه لاهوتي. فبدل أن يتقصى الواقع لكي يفحص إلى أيّ حد تكشف عنه نظرياتنا، يأخذ على عاتقه إقامة حجج، على مستوى الخطاب، تبدو جميع قضايانا بمقتضاها سهلة الحل، وجميع التناقضات محلولة ملغاة. ولو نحن أردنا أن نصوغ في عبارة وجيزة توجّه هذه العقلانية الخطابية، لقلنا إن الأمر يتعلق على الدّوام بأن نبيّن أن ليس هناك مشكل فعلي، وأن الحقيقة تسكن الخطاب ذاته وأن الأمور بكل خير وعلى أحسن الوجوه. أما العقل التجريبي الذي يعتنقه العلم فهو، على العكس من ذلك، عقل إشكالي. وهو لا يتقدم إلا بفضل تساؤل لا ينقطع، وإعادة نظر في الوقائع والنظريات بل في مبادئه ذاتها. فسواء أتعلق الأمر بمبدأ السببية، أم بمبدأ الجوهر، أو مبدأ الهوية، فإن كل هذه المبادئ قد وضعت موضع سؤال، وأعيد تأويلها بدلالة تقدم البحث العلمي. لكن، إن أنا خضت في طرق هذه القضايا، فإنني سأكف عن أن ألعب دوري كممثل للعقل الإغريقي، فضلًا على أن العالم القديم قد عرف هو كذلك تيارًا فكريًا إشكاليًا وساخرًا. لذا فإن الشيخ سيترك لعلماء اليوم الشباب مهمة رسم آفاق العقل المعاصر.
المصدر:
J-P Vernant, Œuvres, T II, Seuil, pp 1923-1928