– يختلف تصور جمهور الناس عن تصور الفلاسفة حول معنى الإدراك (perception). ماذا يعني للفلاسفة، وكيف نستقي معلوماتنا من العالم الخارجي؟
الفلاسفة -مثل جمهور الناس- لديهم 3 تصورات عن معنى الإدراك. أولاً، هناك إدراك حسي: ما نراه، ونسمعه، ونلمسه، ونشعر به ونشمه، إما بوعيٍ أو بغير وعي. أما التصور الثاني هو نظرتك العامة إلى موقفٍ ما؛ رؤيتك الشخصية. فالمتفائل يرى الأشياء بصورةٍ إيجابية، كما قد يختلف تعاطيك مع دينامكية العائلة عن تعاطي أحد أشقائك، وفي هذه الحالة، فإنكما تدركان نفس الموقع إدراكًا مختلفًا. ويوجد تصور ثالث: الإدراك بوصفه قوةً تشكيل للثقافة، وينتمي التنميط لهذا النوع. إذْ يُنظر إلى المديرات أو الشخصيات النسائية العامة بسهولة على أنهن غاضبات أو عدوانيات إذا انتقدن شخصًا أو سياسة معينة. كما أننا نتحدث عن كيف يمكن أن تتشكل تصورات (perceptions) عن المرشح السياسي بناء على تغطية الحملة الانتخابية.
رُغمَ الاختلافات بين هذه الأنواع الثلاثة من الإدراك إلا أن ثمة خيطًا ينظمها جميعًا: فهي تميز العالم كما يبدو لنا؛ إذْ إننا نَمضي ونتصرف ونُفسر ونستخلصُ الاستنتاجات بناءً عليها.
ويدرس الفلاسفة الموضوعات الثلاثة: الإدراك الحسي، والرؤية الشخصية، والصور النمطية. لكن كل واحد منها معقدٌ للغاية لدرجة أنه يحتاج إلى تحليلٍ من مجالات أخرى: علم الأعصاب الإدراكي للإدراك الحسي؛ علم النفس الاجتماعي للرؤية الشخصية؛ السياسة والتاريخ وعلم الاجتماع للصور النمطية.
– إن ذلك وطيد الصلة بما يحدث في الولايات المتحدة حاليًا؛ لا سيما الرؤية الشخصية والصور النمطية، حيث أن ثقافة مناطق معينة ينشأ فيها الناس ستؤثر على طريقتِهم لرؤية العالم؛ والطريقة التي يُصوِتونَ على أساسِها، كما أنه سيحدد أيضًا مدى تأثير حملات إعلانية معينة أو رسائل معينة في وسائل الإعلام عليهم. ولكن قبل أن نناقش دور وسائل الإعلام، أود أن أعرف رأيك حول مدى تأثير الثقافة والجندر في تشكيل إدراكنا للعالم.
سؤال رائع. تتفاعل أنواع الإدراك تفاعلًا متشابكًا؛ إذْ قد يكشف الإدراك الحسي أن شخصًا ما لا يلائم الصورة النمطية، وقد تُوَجه الرؤية الشخصية الانتباه مُشَكِلةً الإدراك الحسي (مثلًا: حين يتوقف المتفائل لاستنشاق عبير الزهور)، كما أن القوالب النمطية قد تُطْلِع الرؤية الشخصية للفرد عن موقف معين.
كيف تشكل الصور النمطية رؤيتنا الشخصية؟ في بعض الأحيان يكون تأثيرها لا يُذكر، وفي أوقات أخرى، يكون الأمر إشكالًا سياسيًا أو أخلاقيًا، كما هو الحال حين يسمح شخص ما لقوالبٍ نمطية سلبية أن تُشكل تفاعلًا، تفترض فيه أن شخصًا آخر غير كفء أو خطير أو في مكانة دونية.
يعتمد مدى تأثير الصور النمطية على الرؤية الشخصية في تفاعلها مع الإدراك الحسي. يمكن تثبيت التأثير، إذا كان الإدراك الحسي يعزز الصورة النمطية، أو يمكن أن يزعزعه، إذا كان الإدراك الحسي يُسائل هذه الصورة. يظهر هذا التفاعل بشكلٍ خاص في لقاءات الصُدفة مع أشخاص لا تربطك بهم أي علاقة سوى مشاركة المجتمع ؛ أي أنهم «غرباء». تعتمد في هذه اللحظات، على افتراضاتك السابقة، وتستخدم الإدراك الحسي لتكون تفسيرًا.
هناك سبب آخر يجعل التفاعل بين الأنواع الثلاثة للإدراك مهمًا: فهي مُجتمعة شكل من أشكال الوعي السياسي. إذْ تعي إنك عضو في مجتمع، ولو بشكلٍ ضمني، عندما تشغل نفس المساحة العامة التي يشغلها شخص آخر؛ بالانتظار في طابور محل البقالة، أو المرور على الرصيف، أو ركوب مترو الأنفاق، أو اللعب في الحديقة. نُعبر في هذه المناسبات عن ردود أفعال تجاه ارتباطنا السياسي: العداء والانفتاح والفضول والجدية والاحترام والفرح واللامبالاة. أي رد فعل هنا هو نمطٌ من الوعي السياسي.
ليست كل هذه اللقاءات مسالمة. في بعض الأحيان تكون مناسبات للتدرب على أنماط الهيمنة، كما هو الحال عندما تقود الشكوك أحد الأشخاص إلى الاتصال بالشرطة بشأن رجل يراقب الطيور، لأن منظره يبدو مُريبًا ويُنَشِط فيها خوفًا نمطيًا، على الرغم من أن الرجل لا يمكن أن يفعل شيء أكثر مُسالمة من هذا. تتغلب هنا الصور النمطية على الإدراك الحسي، وتشكل رؤية الشخص بطريقة ضارة أو سلبية.
التفاعلات العامة الصغيرة هي أيضًا فرص لإظهار أشكال بسيطة من الثقة. مثل أن يسمح لك شخص بالتقدم عليه في طابور طويل، حتى وإن كانت هذه اللحظات ذات أهمية بسيطة إذا ما أُخذت لوحدها. لكن ما أهمية ذلك؟ إنّ وجود فرص وافرة لهكذا تفاعلات مهم، لأنها تُبين الأشكال الأساسية للاعتراف المدني. يمكن أن يكون لهذا الأمر أهمية كبرى في مجتمع مليء بأنماط الهيمنة الاجتماعية، خاصة عندما تكون هناك محاولات منظمة لإدامتها.
للتفاعل بين الأنواع الثلاثة للإدراك إمكانات هائلة لتطوير المهارات التفسيرية التي تمكنك من معرفة كيف يُدرك الآخرون المجتمع الذي تتشاركون فيه. من المثير للاهتمام هنا مقارنة التفاعلات الواقعية مع نظيرتِها عبر الإنترنت: فكر في عمل هيئة المحلفين، أو مناقشة في مدرسة ليلية أو كلية، أو اجتماع الحي؛ ففي هذه الأماكن، عندما يتحدث الناس، تسمع ما يقولونه، وتأخذه إلى جانب جميع المعلومات الأخرى التي تحصل عليها بإدراكك الحسي؛ إذْ تسمع صوتهم بنبرة السخرية أو التردد أو العاطفة، ترى كيف يبدون في الواقع، وترى كيف يقيمون أنفسهم. حيث إنك تُحضر كل فهمك الثقافي ليساعدك على تفسير ما تُدركه.
على النقيض من ذلك، في العديد من المناقشات على الإنترنت، تعرف القليل جدًا عن الأشخاص الذين تتفاعل معهم. وباستبعاد الإدراك الحسي المباشر، تفصل منصات التواصل الاجتماعي رسالة ما يقوله شخص ما عن المعلومات المحيطة التي تحصل عليها عادةً من الإدراك الحسي. كما أننا نعتمد هنا أيضًا على فهمنا الثقافي لتفسير الرسائل، ولكن كل قُدُرَاتِنا التفسيرية ترتكز على الكلمات.
لهاتين الصياغتين من التفاعل مزاياها وعيوبها. عندما تقوم إحدى المنصات بتصفية المعلومات التي ستحصل عليها من الإدراك الحسي، تتيح لك التصفية التركيز بشكل مباشر على ما يقوله الشخص. هذه هي نافذتك الوحيدة إلى الشخص الآخر؛ بما يقوله. في بعض أنواع المناقشات، قد تكون هذا التصفية ميزة؛ مثلًا، في قاعة المدينة أو في ندوة ، من المهم أن تكون قادرًا على فصل ما يقوله الناس عمن تعتقد أنهم هم، بناءً على ما يمكنك إدراكه. عندما تناقش ردود الفعل لنصٍ أو فيلم، أو عندما تُفكر مَليًا بحل مشكلة ما، أو تقييم الحلول المحتملة، فإن ما يهم هو مجرد النقاط التي تُوَضح.
إخضاع وجهات النظر لردود فعل الناس قد يكون خطوة نحو تحويل الآراء غير الناضجة إلى فكرة مكتملة. يؤكد جون ديوي هذه النقطة: اضطرارك لشرح آرائك يدفعك إلى التفكير بها من منظور المحاور. غالبًا ما تجعل هذه العملية الأسئلة الهامشية واضحة، وقد تقود الأشخاص إلى تغيير أرائهم حين لا يكون لنبذ هذه الآراء تداعيات ثقيلة عليهم. إنّ كتابة الأشياء ليقرأها الآخرون هي طريقة للتفكير أيضًا، ولذلك يكتب الطلاب أوراقًا بحثية. عندما يُطلب منك التَشاور مع أشخاص في فصلٍ دراسي أو مؤتمر أو اجتماع للمحلفين، فإن مهمتك هي التفكير في محاسن ما يقولونه. وإذا كان الطريق الأكثر مباشرة إلى «محاسن القول» هو من خلال الأفكار المعبّر عنها كتابةً؛ فلعل وسيط الإنترنت مناسبة لمثل هذه النقاشات، بل قد تؤدي مناقشة واقعية -يتضمنها الإدراك الحسي- إلى إبطاء سير هذه المناقشات.
تتيح منصات وسائل التواصل الاجتماعي من حيث المبدأ مثل هذه المناقشات مع أشخاص قد لا تتفاعل معهم في الحياة الواقعية، ولكننا سنفتقد الكثير إذا حاولنا استبدال هذا الوسيط بالمناقشات الواقعية بكل ما تحمله من ثراء إدراكي، وذلك ليس لأن الإدراك نفسه يكشف حقيقة البشر -لا يحدث هذا في كثير من الأحيان- لكن فكرة الاضطرار إلى دمج ما تدركه، وما تميل إلى الاستدلال به، والمزاعم التي يدلي بها محاوروك هي مهارة ذات أهمية مدنية. وليس من قبيل المصادفة أن حملات الدعاية الجماهيرية (البروباغندا) تطرح المناقشات الواقعية من المعادلة؛ إذْ قد لا يكون هناك ما هو أكثر أهمية للديمقراطية من وجود منتديات للنقاش تسمح لنا بوضع افتراضاتنا حول الناس على محك ما نجده في اللقاءات الواقعية. إذا تفاعلنا فقط في المنصات التي تصفي ما يقوله شخص ما عن بقية ما يمكننا إدراكه، فإننا نتجنب مهارة بناء التصورات الدقيقة عن الناس. تُعد هذه المهارة مهمة في الديمقراطية، حين يكون للأشخاص الذين تختلف أحوالُهم عنك رأيًا في كيف يُفترض أن يُحكموا.
تعاني الديمقراطية عندما نفتقر إلى المنتديات والفرص لتطوير جميع الأنواع الثلاثة من الإدراك في الأماكن العامة، من الشعب، وللشعب. عندما نفتقر إلى هذه المنتديات، تتضرر الديمقراطية، وكذلك قوتنا وعاداتنا في التفسير الاجتماعي.
لذا فإن القوالب النمطية تشكل طريقة إدراكنا للعالم، والسؤال الحاسم حينها هو: ما مدى مرونة افتراضاتنا السابقة حول بعضنا بعضًا؟ ما مدى سهولة تعديلها وبأي طريقة؟ ما هي المساحات الاجتماعية والأماكن العامة والأوعية الإعلامية التي توسع فرص التفاعل بين الأشكال الثلاثة للإدراك؟ وما هي الأمور التي تقللها؟
– يسمح الإنترنت للناس بالتصرف بشكل سيء في بعض الأحيان، وبالتأكيد بطرق لا يتصرفون بها عادة. أود أن أعود كما ذكرتِ سابقًا لتأثير وسائل الإعلام. إنّ وسائل الإعلام اليوم منتشرة بصورة كبيرة، سواء كانت وسائل التواصل الاجتماعي أو وسائل الإعلام الإخبارية أو التلفزيون أو الراديو؛ بحيث يكون لها تأثير كبير على كيفية رؤيتنا للعالم. نعم، صحيح أننا سنختار قنوات إعلامية معينة -ومن المحتمل أن الثقافة تحدد هذه القنوات التي سنختارها- لكن هل نحن بطريقة ما ضحايا وسائل الإعلام التي نختار أن نستهلكها، حيث أنها ستحدد كيف ننظر للعالم؟
هذا سؤال مهم. سأضع علامة على عبارة «ضحايا وسائل الإعلام التي نختار أن نستهلكها» لإنه يسلط الضوء على فكرة أن علاقتنا الأساسية بوسائل الإعلام هي «الاستهلاك». وأقول مواصلةً هذه الاستعارة: عندما يدخل شيء ما إلى ذهنك، فإنه يبقى لفترة من الزمن، كما يبقى الطعام في معدتك؛ فيأخذ جسمك ما يحتاجه من الطعام ويتخلص من الباقي تلقائيًا، ثم ينتقل إلى الوجبة التالية. بمرور الوقت، تتشكل أجسادنا بما نأكله.
في نموذج المستهلك هذا، فإن تدفق المعلومات من الأوعية الإعلامية إلى أذهاننا له نفس المسار تقريبًا؛ إذْ تأتي المعلومات، ويُتجاهل الكثير منها، ويُحتفظ ببعضها، وبمرور الوقت، نُشَكل بالمعلومات التي نحتفظ بها، مع القليل من التفاعل بين تلك المعلومات وحالتنا السابقة. مثلما يمكننا اختيار ما نأكله اعتمادًا على ما نحب، يمكننا أن نفعل الشيء نفسه مع المصادر الإعلامية. في كلتا الحالتين، قد لا نعرف ما هي الآثار بعيدة المدى لاستهلاكنا.
أحيانًا يكون نموذج المستهلك -عن كيفية تأثير وسائل الإعلام الاجتماعية والإخبارية على إدراكنا- مناسبًا؛ فهو يضع الأخبار بنفس مرتبة الترفيه، كما أن بعض أشكال وسائل الإعلام الإخبارية تفعل الشيء ذاته مع «الأخبار الترفيهية» infotainment، التي تسلط الضوء على الأشياء التي تجذب الانتباه: المشاهير، والطرافة، والإثارة، والغرابة.
يناسب نموذج المستهلك أيضًا الحملات المصممة لخلق تصورات سلبية للمجموعات التي تستخدم وسائل الإعلام التقليدية، وجعلها تبدو بغيضة وأقل مرونة.
هناك طريقة فعالة بشكل خاص لتوليد تصورات ثقافية سلبية جديدة، لم تكن موجودة من قبل، وهي تلفيق الاتهامات بأن مجموعة من الناس تشمت بمجموعة أخرى، مثل أن تحتفل بألم المجموعة الأخرى. إذا كنت لا تعرف شيئًا عن تلك المجموعة، لكنك علمت أنهم يحتفلون بألمك وصدّقتَ الرسالة، فستشعُر بالإهانة والازدراء، ولن تثق بهم. الدعاية بهذا الشكل هي وسيلة فعالة لخلق تصورات وصور نمطية من غير المحتمل أن تكون بسيطة، إلا إذا ثبت أن الاتهامات خاطئة وفقد المتهمون مصداقيتهم.
تعمل معظم أنواع الدعاية الجماهيرية على تضخيم التصورات السلبية الموجودة مسبقًا. مثلًا، في الوالايات المتحدة، يزدحم أحد مواقع نظريات المؤامرة اليمينية المتطرفة بالاتهامات الزائفة، بما في ذلك أن النشطاء المناهضين لترامب كانوا يضحكون عندما ألقوا أشياء على موكب ترامب، مما تسبب في وقوع حادث، وأن المتظاهرين من (Black Lives Matter) احتفلوا بمقتل طفل أبيض لم يتم الخامسة من عمره.
من المرجح هنا ان إدراك الناس سيختلف مع هذه الدعايات الجماهيرية؛ فمن المحتمل ألا يمنح معارضو ترامب الدعاية الكثير من المصداقية، بينما بالنسبة لأنصار ترامب، فإن الدعاية تعزز فقط دعمهم له وازدراء الأشخاص الذين يشوهون صورته. مثل الاتهامات الزائفة، يُقصد بهذا النوع من الدعاية أن يكون له تأثيرات غير متكافئة.
يناسب نموذج المستهلك لوسائل الإعلام هذا النوع من الدعاية الجماهيرية. فتعامله لا يعرف إلا المطلقات، بهدف تجنب أي فرصة للتحريض على التفكير. نصح أحد الخبراء في الدعاية الجماهيرية، أدولف هتلر بقوله: «بمجرد أن تعترف دعايتنا الجماهيرية بحق -وإن كان بسيطًا- للطرف الآخر؛ فقد فُتِحَ باب الشك بنا».
لكن نموذج المستهلك قاصر من جوانب أخرى كأداة لتحليل التفاعل بين التصورات والإعلام. فبادئ ذي بدء، هذا النموذج لا يناسب كل نوع من أنواع حملات التأثير. يُطلق على تقنية إعلامية مشهورة ورهيبة طُوِرت في روسيا اسم «خرطوم الباطل The firehose of falsehood»؛ حيث تتكرر الرسائل نفسها باستمرار في وسائل إعلام متعددة؛ حيث يبدو الأمر كما لو أنها تأتي من مصادر مختلفة. نظرًا للكم الكبير من الرسائل، فإن تنفيذ التقنية يحتاج إلى قوة عاملة: جيوش إلكترونية (bot). ولكن بدلاً من ترسيخ رسالة واحدة، فإن الهدف هنا هو زرع التشويش برسائل متناقضة، فلا يعرف الناس ما ينبغي عليهم أن يصدقوه، ويشعرون أنه ليس لديهم طريقة لمعرفة ذلك؛ وعليه، عليهم أن يقرروا بمن يصدقون، أو ألا يكترثوا بالأمر برمته. وتزدهر السياسات الاستبدادية بمثل النوع من التشويش. استخدم ترامب هذه التقنية عندما ناقض مستشاره الصحي، الدكتور فاوتشي، حول ما إذا كان سيرتدي الكمامة أثناء الوباء، ومرة أخرى في وقت لاحق عندما رفض الكشف عن آخر مرة كانت نتيجة اختباره سلبية لـكوفيد- 19.
لا يتناسب أسلوب «خرطوم الباطل» مع النموذج الاستهلاكي لوسائل الإعلام. فبدلاً من اختيار استهلاك وسائل إعلامية معينة، تنهال عليك الرسائل المشوشة بصرف النظر عن أي وسيلة إعلام اخترتها. وبدلاً من الانخراط في وسائل الإعلام التي تجعلك تشعر براحة أكبر، فمن المحتمل أن ينتهي بك الأمر محتارًا، ما لم يكن لديك رؤية تُساعدك في فهم هذه الفوضى المعلوماتية.
صُمِمَ «خرطوم الباطل» لتدمير الديمقراطية، ونموذج المستهلك ليس جيدًا للديمقراطية أيضًا. كلاهما يجعلك عالقًا في منظور واحد، سواء كان لا مباليًا أو مُتعنِتًا.
تحتاج الديمقراطية إلى نموذج أفضل لوسائل الإعلام. وحتى في حالتها الهشة حاليًا، ما زال لديها نموذج مناسب؛ ألا وهو نموذج الأهمية العامة (public importance model)، ومفاده: ما ينتمي إلى الأخبار هو المهم نشره في نظام ديمقراطي. وستسهل بعض الأخبار عند نشرها اتخاذ التدابير المناسبة، والتعبير، وفحصها؛ مما يجعلنا أقل شبهًا بالمتفرج أو المستهلك.
يمكن على سبيل المثال، أن تركز التغطية الإخبارية للانتخابات على ما يعتقد الناخبون أنه القضايا الرئيسية التي يجب أن تكون في الحملة، بدلاً من التركيز على أداء المرشحين، أو كيف يُنظر إليهم. لم يعد القراء مجرد متفرجين أو مستهلكين. سَيرون بدلاً من ذلك أنفسهم كمساهمين محتملين في القصة، كشخص تحاول الصحيفة أن تعكس وجهة نظره. يوصي المحلل الإعلامي جاي روزين بهذا النوع من التغطية الانتخابية، وأتفق معه. من المفترض أن تكون المداولات السياسية حول تحديد الأفضل بشكل عام للجميع، ولكن كيف يمكنك فعل ذلك إذا كنت لا تعرف الكثير عن مخاوف الآخرين؟ التغطية التي تركز على الناخب هي وسيلة الصحافة للمساعدة في سد هذه الفجوة.
عندما تحولت الصحافة إلى مهنة في الولايات المتحدة في عشرينيات القرن الماضي، كان أحد الركائز الأساسية في احترافها هو أن المحررين والصحفيين كانوا بحاجة إلى «أن يحكموا على الأخبار» لتقرير ما هو مهم أن يعرفه الجمهور؛ بل وحتى ما يُعتقد أن على الجمهور معرفته. هذا الدور للصحافة يناسب نموذج الأهمية بشكل أفضل من نموذج المستهلك.
لمثال قريب عهد بنا، انظر إلى قانون هاتش (The Hatch Act) على سبيل المثال: قانون مكافحة الفساد الذي يحظر على الموظفين الفيدراليين القيام بحملات سياسية، باستثناء الرئيس ونائب الرئيس. أراهن على أن كثير من الناس -خارج النخب السياسية- لايعرفون قانون هاتش. ولا يمكنك أن تهتم إذا انتُهِك القانون، إذ لم تسمع به من قبل.
ولكن ماذا لو انتهك المُعَيَنون القانون بتحقير خصومهم السياسيين في خطاباتهم الرسمية، كما فعلت مستشارة ترامب السابقة كيليان كونواي بشكل روتيني؟ ماذا لو أجبر الرئيس جميع الأشخاص الذين عينهم على انتهاك القانون بعقد المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في البيت الأبيض، كما فعل ترامب في أغسطس 2020؟ يتمثل جزء من وظيفة الصحفي هنا في إعلام الجمهور بالقانون وإطلاعهم على أسباب اهتمامهم به، حتى لو لم يكن لديهم معرفة أو اهتمام سابق به. تؤطر الصحافة في نموذج الأهمية، المشكلات، ويمكن أن تجعلنا نرغب في معرفة المزيد، بدلاً من نتخدر بالمعلومات أو «بالمعلومات الترفيهية».
نجد تأثيرات التأطير على الإدراك الثقافي أينما وُجِدت قوى سياسية. ويشمل ذلك الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي والحملات السياسية. أعطتنا حركة «احتلوا» (The occupy) مفهوم الـ 99٪. كان هذا إطارًا يمكن للناس استخدامه بسهولة للتفكير في عدم المساواة الهائل، وقد بقي معنا.
– من المثير للاهتمام أن تَذكُري كلمة تأطير لأن وسائل الاعلام تفعل ذلك باستمرار، لكنني أتساءل عما إذا كنا عالقين في الإطار الذي نختاره، خُذي أيًا من الأمثلة التي استخدمتها. ستقدم عناصر معينة من وسائل الإعلام هذه القصة بطريقة معينة، وستقوم أطراف أخرى من وسائل الإعلام بتقديمها في ضوء مختلف تمامًا. ستحدد الوسائل التي تختارها كيف تدرك القصة. أتساءل عما إذا كنا عالقين مع وسائل الإعلام التي نختارها. نرى أننا نقرأ صحيفة نيويورك تايمز (The New York Times)، أو نختار قراءة بريتبارت (Breitbart). هل نحن بعد ذلك عالقون بهذا؟ هل نتعثر في نفق المعلومات الذي لا يمكننا استخراج أنفسنا منه؟
التعثر هو مأزق حقيقي ويعتمد مدى بقاءنا عالقين على أنواع القوى التعويضية الموجودة، وأعتقد أن هناك العديد من القوى التي يمكن زراعتها لمنع العزل المعلوماتي.
الشيء الوحيد الذي يعمل ضد هذا العزل هو الصحافة التي تركز على تصوير مشاكل المجتمع مرة أخرى للمجتمع. هذا لا يعني أن المجتمع يجب أن يحدد المشاكل بالضرورة، ولكن أحد تطلعات الصحافة الاحترافية هو مساعدة القراء على معرفة من يشاركون المجتمع معه. عندما يؤدى هذا الدور، فإنه يساعدك على معرفة ما يبدو عليه الأمر بالنسبة للأشخاص الآخرين المُختلفين عنك ويعيشون في نفس المكان الذي تعيش فيه. إنها صحافة تتمحور حول المكان، وهو أحد أسباب أهمية الأخبار المحلية.
ومن الأمثلة القوية على هذا النوع من الصحافة سلسلة بوسطن غلوب المكونة من سبعة أجزاء لعام 2017 حول العنصرية في بوسطن. نشرت الصحيفة لمدة أسبوع، مقالة طويلة حول جانب مختلف من هذه القضية كل يوم. في أحد الأيام كانت الرعاية الصحية، وفي يوم آخر كان تطوير حي الميناء البحري، وركزت في أيام أخرى على الرياضة والتعليم والسلطة السياسية والحلول المحتملة. كانت مفيدة للغاية للجميع. كانت النتيجة الدائمة هي الإعلان بشكل عام عن أن متوسط صافي ثروة سكان بوسطن السود هو ثمانية دولارات، وهذا هو الرقم الذي تحصل عليه عن طريق طرح الديون من الأصول. وبالمقارنة، فإن متوسط صافي الثروة هو صفر دولار للدومنيكان في بوسطن، و247500 دولار للبيض (ونَشَرت الصحيفة مقالة تابعة لطمأنة القراء أن هذه الأرقام ليست أخطاءً مطبعية!).
زيادة الشفافية هي قوة معاكسة أخرى في الوسائط الرقمية. ذكر آيفي لي، مؤسس العلاقات العامة، في عام 1925 نقطة جيدة في قوله: «عدم الكشف عن مصادر المعلومات هو الشر الجوهري للدعاية الجماهيرية». يمكن لمحللي البيانات تحديد «المستخدمين مكثّفي النشاط»، المعروفين أيضًا بالجيوش الالكترونية، ويمكنهم العثور على أنماط من النصوص والصور المستخدمة في حملات التضليل المنظمة. لا ينبغي أن تقتصر هذه المعلومات على التقنيين. إذا صُمِمَت المنصات لتسليط الضوء على معلومات حول منبع المنشورات وعدد مرات تكرار نفس الرسالة، فقد يساعد ذلك في نزع الثقة في كثير من المعلومات المضللة التي صممت بغرض الانتشار السريع. إنّ وسائل التواصل حاليًا مصممة حول مبدئين: سرعة الانتشار وجاذبية الطرح. يمكن للشفافية أن تكبح سرعة الانتشار [المضللة]، تمامًا كما أن التحذيرات المروعة على علب السجائر تجعلها أقل جاذبية.
– نميل للاعتقاد بأننا ندرك العالم الخارجي. نعتقد أننا إلى حدٍ ما نَفهم ما ندركه، ولكن هل هناك الكثير مما لا يمكن تجربته في العالم الحقيقي؟
نعم، وأكثر بكثير. هناك البنية المجهرية للعالم، وتنعكس بعض الانتظاميات في هذه البنية المجهرية بشكل جميل في الجدول الدوري للعناصر. تخبرنا الفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء عن جوانب من الواقع لا ندركها من خلال حواسنا. هذه أحد الإنجازات العظيمة للبشرية: القدرة على تحقيق اكتشافات حول البنية الدقيقة للعالم. لذلك هناك هذا البعد من الواقع، والذي يتجاوز الإدراك الحسي.
ثم هناك أبعاد الواقع التي يمكنك أن تقرأ عنها. يمكنك معرفة الكثير عن حياة الآخرين من الكتب والأفلام. غالبًا ما يُنقل عن جيمس بالدوين قوله إنه كان يعتقد أن ألمه كان فريدًا حتى قرأ الكتب وأدرك أنه لم يكن فريدًا على الإطلاق، بل كان أكثر الأشياء شيوعًا في العالم. هذا مهم للغاية، لا سيما في اللحظات الثقافية عندما تُعتبر الاختلافات الاجتماعية في بعض الأحيان على أنها شيء لا يمكن تجاوزه.
نعيش أحيانًا فيما يشبه الفصل العنصري من ناحية التجربة المعيشة (experiential apartheid)، حيث يعيش قرينان من الناس في نفس المدينة، يدرسون في نفس الجامعة، لكن لديهما تجارب مختلفة إلى حد كبير، على الرغم من أنهما يشغلان نفس الأدوار في المؤسسات. قد يعيش اثنان من الطلاب أو اثنان من أعضاء هيئة التدريس في نفس البيئة بشكل مختلف تمامًا، بسبب أنماط الهيمنة الاجتماعية التي تظهر بشكل أساسي في التفاعلات الشخصية. من الأشياء الحاسمة التي تقوم بها العلوم الإنسانية كمجال واسع للدراسة هو مساعدة الناس على الفهم العميق لهذا النوع من الاختلافات التجارُبية. هذا النوع من المشاركة هو طريق للتعرف على التشابه والمسافة بينك وبين الآخرين. أنت لا تحصل على ذلك من العلوم الكمية، على الرغم من أهميتها.
لذا نعم، هناك بالتأكيد أكثر مما يمكنك أن تتخيله، وأكثر من ذلك بكثير. هناك بنية العالم المجهرية. وهناك هياكل وديناميكيات اجتماعية يمكننا معرفتها إذا كنا منفتحين على أنماط الدراسة النوعية والمشاركة. في عصر يُقلل فيه من قيمة الأدب والشعر والدراما والموسيقى والفلسفة والتاريخ كنماذج للدراسة ويُشكك بجدواها، يجب أن ندرك دورها الحاسم في توسيع ما يمكننا معرفته.
– سؤال أخير: هل الإدراك هو الواقع [الخارجي]؟
لا، الإدراك ليس هو الواقع. الواقع يتفلّت على الإدراك. بغض النظر عن مقدار العمل الفكري الذي تقوم به، أو القراءة أو الخبرة أو التواصل، فلن تحصل على الصورة الكاملة أبدًا، ولهذا السبب يوجد الكثير من الكتب في المكتبة. الحقيقة المحزنة أنك لن تقرأها كلها أبدًا، لكنها هناك، ويصور بعضها جوانب من الواقع لا يمكنك معرفتها. النتيجة؟ في كل من الحياة الفكرية والسياسة، يجب أن يكون موقفنا الأساسي هو التواضع بشأن وجهات نَظَرِنَا.
سوزانا سيجل أستاذة الفلسفة في جامعة هارفارد. تعمل حاليًا على مواضيع في فلسفة العقل ونظرية المعرفة. نُشِرَ كتابيها “محتويات التجربة المرئية وعقلانية الإدراك” بواسطة جامعة أكسفورد. تشمل المنشورات الأخرى “ثري أم رفيع؟”، وهو نقاش مع أليكس بيرن حول محتويات الإدراك في “مناظرات معاصرة في فلسفة الإدراك”. “نظرية المعرفة لتأثيرات الاختيار”، في دراسات أكسفورد في نظرية المعرفة؛ و “النفاذية المعرفية: النمطية، ونظرية المعرفة، والأخلاق” مع زوي جينكين. وهي الرئيس السابق للجمعية الأمريكية للدراسات العلمية للوعي. والرئيس القادم للجمعية الجنوبية للفلسفة وعلم النفس. ألقت في عام 2018 محاضرة شاول كريبك، مركز الدراسات العليا بجامعة مدينة نيويورك، وفي عام 2020 ألقت محاضرة جاك سمارت، في الجامعة الأسترالية الوطنية. في عام 2019، حصلت على الزمالة المئوية للجمعية الفلسفية الإسكتلندية، جامعة جلاسكو، وفي عام 2012 حصلت على زمالة والتر تشانينج كابوت.
New Philosopher: Issue #30: Perception