مراجعات

فيتالينا فاريلا: سينما الرثاء بين الضوء والظلام

فراس الماضي

«وُلد الفيلم لحظة لقائي بفيتالينا، عندما كنت أبحث عن منازل لفيلم «هورس موني» حيث أخبرني أحدهم أنّ هناك شخصًا ما قد توفي، وكان ذلك بيته، كيف نفتح الباب؟ هل نكسره؟ ومن ثم ذلك الظهور … تلك المرأة التي فتحت الباب، بملابس الحداد السوداء، تحدق مباشرة في عينَيّ، شعرت أنه سيكون عملًا مخيفًا، عن الوداع، وعن الزمنِ المستغرق لوداع شخصٍ ما، وعن تعلّم كيفية أن نقول وداعًا»  – المخرج بيدرو كوستا

يبني «بيدرو كوستا» منذ بداية القرن الحالي أسوارَ عالمٍ مُهمش، يتجوّل فيه ويستكشف »واقعه« بشكل »خياليّ«، فهو يدخلنا بغيمة مظلمة يعلّق فيها كل من الزمان والمكان، بين الأموات والأحياء، عبر ممرات «فونتاينس»، وعند العوالم المسكونة، متتبعًا بشكل رئيس ما يلي إمبريالية البرتغال لجمهورية الرأس الأخضر من خلال المهاجرين الكوبافيريديين وفيما يلي مآسي تلك الأرواح، فلشبونة هنا ليست أوليسيو، ليست المدينة الساحلية المغمورة بالسحرِ والجمال، ليست لشبونة الشفق ولا الغسق، ولا الأزقة التي تتباهى بألوانها المشرقة، بل لشبونة كأرض للأشباح، كحطام تراكم على رؤوس الحيوات التي تسكنها، ليلها بلا نجوم ونهارها بلا شمس، يمكننا القول إنها سينما ما تحت الحطام،  ليس حطامًا حرفيًا لحروب كالذي ظهر في ثلاثية الحرب لروسوليني أو «زواج ماريا براون» لفاسبندر، ولكنه اجتماعي وإنساني، من فعل الإنسان تجاه إنسانيته، كما هي عند المدمنين في فيلم «غرفة فاندا» أو في تيه فينتورا في «كلوسال يوث» أو في المصحة المسكونة في «هورس موني».

مثيرة هي مسيرة كوستا السينمائية، نظرًا لأنّ كل عمل يبدو وكأنه مكملٌ لإنجازات الآخر من الناحية الفنية، لا في تسلسل الحكاية نفسها، بل في أساليب التعبير، والطرق التي يعيد فيها كوستا اكتشاف السينما من جديد، كفنٍ بين سائر الفنون، متمرد هو إذا ما قورن بأقرانه، فها هو كوستا؛ يجلس في الجهة الأخرى من طاولة الجدال، فيما يخص «التصوير بالديجتال أم الفيلم»، ليستكشف آفاقًا أخرى لِلُّغةِ السينمائية من خلال الديجتال، كما حدث بدايةً مع رائعته الثورية «في غرفة فاندا»، التي انغمس فيها بتوثيقه لخيالٍ انبثق من الواقع نفسه حينما تآكلت فيه جميع حواجز التعبير، وحتى على صعيد طبيعة أعماله فهي شخصية، ليست لكوستا نفسه ولكن لشخصياته التي يلعب أدوارها أُناسها أنفسهم، فهو يستعين بممثلين ليسوا بممثلين بالأصل، ليُشكِّل كوستا امتدادًا للطريقة التي انتهجها كلُّ من فلاهيرتي، ودي سيكا، وروسوليني، وأنطونيو ريس (معلم بيدرو كوستا في مدرسة الفيلم والمسرح في لشبونة، والتي من خلالها تبنى كوستا أسلوب المدرسة الريسية [إشارة إلى أنطونيو ريس؛ The School of Reis] في السينما).

في «فيتالينا فاريلا» يصل كوستا لاكتمال بدر شاعرية حكايته، فهنا هو أكثر خطية وأقل فانتازية، كما في «كازا دي لافا» الذي سبق الارتحال إلى فونتاينس، ليشكل ذلك تحديًّا كبيرًا لما قد تُحقِّقه سردية سينما كوستا في «فيتالينا فاريلا» وخصوصًا لمحبيها والمطلعين عليها، حيث تعتمد جمالية أعمال فونتاينس لكوستا على القوةِ الاستكشافية في التعبير والابتكار في الطرق والأساليب التي تعبث بين خطيّ الخيال والواقع، داخل الصور الواقعية والمبعثرة، للأشخاص المبعثرين، وللأزمان التي تبعثرت، وللرؤى التي قد تلاشت، ولكن في «فيتالينا فاريلا» نتتبع جيدًا بخطٍ واضح عبر إيقاع سكوني، ولد من رحم ليلٍ قد تجمد في ظلمته، لرحلة وداع فيتالينا لزوجها، والتي ذُكرت مقدمتها بفيلم «هورس موني» حيث كان ظهورها شبحيًا وعاتمًا، تركت لنا في خطابها إلى فينتورا، أعيُنًا ونظراتٍ يستحيل نسيانها.

الوصول الصاخب:

يفتتح الفيلم بلقطة ثابتة مهيبة، حيث الجدران قاتمة وسماء الليل دامسة، حفنة من الرجال الذين -من خلال الصلبان التي في أعلى الجدار- يتبين لنا بأنهم عائدون من جنازة، يرتدون الأسود، وصوت الأقدام الماشية والعصي تطرق الأرض، يظهر فينتورا بينهم محمولًا على الأكتاف من قِبل رجلين، تليها لقطةٌ واسعة يبرز فيها إدارة كوستا العبقرية لل«ميزانسين»، حيث نرى الضوء -التركيز الأكبر- على فينتورا وهو على الأرض وكأنه يأخذ قسطًا من الراحة في إحدى زوايا المَمر، وشيء من نظرات الهلع التي دائمًا ما رافقت فينتورا، وخلفه نرى نفس المارة، ولكن هنا هم ظل فحسب كأشباح خلف فينتورا، تليها مشاهد متفرقة وصور لهؤلاء الأشخاص الذين كانوا بالجنازة مع شخصيات أخرى من المجتمع نفسه وداخل أسواره، يضيف كوستا هنا بُعدًا رمزيًا للمكان وعلاقته في  أناسه، حيث الأبواب، والنوافذ، والمنازل غير المكتملة، والرجال الذين يحدقون في اللاشيء، والمرأة التائهة، يلي ذلك مشاهد لرجلين يقومان بكنس وتنظيف منزل المتوفى وحرق أشياءه -ثقافة موجودة في المجتمعات الأفريقية والغجرية-؛ قطعٌ متعمد ليخلّ في إيقاع الفيلم -الصوتي خصوصًا-، ظهور أول صاخب لفيتالينا، في مشهد يشبه الكابوس البارد؛ حيث نراها تقف في الأعلى عند باب سلم الطائرة، كتمثال في أعلى كاتدرائية، تنزل من مدرج الطائرة في أول خطوةٍ تخطوها على الأراضي البرتغالية، وأول لقطة تقريبية/كلوز آب في أحداث الفيلم، حافية القدمين والبول يتساقط من عند ساقيها بلمعان (الحمى والرعشة التي تحدثت عنها إلى فينتورا في فيلم «هورس موني»)، يستقبلها خمس عاملات نظافة في المطار، تقترب إحداهن منها، وبهمسٍ تخبرها: «لقد جئتِ متأخرة، فقد دُفن زوجك منذ ثلاث أيام، عودي فلا شيء لديكِ هنا».

من هنا حيث يبدأ الفيلم، في اللحظة التي تقرر فيها فيتالينا المضي للأمام لا العودة، المضي لعملية تحقيق غير مباشرة في حياة جواكيم الخفية،التي تقودنا فيها شيئًا فشيئًا إلى عالمٍ يلتقي فيه الموت بالحياة، لتستكشف من خلاله ذكرى لحبٍ قد تلاشت ملامحه بين ظلمات الصورة، تؤمن فيتالينا بالحب بوصفه أحدَ الأعمدة المهمة التي تقوم عليها حياة الإنسان، ولكنه أساسٌ قد أصبح حطامًا بالنسبة لها، منذ ذلك الهجران الذي سبق إتمام ذلك المنزل في الرأس الأخضر، والذي بُني بحبٍ ناصعٍ قد أُسْحِم، فهي رحلة تتضمن سببين رئيسين: الأول استكشافيّ، والآخر يكمنُ في المواجهة، وقبل كل شيء هو فيلم يرتدي الأسود برثائية خالصة، ليست على وفاة جواكيم الأخيرة، بل لوفاة أخرى قد سبقتها بكثير، ودفنت نفسها تحت حطام هذا المكان المهمش.

تختلف فيتالينا كثيرًا عن شخصيات كوستا الرئيسية السابقة، فهي ليست غارقة، ولا تائهة ولا هي تحتضر، بل هي نقيض ذلك، إنها الحي الوحيد في حكاية الأموات هذه، إنها العنصر الذي لم يستسلم بعد، شخصية متحدية وخائفة بنفس القدر؛ نرى فيها لحظات «خوف» تحاصرها في المنزل الذي تتفادى فيه الثقوب المنيرة والتي لا تخرج منه سوى في الليل، وبروحٍ مناضلة تواجه العالم الرجاليّ الذي أحاط بحياة جواكيم، فوجودهم في مشاهد العزاء على سبيل المثال أقرب لأن يكون مضايقًا لفيتالينا ممّا هو وقوفٌ بجانبها، فهم لا يقدمون يد المساعدة، وإن قدموها فسيكون ذلك بمقابلٍ ماديّ (كالتونة التي حاول نتوني بيعها لفيتالينا)، وإن تحدثوا أصبح الحديث مُنحازًا وجارحًا (يهمس أحدهم في الغرفة الأخرى أن فيتالينا هي فتاة أخرى لجواكيم وفيتالينا تستمع)، فهي ترى بأعينها زيف ما يخرج من أفواههم، وميلهم الواضح لتمجيد جواكيم، نظرًا لأنه شخصٌ قد كافح بشقاء في هذه الحياة، بوصفه عاملًا وبنّاءً ومُناهضًا قد لاقى مآسي الحياة، والأهم من هذا كله بوصفه «رجلًا مثلهم»، على غير ما تنظر إليه فيتالينا وهي تَعِدّهُ شخصًا قد هرب بجبنٍ من حياته، من كادحٍ في عمله في الرأس الأخضر إلى رجلٍ كسول قد انكسر أمام ملذاته، وأصبح العامل الذي لا يجيد بناء سقف منزله حتى.

المواجهة:

عندما ننظر إلى عالم الفيلم نظرةً فاحصة، سنلحظ وجود قطبين يتغلب أحدهما على الآخر، قطب رجاليّ وآخر نسائي، نشهد في ذلك غلبة ذكورية قصوى على مسارات الحياة، الأب يرحل ويختفي تاركًا زوجته وأولادها في حيره أمام عقبات الحياة، مستبدلًا ذلك بحياة أخرى في مكانٍ ما، هاربًا من الواجبات والمسؤوليات (مستغلين بذلك امتيازات كونهم رجالًا)، في المقابل نرى شخصيات نسائية، وعلى قِلّتها إلا أنها مُنكسرةٌ وبشدة، كزوجة نتوني مارينا، ووالدة نتوني التي ظهرت في مشهدين عابرين، الأول في المشاهد الافتتاحية حيث كانت تائهة، ومشهد آخر كانت تائهة أيضًا في بحثها عن نتوني بين السلالم، كما يذكر نتوني أيضًا لفيتالينا حكايتها، وعن رحيل أبيه عنها دون مقدمات إلى أرض الوطن، بحجة أنه أراد أن يُدفن هناك (شيء يشابه ما حدث لفيتالينا)، ولكن جميعهم ليسوا فيتالينا، فعلى الرغم من الدموع السوداء التي تصب من عينيها، إلا أنها لم تنكسر أبدًا، لتجسد حالة خاصة في فونتاينس، ومن المشاهد المميزة والمعبرة التي تبيّن لنا ذلك، هو مشهد مارينا الوحيد، حيث يبين لنا كوستا من خلاله عن مكان فيتالينا بين هؤلاء النساء، تجلس فيتالينا في الجهة اليسرى ونتوني في مقدمة الشاشة يغطي فيه جزءًا كبيرًا من ماريانا وهي خلفه، كما لو كان جزءًا كبيرًا منها غير موجود في المشهد بفعل نتوني، تُقدّم لها فيتالينا الطعام، ولكنه يتحدث بلسانها بأنها لا تأكل كثيرًا، يُكمل نتوني عن مدى لذاذة طعام فيتالينا، وتبدو لنا فيتالينا بأنها لا تبالي بينما تنظر إلى مارينا بنظرات عطفٍ مستمرة، والتي كانت بدورها تنظر إلى الأسفل وبلحظة ترفع ناظريها إلى الأعلى قليلًا، إلى أعين فيتالينا، ولكن ها هي تعود إلى حيث كانت أعينها، إلى الأسفل، تبتعد ماريانا وتذهب إلى النافذة بلقطة تذكرنا بكارافاجيو كثيرًا، كما لو كانت تبحث عن هواء لكي تتنفس أو عن نورٍ وسط هذا الظلام.

تعيش فيتالينا في أحداث الفيلم مشاعر متناقضة داخل ظلمات تحيطها من كل الجهات، فرغم إيمانها الحقيقي بقيمة الحب إلا أن الأشياء تبدأ بالتكشف، وشيئا فشيئًا نبدأ برؤية أن حبَّ حياتها قد كان شخصًا سيئًا بالمجمل، إنها في محاكمة رحيل، وتقصّي لما يختبئ من أسرار خلف هذا الليل السرمدي، فلدى الفيلم خط خيالي يوجَد في وحدة فيتالينا ومن خلال المونلوغات التي تقدمها، والتي تخاطب فيها جواكيم، كشبحٍ يتجول في أفق هذا المنزل، تنتظره ليتشكَّل، ولينطق بأجوبةٍ شافية على تلك الأسئلة التي شغلت بال فيتالينا لعقود، ولكن الكلمات هذه لا تخرج إلا في واقع الفيلم، على شكل استجوابين أو ثلاثة يأتيان شفهيًا من قبل شهود وهم رفاق جواكيم، أحدها كان من رفيقٍ مقرب لجواكيم، استحضر في العزاء مشاهد من لحظات جواكيم الأخيرة؛ حيث نراه يتحرك ويمثّل مشهدًا يتحدث فيه إلى جواكيم وعن جواكيم، نلحظ في ذلك حرص كوستا الشديد على أن لا يعود في الزمن بشكل ملموس، لا من خلال «فلاشباك» ولا في إحضار جواكيم صوتًا ولا صورة، بل فيتالينا فحسب تنظر إلى الرفيق، وهو ينهض ويتحرك ويتحدث، وذلك لسببين مهمين، الأول في مسألة أنَّ الفيلم حكاية ما بعد فوات الأوان، والثاني لكي لا يخلق تصورًا افتراضيًّا ملموسًا قد يُشوّش على رؤية المشاهد، أي أن هذا الاستحضار ليس سوى حكاية يحكيها أحد رفاق جواكيم؛ حكايةً قد تحتمل الحقيقة والكذب، والتي تنزلق شيئًا فشيئًا لتصبح كذبًا وشهادة زور من منظور القاضي الذي هو فيتالينا، ذلك عندما يذكر الرفيق اهتمامه الشخصي في أن يتصل بزوجته التي تعيش في الرأس الأخضر، نظرًا لتناقض ذلك مع كل ما يجري، ففيتالينا هي إحدى فتيات جواكيم الكثر، لا يعرفون عنها شيئًا سوى مجيئها كأرملةٍ لجواكيم، يقومون بتعزيتها دون معرفة أي زوجة هي، إنهم يتواطؤون في الجريمة، ويشتركون مع جواكيم في سلسلة الدجل هذه، وفي خيانة الوعد الذي اطفأ نور الحياه الكريمة، والتي آمن بها أناس مثل فيتالينا، إنهم نسخٌ أخرى من جواكيم، محتالين، تواجههم فيتالينا وتشير إليهم بأصابع الاتهام لمأساة الحلم الذي لم يتحقق أبدًا.

في مكانها كغريبة في عالم جواكيم، تلتقي بفينتورا الذي سكنت الأشباح حياته أيضًا، والذي يعلن كوستا من خلال هذا الفيلم عن احترافيته كممثل، فهو لا يلعب دور نفسه كما حدث في سابق أفلام فونتاينس، بل بدور لقسيس يعيش في أزمة إيمان قادته إلى الجنون، وذلك عندما طُرق باب أبرشيته في الرأس الأخضر من قبل مجموعة من الناس ليتم تعميدهم، والذي رفض ذلك بإرسالهم لأبريشة أخرى تبعد بضعة كيلومترات نحو ترافال، حيث يلقون حتفهم وهم في طريقهم إليها، ليشكل فينتورا هنا نقطة التقاء بين فيتالينا ورجال فونتاينس؛ فهو يشترك في ظلمة الحداد كفيتالينا، ويشترك معهم نظرًا لأنه رجلٌ من المجموعة، حيث نشهد صدامًا مماثلًا لما حدث، مباشرًا أكثر، لكن بحدةٍ أقل، فهو يعرف جيدًا الظلمة التي تعيشها فيتالينا، وقد رأيناه أيضًا يمشي مرددًا كلمات الرثاء الفولكارية لرأس الأخضر ورجالها، ونرى وحشة كل مكان يخطو فيه، الرجال الذين يلعبون ويشربون، مشاهد ليلية مهيبة، يردد مصطلحات تتعلق بالعمل؛ كالطوبِ والأسمنت والسقف، أشبه لأن تكون علامات لها قدسيتها في هذا المجتمع، ونرى أيضًا من خلال كنيسته المهدمة ما تحتويه الكنيسة وعلاقتها بمجتمعها، محطمة، وبأول كلماته إلى فيتالينا يقول: «لا أحد يأتي إلى الكنيسة الآن»، تعبيرًا لحالة الهجران التي تعيشها الكنيسة.

الأسود ليشكل لغة:

لسنا بحاجة لأن ننظر بتمعن لكي نلاحظ الدور الشعوري الذي يخلقه الأسود في تكوين إيقاع الصور، أو في تعبيره المجازي لحالة فيتالينا الحدادية، أو لما يخلقه الأسود من وحشةٍ مرعبةٍ لعنصر الفيلم المكاني، بل يرتقي به كوستا هنا ليجعله حاسمًا بقدر صفرة صحراء فورد، أو بقدر صفاء الأبيض عند دراير، ولكن قبل أن نوضح ذلك، لننظر بعجالة على مكان الأسود في الفنون، دون النظر إلى ما يرمز إليه من دلالات، نظرًا لأنَّ سينما كوستا لا تؤمن بهذا النهج من السينما، ففي الرسم الأسود عمق يخلقه الرسام في رسمته، وفي المسرح فلا وجود للأسود -نظرًا  لأنَّ أيَّ شيءٍ لا يُضاء عليه في المسرح هو شيءٌ خارج المسرحية- لكن في السينما هو فراغ يتعمده الفنان نفسه ويختاره رغبة منه، فلا يمكننا صرف النظر عنه كما يحدث في المسرح، وهذا ما يفهمه كوستا جيدًا، بل يعطيه هنا أهمية بقدر التي يعطيها شخصياته، عبر خلقه لخطٍ بصريّ سردي يرتبط بحكاية فيتالينا ارتباطًا طرديًا.

فمع مرور أحداث الفيلم تبدأ صور الفيلم في أن تأخذ شكلًا أكثر سوادًا، كما لو أوشكت الأشباح على هبوطها في أرض فونتاينس، مخترقة قوى فيتالينا وجدرانها المؤصدة، ولوحات سينمائية في غاية الروعة لفينتورا وهو يتجول في الأزقة تلتقط اعترافاته وصلواته، يُفتح باب فيتالينا في ليلة حالكة، يدخل رفيق جواكيم، وتختلط الصور بينه وبين جواكيم، يعطي المفتاح لفيتالينا -دلالة على أنه كان يسكن مع جواكيم- أتى الآن بدافع الوحدة والاشتياق، يجلس وصورته في الإطار مظلمة فملامحه بالكاد ترُى، يستفتح الحديث باسترجاعه الليالي التي قضيها مع جواكيم، وعن رسائل الحب التي كتباها إلى فيتالينا -انعدام شخصية جواكيم في رسائله إلى فيتالينا- وقد يذكرنا هذا أيضًا بشخصية ليتو في فيلم «كلوسال يوث» والذي كان يكتب رسائل حبٍ لرفقائه لكي يرسلوها إلى عشيقاتهم في الرأس الأخضر، نماذج متشابهة في فيلمين مختلفين لكوستا، يبينان لنا طبيعة علاقة هؤلاء الرجال بمن يحبون، يكمل الرفيق حديثه الذي يوضح فيه مدى مرارة أيام جواكيم الأخيرة، وتحوله لبائع مخدرات لكي يسدد ديونه، وعلى عكس الاعترافات السابقة يوجد هنا شعورٌ قوي بالحقيقة في ما يقوله، شيء من جواكيم، وذلك بسبب الشكل الذي قدم كوستا فيه المشهد، لنتفحص العنصر الصوتي في المشهد بوصفه مكوّنًا مهمًا لهذا الشعور، نستمع بداية إلى صوت الغاز وصوتٍ خارجي لأشخاصٍ يتحدثون، يتوقف صوت الغاز ليبدأ صوت الماء وهو يصطب على يد فيتالينا بإيقاعية واضحه ومستمرة، الإيقاعية في الأصوات المجردة هي شعور حلمي أو على الأقل شرخ في واقع الفيلم، نرى ذلك كثيرًا في أحلام تاركوفسكي على سبيل المثال، لكن ما يحسم هذا المشهد هي إضافة الصوت الخارجي لأشخاص يتحدثون خارج المنزل خصيصًا، باعتبار أن الصوت الخارجي غير الملتزم بإيقاعية معينة هو نموذج واقعي في التعامل مع الصوت، يقدم كوستا هنا حالتين تناقضان بعضهما. في هذا المشهد يظهر الرفيق على هيئة  الزوج الراحل «جواكيم»، حيث نرى من منظور فيتالينا صورًا من جواكيم في هذا الرفيق، ولذلك نرى نوعين من الأصوات أحدهما حلمي يأتي من الخيال، وأخر من الواقع ومن هذه الناحية نرى صوتين من عالمين مختلفين؛ خيال يلتقي بالواقع أمام فيتالينا.

السينما بوصفه فنًّا لتحقيقِ المعجزات:

مع اشتداد عتمة إطارات الفيلم نلحظ تحولًا تدريجيًّا في خطِ الفيلم، من ملاحظة مكثفة لحالة حدادية شعورية إلى تتبعٍ لعملية وداعٍ ملموسة ذات سمات تصاعدية، وداع معنوي تترجمه السينما لما تركه جواكيم في فيتالينا، ولتحقيق ذلك تنال فيتالينا المساعدة من فينتورا، حيث يذهب بنا كوستا لمشهدٍ ليليّ في المكان الأكثر ظلمة حيث الغابة، ولقطة واسعة يتوسّطها مصباح، وفي يمناها فيتالينا تحفر، وفينتورا يسارًا يردد كلمات تبدو إنجيلية لما تحتويه من تصوير لنهاية اليسوع، إلا أنها مقتبسة من قصيدةٍ للشاعر البرتغالي انتيرو دي كوينتال (أحد ملهمي فيرناندو بيسوا) وفيتالينا تردد خلف فينتورا، بمجرد أن تتوقف عن الحفر، ينتقل بنا كوستا لالتقاطتين متوسطتين؛ إحداها لفينتورا وأخرى لفيتالينا، وعندما تتوقف فيتالينا عن الترديد، ينتقل كوستا لالتقاطة تقريبية/كلوز آب على فيتالينا، مستغنيًا في هذا المشهد عن اللقطة الطويلة الواحدة التي طغت على معظم مشاهد الفيلم، وذلك من خلال تكثيف لعمل الأدوات، ليخلق شعورًا متصاعدًا من الترقب، يوحي لنا بأن شيئًا ما على وشك الحدوث، بينما هو يقترب شيئًا فشيئًا من فيتالينا، يتخلص مما هو موجود في كادر الصوت، الحفر أولًا ومن ثم صوت فيتالينا،وصوت فينتورا.

سكونٌ يعم الأرجاء بعد كل هذا التكثيف، وهنا حيث تأتي اللحظة الأهم، عندما يضع كوستا حدًا لسواد الليل البهيم، ليعلن عن ميلاد ضوء النهار، لضوء يظهر لنا في نهاية نفقٍ طويل، أو لشمس تشرق على مكانٍ لا يعرف سوى ظلمة الليل، ليجسد تصالح فيتالينا مع السماء، مع الماضي، ومع الحزن وخيبة الأمل التي خيمت على حياتها لسنوات، وفي مشهد شاعري للغاية، في المقبرة، تقف فيتالينا بجانب فينتورا أمام قبر جواكيم، في لقطة واسعة شغر فيها بياض الغيوم المتحركة الحيز الأكبر من الإطار، ليخلق لنا شعورًا قويًّا من السلام الروحي، ولا أتذكر سلامًا قد جاء بهذا القدر من السماء في السينما، وهذا يعود للطريقة التي ذكرتها سابقًا في صياغة كوستا لثيمات فيلمه وأدواته البصرية -في استخدام الأسود خصوصًا-، في ألا تلعب دورًا مجازيًا فحسب، بل لأن تساهم في تكوينِ معنى حرفيّ داخل خط بصريّ أساسي في العمل، بارتباط الوسيلة بوداع فيتالينا، لأنْ يُصبحا خطَّيْن متداخلين في سياقٍ واحد، كلغةٍ يحكي بها كوستا حكاية فيتالينا، ولا يمكن حكايتها إلا من خلال الضوء والظلام.

قد يكون «فيتالينا فاريلا» هو أكثر أفلام كوستا ليلية، ولكنه الوحيد الذي نطَق أخيرًا بالأمل، فلا يستخدم كوستا الكاميرا والضوء والصوت هنا كأداةٍ للتعبير فحسب، بل لأن تصبح الخرافة أو الأسطورة التي بإمكانها تحقيق المعجزات، لتحقيق وداع فيتالينا، ولأن تتخلى عن رفقة الأشباح التي تطاردها، وذلك في لقطة تقريبية/كلوز آب بليغة، نرى فيها قدمي فيتالينا مرة أخرى، ولكن هذه المرة في خروجها من ظلمات ذلك المنزل المسكون إلى الخارج حيث ضوء النهار، لنرى بعد ذلك رفيق جواكيم وهو يقوم بإصلاح سقف المنزل، فالأمل هنا لا ينطوي على فيتالينا فحسب بل لأن يكون بصيصًا قد ظهرت لنا ملامحه في النظام الاجتماعي أجمع، ليختتم كوستا بعد ذلك بلقطة واسعة شديدة الشخصية لفيتالينا عندما نرى منزلها التي قامت ببنائهِ برفقة جواكيم في الرأس الأخضر، ونرى في أعلاه ابنيها، ليقفل الفيلم هنا، ليصبح فيلمًا عن فيتالينا، ولفيتالينا، ومُهدى بنفسِ القدر لحياة فيتالينا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى