عبّر الفن التشكيلي عبر الزمن عن الإنسان وصراعاته النفسية والاجتماعية والسياسية، وهذا ما جعل الفن بأنماطه السبعة بشكل عام أو الفنون البصرية بشكل خاص -سواءاً أكانت لوحات مرسومة بألوان الزيت أو الفحم أو الرصاص، أو تلك الأعمال التشكيلية المنفّذة بالمواد الخام من صخور الجرانيت أو الحديد أو النحاس وغيرها- جعلها سجلاً حافلاً يجسّد الشخصيات والوقائع التاريخية الدينية والسياسية المهمة، فهي ليست مجرد أعمال صامتة للفُرجة والمحاكاة الفنية فحسب، بل تتجاوز ذلك لتكون موضوعات حية لذاكرة المجتمعات، ووثيقة مادية هامة لرصد التغير الاجتماعي والحراك التراتبي في النظم الاجتماعية.
وتؤكد الرسومات الصخرية المُكتشفة أنّ الرسم وُجد مع الإنسان القديم كطريقة للتواصل مع الآخر، بغض النظر عن كينونة هذا الآخر وغايات هذا الاتصال، لأن فكرة التواصل من خلال الرسوم البدائية بحد ذاتها هي دلالة على الاعتراف الوجودي بذات اجتماعية حظيت بتاريخ يستحق النظر فيه بالدراسة والتحليل. كما أنّ تطور تقنيات الرسم والتصوير والتشكيل لتتحول من مجرد النحت على الصخور وجدران الكهوف إلى رسم باستخدام خامات أخرى أكثر تطوراً، جعلها تأخذ منحى ينحو نحو الغايات الجمالية بعد أن اقتصرت على غايات العبادة والتضرع للمعبود.
لوحة تحرير القدس لجيوفاني باتيستا
من هنا ارتبط الفن بالفضاء الاجتماعي، وأصبح وثيق الصلة به من ناحية أنه يعبّر عن الواقع الاجتماعي المُعاش لحُقب زمنية معينة، أو يعبّر عن الاحتجاج والسخط الاجتماعي، أو ليجسد واقعًا مُتخيّلًا لا وجود له.
وبنظرة على تاريخ الفن، يمكن أن نلمس أن الفن التشكيلي في بداياته ارتبط بالسُلطة الدينية والطبقات البرجوازية، والسؤال الذي يُطرح في هذا المقالة هو: هل يعبّر الفن التشكيلي عن الطبقات المهمشة والإنسان العادي ببساطة عيشه،كما يعبّر عن الشخصيات المهمة والأحداث الكبرى؟
لوحة تحرير القدس والتي تعود إلى القرن مابين السادس عشر أو السابع عشر والمنسوبة إلى الفنان الإيطالي جيوفاني باتيستا تيوبولو تجسّد معركة يعتلي بها مقاتل فرسه وسط مجموعة رجال أحدهم يبدو وكأنه رجل دين بينما يظهر شخصان عاريان في أسفل اللوحة وبقية الرجال عُزّل من السلاح. ولوحة استشهاد القديس شيبا سيتان المرسومة في العقد الثاني من القرن التاسع عشر يظهر فيها القديس طريحاً يصارع الموت بجانبيه رجلين يرتاديان عباءات سوداء تخفي رؤسهم ويحدّق الأول في وجه القديس بينما ينظر الآخر للناحية الأخرى وهو يحمل في يده اليمنى قنينة. ولوحة الفنان إلجيركو التي تعود إلى القرن أواسط القرن الخامس عشر إلى بدايات القرن السادس عشر وتحمل عنوان دفن الكونت أورجاز، يظهر في اللوحة جسد الكونت يحمله القديس البابا الذي يعد رأس الكنسية بجانب راهب آخر ويحيط به عدة رجال يرتادون السواد.
لوحة استشهاد القديس شيبا سيتان للفنان ريبو
كما صوّرت بعض الأعمال شخصيات نافذة تنتمي للطبقات النبيلة الحاكمة أو البرجوازية مثل لوحة الامبراطورة ثيودورا وأتباعها والتي تعود إلى سنة 547م والمنفّذة بقطع الفسيفساء. ولوحة فلاسكوز والتي تعود إلى أواخر القرن الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر وتصوّر ملك إسبانيا فيليب الرابع. ولوحة السيد جون فري ولوحة أندريه ساكي التي تعود للقرن نهايات الخامس عشر وبدايات القرن السادس عشر ، ولوحة وجه ماري ستيورت لسوستيرمانز وتظهر فيها سيدة نبيلة متزيّنة بحُليّ في شعرها وأقراط وعقد متدلي على صدرها، وجميع هذه الأعمال عبارة عن بورتريهات شخصية خاصة.
بورتريه أندريه ساكي | بورتريه أنطونيو جراف | بورتريه لسيدة برجوازيه |
هذه الأعمال تؤكد على أن الفن في بداياته كان مرتبطًا بالفضاء الديني والفضاء البرجوازي المتمثّل في الطبقة الحاكمة بأفرادها والنساء ذوات الطبقة الرفيعة والرجال الشجعان، ويمكن القول إنّ هدف الفن في ذلك الوقت هو تصوير هؤلاء الأفراد وتخليد ذكراهم -فيما يحل محل الصورة الشخصية الفوتوغرافية-، فيسخّر الفنان إمكانياته لتجسيدهم بواقعية ودقة مثالية.
بعد هذا العرض البسيط نعود لسؤال المقال الرئيسي: هل الفن محصور على الطبقات الحاكمة؟ والأحداث التاريخية المفصلية؟ ماذا عن الإنسان العادي؟ وعن الحياة اليومية للطبقات العادية والهامشية؟
تعبير الفن التشكيلي عن الطبقات الهامشية:
لوحة زوجات عمال الفحم لفينست فان جوخ
لوحة الكنّاس لهوفيفيان
بغض النظر ما إذا كانت هذه الأعمال حظيت بالصيت والشهرة مقارنة بالأعمال المهمة سابقة الذكر أم لا، إلا أنه تؤكد على أنّ الفن التشكيلي لم يكتفِ بالتعبير عن المهم والمفصلي، بل عبّر حتى عن الانسان العادي والهامشي وعن الحياة اليومية البسيطة.
وهناك عدة أعمال تعد إجابة قطعية بالنفي للسؤال الرئيسي السابق، مثل لوحة زوجات عمال الفحم لفنسنت فان جوخ والتي تعود للقرن الثامن عشر. ولوحة الكنّاس للفنان هوفيفيان وهي تصوّر رجلاً يرتدي رداء أصفر بيده مكنسة يقوم بتنظيف الزقاق بها. بالإضافة إلى عمل وليمة لبيتر برويجل والذي يعود إلى القرن الخامس عشر تقريباً يصوّر مجموعة من الطباخين يقومون بتقديم الطعام لآخرين.
عمل بنت النيل الفلاحة لأحمد عثمان
أما فيما يتعلّق بالفن التشكيلي العربي، يعدّ عمل «بنت النيل الفلاحة» من الأعمال المهمة فهو عبارة عن تمثال مصنوع من الجبس بإرتفاع أكثر من نصف متر، للفنان المصري أحمد عثمان والذي عاش في الفترة مابين 1907-1970م.
بالإضافة لعمل يحمل عنوان «دنيا هنيّة» للفنان المصري عادل نوح يصوّر فيه ثلاث نساء يقمن بخبز العجين ووضعه داخل التنور الحجري بصحبة أطفالهن وهن يجلسن على الأرض في مكان ريفي داخل حضيرة دجاج، وعمل آخر لنفس الفنان يحمل عنوان «قهوجي الشاطئ».
أما عمل الفنان اليمني زكي اليافعي، الذي ركز في معظم إعماله على حياة الانسان العادي اليومية، فيصوّر في عمله رجل كبير السن يجلس في زقاق وهو يتناول طعامه على الأرض. وعلى امتداد الزقاق في مكان جغرافي آخر فيصوّر الفنان المصري حامد عويس رجل يجلس بيأس على قارعة الطريق وهو فاقد الأمل، يحمل العمل عنوان «البطالة».
وأخيراً، صوّر الفنان الكويتي إبراهيم إسماعيل الحياة اليومية في السكّة ويُظهر مجموعة من الأفراد في لقطة توثّق الحركة اليومية. الجدير بالذكر أنّ لفظي «الزقاق» و «السكة» هي مفردتان تستخدمان للدلالة على الفضاء الخارجي والطُرق العامة المؤدية للأماكن الرئيسية في القرى الصغيرة، بينما تُسمى الشوارع بأسماء وأرقام في المدن الحضرية.
لوحة البطالة لحامد عويس
عمل لزكي اليافعي
تعبير الفن التشكيلي السعودي عن الانسان العادي في الحياة اليومية:
لوحة بائع السمك لمحمد الجميعة
تتسم الحياة الاجتماعية في المجتمع السعودي قبل ظهور النفط -نقطة الصفر لولادة المجتمع الصناعي في المجتمع السعودي- بالبساطة في التركيب والذي بدأ في التعقّد تدريجياً مع نمو الاقتصاد وتعدد أنماطه، إلا أنّ أعمال الفن التشكيلي السعودي تسمح لنا بالعودة عبر الزمن لإلقاء نظرة على واقع الحياة الاجتماعية للإنسان العادي في أعمال الفن التشكيلي.
لوحة عمل القرصان لفهد الربيق
في لوحة بعنوان عمل «القرصان» للفنان فهد الربيق والذي يعود إلى سنة 1981م يصوّر العمل امرأة تجلس على الأرض وتقوم بعمل أكله تقليدية نجدية وهي القرصان، وعمل آخر للفنان محمد الجميعة يحمل عنوان «بائع السمك» يصوّر رجلاً يقف خلف محصول صيده وبجانبه ميزانه بانتظار زبائنه، وعمل آخر لنفس الفنان يصوّر مجموعة نساء في سوق شعبي. وعمل للفنان ضياء عزيز يحمل عنوان «مَشْكل الحارة»، يصور رجلاً يمشي بفتوّة واندفاعية يحمل أداة حادة على خصره وعصا في يده، وعمل آخر لنفس الفنان يصوّر امرأة تجلس على الأرض وهي تقوم بغسيل الملابس في «طشت» وبجانبها قدر فوق غاز لتسخين الماء.
لوحة مشكل الحارة لضياء عزيز
جميع الأعمال السابقة تصوّر حياة الإنسان السعودي العادي في يومه وهو يمارس طقوسه اليومية البسيطة، تلك التي تتعلق بحياته الخاصة وتلبي احتياجات الناس البسيطة، ولا تؤثر في مسار حياتهم أو مصائرهم أو تملك سُلطة من نوعٍ ما عليهم.
وبنظرة واسعة على أعمال الفن التشكيلي السعودي وعند مقارنته بتاريخ الفن التشكيلي في أوروبا، نلمح بوضوح أنّ الفن التشكيلي السعودي لم يولد برجوازياً، بل جاء وكأنه مسخر ليوثق حياة الانسان العادي، حيث دأب الفنانين التشكيليين السعوديين على تصوير واقع حياتهم الاجتماعية اليومية، وعبروا عنها بأساليب مختلفة وخامات وتقنيات متنوعة. وهذا على سبيل الرصد والتوثيق وليس على سبيل الحصر، لأن الفن التشكيلي السعودي عبّر عن بعض الأحداث التاريخية المفصلية والشخصيات المهمة -وهي تستحق سرداً منفصلاً-.
لوحة لضياء عزيز
وبنظرة بانورامية على الفن التشكيلي بشكل عام وتعبيره عن الطبقات الاجتماعية المختلفة، فمن خلال عرض الأعمال السابقة يتضح أنّ الفنون التشكيلية لم تقتصر على التعبير عن الأحداث التاريخية الكبرى فقط والشخصيات ذات التأثير المحوري وإن كانت كذلك في بداياتها، إلا أنها توسعت في موضوعاتها وتجاوزت الطبقات البرجوازية، وامتدت لتتغلغل داخل الحياة الإنسانية بتفاصيلها، فعبّرت عن الإنسان العادي والهامشي، ذلك الذي لا يحتل موقعاً مؤثراً في السلم الاجتماعي بالمعايير التي يضعها مجتمعه، وإن كان يؤدي دوراً وظيفياً وفاعلاً فهو ليس بالضرورة يحظى بالمكانة والوجاهة الاجتماعية كونه يمارس أعمالاً لا تتعلق بمصائر الناس بشكل مؤثر، كالفلاحة والكناسة والطهي وحفر المناجم واستخراج الفحم، وإن كانت بعض المهن خطرة ولكنها ليست بطوليّة بالمعيار الاجتماعي.
وأخيراً يمكن القول إنّ تحرر الفنان التشكيلي من سلطة الطبقات البرجوازية والدينية الحاكمة ساهم في توسع موضوعات الفن وتطوّر أدوات الفنان وتوجهاته، كونه تخلّص من ضرورة الواقعية المفرطة كمذهب فني أُلزم به، فتحوّل إلى مسار جديد ينحو نحو التعبير عن واقعه المُعاش وحياته الخاصة مما أعطى قيمة وجودية للإنسان العادي والطبقات الاجتماعية الهامشية.