عندما نُفكِّر بالفضاء، غالبًا ما نُفكِّر بشيءٍ يمتدُّ بلا نهاية؛ فالفضاء هو حيث توجد الكواكب والنجوم، وهو الحدُّ الأخير. وحين نُحدِّق في الفضاء، لا نستطيع أن نُدرك ضخامته؛ فيبدو لنا أنه يمتد بلا نهاية، على الرغم من أن هذه الفكرة تكاد تكون عصيةً على التصُّور (مثلما أنَّ فكرة أنه ليس لانهائيًّا تبدو عصيةً على التصوُّر). إنه يحتوي كل ما يوجد. إنه هائل، وصامت. والعزلة التَّامة ستكون في التحليق في الفضاء، بعيدًا عن كلِّ ما هو عزيز علينا. والفضاء هو كلُّ ما يوجد هناك.
مع ذلك، فنحن نقيم أغلب الوقت في مكانٍ أكثر تواضعًا من ذلك: فضاء مغلق؛ فنحن في داخل الغرف أو الردهات أو السيارات أو القطارات أو -في الشهور التسعة الأولى- في الأرحام. وعند الولادة نُغادر فضاءً مُغلقًا إلى فضاءٍ مُغلقٍ آخر، أو بالأحرى ننتقل إلى سلسلةٍ من الفضاءات التي تتراوح في مدى انغلاقها. والفضاء داخل المباني مُحاط بالجدران والزجاج والخرسانة والألمنيوم والطوب، وهو محدود بهذه المواد -وكلُّ ما ننحبس فيه- التي تُؤثِّر في شعورنا. فالمشي في غابة حين تتلاقى الأشجار فوقنا، يُنتِج شعورًا مختلفًا عن شعور المشي في أرض مفتوحة. والناس الذين يحيطون بنا في مجموعة يحدُّون حركتنا، ونحن نشغل حيِّزًا بينهم. وغرفة ذات سقف منخفض قد تُشعرنا بالضيق، أما كاتدرائية فقد تجعل أرواحنا تُحلِّق حتى لو لم نكن متدينين؛ بفضلِ الأقواس والأسقف المُقبَّبة، ومزيج الحجارة العارية والزجاج المُعشَّق، وصدى الأصوات.
وقد قال المهندس المعماري الفرنسي أوغست بيريه إن الهندسة المعمارية في جوهرها هي فنُّ السيطرة على الفضاء وتشكيل الأحياز داخله:
«إنّ الهندسة المعمارية تُسيطر على الفضاء، وتحدُّه وتغلقه وتحيط به».
وتلميذُه، المهندس المعماري الحداثي إرنو غولدفنغر، طوَّر هذه الفكرة. إذْ كتب يقول في أربعينات القرن العشرين إنّك لن تفهم مبنى من المباني ما لم تتحرَّك في داخله، وأن تستشعر الوجود داخله.
مسائل الحجم والمواد والتناسب والضوء، وحتى حرارة الهواء والرطوبة، جميعها تُساهِم في هذا الإحساس بالفضاء الذي يعمل عادةً على صعيدٍ ما قبل الوعي. ويمكننا أن نجلب هذه الإحساس إلى المستوى الواعي، ولكن عادةً ما تعمل تجربة الفضاء هذه على مستوى يقع تحت وعينا فورًا، مثلما أنَّ الموسيقى يمكن أن تؤثِّر في مزاجنا حتى عندما لا نُنصِت لها بوعي. كتب غولدفنغر:
«الإنصات (الواعي) ليس ضروريًّا للتأثُّر بالموسيقى، وبالمثل ليس من الضروري إجراء تدقيقٍ واعٍ في العلاقات المكانية للتأثُّر بها».
أحد الأسباب التي تجعل النماذج الهندسية لا تنبئنا الكثير عن المباني هو أنها لا تضعنا وسط هذا الفضاءات المغلقة. وفي أحسن الأحوال، قد تنقل شكل المبنى من الخارج، وكيف يرتبط بالبيئة المحيطة به، وربما كيف يقع الضوء عليه في أوقات مختلفة من النهار. واليوم، الجولات المولَّدة عبر الحاسوب للمباني تفتقر إلى العديد من الجوانب الحسية لما هو حقيقي، مثلما أنَّ مكالمة فيديو لا تقوم مقام اللقاء وجهًا لوجه. ولكن إذا دخلت غرفةً تتسم بالتناسب، مصممةً وفق القِسمَة الذهبية، ومبنية وفقًا للمقياس البشري، مع إضاءةٍ طبيعيةٍ وهواءٍ نقيٍّ، وبنوافذ تتيح لك التحديق في الغيوم البعيدة والأفق؛ فهذا سيؤثِّر في شعورك. ولربما ستُشعِرك بالطمأنينة والسلام التأمُّلي، وقد تُشعرك بالأُلفَة. أما غرفةٌ أخرى، رديئة التصميم، صغيرة ومحمومة وسيئة الإضاءة، لها سقف خفيض، وتعبق بروائح الغبار؛ فيمكن أن تُشعركَ بالضيق وعدم الارتياح، حتى قبل أن يُتاح لك الوقت للتأمُّل في سبب شعورك هذا. وعند غولدفينغر أنَّ هدف المهندس المعماري هو تحقيق وظائف اجتماعية وخلق فضاءاتٍ مُنظَّمة للنشاط البشري. ولكن إلى جانب هذا أيضًا «أداةٌ لتحقيق أثرٍ نفسي»، بحيث يخلق المهندس عن وعي بيئاتٍ ستُشكِّل تجربة من يوجد داخلها.
مع ذلك، كما عرَف الفيلسوف الفرنسي غاستون باشلار ووصف في كتابه «شاعرية المكان»، نحن لا نواجه أيَّ مكانٍ منزليٍّ بعيونٍ أو عقولٍ بريئة؛ فنحن ننوء بحِمل التوقعات وأنماط التفكير المتعلقة بالمكان الذي كُنَّا نُقيم فيه سابقًا، خصوصًا عندما كُنَّا أطفالًا. والطريقة التي نختبر بها أيَّ فضاءٍ مُغلق محكومة بعض الشيء بالفضاءات التي نشأنا فيها وشكَّلتنا. وكما قال، المنزل الذي نولد فيه ونستكشفه أول مرة «محفورٌ فينا». وهو ليس ذاكرةً بصريةً وحسب، بل سلسلة من الحركات والعادات والمشاعر والأمزجة. فلسنا ألواحًا خالية، ولا يمكننا أن نمحو هذه الذكريات. ولقد أدرك غولدفينغر هذا أيضًا، فقد كتب عن كيف أنَّ «الذكريات والتجارب، ليس ذكريات الأحاسيس البصرية وتجاربها فحسب؛ بل أيضًا ذكريات وتجارب الصوت واللمس والروائح» يمكن أن تبني شعورنا بالفضاء. ولكلِّ واحدٍ منا «مخزنه» الفريد من الأماكن المُغلقة، وقد تكون هذه الأماكن مهمة أو عادية أو مثالية أو مُشوَّهة. والترابطات النفسية الغنية تُصاحب كل حركة لنا في أيِّ منزل أو شقة، وهذه الترابطات تأخذنا وراء محض الإدراكات إلى عوالم من الاحتمالات الخيالية. وكما يقول باشلار: «المنزل الذي وُلِدنا فيه ليس تجسيدًا للمأوى وحسب، بل هو أيضًا تجسيد للأحلام؛ فكلُّ زاوية وركن منه كانت مكان استراحة لأحلام اليقظة».
وقد تُرجِعنا المُحفِّزات المكانية إلى هذا المنزل الأول. فبالنسبة للطفل، زاوية غرفة أو الفضاء الموجود تحت الطاولة يمكن أن يستثير المشاعر. وعلى الأرجح أننا جميعًا نحمل في داخلنا -على مستوى من المستويات- ذكرياتٍ قويةٍ عن الفضاءات التي كنا نلعب فيها في طفولتنا ولدينا مشاعر عنها. وعلى الأرجح أننا اختبأنا عن الكبار تحت الأسِرَّة والطاولات والكراسي، أو وضعنا الأغطية فوقنا لنصنع خيمةً. وما نزال نتذكَّر رائحة السجادة أو البساط أو الأرضية الخشبية، ونتذكر ملمس السلالم أو حافة النافذة. وسمات الفضاءات التي فعلنا بها هذه الأمور تبقى في ذاكرتنا. وكلُّ زاوية ولوح تزلُّج ومدخل قد يستثير ترابطات مألوفة أو غريبة. وحتى صوتيات الفضاءات التي عشنا فيها موجودة في مكانٍ ما من ذاكرتنا. والهيئات والأسطح تهُمُّنا أكثر مما نعتقد. ويمكن أن تكون مُطَمِئنة أو مُنفِّرة أو مُربِكةً؛ ليس بسبب ما تُمثله لنا الآن، بل بسبب ما تستثيره فينا.
ولربما ما يجعل الفضاء غير المحدود مرعِبًا وغير قابل للتصوُّر هو أنه ليس مُغلقًا، أيْ أنه لا محدود. وما نخشاه في هذا هو خسارة الطمأنينة التي شعرنا بها عندما كُنَّا أطفالًا في مكانٍ آمنٍ للعب والاختباء.
New Philosopher: Issue #31: Space