
إن فيزياء الكم غريبة، أو على الأقل غريبة بالنسبة لنا، وذلك لأن قوانين الكم التي تحكم العالم على المستوى الذري وما تحت الذري (سلوك الضوء والمادة كما عبر عنها الفيزيائي الشهير ريتشارد فاينمان) هي ليست القوانين المألوفة لنا والتي نطلق عليها “الحس السليم common sense”.
قوانين ميكانيكا الكم التي تم تأسيسها في نهاية العشرينيات الميلادية تبدو وكأنها تخبرنا أن القطة يمكن أن تكون حية وميتة في نفس الوقت، وأن الجسيم يمكن أن يكون في مكانين في لحظة واحدة. لكن لسوء حظ كثير من الفيزيائيين، فضلا عن الناس العاديين، لم يستطع أحد أن يأتي بشرح لما يحدث بالضبط، شرحا موافقا للحس السليم. وعدد من الفيزيائيين يجدون عزاءهم في سُبل أخرى بلا شك، فهم بشكل أو بآخر يأتون بطرق متنوعة لشرح ماذا يجري في العالم الكمي.
هذه الطرق أو العزاءت الكمية تسمى “تفسيرات”. وعلى مستوى المعادلات فلا يوجد تفسير من هذه التفسيرات أفضل من الآخر، على الرغم من أن أصحاب التفسير وأتباعهم سيخبرونك أن تفسيرهم المفضل هو المذهب الصحيح، وكل التفسيرات الأخرى هرطقة. ومن ناحية أخرى ليس هناك أيٌّ من هذه التفسيرات أسوأ من الآخر من الناحية الرياضية. لذلك على الأحرى أن هناك شيء ما مفقود، وربما يوما ما سيُكتشف وصف جديد وجميل للعالم بحيث يعطينا نفس التنبؤات الحالية لنظرية الكم، وأيضا يكون قابلا للفهم. نأمل ذلك على الأقل.
في هذه الأثناء، أردتُّ أن أقدم نظرة لا أدرية عن واحدة من ألمع الفرضيات، إنها نظرية العوالم المتعددة، أو الأكوان المتعددة. أما بخصوص التفسيرات الخمسة الأخرى فقد أشرت إليها في كتابي “ستة أشياء مستحيلة Six Impossible Things “. أعتقد أنك ستراها ضربا من الجنون بالنسبة لحسنا السليم، وبعضها أكثر جنونا من الآخر، لكن في ذلك العالم، الجنون لا يعني الخطأ، وكونك أكثر جنونا لا يعني أنك أكثر خطئا.
لو كنتَ قد سمعت من قَبل عن تفسير العوالم المتعددة Many World Interpretation (MWI) فمن المحتمل أنك ستعتقد أن الذي اخترعها هو الأمريكي هيو إيفيرت Hugh Everett في منتصف الخمسينيات الميلادية. وهذا صحيح من جانب، فهو قد أتى بهذه الفكرة بنفسه، لكنه لم يكن يعلم أن نفس الفكرة قد خطرت في بال إيرفين شرودنغر Erwin Schrödinger قبل ذلك بنصف قرن. إلا أن نسخة إيفيرت رياضية، بينما نسخة شرودنغر فلسفية، لكن النقطة الجوهرية هي أن كلاهما كان يدفعه رغبة التخلص من فكرة “انهيار الدالة الموجية”، وكلاهما نجح في ذلك.
على الرغم من أن شرودنغر اعتاد أن يؤكد لكل من ينصت له بأنه لا يوجد شيء في المعادلات (بما فيها معادلته الموجية الشهيرة) يشير إلى أي انهيار، بل إن هذا شيء قد وضعه بور Bohr في النظرية لكي يشرح لماذا تظهر نتيجة واحدة للتجربة -قطة ميتة أو قطة حية- وليس خليط منها، أو تراكب من الحالات. لكن بما أننا لا نرصد إلا نتيجة واحدة -حل واحد لمعادلة الموجة – فهذا لا يعني أن الحلول الأخرى غير موجودة. وقد أشار شرودنغر في ورقته العلمية التي نشرها في عام ١٩٥٢م إلى سخافة الاعتقاد بأن التراكب الكمي سوف ينهار عندما ننظر إليه، وقال بأن ذلك “مناف للعقل بشكل سافر” حيث أن الدالة الموجية “تُحكَم بأحد أمرين: أحيانا تُحكَم بالمعادلة الموجية، وأحيانا تُحكَم بالتدخل المباشر من المراقب وليس من المعادلة الموجية”.
وبالرغم من أن شرودنغر لم يطبق فكرته على قطته الشهيرة، إلا أن الفكرة تحل تلك المشكلة بإتقان، فهو يقول -بمصطلحات حديثة- بوجود كونين أو عالمين متوازيين، القطة في واحد منهما ستحيا وفي الآخر ستموت، فعندما يُفتح الصندوق في كون ما ستظهر القطة ميتة، وفي كون آخر ستظهر القطة حية. لذلك سيكون هناك دائما عالَمان متطابقان تماما حتى اللحظة التي تُقرر فيها الآلة المتوحشة مصير القطة، ولا يوجد انهيار للدالة الموجية. ولقد توقع شرودنغر ردة فعل زملائه في كلمة ألقاها في دبلن عام ١٩٥٢م، والتي فيها محل إقامته، فبعدما أكد أن المعادلة المسماة باسمه تبدو وكأنها تصف احتمالات مختلفة (ليست بديلة عن بعضها، لكن كلها تحدث متزامنة) قال: ” تقريبا كل نتيجة يقولها (فيزيائي الكم النظري) يقصد بها احتمالية لهذا أو ذاك أن يحدث، وعادةً معها عدد كبير من البدائل الأخرى. وتبدو له الفكرة التي تقول إنه ربما لا توجد بدائل، بل إن كل الاحتمالات تحدث بشكل متزامن، جنونية، أو مستحيلة وكفى. وهو يعتقد أنه لو اتخذتْ قوانين الطبيعة هذا الشكل، مثلًا، لمدة ربع ساعة، فسوف نرى محيطنا يتحول إلى مستنقع، أو نوع من الهلام الساكن أو البلازما، وكل الحدود تصبح ضبابية، وربما نصبح نحن أيضا قناديل هلامية، وإنه من الغرابة أن يَعتقد هذا الشيء. وفيما أفهمه أنه يُسلّم بأن الطبيعة غير المرصودة تتصرف بهذا الشكل بناء على المعادلة الموجية تحديدا. وإن البدائل المذكورة آنفا تأتي فقط عندما نجري المراقبة، وطبعًا، لا يجب أن تكون المراقبة علمية بالضرورة. ولا تزال تبدو الفكرة التي تقول إن إدراكنا ومراقبتنا للطبيعة هو الذي يحميها من التهلّم المفاجئ، كما يقول فيزيائي الكم النظري، اختيارا غريبا”.
لا أحد في الحقيقة رد على فكرة شرودنغر، بل تم تجاهُلها ونسيانها واعتبارها مستحيلة. لذلك إيفريت طور نسخته من العوالم المتعددة بشكل مستقل تماما، لتصبح هي بدورها مهملة بشكل كامل تقريبا. ولكن إيفيرت هو الذي قدم فكرة «انفصال» الكون لعدة نسخ منه عندما يواجه خيارات كمية، وبذلك زاد الطين بلة لعدة عقود لاحقة.
أتى إيفيرت بهذه الفكرة في عام ١٩٥٥م عندما كان طالب دكتوراة في جامعة برنستون. حيث إنه في النموذج الأصلي للفكرة والتي طورها في مسودة أطروحته للدكتوراة، ولم تنشر في ذلك الوقت، قارن الحالة بالأميبا التي تنقسم لخليتين، فلو كانت الأميبا لديها دماغ فإن كل خلية منقسمة سوف تتذكر نسخة مطابقة من الماضي إلى حين نقطة الانقسام، وبعد ذلك سيكون لها ذاكرتها الخاصة بها. وفي حالة القطة المماثلة والمألوفة، لدينا كون واحد وقطة واحدة قبل تشغيل الآلة المتوحشة، ثم يكون لدينا كونان لكل منهما قطته الخاصة، وهكذا. وقد شجَّعه جون ويلر John Wheeler، مشرفه للدكتوراة، لتطوير وصف رياضي لفكرته في أطروحته وكذلك في ورقة علمية نشرت في مجلة Review of Modern Physics في عام ١٩٥٧م، لكن خلال ذلك، أُسقِطت فكرة التمثيل بالأميبا ولم تظهر في النسخة المطبوعة إلا في وقت لاحق. لكن إيفيرت أشار إلى أنه بما أنه لا يوجد مراقِب يستطيع إدراك وجود عوالم أخرى؛ فإن الادعاء الذي مفاده أنها غير موجودة لأننا لا نستطيع رؤيتها، ليس أفضل من الادعاء بأن الأرض لا تدور حول الشمس لأننا لا نستطيع الإحساس بحركتها.
لم يطور إيفيرت فكرته عن تفسير العوالم المتعددة MWI، بل إنه حتى قبل حصوله على الدكتوراة، قَبِل عرض الوظيفة التي قُدّمت له للعمل في البنتاغون في مجموعة تقييم نظام التسليح والتي تُطبق التقنيات الرياضية (المسماة ببراءة: نظرية الألعاب) لمشاكل الحرب الباردة السرية (بعض أعماله سرية جدا إلى الدرجة التي لا تزال مخفية حتى الآن) والتي اختفت كليا من المحيط الأكاديمي. لم تحظ الفكرة بالزخم إلا في نهاية الستينيات الميلادية عندما أخذها بريس ديويت Bryce DeWitt من جامعة شمال كالوراينا وطورها بحماس، حيث كتب:” كل انتقال كمي يحدث في كل نجم، في كل مجرة، في كل زاوية من زوايا الكون فإنه يفصل عالمنا المحلي في الأرض لعدد لا يحصى من النسخ من نفسه.” وقد صار هذا صعبا على ويلر الذي تراجع عن مباركته السابقة لتفسير العوالم المتعددة MWI، وقال في السبعينيات:” كان يجب علي التخلي -مكرهاً- عن دعمي هذا الرأي في النهاية لأني أخشى أنه يحمل الكثير من الحمولة الميتافيزيقية”. ويالسخرية القدر، ففي ذلك الوقت تم إعادة إحياء الفكرة وتحويلها للتطبيق في علم الكونيات والحوسبة الكمية.
بدأت هذه القوة التفسيرية تحظى بالتقدير حتى من قِبل الناس الذي كانوا مترددين في قبولها تماما. فقد أشار جون بيل إلى أن:” الأشخاص سوف يتعددون مع العالَم بالطبع، والذين هم في عالم فرعي محدد لن يدركون إلا ما سيحدث في عالمهم الفرعي هذا” وقد اعترف على مضض بأنها قد توحي بشيء ما، فقال:” إن تفسير العوالم المتعددة يبدو لي متطرفا، وفوق ذلك هو غامض جدا، ومن الممكن اعتباره شيئا سخيفا، وبالرغم من ذلك ربما يعطينا التفسير شيئا مميزا حول معضلة آينشتاين-بودولسكي-روزين، وأعتقد أنه سيكون جديرا بالاهتمام أن نَصوغ منه نسخة رصينة لنرى إن كانت كذلك بالفعل. إن وجود كل العوالم المحتمَلة ربما يجعلنا مرتاحين أكثر حول وجود عالمنا، والذي يبدو -بطريقة ما- ضعيف الاحتمال جدا.”
جاءت النسخة الرصينة من تفسير العوالم المتعددة MWI من ديفيد دويتش David Deutsch في جامعة أوكسفورد، الذي وضع نسخة شرودنغر من الفكرة على قاعدة راسخة، على الرغم من أنه عندما صاغ تفسيره لم يكن يعرف نسخة شرودنغر. عَمِل دويتش مع ديويت في السبعينيات، وفي عام ١٩٧٧م التقى بإيفيرت في مؤتمر نظمه ديويت، وقد كانت المرة الوحيدة التي عرض فيها إيفيرت فكرته على جمهور واسع. وقد أصبح دويتش رائدا في مجال الحوسبة الكمية بسبب قناعته أن تفسير العوالم المتعددة MWI هو الوسيلة الصحيحة لفهم العالم الكمي، وليس بسبب اهتمامه بالكمبيوتر بشكل أساسي، بل لإيمانه أن ظهور كمبيوتر كمي سوف يثبت واقعية تفسير العوالم المتعددة.
من هنا نعود إلى نسخة من فكرة شرودنغر. ففي نسخة إيفيرت من معضلة القطة يوجد قطة واحدة حتى لحظة تشغيل الآلة، ثم بعد ذلك ينفصل الكون إلى اثنين. وبالمثل كما قال ديويت إن إلكترونا في مجرة بعيدة يواجه خيارين (أو أكثر) من المسارات الكمية سيجعل الكون كله ينفصل، بما في ذلك نحن. وفي نسخة دويتش-شرودنغر يوجد عدد لا نهائي من الأكوان المتنوعة يماثل كل الحلول الممكنة لمعادلة الموجة. وفيما يتعلق بتجربة القطة، فإنه يوجد عدد من الأكوان المتطابقة التي يُنشئ فيها التجريبيون المتطابقون آلات متوحشة متطابقة، وهذه الأكوان تكون متطابقة حتى لحظة تشغيل الآلة، ثم في بعض الأكوان القطة تموت، وفي أخرى القطة تكون حية، والزمان التالي سوف يختلف تبعا لذلك. لكن العوالم المتوازية لن تستطيع التواصل فيما بينها … أم أنها تستطيع ذلك؟
يجادل دويتش بأنه عندما يتعرض كونان أو أكثر من الأكوان المتطابقة السابقة إلى التمايز بسبب العمليات الكمية، كالتجربة ذات الثقبين، فإنه سيحدث تداخل مؤقت بين تلك الأكوان، والذي يحدث له انحسار كلما تطوروا زمنيا. هذا هو التفاعل الذي يعطينا النتيجة المرصودة لتلك التجارب. يحلم دويتش أن يرى إنشاء آلة كمية ذكية (كمبيوتر) بحيث تستطيع بعقلها أن تراقب بعض الظواهر الكمية التي يحصل فيها تداخل. وبحجة أكثر حذقا، يَدّعي دويتش أن الكمبيوتر الكمي الذكي سوف يكون قادرا على تذكر تجربة الوجود الزمني في العوالم الواقعية المتوازية، وهذا بعيد عن أن يكون تجربة عملية، لكن دويتش لديه إثبات أسهل بكثير لوجود الأكوان المتعددة.
إن الذي يجعل الكمبيوتر الكمي يختلف نوعيا عن الكمبيوتر العادي هو أن “المفاتيح الكهربائية” بداخله توجد في حالات متراكبة. الكمبيوتر العادي يتركب من مجموعة من المفاتيح الكهربائية (وحدات في الدائرة الكهربائية) والتي تكون في حالةon تشغيل أو off إيقاف، أو رقميا 1 أو 0، وهذا يجعل من الممكن إجراء حسابات عبر معالجة سلاسل من الأرقام بالترميز الثنائي. كل مفتاح نسميه بت bit، وكلما زاد عددها كلما أصبح الكمبيوتر أقوى. كل ثمانية بت تعطي بايت byte، وذاكرة الكمبيوتر الآن تقاس بعدد بلايين من البايت، أي قيقا بايت. وبشكل دقيق فإنه بما أننا نتعامل بالترميز الثنائي، فالقيقا بايت يساوي 230 بايت، لكن هذا عادة يؤخذ كما هو. أما في الكمبيوتر الكمي فكل مفتاح عبارة عن “شيء” يمكن أن يوجد في حالات متراكبة، وهي عادة ذرات، لكن يمكن تخيلهم كإلكترونات تكون في حالة تسارع حاسوبي (spin up) أو تنازل حاسوبي ((spin down. فالاختلاف هو في التراكب، فيمكن لها أن تكون في حالة تسارع حاسوبي أو تنازل حاسوبي في نفس الوقت، أي 0 و 1 معا. ويسمى كل مفتاح: كيوبت qbit.
بسبب هذه الخاصية الكمية فكل كيوبت يعادل اثنين من البت. ربما لا يبدو هذا الشيء مثيرا للإعجاب للوهلة الأولى، لكنه في الحقيقة كذلك، فإذا كان لديك ثلاثة كيوبت على سبيل المثال، فيمكن أن تترتب بثمانية طرق: 000, 001, 010, 011, 100, 101, 110, 111. فالتراكب يشتمل على هذه الاحتمالات، لذلك ثلاثة كيوبت ليس مكافئا لستة من البت (2 x 3) بل ثمانية بت (2 مرفوعة للقوة 3). العدد المكافئ من البت دائما يساوي 2 مرفوعة للقوة التي تساوي عدد الكيوبت، فعشرة كيوبت سوف تكافئ 210 من البت، أو 1024 بت، ويسمى كيلوبت. الأسيّات التي بهذا الشكل تسير بنفسها بشكل سريع جدا، فالكمبيوتر ذو الثلاث مئة كيوبت يعادل كمبيوتر عادي بعدد من البت أكثر من عدد الذرات في الكون المنظور. كيف يمكن لكمبيوتر مثل هذا أن يجري حسابات؟ إن هذا السؤال مُلحٌّ جدا، حيث أن الكمبيوترات الكمية البسيطة التي تحوي بضعا من الكيوبت قد تم بناءها وظهر أنها تعمل كما نتوقع، وهي فعلا أقوى بكثير من الكمبيوترات العادية التي بنفس العدد من البت.
إجابة دويتش تقول إن الحسابات تُجرى بشكل متزامن على كمبيوترات متطابقة في كل كون موازي متقابل بالتراكب، فالكمبيوتر بثلاثة كيوبت يعني أن ثمان حالات تراكب من علماء الكمبيوتر يعملون على نفس المسألة باستخدام كمبيوترات متطابقة للحصول على الإجابة. ليس مفاجئا أن «يتعاونوا» بهذه الطريقة، فالذين يجرون التجربة متطابقون ولهم أسباب متطابقة لحل نفس المسألة. لا يصعب تصور ذلك، لكن -إذا كان دويتش محقا- فإنه عندما نبني آلة بثلاث مئة كيوبت -والذي سوف يحدث بشكل مؤكد- فسوف يحدث «تعاون» بين أكوان أكثر من عدد الذرات في كوننا المنظور. والمسألة مسألة اختيار في اعتقادك أن هذه الفكرة فيها الكثير من الحمولة الميتافيزيقية، لكن إذا اخترت ذلك فسوف تحتاج لطريقة أخرى لشرح لماذا يعمل الكمبيوتر الكمي.
معظم العلماء المختصصين في الكمبيوتر الكمي يفضلون ألا يفكروا في هذه المعاني المتضمنة، لكن يوجد مجموعة من العلماء اعتادوا على التفكير في أكثر من “ستة أشياء مستحيلة” قبل تناولهم وجبة الإفطار، وهم الفيزيائيون الكونيون. فبعضهم قد تبنى تفسير العوالم المتعددة على أنه أفضل طريقة لتفسير وجود كوننا نفسه.
إن النقطة التي انطلقوا منها، والتي لاحظها شرودنغر، هي أنه لا يوجد شيء في المعادلات يشير إلى انهيار الدالة الموجية، وهم يعنون الدالة الموجية الوحيدة التي تصف العالم كله كتراكب من الحالات، أي أكوان متعددة مكونة من تراكب من الأكوان.
كان عنوان أطروحة الدكتوراة لإيفيرت في نسختها الأولى “نظرية الدالة الموجية الكونية” (والتي قام بتعديلها وتقصيرها بناء على نصيحة ويلر)، وهو يعني بـ”الكونية” المعنى الحرفي لها، فيقول: “بما أن وصف دالة الحالة مُسلم بصحته، يمكن اعتبار دوال الحالة نفسها كيانات أساسية، وبالاستطاعة اعتبار أن هناك دالة حالة للكون كله، وبهذا المعنى فهذه النظرية يمكن تسميتها بنظرية “الدالة الموجية الكونية” حيث إن كل الفيزياء مسلم أنها تأتي تبعا من هذه الدالة وحدها” وفي هذا السياق “دالة الحالة” تعني “الدالة الموجية”. و”كل الفيزياء” تعني كل شيء بما في ذلك نحن، أو “المراقِب” بالمصطلح الفيزيائي. والفيزيائيون الكونيون يتحمسون لهذه الفكرة ليس بسبب أنهم مشمولون بالدالة الموجية، بل بسبب أن وجود دالة موجية واحدة غير منهارة هو الطريقة الوحيدة لوصف الكون كله بمصطلحات ميكانيكا الكم، وأن ذلك يتوافق أيضًا مع النظرية النسبية العامة. في النسخة المصغرة من أطروحة الدكتوراة لإيفيرت التي نشرت في عام ١٩٥٧م، ختم حديثه حول صياغته لميكانيكا الكم قائلا “لعل ذلك يثبت إطارا خصبا لتكميم النسبية العامة”. رغم أن هذا الحلم لم يتحقق بعد، إلا أنه شجع الكثير من علماء الكونيات على العمل فيه منذ منتصف الثمانينيات عندما تعلقوا بهذه الفكرة، لكنها جاءت معها بالكثير من الأحمال.
الدالة الموجية الكونية تصف موقع كل جسيم في الكون في كل لحظة زمنية، كما أنها تصف كل موقع محتمل لهذه الجسيمات في تلك اللحظة، وكذلك تصف كل موقع محتمل لكل جسيم في أي لحظة زمنية أخرى، لكن عدد الاحتمالات محكوم بالحبيبات الكمية للمكان والزمان. من هذه الأعداد الكبيرة من الأكوان الممكنة يوجد عدد من النسخ التي لا يوجد فيها نجوم مستقرة وكواكب وأناس يستطيعون العيش عليها، لكن يوجد على الأقل بعض الأكوان التي تماثل كوننا قليلا أو كثيرا، مثلما يُعرض في قصص الخيال العلمي، أو في الخيال العلمي الآخر بالتأكيد. أشار دويتش أنه تبعا لتفسير العوالم المتعددة MWI فإن أي عالَم يوصف في عمل فني، إذا كان يتبع قوانين الفيزياء، فإنه موجود في مكان ما في هذه الأكوان المتعددة. فيوجد على سبيل المثال عالم “مرتفعات وذرينغ Wuthering Heights”، لكن ليس عالم “هاري بوتر Harry Potter”.
وهذا ليس نهاية الموضوع، فالدالة الموجية الوحيدة تصف كل الأكوان الممكنة في كل الأزمنة الممكنة، لكنها لا تقول لنا شيئا عن الانتقال من حالة إلى أخرى، فالزمن لا يمضي. وبالبقاء قريبا من كوننا، فإن مؤشر إيفيرت الذي يسمى “متجه الحالة” موجود، وهو يحوي وصف عالَمٍ نعيش فيه بكل سجلاته التاريخية بداية من ذكرياتنا، إلى الأحافير والضوء الذي يصلنا من المجرات البعيدة. سوف يوجد أيضا كون آخر مثل كوننا تماما ما عدا أن خطواته الزمنية متقدمة، لنقل، بثانية واحدة (أو ساعة أو سنة)، لكن لا يوجد إشارة على أن كونًا ما انتقل من خطوة زمنية واحدة لأخرى. سوف يكون هناك “أنا” في كون ثانٍ موصوف بالدالة الموجية الكونية، ولديه كل الذكريات التي لدي في اللحظة الأولى، بالإضافة إلى ما يماثلها من الثانية التالية (أو الساعة أو السنة، أو غيرها). لكن من المستحيل القول إن هذه النسخ مني هي نفس الشخص، فالحالات الزمنية المختلفة يتم ترتيبها بالأحداث التي تصفها، وهذا الذي يميّز الفرق بين الماضي والمستقبل، وهذه الحالات لا تنتقل من حالة إلى أخرى/ فكلها موجودة. وعند إيفيرت في فكرته لتفسير العوالم MWI المتعددة فإن الزمن -بالطريقة التي اعتدنا التفكير بها- لا يتحرك.
تصف مجلةُ «ذا سبكتيتور» جون غريبين بأنه «أحد ألمع كتّاب كتب العلوم المبسطة وأغزرهم إنتاجًا». لقد ألّف جون عدّة كتب، منها: «In Search of Schrödinger’s Cat» و «The Universe: A biography»، و «Six Impossible Things»، والمقالة مقتطعة من هذا الكتاب الأخير. إنّ جون باحث زائر في علم الفلك في جامعة ساسكس في المملكة المتحدة.
صورة العرض: Kelly Sikkema, Unsplash
المصدر (ضمن اتفاقية ترجمة خاصة بمنصة معنى)