
لطالما كانت الرياضيات الأداة الأكثر دقّةٍ التي يستعملها الفلاسفة لبناء حججٍ واضحة تخدم فرضياتهم وأطروحاتهم الفلسفية. إنّ خاصّيّة زوايا المثلث (the property of angles of the triangle) القائلة بأنّ مجموع الزوايا الداخلية للمثلث يساوي ١٨٠ درجة، استعملها العديد من الفلاسفة لدعم مواقفهم المختلفة. رينيه ديكارت (١٥٩٦ – ١٦٥٠) وباروخ سبينوزا (١٦٣٢ – ١٦٧٧) يعتبران أنّ هذه الخاصّيّة كامنةٌ في مفهوم المثلث ولا تضيف أيّ شيءٍ على هذا المفهوم، أي أنّ تعريف المثلث يحتوي على هذه الخاصّيّة. يقوم ديكارت ببناء المشابهة بين جوهر الكائن الكامل، أي الله، وبين مفهوم المثلث، ويعتبر أنّ وجود الله هو خاصّيّةٌ تكمن في جوهره كما أنّ خاصّيّة المثلث تكمن في تعريفه. أما بالنسبة لسبينوزا، الإرادة الإنسانية والفطنة (intellect) هما بالنهاية الشيء ذاته، وذلك بمعنى أنّ الأحكام أو الخيارات التي نقوم بها هي مجرد أفكارٍ. فنحن نعتقد بأننا نقوم بالحكم على المثلث بأنّ لديه خاصّيّة الزوايا وكأننا نضيف شيئًا جديدًا لا تحتويه فكرة المثلث، لكننا بالحقيقة نقوم باستنتاجٍ يحتويه مفهوم المثلث. وذلك يعني أننا لم نخرج من فكرة المثلث وأنّ الحكم بشأن الخاصّيّة ليس من عمل الإرادة الإنسانية وإنما الفطنة التي تشكّل عملًا فكريًا لا أكثر. إنّ هدف سبينوزا في هذا السياق هو دعم موقفه بأنّ الإرادة الحرّة هي مجرد وهمٍ لأنّ أحكامنا هي مجرد أفكارٍ.
في هذا المقال، بعد توضيح موقفيّ ديكارت وسبينوزا، سوف أقدّم نقدًا مبرَّرًا لفكرة احتواء مفهوم المثلث لخاصّيّة الزوايا مستفيدًا ممّا قدّمه إيمانويل كانط (١٧٢٤ – ١٨٠٤) عن هذه الخاصّيّة. إنّ التمييز الذي قام به كانط بين ما هو “تحليلي” (analytic) وبين ما هو “اصطناعي” (synthetic) ينطبق على مفهوم المثلث وخاصّيّة زواياه؛ فيكون الحكم تحليليًّا إذا اعتبرنا أنّ تعريف المثلث يحتوي على خاصّيّة الزوايا، ويكون اصطناعيًّا إذا اعتبرنا أنّ التعريف لا يحتوي على الخاصّيّة، بل أنّ الخاصّيّة تضيف شيئًا لا يحتويه تعريف المثلث. إنّ أهمية هذا الخَيار ما بين النظرة التحليلية والاصطناعية لا تقف فقط عند أهداف ديكارت وسبينوزا بما يخص وجود الله والإرادة الحرّة، بل تؤثر أيضًا على نظرتنا للرياضيات. فإذا كانت الرياضيات تحليلية، هذا يعني أنها طوطولوجية (tautology)، أي أنها سلسلةٌ من الأفكار ذاتها التي تقال بطرقٍ مختلفة. مثلًا، عندما نعتبر أنّ خاصّيّة الزوايا لا تضيف شيئًا على تعريف المثلث، هذا يعني أنّ هذه الخاصّيّة مجرد تعريفٍ آخر للمثلث. وفي حال كانت نظرتنا للرياضيات بأنها اصطناعية، هذا يعني بأنها سلسلةٌ من الأفكار المختلفة عن بعضها بعضًا. إذًا، سوف أجادل بأنّ التأكيد الذي نقوم به بشأن خاصّيّة زوايا المثلث هو اصطناعي وليس تحليلي، وإننا نضيف بهذا التأكيد شيئًا لا يحتويه تعريف المثلث. لكن هذا لا يعني أنّ ديكارت لا يمكنه تقديم تشبيهٍ آخر لدعم مسألته، كما أنه لا يعني، بالنسبة لمسألة سبينوزا، أكثر من أنّ الإرادة تختلف عن الفطنة، وهذا لا يُعتبَر كافيًا لإثبات حرية الارادة، ولكنه يشكّل خطوةً أساسية بهذا الاتجاه.
مسألة وجود الله عند ديكارت
قدّم ديكارت في عمله “تأملات في الفلسفة الأولى” (Meditations on First Philosophy) عام ١٦٤١، الحقيقة الأولى التي لا يمكن أن يشكّ بأمرها، وهي أنه يفكّر. ثم استنتج من هذه الحقيقة وجوده، معبّرًا عنها في جملته الشهيرة “أنا أفكر إذًا أنا موجود”. يؤكد ديكارت أنّ هناك حقائق مثل الأعداد في الحسابيات (arithmetic) والأشكال الهندسية لا يمكن الشكّ بأمرها، وذلك لأنه يعرفها بطريقةٍ واضحة وبارزة (clear and distinct). يضيف ديكارت على هذه الأفكار، فكرة الكمال. لكنّ ديكارت ليس كائنًا كاملًا، ولا يمكنه أن يأتي بفكرة الكمال بنفسه. لذلك، يعتقد ديكارت أنّ الكمال هو كائنٌ أعطاه فكرة الكمال. هذا الكائن هو الله، لكن هل هو موجود؟ الكينونة تدلّ على أنّ هناك جوهر (essence) الكمال، لكنّ ديكارت يعتبر أنّ وجود الكائن هو خاصّيّةٌ لجوهره. إنّ هذه الخاصّيّة لا يمكن ألّا تكون صحيحةً، أي لا يمكن لله ألّا يكون موجودًا، وهذا لأنّ الكمال لا يمكن له ألّا يملك خاصّيّة الوجود، وإلّا أصبح ناقصًا. لكن هل يمكن للوجود أن يكون خاصّيّةً للجوهر؟ أليس وجود الشيء يسبق خصائصه؟ جواب ديكارت على هذا الاعتراض هو أنّ جوهر الله لديه بعض الخصائص كأن يكون كُلّيّ القدرة مثلًا، فإذا قبلْنا بأن تكون القدرة الكلّيّة من خصائص الجوهر، فلم لا نقبل بالوجود كخاصّيّةٍ أخرى (Descartes 136)؟ لذلك، يمكننا مشابهة جوهر الله مع تعريف المثلث بما أنّ تعريف المثلث هو جوهره، ثم استنتاج أنّ خاصّيّة وجود الله تكمن في جوهر الله كما أنّ خاصّيّة الزوايا تكمن في تعريف أو فكرة المثلث.
مسألة الإرادة عند سبينوزا
يقدّم سبينوزا في كتابه “الأخلاق” (١٦٧٧) نظرته للطبيعة بأنها “الإله” أو “الله” الذي يحتوي كل ما هو موجود. لكن مفهوم الطبيعة لا يقف عند المادة أو الامتداد (extension)، بل يشمل الفكر أيضًا. إنّ عنوان الكتاب يعبّر عن هدف مضمونه، إذ إنّ الجزء الأخير منه فقط عن الأخلاق، حيث يوظّف سبينوزا كلّ أفكاره عن الطبيعة والإنسان التي طرحها في الأجزاء السابقة في سبيل سعادة الإنسان. المادة والفكر ينبعان من كيانٍ واحد، فكما أنّ الإنسان كيانٌ واحد فيه الجسد والفكر، كذلك الطبيعة، أو الله، فيها الامتداد والفكر. لكن هناك نوعٌ من التوازي بين ما هو مادي وما هو فكري، وليس هناك من علاقة سببية بينهما. هذا التوازي يأتي في إطار الحتمية (determinism) التي لا تنطبق فقط على الجزء المادي من الطبيعة، بل على الفكر أيضًا. وكما يوضح في مقدمة الكتاب، الفكر الانساني محكومٌ بالحتمية أيضًا.
بالنسبة لسبينوزا، ليست الإرادة والفطنة ملكاتٌ مطلقة، أي أنها قدراتٌ تعمل في أوقاتٍ محدّدة على أشياءٍ معينة. بعبارةٍ أخرى، تقتصر الإرادة على إرادةٍ معينة، إرادة هذا أو ذاك، والفطنة تقتصر على أفكارٍ معينة، هذه الفكرة أو تلك. هذا ما يصرّح به سبينوزا بهذا الخصوص:
“[…] في العقل، لا توجد ملكةٌ مطلقة للفهم، والرغبة، والمحبة، وما إلى ذلك. إذًا، يترتّب على ذلك أنّ هذه الملكات وما شابهها هي إما خيالية تمامًا أو ليست أكثر من كياناتٍ ميتافيزيقية أو كليّاتٍ عامة (universals) تتشكَّل من الأشياء الخاصّة المحدّدة. لذا فإن الفطنة ستحمل ذات العلاقة مع هذه الفكرة أو تلك، هذا التأكيد أو ذاك.” (Spinoza 272)
يوضّح سبينوزا هنا أنه يمكننا فهم الفطنة والإرادة وغيرها من ملكات العقل من خلال تشبيه عملها بالعلاقة بين الكليات العامة والأشياء الخاصة، كالعلاقة بين مفهوم الجمال العام والأشياء الجميلة الخاصّة. بمعنى أنه لا يمكننا فهم الفطنة أو الإرادة إلّا من خلال عملٍ خاص لها. ثم يتابع بتعريف الإرادة كملكة أو كقدرة التأكيد والإنكار، وليس الرغبة. ويعني بذلك القوة التي بموجبها يؤكّد العقل أو ينكر ما هو صحيح أو ما هو خطأ، وليس الرغبة التي يسعى العقل بواسطتها إلى البحث عن الأشياء أو تجنّبها (Spinoza 272). يقدّم هذا التعريف الإرادة باعتبارها القدرة على التأكيد، أو الملكة المسؤولة عن تقديم التأكيدات، لأن التأكيد هو فعل القبول أو الإنكار في الحكم. من جهة أخرى يقدّم سبينوزا الفطنة على أنها نمطٌ من التفكير، ممّا يعني أنها ملكة الفهم والأفكار.
إنّ عدم تمييز سبينوزا ما بين الإرادة والفطنة بالقول إنهما الشيء ذاته (Spinoza 273)، هو خطوةٌ أساسية لتأكيد أننا نخدع أنفسنا حين نقول بأنّ لدينا حرية الإرادة (Schmid 267). فإذا كانت الخيارات التي نقوم بها هي مجرّد أفكار، ليس هناك من فعلٍ إراديّ يقوم به الإنسان. لهذا الهدف، يقوم سبينوزا في البداية بإثبات أننا حين نقول بأنّ المثلث لديه خاصّيّة الزوايا الداخلية، نظنّ بأنّ هذا التأكيد ينبع من مشيئةٍ أو إرادةٍ، لكنها مجرد فكرة، تحديدًا فكرة المثلث. ثم يقوم بتعميم هذه النتيجة على كلّ التأكيدات التي يمكن القيام بها حيث نخدع أنفسنا بالقول إنها من عمل الإرادة (Spinoza 272, 273). باختصار، إنّ الفكرة تحتوي على التأكيد (affirmation)، وبالتالي التأكيدات جميعها مجرد أفكارٍ من عمل الفطنة.
يفسّر سبينوزا احتواء فكرة المثلث على خاصّيّة الزوايا الداخلية بخطوتين: الأولى أنه لا يمكننا تصوُّر المثلث من دون خاصّيّة الزوايا، والثانية أنه لا يمكننا تصوُّر خاصّيّة الزوايا من دون المثلث. بالنسبة للخطوة الأولى، إنّ فكرة المثلث تقوم على ثلاث نقاطٍ متّصلة ببعضها من خلال ثلاثة خطوطٍ مستقيمة. لا يمكننا أن نتصوَّر في أذهاننا المثلث من دون أن يمتلك خاصّيّة الزوايا الداخلية لأنه يمتلك الزوايا الثلاث التي حُكمًا سوف يكون مجموعها ١٨٠ درجة. طبعًا، سبينوزا يطرح الموضوع وكأننا نتصوَّر المثلث في ذهننا كما يُرسَم على ورقةٍ في الفضاء الإقليدي (Euclidean space). بتعبيرٍ آخر، لا يمكننا رسم مثلثٍ، أي ثلاث نقاطٍ متّصلة بثلاثة خطوطٍ مستقيمة، مع مجموعٍ للزوايا الثلاث لا يساوي ١٨٠ درجة. أما بالنسبة للخطوة الثانية، فإذا أردنا تصوُّر ثلاث زوايا متّصلة ببعضها ومجموعها ١٨٠ درجة، لا يمكن إلّا أن تُشكّل مثلثًا. طبعًا، يمكننا تصوُّر ثلاث زوايا منفصلة يساوي مجموعها ١٨٠ درجة من دون تشكيل مثلث، لكن يبدو أنّ سبينوزا يأخذ الخاصّيّة بأنها تضمَن رسمًا مُغلقًا؛ مع العلم أنه لم يوضّح هذه النقطة تحديدًا.
نقد مفهوم الاحتواء
إنّ ديكارت، بعكس سبينوزا، لم يوضّح ماذا يقصد بقوله أنّ تعريف المثلث يحتوي على خاصّيّة الزوايا. لذلك، سوف أقدّم نقدًا عامًّا لهذا المفهوم ومن ثم سأنتقل لنقد سبينوزا بشكلٍ مباشر.
أولاً، أن يحتوي تعريف المثلث على خاصّيّة الزوايا، يعني أنه يمكننا إثبات الخاصّيّة انطلاقًا من التعريف فقط. أي أنه إذا أردنا أن نبني حجّةً لكي نثبت الخاصّيّة، يجب أن تكون مقدّمة الحجّة تعريف المثلث، وعلى الاستنتاج أن يكون أنّ مجموع الزوايا يساوي ١٨٠ درجة. إلّا أنّ هذا ليس وصفًا دقيقًا لأننا بحاجة لتعريفاتٍ أخرى، أي مختلفة عن تعريف المثلث، لكي نصل إلى النتيجة المرجوّة. فإذا رسمنا مثلثًا، ولكي نثبت خاصّيّة الزوايا، علينا رسم خطٍ مستقيمٍ موازٍ (parallel) لضلعٍ من أضلاعه. وذلك ببساطة لكي نرى أنّ مجموع الزوايا التي تتشكَّل أسفل الخط المستقيم ١٨٠ درجة، كما مجموع الزوايا التي تتشكَّل من الجهة الأخرى من الخط، أي أعلاه. إذًا، لا بد لنا أن نستعمل تعريف التوازي، وهو تعريفٌ لا علاقة له بتعريف المثلث، أي أنّ تعريف المثلث لا يحتوي على تعريف التوازي. ذلك لأنّ ليس في المثلث أيّ خطوطٍ موازية، ولا نحتاج لتعريف المثلث سوى لمفهومي النقطة والخط المستقيم في الفضاء الإقليدي. لذلك السبب، وبما أنه لا يمكننا أن نصل إلى استنتاج الخاصّيّة إلّا عبر استعمال مفهوم التوازي المستقل عن مفهوم المثلث، لا يمكننا تأكيد أنّ تعريف المثلث يحتوي على الخاصّيّة.
ثانيًا، سبينوزا يقوم بتعميم احتواء فكرة المثلث على التأكيد بأنّ مجموع زواياه يساوي ١٨٠ درجة على التأكيدات جميعها، أي أنّ كلّ تأكيدٍ تحتويه فكرة معينة. لذلك، النقد الأول الذي سأقدمه لسبينوزا هو أنّ التعميم هذا لا يجوز، وذلك بتقديم مثل معاكس له. سوف أقدّم فكرةً أخرى في علم الهندسة، أي مختلفة عن فكرة المثلث، حيث يمكننا تصوُّر خاصّيّة معينة تابعة لها من دون تصوُّر الفكرة بحد ذاتها. لنأخذ على سبيل المثال فكرة المربع، وهو شكلٌ مغلقٌ رباعيّ الأضلاع (quadrilateral) متساوي الزوايا والأضلاع. إنّ المربع لديه خاصّيّة الأضلاع المتقابلة المتوازية، أي أنه إذا اخترنا ضلعًا معينًا، فالضلع الذي في الجهة المقابلة يكون حتمًا موازٍ له. يتم استنتاج هذه الخاصّيّة من تعريف المربع، فلا يمكننا تصوُّر المربع من دون أن يكون لديه خاصّيّة الأضلاع المتقابلة المتوازية، لكن يمكننا تصوُّر هذه الخاصّيّة من دون المربع إذ أنّ جميع الأشكال الرباعية الأضلاع لديها خاصّيّة الأضلاع المتقابلة المتوازية. مثلًا، يمكننا تصوُّر الخاصّيّة مع الشكل المستطيل وليس المربع. لذلك، وفي هذه الحالة، نحن نتصوَّر الخاصّيّة من دون المربع. فإذًا، حتى وإن وافقنا على أنّ تعريف المثلث يحتوي على خاصّيّة الزوايا، مع اعتماد مفهوم سبينوزا للاحتواء، فلا يمكننا تعميم هذه النتيجة على جميع التأكيدات.
التمييز بين التحليلي والاصطناعي
من أجل متابعة نقد سبينوزا والتأكيد أنه يمكننا تصوُّر فكرة المثلث من دون خاصّيّة الزوايا، علينا أن ندقّق فيما قدّمه ايمانويل كانط عن التمييز التحليلي الاصطناعي.
في كتابه “نقد العقل الخالص” (١٧٨١)، بحث كانط في إمكانية الأحكام البديهية الاصطناعية (a priori synthetic judgments). الافتراض أو الحكم البديهي (a priori) هو الذي لا يعتمد على الخبرة أو التجربة لتبريره، مثلًا “الأعزب غير متزوج”. بالمقابل، هناك أحكامٌ أو افتراضاتٌ استدلالية (a posteriori) تحتاج للخبرة أو التجربة للتحقق منها، مثلاً “جميع العزّاب سعداء”. يدقّق كانط في العلاقة بين المبتدأ والخبر (subject and predicate) ويحدّد على هذا الأساس التمييز بين الافتراض التحليلي والاصطناعي (Kant A 6 – 7 / B10 – 11). الافتراض التحليلي هو الذي يَرِد مفهوم خبره في مفهوم مبتدئه، أمّا الافتراض الاصطناعي فهو الذي، على العكس، لا يَرِد مفهوم خبره في مفهوم مبتدئه. إذا أخذنا الافتراض البديهي “الأعزب غير متزوج”، إنّ مفهوم العزوبية يحتوي على مفهوم “غير المتزوج”، فالخبر لا يضيف شيئًا على مفهوم المبتدأ. إذًا، الافتراض البديهي “الأعزب غير متزوج” هو تحليلي وليس اصطناعي. أمّا الافتراض الاستدلالي “جميع العزّاب سعداء”، فهو اصطناعي وليس تحليلي لأنّ مفهوم العزوبية لا يحتوي على مفهوم السعادة. فلنأخذ على سبيل المثال “المثلث له ثلاثة أضلاع”، إنه افتراضٌ بديهي تحليلي لأننا لا نحتاج إلى التجربة لتبريره ولأنّ مفهوم خبره لا يضيف شيئًا على مفهوم مبتدئه. أمّا إذا قلنا “المثلث لديه خاصّيّة الزوايا” أو “المثلث له مجموع زواياه ١٨٠ درجة”، هذا الحكم بالنسبة لكانط بديهي اصطناعي. فمفهوم جمع الزوايا لا يَرِد في مفهوم المثلث، أي أنّ فكرة المثلث منفصلة عن فكرة قيمة جمع الزوايا.
يعالج كانط المسألة عبر التمييز بين الفيلسوف وعالِم الرياضيات في قوله التالي:
“لنفترض أنّ الفيلسوف قد أُعطي مفهوم المثلث وتُرِكَ ليكتشف من تلقاء نفسه، وبطريقته الخاصة، ما العلاقة بين مجموع زواياه والزاوية القائمة[1]. ليس لديه سوى مفهوم الشكل المحاط بثلاثة خطوط مستقيمة وله ثلاث زوايا. مهما طال تأمّله في هذا المفهوم، فلن ينتج أبدًا أيّ شيءٍ جديد.” (Kant A 716 / B 744)
الفيلسوف، كما يفترضه كانط، لا يعرف شيئًا عن خاصّيّة الزوايا الداخلية للمثلث، لكنه متخصّص في تحليل المفاهيم والكشف عن المستور فيها. يفكّر ويتأمّل الفيلسوف في مفهوم المثلث الذي يحتوي على ثلاث نقاطٍ تمثّل رؤوس المثلث، الخطوط المستقيمة التي تمثل جوانب المثلث، زوايا المثلث، كما أنه يمكنه التأمّل في العدد “ثلاثة” لأنّ مفهوم المثلث يحتويه، نظرًا إلى أنّ هناك ثلاث زوايا وثلاثة أضلاع. يتابع كانط الجدل بالقول: “يمكن للفيلسوف أن يحلّل ويوضّح مفهوم الخط المستقيم أو الزاوية أو مفهوم العدد ثلاثة، لكنه لا يستطيع أبدًا الوصول إلى أيّ خصائصٍ ليست موجودة بالفعل ضمن هذه المفاهيم” (Kant A 716 / B 744). ولكي يستطيع كانط أن يجاوب بدقّةٍ ووضوحٍ عمّا إذا كان لدى الفيلسوف القدرة على الوصول إلى استنتاج خاصّيّة الزوايا الداخلية للمثلث، يقارن ما بين تأمُّل الفيلسوف في مفهوم المثلث وبين عالِم الرياضيات، كالتالي:
“الآن دع عالِم الهندسة (geometrician) يجيب على هذه الأسئلة. يبدأ في الحال ببناء مثلثٍ. نظرًا لأنه يعلَم أنّ مجموع زاويتين قائمتين يساوي تمامًا مجموع كلّ الزوايا المتجاورة التي يمكن بناؤها من نقطةٍ واحدةٍ على خطٍ مستقيمٍ، فإنه يطيل جانبًا واحدًا من مثلثه ويحصل على زاويتين متجاورتين، والتي تساوي معًا زاويتين قائمتين. ثم يقسم الزاوية الخارجية برسم خطٍ موازٍ للجانب المقابل للمثلث، ويلاحظ أنه بذلك قد اكتسب زاوية خارجية مجاورة تساوي زاوية داخلية، وما إلى ذلك من خطواتٍ أخرى. بهذه الطريقة، من خلال سلسلةٍ من الاستدلالات التي يسترشد بها الحدس، يصل إلى حلٍّ واضحٍ تمامًا وصالحٍ كليًا للمسألة.” (Kant A 716 – 717 / B 744 – 745)
الشيء المهم الذي يجب فهمه هنا هو أن لدينا العديد من الخطوات التي يجب التفكير بها من أجل الوصول إلى خاصّيّة الزوايا، والتي لم يفعلها الفيلسوف. وأريد أن أشير إلى أنه ليس من المهم رسم المثلث على ورقةٍ لأنه يمكن للمرء أن يتصوّر الخطوات في ذهنه دون رسمها. إذًا، بمقارنة عمل عالِم الرياضيات بعمل الفيلسوف، يمكننا أن نرى أنّ المعرفة المسبقة للخاصّيّة هي شيءٌ ضروري لاستنتاجها. إذ إنّ كانط يقترح أنّ الفرق بين الفيلسوف وعالم الرياضيات هو أنّ هذا الأخير يعلم مسبقًا أن المثلث لديه هذه الخاصّيّة، وثم يقوم بإثبات النتيجة المتوقَّعة من خلال خطواتٍ معينة. وبالتالي، فإنّ خاصّيّة المثلث لا تَرِد في مفهوم المثلث وفقًا لكانط، فلو كان مفهوم المثلث يحتوي على خاصّيّة الزوايا، لكان الفيلسوف قد استطاع استنتاجها من خلال تأمّله في مفهوم المثلث. وللتأكد من أنّ هذا هو مقصد كانط، سأستشهد بهذا المقطع:
“نحن لسنا مهتمين هنا بالافتراضات التحليلية التي يمكن إنتاجها بمجرّد تحليل المفاهيم (في هذا سيكون للفيلسوف بالتأكيد الأفضلية على منافسه عالِم الرياضيات)، ولكن بالافتراضات الاصطناعية، وبالطبع فقط تلك الافتراضات الاصطناعية التي يمكن معرفتها بطريقةٍ بديهية (a priori). لأنني يجب ألّا أحصر انتباهي على ما أفكّر فيه في مفهومي عن المثلث (هذا ليس أكثر من مجرد تعريفٍ)؛ بل يجب أن أنتقل إلى خصائصٍ غير واردةٍ في هذا المفهوم، لكنها مع ذلك متعلقةٌ به.” (Kant A 718 / B 746)
إذاً، بالنسبة لكانط، خاصّيّة الزوايا متعلقةٌ بمفهوم المثلث كما أنّ مفهوم السعادة متعلقٌ بمفهوم العزوبية في الافتراض “جميع العزّاب سعداء”. إنّ مفهوم السعادة له ما يربطه بمفهوم العزوبية، لكن هذه العلاقة ليست علاقة احتواء. لذلك، إنّ مفهوم المثلث لا يحتوي على خاصّيّة الزوايا، حتى وإن كان هناك ما يربط بينهما.
الحكم الاصطناعي والإرادة الحرة
إنّ ما يفيدنا به كانط من خلال تمييزه بين الفيلسوف وعالم الرياضيات هو النظرة الاصطناعية للرياضيات. إنّ الفيلسوف لا يعرف مسبقًا أنّ المثلث يتميّز بخاصّيّة الزوايا، ولذلك لم يستطع الوصول إليها من خلال تأمله بالمثلث. إذًا، عندما يكون الشخص على علمٍ مسبقٍ بخاصّيّة الزوايا، يخدع نفسه بالقول إنّ مفهوم المثلث يحتوي على هذه الخاصّيّة. أمّا الشخص الذي يفكّر للمرة الأولى بهذه الخاصّيّة، فهو يقوم بحكمٍ على المثلث ويضيف على مفهومه شيئًا لا يحتويه. هذا يجعلنا نرى بوضوح أنّ هناك أحكامًا اصطناعية في الرياضيات، لكننا عبر تعلُّمها من الآخرين يصبح لدينا المعرفة المسبقة بها، ما يجعلها تبدو كالافتراضات التحليلية وليس الاصطناعية.
إنّ اعتبار أنّ هناك افتراضاتٌ اصطناعية في الرياضيات يجعلنا نرى أنّ التأكيدات ليست مجرد أفكار كما يقترح سبينوزا. إذا كان التأكيد بأنّ المثلث لديه خاصّيّة الزوايا هو مجرد فكرة، تحديدًا فكرة المثلث، هذا يعني أنّ التأكيد ليس فعلًا إراديًا. بالنسبة لسبينوزا، الإرادة هي الفطنة، أي أنّ عمل الإرادة، وهو التأكيد، هو عمل الفطنة لا أكثر ولا أقل. لذلك، بعد التوضيح الذي قام به كانط بالتمييز بين الأحكام التحليلية والاصطناعية، وبما أنّ التأكيدات بالنسبة لسبينوزا من عمل الإرادة وليس الفطنة، استنادًا على تعريفه للإرادة والفطنة قبل دمجهما وكأنهم القدرة ذاتها، يمكننا القول إنّ التأكيد بأنّ المثلث يتميّز بخاصّيّة الزوايا هو شيءٌ تستطيع الإرادة فعله وليس من عمل الفطنة. وعلى عكس ما يزعم سبينوزا، الإرادة والفطنة لا يُشكّلان الملكة أو القدرة ذاتها، بل إنهما قدرتان مختلفتان عن بعضهما. إذًا، الموقف الكانطي يفسح المجال أمام الإرادة بأن تكون مختلفة عن الفطنة، وبذلك، يعطي منفذًا لحرية الإرادة بأن تضيف ما لا تحتويه مفاهيم الفطنة. والأهم، أن نرى كانط يجاوب سبينوزا أنه يمكننا أن نتصوَّر مفهوم المثلث من دون خاصّيّة الزوايا، وذلك ما فعله الفيلسوف في تأمُّله للمثلث من دون أن يتصوَّر خاصّيّة الزوايا. وهذا بفضل أنّ الحكم الذي نطلقه على المثلث بأنه يتميّز بخاصّيّة الزوايا اصطناعي، فلو كان الحكم تحليليًا لكان استطاع الفيلسوف أن يصل إليه. فعمل الفيلسوف يقتصر هنا على تحليل المفاهيم وفهمها بدقّة، لذلك يعتبر كانط أنه لو كان مفهوم المثلث يحتوي فعلاً على خاصّيّة الزوايا، لكان الفيلسوف اكتشفها من تأمله بالمفهوم. إذًا، هناك نوعٌ من الانفصال بين مفهوم المثلث وخاصّيّة الزوايا، وهذا ما سمح للفيلسوف أن يتصوَّر المثلث من دون الخاصّيّة.
الخاتمة
إنّ نظرة سبينوزا لافتراضات الرياضيات بأنها تحليلية، سمحت له بأن يرى جميع التأكيدات التي نقوم بها عبر الإرادة بأنها مجرد عملٍ فكري للفطنة، لا تضيف شيئًا على المفاهيم. وعبَّر عن ذلك بقوله إنّ مفهوم المثلث يحتوي على ما نؤكّده عن خاصّيّة الزوايا؛ فلا يمكننا أن نتصور المثلث من دون الخاصّيّة ولا الخاصّيّة من دون المثلث. لقد قدّمت مثلًا عن المربع حيث يمكننا أن نتصوَّر خاصّيّة الأضلاع المتقابلة المتوازية من دون تصوُّر مفهوم المربع، ممّا يعني أنه لا يمكننا تعميم الجزء الأول من مفهوم سبينوزا للاحتواء، تحديدًا أنه لا يمكننا تصوُّر خاصّيّة الزوايا من دون تصوُّر المثلث. وعبر كانط، يمكننا أن نرى أن الجزء الثاني من مفهوم سبينوزا للاحتواء خاطئٌ، الجزء الذي أكّد فيه أنه لا يمكننا تصوُّر المثلث من دون خاصّيّة الزوايا. وبذلك، نكون قد نقدنا الفكرة الأساسية التي يعتمد عليها تشبيه ديكارت وحجّة سبينوزا.
[1] الزاوية القائمة هي الزاوية التي تساوي ٩٠ درجة. إنّ خاصّيّة زوايا المثلث يمكن التعبير عنها بالقول إنّ مجموع الزوايا الداخلية الثلاث للمثلث يساوي ضعف الزاوية القائمة، أي ١٨٠ درجة.
مراجع:
Descartes, René, John Cottingham, Robert Stoothoff, Dugald Murdoch, and Anthony Kenny. Descartes: Selected Philosophical Writings. Cambridge: Cambridge University Press, 1998.
Kant, Immanuel, Paul Guyer, and Allen W. Wood. Critique of Pure Reason, edited by Guyer, Paul, Allen W. Wood. Cambridge: Cambridge University Press, 1998;1999;2013;. doi:10.1017/CBO9780511804649
Schmid, Stephan, Spinoza on the Unity of Will and Intellect in Partitioning the Soul, Klaus Corcilius, Dominik Perler. Berlin/Boston: Walter de Gruyter, 2014.
(Spinoza) Samuel Shirley, Spinoza’s Complete Works. Edited with Introduction and Notes by Michael L. Morgan. Hackett Publishing Company, Indianapolis, 2002.