
لم تمر أزمة كورونا بسلام على العالم، ولا عليّ، لم أُصَب بالفيروس ولم أتأذى صحيًّا منها، لكنها كانت توقيتًا سيئًا لانكسار جسر العبور نحو المستقبل بالنسبة لي، فوقفت على الحافة أصارع الرياح التي تعصف بي لئلا أهوي في السحيق، آمِلًا استمداد طاقةٍ تقويني لإعادة بناء الجسر أو تغيير الطريق. وكعادة القارئ الذي يتعامل مع الكتب باعتبارها الخيار الأول لكل مآزق الحياة، لا الأصدقاء ولا الأسرة ولا الحبيب حتى، فقط الكتب هي الملجأ، كانت ولمّ تزل. بدأت أجمع ما كتب عن معنى الحياة، وأقرأ الكتاب تلو الآخر، بدءًا بعمدة هذا الموضوع كتاب “الإنسان والبحث عن المعنى” لمؤسس العلاج بالمعنى فيكتور فرانكل، وحضرت نقاشًا حوله بعد قراءته، لم يُشف غليلي ولم أجد فيه طريقي، فذهبت أجمع كل الكتب المتخصصة في الموضوع وقرأتها تباعًا: “معنى الحياة” للدكتور ألفريد أدلر، “معنى الحياة” لتيري إيغلتون، “عن معنى الحياة” لويل ديورانت، “ما جدوى كل ذلك؟” لجوليان باجيني. أزعجني أن الموضوع لم يأخذ حقه من الكتابة العربية، وكل ما يتداول فيه هي أعمال مترجمة. وجدتُ بعد ذلك كتابًا عربيًا رائعًا للدكتور اللبناني ناصيف نصار بعنوان “النور والمعنى” وقضيت معه أيامًا ماتعة ولم يعلق في ذهني من الكتاب سوى متعة قراءته.
لِمَا سبق، وأكثر، طربت عندما رأيت إعلان صدور كتاب “معنى الحياة في العالم الحديث” للباحث السعودي عبدالله بن عبدالرحمن الوهيبي، عن مركز تكوين للدراسات والأبحاث، وحرصت على اقتنائه حال وصوله معرض الرياض الدولي للكتاب، تصفحته في جناح المركز فوجدته قد انتظم في ٤٥٥ صفحة من القطع الكبير في تسعة فصول بعد المقدمة. كان أول قراءاتي بعد المعرض وأنهيته في أيام يسيرة كانت زاخرة بالمتعة والثراء المعرفي.
(1)
تتعدد إشكاليات الكتابة وتتعاظم مخاوف الكاتب كلما زاد تعقيد الموضوع المكتوب عنه، ومن ذلك ما يسميه النقاد “أفق التوقّع”، والتي نظّر لها هانز روبرت ياوس ترجيحًا لدور القارئ على حساب المؤلف الذي أماته رولان بارت. يحتل مفهوم أفق التوقع أو أفق الانتظار موقعًا مركزيًا في نظرية التلقي، وهو مفهوم جمالي يلعب دورًا مؤثرًا في عملية بناء العمل الفني والأدبي، وفي نوعية الاستقبال التي يتلقاها ذلك العمل انطلاقًا من فكرة أن المتلقي يُقبل على العمل وهو يتوقع أو ينتظر شيئًا ما.
يشير ياوس إلى أن مفهوم أفق التوقع يتضمن ثلاثة عوامل أساسية: الأول: التجربة المسبقة التي اكتسبها الجمهور من الجنس الذي ينتمي إليه النص. الثاني: شكل الأعمال السابقة وموضوعاتها التي يفترض معرفتها. الثالث: التعارض بين اللغة الشعرية واللغة العلمية أو التعارض بين العالم المتخيل والواقع اليومي.
غالبًا ما يحمل العمل المكتوب إلى القارئ مجموعة من المعطيات التي تشكل نسقًا من الانتظارات والعلامات التي تترسب في العمل نتيجة تأثره بالنصوص الأخرى التي تنتمي إلى نفس جنس الكتاب. مما يخلق لدى جمهوره نمطًا معينًا من التلقي، ويدفعه إلى استحضار تجربته السابقة عمّا قرأ من نصوص؛ فالقارئ لم يعد طرفًا مستهلكًا لمعنى النص وقصدية المؤلف، وإنما تحول إلى عنصر فاعل إلى عملية إنتاج المعنى. وهذه البنية تتوقع قارئًا حقيقيًا قادرًا على التفاعل مع التأثيرات النصية، ومن هنا فإن القارئ الضمني هو دائم الإنجاز والتحقق ولا يمكن تصوره منفصلًا عن فعل القراءة.
بناء على ما سبق فإن عملية القراءة تخضع لمجموعة من المبادئ: فعندما يكون العمل مألوفًا لدى المتلقي شكلًا ومضمونًا ويتماشى مع المعطيات التي عهدها في قراءاته السابقة ينال الرضى والقبول. أما عندما يكون العمل مناقضًا ومخالفًا لتوقعات المتلقي يخيب ظنه وهذا ما يعرف بـ(خيبة التوقع) أو (خيبة الأفق).
وإن كانت نظرية ياوس تبحث بالدرجة الأولى في الأعمال الأدبية إلا أن نتائجها يمكن تعميمها على بقية الحقول المعرفية، فالكتابة مشتركة وأفق التلقي مصاحب لها في غالب الأحوال. وهدفي من التقديم بهذه النظرية التأكيد على ضرورة تحرر القارئ من توقعاته الضيقة، وألا يحاكم الكتاب اللاحق وفق تجاربه السابقة، وهو ما لحظته من انطباعات بعض القراء على الكتاب الذي أود الحديث عنه، فالكتب السابقة كانت مباشرة في الإجابة على السؤال ومختصرة في الإجابة، مما أعطى انطباعًا للقارئ أنّ أيّ إطالة في الإجابة عن نفس السؤال هو إسهابٌ مُخلٍّ واستعراض ثقافي باهت، وما هذا إلا قصور بالتصوّر واستعجال بالحكم.
(2)
غيرَ “أفق التوقّع” من المهم الحديث عن “عتبات النص” ودورها في استقبال الكتاب. والمراد بالعتبات في الدراسات النقدية هي كل ما يحيط بالمتن ويشد من أزره ويعضده، إنها مجموعة العناصر التي تحيط بالنص وتمدده من أجل تقديمه بالمعنى المألوف لهذا الكلمة، وأيضا بمعناها القوي، أي: جعل النص حاضرًا، وذلك لتأمين حضوره في العالم وتأمين تلقيه واستهلاكه، وأبدع بورخيس في التعبير عن عتبة الخطاب بأنها “الباحة التي تسمح لكل واحد بالدخول أو الخروج”. ولست في صدد تحليل عتبات الكتاب كلها، ولكن يهمني التعليق على عتبة الغلاف والمتضمن لدار النشر، والتي تؤثر كثيرًا في تلقّي الكتاب أو انصراف الناس عنه، بحسب خلفيتهم عن هذه الدار أو تلك، ومن هنا تنبع أهمية اختيار الدار المناسبة لنوعية الكتاب، وأيضًا نوعية الجمهور المستهدف بالكتاب. ولأن الدار الناشرة لهذا الكتاب هي مركز متخصص بالدراسات والأبحاث التي يغلب عليها الجانب الشرعي يَتوقع القارئ من الكتاب طرحًا دينيًّا مباشرًا للموضوع المبحوث، وهو ما سيخيب ظنّ القارئ فيه بعدما يقرأ في الكتاب طرحًا فلسفيًّا فكريًّا، يتكئ على خلفية دينية بالتأكيد، لكنها ليست طاغية على مناقشات الكتاب. ولهذا تمنيت لو خرج الكتاب من دار لا تضفي على الكتاب هذا التوقع المسبق الذي قد يصدّ بعض القراء عن الكتاب.
وفي الغلاف الخلفي للكتاب نبذة عن الكتاب تتضمن السؤال الذي يبحث الكتابُ عن إجابة له، وهو: لماذا أصبح سؤال “معنى الحياة” يمثل أزمة للإنسان المعاصر؟ فليس المراد الإجابة على سؤال: ما معنى الحياة؟ ومعرفة سؤال الكتاب الرئيسي يوجّه القراءة إلى استيعاب الجواب عليه بالدرجة الأولى، ثم ملاحظة هوامش هذه الإجابة، وخاصة عندما يصرّح الكاتب بسؤاله ولا يتركه لتكهنات القراء. وبناء على هذا يمكن تقييم المادة المقدمة بالإجادة أو النقصان، أو وصف المحتوى بالإسهاب المخلّ إذا ابتعد عن السؤال الرئيسي للبحث، وهو ما لا نجده في هذا الكتاب. ولكن لأن المؤلف يُدرك حجم تداخل سؤال البحث، ومدى صعوبة تحليل الظواهر الاجتماعية والإنسانية، واستحالة حل السؤال المعقّد بإجابات بسيطة مهما حاول منظرو تطوير الذات ذلك؛ يبدأ الحفر من بعيد، من “جذور المشكلة” -كما هي في شجرة حل المشكلات-، يذهب إلى بدايات تشكّل الحداثة والذات الحديثة ليأخذ بيد القارئ برفق شارحًا كل انعطافة أثّرت في تكوين هذا الإنسان المعاصر، واقفًا عند كل إشارة مهمة ليُخبرك بشيء من تاريخها وأسباب وجودها وآثارها على سير الرحلة، حتى يصل معك إلى مسحة الريشة الأخيرة في لوحة جوابه.
(3)
تناول الوهيبي في المدخل النظري معنى المعنى، وإقصاء المعنى عن العالم، وحدود التجربة البشرية الحتمية، بالإضافة إلى فردنة المعنى واستعراض الإجابات المعاصرة لسؤال “معنى الحياة” بإيجاز.
والخلاصة فيه أن معنى الحياة هو تفسير وجود الإنسان، وغرض حياته، ودلالة أفعاله، ومعاناته، وأن الإنسان مهما تجاهل هذا «المعنى» وأعرض عن آثاره، فستضطره الآلام والمعاناة، وسيدفعه الضجر والملل، إلى العناية بجوابه، فإن تمادى استوقفه الموت وأماراته ولا بد. كما أكّد على أن سؤال المعنى لم يمثل أزمة عامة في الحقب السابقة، وإنما ظهر تخصیصه بالحديث والبحث والاشتغال النظري والتطبيقي في معالجته، وتقصي آثاره؛ بسبب الانقلاب الحداثي على القيم الدينية، وتبدل البنية الثقافية، وحاضنتها الاجتماعية، الذي توج أخيرًا بسيطرة النموذج الليبرالي في العقيدة والسلوك، لتنزوي الأسئلة الوجودية إلى الحيز الخاص، بعد «تطهير» المجال العام من «شمولية» الرؤى الدينية، والعقائد الكنسية. ولكون سؤال المعنى يستحيل تجاهله بصورة عامة؛ انشغلت جملة من الكتابات المعاصرة بمحاولة معالجته بطرق شتى، فبعض الأطروحات المتعصبة ذات الميول الإلحادية نفت المشروعية الوجودية لسؤال المعنى أساسًا، بل حاولت المكابرة بتطبيع العدمية ووسمها بالسمة البطولية، وبعضها رفض حقيقته الوجودية، أو تشكّك في ضرورته الحياتية. وتهربت إجابات أخرى من الإلحاح الوجودي للسؤال؛ إما بإعادة تفسيره بما يؤول إلى نفي المعنى، أو بالتشتيت وأساليب الإلهاء الذاتي. أما بقية المعالجات الحداثية فقد حاولت تقديم إجابات عديدة، ومع تنوعها إلا أنها تشترك جميعًا في كونها معلمنة ودنيوية، خذلتها أيديولوجيات الضلالة عن رفع البصيرة إلى السماء.
بعد وضع الخطوط العامة لمعنى المعنى، يرسم الوهيبي في الفصل الأول «الأنا في العقود الأخيرة» خارطة تمهيدية للظروف التي تأزّم فيها سؤال المعنى، من خلال عرض ملامحَ الموجة الفردانية الجديدة لتحقيق الذات، ورصد انعكاساتها في تطور نماذج المعالجة النفسية الإنسانية والوجودية، وفي بزوغ «أزمة المراهقة»، ويبحث آثار هذه الموجة ومظاهرها في تكريس أزمة المعنى.
بدأ هذا الفصل بعرض ما يسميه بیرمان «إحساسات الحداثة» (التيه والتفكك والتناقض والتغير الدائم)، وهي إحساسات شائعة في شعور الإنسان الحديث ووعيه، وقد ازداد انتشارها في القرن العشرين بفضل التسارع الهائل في التحولات الاجتماعية والثقافية، التي شملت مجمل مظاهر الواقع الفردي والجماعي، وقصد الفصل إلى تحلیل تطورات بعض مناهج المعالجات النفسية، ونشأة أزمة المراهقة، بهدف کشف اللثام عن موقع «الأنا» المضطرب، بعد تقهقر التقاليد وتزعزع الاستمرارية التاريخية للبنى الاجتماعية والعقائدية الحاملة للمعنى. كما أوضح الفصل صلة أزمات الهوية والمعنى بنمط التحول الواسع نحو التمركز الذاتي، وتضخّم موقع «الأنا» في بنية الهوية والسلوك، الذي تبلور في نموذج «فردانية تحقيق الذات»، ففي هذا النموذج الثقافي تبدو الأنا المعاصرة في تجسداتها المتطرفة بالذات «شبيه بالدمية المتحركة والمكسورة التي سقطت عيناها إلى الداخل»؛ فهي منغمسة في شعورها الباطني، ومولعة بتحديد هويتها وذاتيتها من عمقها «المستقل» والمتحرر من ضوابط المجتمع ومحددات الطبيعة، إلى حد الربط بين القيمة الوجودية للفرد و«أصالته» الذاتية. وانشغال «الأنا» بهذه النزعات الذاتية المهووسة بتحقيق نفسها، والمناهضة لمصادر التوجيه والإرشاد الخارجة عنها، والمحرومة من الدعم والمساندة الروحية والاجتماعية؛ يفسّر شیوع الكآبة القاتلة، وتعاسات الضيق والبؤس في العقود الأخيرة ربما على نحو غير مسبوق في الحقب السابقة.
ثم يعود في الفصل الثاني «الذات الحديثة: الجذور والآثار» لاستكشاف بعض الجذور التاريخية للموجة الفردانية، ويتتبع السياق العام الذي نشأت في أثنائه بذورُ مركزية الذات وأسسها الثقافية؛ منذ أطروحة العودة الجوانية عند أوغسطين ودیکارت وصولًا إلى «ذاتية» الحداثة عند هيغل، ويوضح هذا الفصل آثار هذه الذاتية الفردانية وسياقها، كما تجلّت في بعض الظواهر الأدبية الحديثة، وتحديدًا في الرواية والسيرة الذاتية، وكما تجلت أيضًا في العقود الأخيرة في آثار التطورات في تقنية الوسائط والشبكات الحديثة.
استبانت في هذا الفصل الأهمية التي يحظى بها الباطن الفردي في الفكر، منذ أن اعتُبر معبرًا للوصول إلى الحق السماوي، كما عند أوغسطين، ثم الوصول إلى الحقيقة الأرضية وفق دیکارت، ثم اعتباره موقعًا رئيسيًا لاستنباط الفرادة الإنسانية كما جاء عند الحركة الرومانتيكية، ومسرحًا فذًا لتحقيق السلام والانسجام والتناغم مع العمق الأصيل للكائن البشري حسب مونتین وروسو. ولم يكن «تحریر» الذاتية الباطنية وتوظيفها لتشييد الهوية الشخصية وتحديد خيارات القيم والغایات میسورًا؛ فقد بقيت كوابح المجتمع، وموانع الطبيعة، وحدود الواقع الموضوعي؛ حائلًا مانعًا دون تحقيق الذات بصيغتها المكتملة كما تبدو في خيالات الفرد المعاصر، فجاءت التقنية الحديثة لتسهل الطريق نحو الذاتية المتحررة، بابتكار الهويات الافتراضية، وإتاحة التعديل والتطوير الدائم لملامحها، التي ستظل «حريتها» مهددة؛ لاستحالة انفکاکها عن شروط الوجود الاجتماعي. وفي أثناء كل ذلك يتضح المسار العمومي الذي تحولت فيها الذات من محطة عبور لتأسيس الوجود والمعرفة، ومرکز محوري للاستقلالية القانونية والمساواة السياسية، إلى موقع إنتاج حصري للمعنى «الأصيل».
وأما الفصل الثالث «مآزق الأصالة» فيطرح فيه بعض الملاحظات النقدية الرئيسية عن علاقة الذات بالمجتمع في التصور الفرداني، والثغرات التي تحيط بنموذج تحرر الهوية الذاتية واستقلالها، ويناقش أزمة الاعتراف، وآثار فردنة المشكلات الاجتماعية والثقافية و”نفسنتها”.
يصعب العرض المختزل لإشكاليات الذات، إلا أن ما حرص عليه هذا المؤلف في هذا الفصل هو بيان مصير «الفردانية الهوياتية» التي أضحت مشوّشة وعالقة في كون غامض؛ فالهويات القديمة أضحت باطلة، وبقيت الهويات المستقبلية معتمة، وغالبًا مهددة، وهذا التشوش العميق نتيجة حتمية لمحاولات بناء الهوية الشخصية والذاتية الإنسانية بالتحرر من الأطر الجماعاتية. ويتضح لنا في هذا الفصل الصورة الإجمالية لطبيعة العلاقة بين «الأنا» و«النحن» في فردانية تحقيق الذات، ومخاطر مركزة قيمة الاختيار الحر الذاتي ومآلاتها العدمية، ويتبين أيضًا عمق انغراس الذات في المجتمع، وفي بنية العلاقات والمحادثات، وكيف أن تضاؤل الهويات الاجتماعية التقليدية تسبب في بروز أزمة الاعتراف التي زادت حدتها مع موجة الفردانية الأخيرة. على أن الغاية من بيان عمق التأسيس الاجتماعي للذات تكمن في الكشف عن كون المساعي الفردانية لتحقيق الأصالة والاستقلال التي تطمح لابتكار فرادتها الموهومة على أنقاض الهوية الاجتماعية التقليدية تفضي إلى اختلال البنية السردية للهوية والذات، ومن ثم اضطراب قصة الحياة الشخصية وفقدانها للمعنى، كما أن هذه المساعي نفسها تُعمّق من فردنة مظاهر أزمة المعنى ومشكلاتها النفسية والروحية، وتحولها إلى مسألة انعتاق شخصي بحت، وليس بحثًا مشروعًا عن إطار عقائدي جماعي. وأشار المؤلف إلى أن بعض الأطروحات الساعية إلى ترميم الذات والهوية الحديثة؛ بتأكيد صلات الذات الثقافية والاجتماعية بالآخرين (كأطروحة هابرماس) لا تزال تعاني من ثقوب عميقة، فكون الذات تتشكل من خلال اللغة أو شبكات المحادثة؛ لا يضمن للفرد عدم فقدان المعنى والتفكك وخسران الجوهر في بيئته وعلاقاته الإنسانية، فهذه الأطروحات مهددة دائمًا بالانزلاق في فخ «الشخصانية» أو الفردانية التعبيرية؛ بالاحتفاء بقوى الفرد الداخلية المبدعة، وبالمصادر الباطنية التي تمثل أساسًا للتحرر، فلا مفر من التعويل على المصادر المتعالية أو الخارجية لضمان ثبات المعنى، وتماسك الهوية الذاتية.
وينشغل الفصل الرابع «الطريق نحو الجسد» ببحث ثلاث مآلات رئيسية لأزمة المعنى، فالذاتية الفردانية أفضت إلى تفشي النسبوية، وذوبان اليقينيات، وفتحت الطريق أمام تطبيع النزعات العدمية، لينتهي المطاف بالفرد إلى التمركز حول الجسد، بوصفه حائطَ الصد الأخير ضد الهشاشة الوجودية الناجمة عن اضمحلال المعنى.
سعى هذا الفصل إلى كشف الترابطات لثلاثة ظواهر ثقافية معاصرة وصلاتها أزمة المعنى، ففردانية تحقيق الذات المرتكزة على الأولوية المطلقة للتحديد الشخصي الحر تفضي عادة إلى فتح باب النسبوية القيمية والأخلاقية، وتكريس المساواة بين أنماط الحياة المختلفة -مهما تباينت وتناقضت- إذا التزم أصحابها بالشرط الفرداني المقدس، وهذه المساواة النسبوية تمهد الطريق لقدوم العدمية التي راجت في الآداب والفنون المعاصرة بفضل تضمنها معنى يقينيًّا في عمق بنيتها المضمرة -ياللمفارقة-، فالاعتقاد العدمي يشبع الحاجة الدفينة لاكتشاف الحقيقة المطلقة، ويلبي نوازع البطولة في مواجهة المأساة. ثم يأتي الجسد المادي بوصفه “الملاذ الأخير” الذي يوظفه الفرد لتأسيس المعنى أو استنباطه، سواء بتأكيد الفرادة الشخصية، وتكريس الهوية الذاتية الأصيلة؛ بإبراز حدودها، وتثبيت ملامحها على السطح المرئي للذات، وبحمايتها من التفكك والسيولة بتعريضها للمشاق وربما الآلام الطوعية. أو بمقاربة الموت والمخاطر الجسدية «الآمنة» نسبيًا، لاستعادة وتجديد الشعور بكفاية الحياة أو الوجود الحي داخل العالم فحسب، والارتكاز على هذا الشعور الذاتي في الإجابة عن سؤال معنى الحياة، وهي فكرة مبتذلة أو كليشيه متكرر في الفنون المعاصرة، وتقوم على حث الفرد بأساليب متنوعة على الامتنان لمجرد العيش، والاكتفاء بذلك عن أي معنى علوي.
ثم ينتقل في الفصل الخامس «اختلاق المقدس والأديان البديلة» إلى بيان أبرز المحاولات الحداثية لمعالجة أزمة المعنى، باختلاق مقدسات وأديان دنيوية بديلة، كالأديان السياسية، والقوميات، والعقائد «الوطنية»، والفلسفات القديمة، والروحانيات المخترعة، وغيرها.
من المتوقع أن يشعر القارئ المؤمن بالنفور من الابتذال الذي يسود التعامل مع العقائد الدينية، والشعائر المقدسة، ومصطلحاتها ومفاهيمها في حقول الإنسانيات المعاصرة، بيد أن هذا التناول التدنيسي لمسائل الألوهية والتعالي ليس غريبًا على الثقافة الغربية المتأثرة بالأسطوريات (الميثولوجيا) اليونانية، التي تلطخت في حكاياتها الذوات المقدسة بالمدنّسات، وهزمت فيها الآلهة المزعومة وانتهكت كرامتها. والمقصود من هذا الفصل تقرير أن الاحتياج الفطري العميق إلى التأله قاد المجتمعات الحداثية إلى ابتكار أشكال كثيرة من المقدسات والأديان، وهي -من حيث الجملة- إما مقدسات جماعية تهدف إلى الإبقاء على التماسك الاجتماعي ووحدة الانتماء والهدف، وإما مقدسات فردية غرضها تحصيل الإثراء الروحي، وتحقيق الشعور بالامتلاء الوجداني، وأن هذه المقدسات جميعا -الجماعية والفردية- تمثل مظهرًا رئيسيًا لمحاولات الإنسان الحداثي ابتكار معنی الحياة، يصلح أن يكون بديلًا عن الرؤى التي تطرحها الأديان.
ولأن “الإنسان الحديث لا يحب، بل ينشد ملاذًا في الحب” كما يقول الفيلسوف الكولومبي نیکولاس غوميز دافيلا، يواصل المؤلف الحديث عن نموذج آخر لتلك المقدسات البديلة في الفصل السادس «المشاعر والرومانسيات المعاصرة»، فيناقش واحدة من أهم الظواهر المعاصرة المرتبطة بالمعنى وهي العلاقة الرومانسية، أو زواج الحب.
والحاصل أن الأزمة الروحية والوجودية التي تعتري الفرد الطامح إلى تحقيق ذاته المجردة عن دعم البنى الثقافية والاجتماعية والدينية تدفعه إلى تفعيل وتنشيط وجوده الفيزيائي وبنيته العضوية والنفسية تنشيطًا مفرطًا؛ لتعويض النقص الفادح في موارد الطمأنينة، ومصادر التوجيه والتعاليم الغائية، ومن هنا اتخذ الفرد المعاصر من شعوره وأحاسيسه موقعًا مرکزيًّا لابتكار معنى لحياته، ثم تركز ذلك كله ليفيض في ساحة «العلاقات العاطفية»، بغية إشباع الرغبة في اقتناص الكمال والجمال والجلال في ذات محبوبة يقف المعنى على حدود وجودها. وبقدر ضخامة هذه الوعود والآمال المعلقة على العلاقة الرومانسية، إلا أن الإحباطات الكثيرة تعترض طريقها، ويظل إسهام العلاقة في حل أزمة الغاية الوجودية، وهشاشة مغزى الحياة اليومية عابرًا وجزئيًا، فستقف الذات يومًا ما عاجزة أمام حتمية الانفصال بالطلاق أو الموت؛ وحينها يخلو العالم من المحبوب، ومن المعنى.
ويتناول في الفصل السابع «الفن والمعنى المؤجل» مقدسًا آخر حظي بالتبجيل والاحترام الحداثي هو الفن، ويحلل تطوراته، ومسببات تضخم حجم استهلاك الفنون المعاصرة، كالموسيقى والأفلام والمسلسلات، وعلاقة ذلك بأزمة المعنى.
تنبع فرادة الفن وجاذبيته وتأثيره الملحوظ من كونه يثير الأشواق إلى نماذج كاملة في الوجود العلوي كما في الفلسفات القديمة، أو لأنه يثير الأشواق إلى الله تعالى كما فسّر الجنيد والغزالي، أو لأنه يعبر عن الحس بالحقيقة المطلقة والواقع النهائي كما يرى کلایف بیل، أو لكونه يمنح الفرد صلة ما بالخلود، ويحرره نسبيًا من وطأة الزمن وحدوده القسرية حسب أونامونو وغادامير، ويمنحه نوعًا من التعالي على الواقع المباشر، ويجدد إحساسه بالوجود وفق رأي زیمل. وهذه التفسيرات كلها -وغيرها كثير- لا تعدو أن تكون محاولات لتحديد سر الفرادة الفنية الانفعالية التي تثير وتحير. لقد قدم الفن المعاصر في سياق أزمة المعنى بديلًا عن غيبيات الدين وكهنوت الكنيسة وتقاليد التدين، فالفن حس جمالي بمعاني ما ورائية بلا مضمون ولا التزام عقائدي، وهو أيضًا منبع أصيل يكشف الحقيقة الجوانية للفرد، التي تمنحه بوصلة يمخر بدلالتها عباب الوجود، كما يعد أفضل تقنيات النسيان، وأنجع أساليب التشتيت فائقة التأثير، أي أن الفن إما أن يمنح المعنى، أو يحجب شرور العدمية قدر الإمكان.
لا يمكن استيفاء المسببات لأزمة المعنى في الحياة الحديثة دون تأمل التغيرات التي استجدت في مجال العلاقة الفردية والجماعية بالتاريخ، وإدراك الزمان والشعور به في المخيلة الحداثية، لهذا يحلل المؤلف في الفصل الثامن «المعنى والزمان» العلاقة الوثيقة بين الزمن والمعنى، ويشرح مرکزية البنية السردية للمعنى، وأسباب اختلال الوعي الزمني، وتحوّل رتابة النشاط اليومي إلى أزمة وجودية خانقة.
ولأن الزمان والبعد التاريخي يقع في قلب أزمة معنى الحياة الحديثة، فقد ابتكرت الحداثة زمانها التقدمي الخاص، وأضحى أتباعها «يصنعون» تاريخهم، ويصممون «أقدارهم» بأنفسهم توهمًا، ثم جاءت أزمات القرن العشرين وحروبه الكبرى لتُشكك في البناء الحداثي للزمان ومعنى التاريخ، ومع اندفاعات الفردانية بنسخها الأحدث في أواخر القرن نفسه التي تزامنت مع التصاعد الهائل لآثار الحاضرية، وتبدلات الحركية الزمانية والمكانية، وشيوع الطبيعة الفورية والمؤقتة والاستهلاكية للعلاقات مع الأشخاص والأشياء؛ تضعضع البناء الحداثي للزمن بصيغه التفاؤلية والتقدمية، وتفتت في تواریخ فردية هزيلة، ومن ثم تقلص الشعور بالزمن الممتد في نفوس المعاصرين، وساد الإحساس بالإقامة في إطار زمني ضيق، له ماض مجهول، ومستقبل مختصر، وذلك كله يزيد من تفاقم أزمة المعنى، لأن معنى الحياة لا يمكن استنباطه بمعزل عن سردية تاريخية وزمانية يستوعب من خلالها الماضي، ويستعان بها على آلام الحاضر ومسؤولياته، ويطمح بواسطتها إلى المستقبل المرجو.
أما الفصل التاسع والأخير فيستهدف الإجابة عن سؤال المعنى بتقديم صيغة إجمالية للسردية القرآنية لمعنى الحياة، بعد تأمل دلالات معنى الزمن والألم والموت، ويربط بين سؤال المعنى والبنية السردية للهوية والذات، كما يكشف عن العلمنة الخفية في سؤال المعنى، وعلاقته بمفهوم الدين في التصور الحداثي، ملخصًا جواب الكتاب بعنوان هذا الفصل «من المعنى إلى التعبد».
يؤكد المؤلف في نهاية الكتاب أن «معنى الحياة» لا يتحقق على جهة الكمال إلا بالإذعان والاستسلام لمقتضى العبودية، بتصحيح القصد، والإيمان بالرسالة، وضبط بوصلة القلب على جهة العلو، طاعة ومحبة وإخلاصًا وتوحيدًا؛ وكل معنى من المعاني المخترعة، مما تَعلْمَن في مؤسسات أو حرکات أو أيديولوجيات، أو تأنسن وتفردن في ذوات أرضية ونفوس فانية؛ فمصيره الزوال، ونهايته العدم، لا بل مصيره العذاب والهوان المقيم في الدار المقبلة، ولا يبقى إلا الله تعالى، الحي الباقي. وإذا كانت الأديان الباطلة، كالمسيحية واليهودية، تدل أتباعها على معنی حياتهم الحقيقي، وتواسيهم بوعد الخلاص الأخروي، وهم يتصبرون بذلك ويحتملون لأجله مآسي الحياة، وما ذاك إلا بسبب ما وقع لهم من شعاع أنوار الحق، وإن منعوا كمال النور بما عملته أيديهم من التحريف الباطل، فكيف يكون الحال باعتقاد دین الحق، فـ(الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله).
(4)
هذه مواضيع الفصول الرئيسية في الكتاب، لكن محتواه ليس هذا فحسب، فالكتاب مترع بتأمل لوحات الطريق، بالتعليق على ما تظنّه هامشيًّا، ولأن المؤلف يُدرك أنه مُلفِتٌ لانتباه الإنسان المعاصر كما هي لوحات الإعلانات في طرقات المدينة الحديثة، لا يُفوّت فرصة تحليلها لتكتمل لك متعة الرحلة.
عبدالله باحث رصين، لا يتوانى عن العودة للمصادر الأصلية والبحث في التحليلات المركزية والثانوية، مع الربط والتعليق والتعقيب في كل ما يذكر، وسيظهر لك الكتابُ سعة اطلاع الكاتب الذي بلغت مصادر كتابه (٢٤٦) كتابًا، ليست في حقل واحد، بل في حقول كثيرة. وهو يكتب بطريقة الحديث بلسان الآخرين، فتجد الكتاب أشبه ببازل كبيرة متشعبة الأشكال الصغيرة، لكن ما يهم هو انتظام الصورة النهائية وتداخل تلك القطع في الإطار الكلّي، وهو ما برع به. وهذا الأسلوب من أحب أساليب الكتابة بالنسبة لي، فمجاورة الكتّاب واستنطاقهم يُضفي على النص ثراء وجمالًا، كما أنه يبعد الإملال عن القارئ الذي تهمه المعرفة لا البحث عن مثالب يعيب بها الكتاب. وهذا الأسلوب ليس بدعًا حداثيًّا كما يصفه البعض، بل هو أسلوب كبار كتّاب العربية في القرون الأولى، كما يقول كيليطو وكما تجده أنت في كتبهم الملأى بالأخبار والنقولات، وهو أيضًا أسلوب رائد أدب المقالة في المعتمد الغربي الفيلسوف الفرنسي ميشيل دي مونتيني (تـ1592م) الذي يقول في الجزء الثاني من “المقالات” بترجمة فريد الزاهي: “فلتنظروا فيما أستقيه من الكتب إذا ما كنت اخترت شيئًا يعز أو يسند بشكل ملائم الباقي، الذي هو من بنات أفكاري. فأنا أُقوّل الآخرين، لا في البداية وإنما فيما بعد، ما لا أستطيع أن أقوله بشكل جيد، بسبب ضعف لغتي أو عقلي. أنا لا أحسب الشواهد التي أستقي من الآخرين وإنما أزنها. ولو كنت أرغب في تقويمها بعددها، كنت استشهدت بما يعادل ذلك مرتين. وهي شواهد آتية كلها أو جلها من أسماء شهيرة وقديمة بحيث يبدو لي أن لا ضرورة للتعريف بها”.
ويُفسّر سبب اعتماده على هذه الطريقة بشيء من السخرية قائلًا: “فأنا أخفي أحيانًا في الحجاج والمقارنة والبراهين، التي أزرع في حقلي كي أمزجها بنظيرتها لدي، اسم صاحبها عنوة، كي أحد من تهور تلك الانتقادات المتسرعة التي تطلق عن كل أنواع الكتابات خاصة منها المحدثة. إنها مؤلفات ينشرها أناس لا يزالون أحياء بلغة «مبتذلة»، لغة أيامنا هذه، وهو ما يسمح لأي واحد بالحديث عنها، وما يمنح الانطباع بأن تصور العمل المنشور ومراميه هي أيضًا مبتذلة. وأنا أريد لمن يريد أن يصفعني أن يوجه الصفعة بالأحرى لأنف بلوتارخوس، وأن يصبحوا مسخرة بشتم سینیکا من خلالي. فأنا مضطر لأن أخفي ضعفي خلف هؤلاء المشاهير”.
تعظم الكتب بقدر ما تُقدّم من إجابات، وبقدر ما تحل من إشكاليات، وهو ما نجده في هذا الكتاب الذي يحلل الكثير من الظواهر المتفشيّة في المجتمعات المعاصرة، رابطًا بين الفلسفات القديمة والآراء الحديثة، موظّفًا النتاج الفكري والإبداع الأدبي بانسيابية وتراتبية مبتكرة.