ناقشت1 في مقال2 سابق تمثيل الفردانية كما خلقها الفن وخاصة الشعر. وعلينا الآن أن نتعامل مع مسألة المعرفة العلمية للأفراد، وبالطبع مع الأشكال الرئيسية للوجود الإنساني الفردي بشكل عام. هل هذه المعرفة ممكنة؟ وما هي الوسائل المتاحة لنا لبلوغها؟
إنه سؤال بالغ الأهمية. تتطلب أعمالنا فهم الآخرين في كل مكان؛ وينشأ جزء كبير من سعادة الإنسان من قدرته على التعاطف مع الحالات الذهنية للبشر؛ فالعلوم اللغوية والتاريخية بأكملها تستند إلى افتراضٍ مُسبق بأن هذا الفهم للمفرد يمكن أن يكون موضوعيًا. لقد مكن الوعي التاريخي المبني على هذا الأساس الإنسان المعاصر بجعل ماضي البشرية بأكمله حاضرًا في نفسه: فهو ينظر إلى ما وراء كل حدود زمانه في ثقافات الماضي، ويمتص قوتها، ويستمتع بسحرها، وعلى هذا تزداد سعادته. وإذا ما استمدت العلوم الإنسانية المنهجية في استنباط علاقات منظمة أعم واتصالات أشمل من هذا الفهم الموضوعي للمفرد، ستظل عمليات الفهم والتفسير هي الأساس بالنسبة لها. وهكذا، فإن هذه العلوم، مثلها مثل التاريخ تمامًا، تعتمد في يقينها المنهجي على ما إذا كان من الممكن فهم المفرد بطريقة أشمل. لذلك نواجه عند بداية دخولنا إلى العلوم الإنسانية مشكلة تنفرد بها عن كل المعرفة المفاهيمية للطبيعة.
صحيح أن العلوم الإنسانية قبل كل شيء لديها معرفة بالطبيعة، على الرغم من أن موضوعها ليس ظاهرة تُعطى في الحواس، ولا مجرد انعكاس لشيء حقيقي داخل الوعي، بل هو بالأحرى واقع داخلي بحد ذاته، أي أنه اتصال يتم اختباره من الداخل. ولكن الطريقة التي يتم بها تقديم هذه الحقيقة في التجربة الداخلية، تأتي بصعوبات كبيرة في إدراكها الموضوعي – لكن هذا ليس نقاشنا في هذه المقالة – علاوة على ذلك، فإن التجربة الداخلية التي أُصبح فيها مدركًا انعكاسيًا لحالاتي الخاصة لا يمكن أن تجعلني أدرك فرديتي. إذْ لا أجد شعوري بفرديتي أجده إلا عندما أقارن نفسي بالآخرين، وعند هذه النقطة أدرك ما هو مختلف عن الآخرين في وجودي. وما أصدق غوته (Goethe) عندما قال إن هذا الأمر الأهم في جميع تجاربنا هو أصعبها بالنسبة لنا، وإن رؤيتنا في مقياس سلطتنا، وطبيعتها، وحدودها تبقى دائما ناقصة. لكن الوجود الأجنبي للآخرين لا يُمنج لنا إلا من الخارج في شكل حقائق ذات معنى متاحة للحس؛ أي في الإيماءات والأصوات والأفعال. ومن خلال عملية إعادة خلق ما هو متاح للحواس نُكمل هذه التجربة الداخلية. يجب علينا نقل كل شيء عبر إحساسنا بالحياة: من المادة، والبنية، إلى السمات الأكثر فردية لهذا الكمال. ولكن المهم هنا كيف يمكن للوعي المصمم بشكل فردي، أن يجلب شخصية غريبة ومختلفة تمامًا إلى المعرفة الموضوعية من خلال إعادة الخلق هذه؟ ما هو نوع العملية التي تبدو غريبة جدًا مقارنة مع العمليات الأخرى للمعرفة المفاهيمية؟
نُطلق لفظ «الفهم» على العملية التي نتعرف من خلالها على الأشياء في الداخل بواسطة الإشارات التي تُعطى حسيًا من الخارج. هذا هو الاستخدام اللغوي العادي لها. أما المصطلحات النفسية الدقيقة التي نحتاجها، لا تتحقق إلا إذا تم اختبار كل تعبير فيها، وترسيخه بوصفه اصطلاحًا موحدًا وواضحًا ومفيدًا من قبل جميع الكُتاب. فهم الطبيعة – تفسير الطبيعة – تعبير مجازي. ولكن حتى تخوف المرء من ظروفه الخاصة لا يُشار إليه إلا بلفظ الفهم، وهو معنى استعاري غير مناسب. فأنا أقول على سبيل المثال: «لمَ فعلتُ ما فعلت؟ لم أعد أفهم نفسي بعد الآن». إلا أن ما أعنيه بهذا هو أن وجودي الخارجي داخل عالم الحواس يقف أمامي الآن باعتباره وجودًا غريبًا وأنني غير قادر على تفسيره، أو بدلاً من ذلك أجد نفسي فجأة دخلت في الحالة التي أحملق فيها، بوصفي شخصًا غريبًا عني. لذلك فإننا نُطلق على فهم تلك العملية التي ندرك بواسطتها الإشارات المعطاة لحواسنا أنها تلك الحقيقة النفسية التي تعبر عنها.
يتراوح هذا الفهم من تصور الثرثرة الطفولية إلى تصور «هاملت» أو «نقد العقل». فالروح البشرية ذاتها تحتاج إلى تفسير؛ ولذلك تتجلى لنا وتخاطبنا من خلال الأحجار، والرخام، والنغمات الموسيقية، ومن الإيماءات والكلمات والكتابة، ومن الأفعال والأنظمة الاقتصادية والدساتير. في الواقع، فإن عملية الفهم، بقدر ما تحددها الظروف المشتركة والوسائل المعرفية، يجب أن تتمتع في كل مكان بالخصائص نفسها. وبالتالي، تكون هي نفسها في سماتها الأساسية. إذا أردت أن أفهم ليوناردو دافنشي، على سبيل المثال، فإن تفسيراتي لأعماله ولوحاته وصوره وكتاباته تعمل معًا بوصفها عمليةً متجانسةً وموحدة.
يظهر الفهم بدرجات متفاوتة، يُحدّد في البداية من خلال الاهتمام. إذا كان الاهتمام محدود، يكون الفهم كذلك. وإلا فكيف نستمع إلى بعض الحجج بفارغ الصبر، ثم نحدد فقط نقطة واحدة منها مهمة عمليًا بالنسبة لنا، دون أي اهتمام بعوامل المتحدث الداخلية؟ بينما في حالات أخرى نسعى جاهدين لاختراق باطن المتحدث من خلال كل كلمة وكل تعبير قد يُبديه. ولكن حتى مع أكثر الاهتمامات إلحاحًا لا يمكن للعملية الفنية أن تتحقق فيها درجة ما من الموضوعية التي تخولنا من التحكم فيها إلا إذا كان التعبير عن الحياة ثابتًا؛ وبالتالي يمكننا العودة إليه مرارًا وتكرارًا. مثل هذا الفهم الفني للتعبيرات دائمة الثبات عن الحياة هو ما نسميه التفسير. وبهذا المعنى، يوجد أيضًا فن تأويل تكون موضوعاته التي يتناولها منحوتات أو لوحات وما إلى ذلك، وقد دعا فريدريش أوجست فولف (Friedrich August Wolf)3 بالفعل إلى الهيرمنيوطيقا والنقد الأثريين. ودافع فيلكر (Friedrich Gottlieb Welcker)4 عن مثل هذه الحاجة للهيرمنيوطيقا، وأما بريل (Ludwig Preller)5 فقد حاول تنفيذ هذه الهيرمنيوطيقا بالفعل، ولكنه أيضًا أكد على أن مثل هذا التفسير للأعمال الصامتة يعتمد في كل الأماكن على التفسيرات الأدبية لتوضيحه.
تكمن الأهمية اللامحدودة للأدب في فهمنا للحياة الروحية، والتاريخ، وفي حقيقة أن الإنسان الداخلي لا يجد إلا في اللغة تعبيره الكامل والشامل والمفهوم بشكل موضوعي. ومن ثم فإن فن الفهم له مركزه في عرض أو تفسير آثار الوجود البشري المحفوظة في شكل مكتوب.
وقد شكل تفسير مثل هذه الآثار، إلى جانب الإجراءات النقدية التي لا تفصل عنه، نقطة انطلاق فقه اللغة. ويعتبر فقه اللغة -في جوهره- ذلك الفن الشخصي والبراعة في معالجة ما تم حفظه بالكتابة؛ إذْ لا يزدهر أي تفسير آخر للآثار أو الأعمال المنقولة تاريخيًا إلا إذا ما ارتبط بهذا الفن ونتائجه. قد نكون مخطئين بشأن دوافع هؤلاء الأشخاص المشاركين في الكتابة؛ فمن الممكن أنهم قاموا بنشر أفكار غير صحيحة عن أنفسهم، لكن لا يصح أن يكون عمل شاعر، أو مكتشف عظيم، أو لاهوتي عبقري، أو فيلسوف أصيل سوى تعبير حقيقي عن حياته النفسية؛ إذْ وسط مجتمع بشري يعج بالأكاذيب، تكون هذه الأعمال دائمًا حقيقية؛ وعلى عكس كل شيء آخر مسجل في العلامات الثابتة، فهو تعبير قادر ذاتيًا على التفسير الكامل والموضوعي؛ ففي الواقع فقط، وفي ضوء مثل هذه الأعمال نبدأ في فهم الآثار الفنية الأخرى لعصر ما والأعمال التاريخية لمعاصريه.
لقد تطور فن التفسير بطريقة تدريجية وبطيئة ومنتظمة تمامًا مثل البحث التجريبي عن الطبيعة. وقد نشأ واستمر بالازدهار في عالم اللغة الفردية. ومن أجل ذلك يُنقل تقليده (tradition) بشكل أساسي إلى الآخرين من خلال الاتصال الشخصي مع الممارسين الكبار للتفسير أو مع أعمالهم. وفي ذات الوقت تعمل جميع الأعمال الفنية وفقًا للقواعد التي تُعلمنا كيفية التغلب على الصعوبات، بتقديم نتاج الفن الشخصي. هذا هو السبب في أن فن التفسير شكّل شرحًا لقواعده في وقت مبكر. ومن تناقض هذه القواعد، وصراع الاتجاهات المختلفة حول تفسير الأعمال الحيوية والحاجة اللاحقة لتبرير مثل هذه القواعد، نشأت الهيرمنيوطيقا؛ النظرية التي تدرس قواعد تفسير الآثار المكتوبة.
لأن الهيرمنيوطيقا تحدد إمكانية التفسير الصالح كليًا على أساس تحليل الفهم، فإنها تصل في النهاية إلى حل للمشكلة العامة التي بدأ فيها المقال. يأخذ تحليل الفهم مكانه إلى جانب تحليل التجربة الداخلية، ويظهر كلاهما معًا إمكانية وحدود المعرفة الصالحة كليًا في العلوم الإنسانية، إلى الحد الذي تكون فيه هذه التخصصات مشروطة بالطريقة التي تُعطي لنا الحقائق النفسية في الأصل.
أود الآن أن أوضح هذه الدورة المنتظمة في تاريخ الهيرمنيوطيقا: كيف نشأت البراعة اللغوية من الحاجة إلى فهم عميق وصحيح بشكل عام؛ ابتداءً من وضع القواعد، إلى ترتيبها تحت هدف تم تحديده بدقة أكبر من خلال حالة العلم في وقت معين، حتى تم العثور في تحليل الفهم بحد ذاته على نقطة البداية للتنظيم حتى تم اكتشاف أساس مناسب لتشكيل القواعد في تحليل الفهم نفسه.
1
تطور التفسير الفني (هرمينيا – ερμηνεία) للشعراء في اليونان من الحاجة إلى التعليم. فلقد كان تأويل ونقد هوميروس والشعراء الآخرين هواية فكرية شائعة ومُثرية في عصر التنوير اليوناني لكل من كان يتحدث اليونانية. ثم ظهر أساسٌ أصلب منه عندما اصطدم هذا التأويل بالبلاغة بين السفسطائيين والمدارس الخطابية. اشتملت المبادئ العامة للخطابة في تكوينها الأدبي بشكل أساسي على صلتها بالبلاغة. يعتبر أرسطو ذاك المُصنِّف والمُشرِّح العظيم للعالم العضوي، وللدولة السياسية، والإنتاجات الأدبية، الذي استطاع تعريفنا في خطابه بكيفية تقسيم المنتج الأدبي ككل إلى أجزائه، والتمييز بين الأنماط الأسلوبية المختلفة، وكيفية الحكم على تأثير المنظومة الإيقاعية، والحقب الزمنية، والتعابير المجازية. يُعبر في كتابه «البلاغة إلى الإسكندر» (Τέχνη ῥητορική)6 بشكل أبسط من ذلك عن هذه التعريفات لعناصر الكلام الفعالة، تحت عناوين مثل: حول الانثيميم (ἐνθύμημα)7، الحكمة، السخرية، الاستعارة، التناقض. واتخذت شاعرية أرسطو من الشكل الداخلي والخارجي للشعر موضوعًا لها. والتي يصح اشتقاقها من تعريف جوهر أو هدف الشعر، وأنواعه، وعناصر تأثيره، وموضوعاته.
اتخذ فن التفسير وقواعده خطوة ثانية مهمة إلى الأمام مع فقه اللغة السكندري. إذْ جُمع الإرث الأدبي اليوناني في المكتبات، وأُجريت مراجعات للنصوص، وسُجّلتْ النتائج الهامة فيها من خلال نظام مفصل للتدوين النقدي. كما وقد أُزيلت النصوص غير الأصلية، وكتبت قوائم جرد لجميع النصوص المتبقية. لقد أثبت فقه اللغة نفسه الآن فنًا لتحقيق النصوص، وتفسيرها، ونقدها، وتحديد القيمة على أساس الفهم الحميم لـ «اللغة». كانت تلك واحدة من آخر إبداعات الروح اليونانية وأكثرها غرابة، لأن المرح في الخطاب البشري كان من أقوى دوافع لغة هوميروس. وقد بدأ علماء فقه اللغة السكندري العظماء في إدراك القواعد المتأصلة في أسلوبهم العبقري. لقد مضى أرسطرخوس (Ἀρίσταρχος ὁ Σαμόθραξ)7 بوعي نحو تأسيس مبدأ صارم وشامل لاستخدام لغة هوميروس مستندًا إلى تفسيراته وتوضيحاته للنصوص. وأسس هيبارخوس (Ίππαρχος ο Ρόδιος) 8 تأسيسًا واعيًا التفسير الموضوعي للبحث الأدبي والتاريخي من خلال اكتشاف مصادر قصيدة الظواهر (Φαινόμενα) لأراطوس (Ἄρατος ὁ Σολεύς) 9 وتفسيرها على أساس ذلك البحث. وكان إذا تم التعرف على عدد كبير من فقرات القصائد التي تنسب إلى هسيودوس (Ἡσίοδος) فسيتم مباشرة حذفها من فقرات قصائد الملاحم لهوميروس، كالنشيد الأخير من الإلياذة، وحتى الجزء الأكثر إجماعًا من القصيدتين الأخيرتين من الأوديسة قد عُثِرَ عليها بأكملها لتكون من أصل أحدث مما سبق؛ وكل هذه النتائج ما كانت لتكون لولا المعالجة الفائقة لمبدأ القياس، والذي بموجبه تم إنشاء قانون استخدام اللغة، ومجموعة الأفكار والتماسك الداخلي، والقيمة الجمالية للقصيدة، وإقصاء ما يتعارض مع هذا القانون. قد نرى تطبيق مثل هذا القانون الأخلاقي الجمالي من قبل زينودوت (Ζηνόδοτος) 10 وأرسطرخوس بوضوح من طريقة تبريرهم للأفكار المشتقة من قوله: (dia to aprepes – لأنه غير مناسب)، أو من العبارة الأخرى: Si quid heroum vel deorum gravitatem minus decere videbatur ) – إذا بدا شيء أقل ملاءمة لمنزلة الأبطال أو الآلهة )؛ حيث أرضى أرسطرخوس السلطة الأرسطية.
عُزز الوعي المنهجي للطريقة الصحيحة للتفسير في المدرسة السكندرية من خلال معارضتهم لفقه لغة بيرغامون. هذا التناقض في الاتجاهات الهيرمنيوطيقية، كان له أهمية تاريخية كونية فقد عاود الظهور في وضع جديد مع اللاهوت المسيحي، وتأثرت به نظريتان تاريخيتان عظيمتان عن الشعراء والكتاب الدينيين.
جلب أقراطس المالوسي (Κράτης ὁ Μαλλώτης) من الرواقية مبدأ التفسير المجازي إلى فقه لغة بيرغامون. استند التأثير طويل الأمد لهذا المبدأ في البداية على حقيقة قدرته على حل التناقض بين الوثائق الدينية والرؤية التجريدية للعالم. ومن هنا كانت الحاجة إليه لدى مفسري الفيدا وهوميروس والإنجيل والقرآن؛ كان بمثابة فن لا غنى عنه على الرغم من عدم إثبات فائدته. ومع ذلك، كانت هذه العملية قائمة على نظرة عميقة للإنتاجية الشعرية والدينية. كان هوميروس من أصحاب البصيرة، وكان التناقض في رؤاه بين العميقة منها والأفكار الحسية الخام لا يمكن تفسيره إلا إذا فُهمت الأخيرة على أنها مجرد وسائل للعرض الأدبي. وعندما فُهِمَتْ هذه العلاقة على أنها التفاف متعمد للحس الروحي في الصور؛ ظهر التفسير المجازي.
2
إذا لم أكن مخطئًا، فإن هذا التعارض نفسه يعود بشكل جديد في الصراع بين المدارس اللاهوتية في الإسكندرية وأنطاكية. كان مفاد أحد المبادئ المشتركة لكليهما هو أن الرابط الداخلي بين النبوة والوفاء بتحقيقها يربط العهد القديم بالجديد. وقد ضُمّن مثل هذا الارتباط من خلال استخدام النبوة والنماذج الأولية في العهد الجديد نفسه. وانطلاقًا من هذه المقدمة، أوجدت الكنيسة المسيحية موقفًا معقدًا لها تجاه خصومها فيما يتعلق بتفسير كتابها المقدس. تطلب الأمر فيما يتعلق باليهود تفسيرًا رمزيًا من أجل نقل عقيدة اللوغوس إلى العهد القديم، ولكن كان عليها أن تمنع نفسها من تطبيق شامل للطريقة المجازية كما كان يفعل الغنوصيون. على خطى فيلون السكندري (יְדִידְיָה הַכֹּהֵן)11، حاول القديس جاستين (Ioustinos ho Martys) وإيرينيئوس (Eirēnaios)12 وضع قواعد لترسيم الحدود والتعامل مع الطريقة المجازية. تبنى ترتليان (Tertullianus) استراتيجيتهما في نفس الصراع مع اليهود والغنوصيين، ولكن من ناحية أخرى طور قواعد مثمرة لفن أجود في التفسير، مع أنه لم يظل مخلصًا لها للأبد. لقد كانت هناك دائمًا صيغة أساسية للتناقض داخل الكنيسة اليونانية. فلم تشرح المدرسة الأنطاكية نصوصها إلا وفقًا للمبادئ النحوية والتاريخية. فلم يَرَ لثيئودور الأنطاكي (Theodore of Mopsuestia)13 في سفر نشيد الإنشاد سوى أنها ترنيمة زفاف. وفهم سفر أيوب على أنه إعادة لقصة تاريخية تقليدية بصياغة شعرية. رفض عناوين المزامير، ونفى أي علاقة مباشرة بالمسيح فيما يتعلق بجزء كبير من النبوءات المسيحانية14. لم يقبل بمعنى مزدوج للنصوص، ولكنه افترض ارتباطًا أعلى بين الأحداث. في حين أن فيلون وإكليمندس (Titus Flavius Clemens) وأوريجانوس (Ὠριγένης,) ميّزا بعد ذلك بين الحس الروحي وبين المعنى الحقيقي في النصوص نفسها. إنها خطوة أخرى للتقدم من فن للتفسير إلى الهيرمنيوطيقا، حيث ارتفعت الممارسة إلى مستوى الوعي العلمي، ونشأت النظريات الهيرمنيوطيقية الأولى المتعارف عليها من هذا الصراع. وفقًا لفيلون، فإن الشرائع والقوانين الرمزية موجودة مسبقًا، واستخدمت في العهد القديم؛ وبالتالي يجب استخدام معرفتها أساسًا لتفسيره. هذا هو المصدر الذي توصل منه أوريجانوس في الكتاب الرابع من كتابه في «المبادئ الأولى» De Principiisوالقديس أوغسطينوس، في الكتاب الثالث من كتابه «حول العقيدة المسيحية» De doctrina Christianaإلى نظرية هيرمنيوطيقية مقدمة بشكل متماسك. في مقابل ذلك، قدمت مدرسة أنطاكية عملين -فُقدا للأسف-:
Τις διαφορα θεωριας και
الصراع بين النظرية والرمز لديودوروس.
Διόδωρος ὁ Ταρσεύς
القصة الرمزية والتاريخ ضد أوريجانوس لثيئودور.
3
دخل التفسير وتدوينه مرحلة جديدة مع عصر النهضة. ولأن المرء آنذاك بلغته وظروفه المعيشية وقوميته كان على قطيعة مع العصور القديمة الكلاسيكية والمسيحية، فقد أصبح التفسير هنا مختلفًا عما كان عليه الحال في روما القديمة، وهنا كانت مسألة نقل الذات إلى حياة روحية من خلال الدراسات اللغوية والوقائعية والتاريخية. وغالبًا ما كان على فقه اللغة الجديد، بوصفه علمًا، ونقدًا، أن يعمل مع مجرد أخبار ثانوية وأنقاض معرفية. لذلك وجب عليه أن يكون مبدعًا وبنّاءً بطريقة جديدة. من خلال ذلك ارتقى فقه اللغة والهيرمنيوطيقا والنقد إلى مستوى أعلى. وبقي عدد كبير من تلك الأدبيات الهيرمنيوطيقية منتشرة على نطاق واسع في القرون الأربعة التي تلتها. وقد قُسمت إلى تيارين: هي الكتابات الكلاسيكية والكتابات التوراتية التي سعى الجميع لاكتسابها ومثلتا القوتين العظميمتين. كان التدوين اللغوي للدراسات الكلاسيكية معروفًا بمصطلح آرس كريتيكا (ars critica) وتضمنت هذه الأعمال، بما في ذلك أعمال شوبه (Gaspar Scioppius)15، وكليريكوس (Johannes Clericus)16، وعمل فالوا (Henricus Valesius)17 غير المكتمل، دروسًا في فن الهيرمنيوطيقا في أقسامها الافتتاحية. تم التعامل مع عدد لا يحصى من المقالات والمقدمات الهيرمنيوطيقية. لكن الدستور النهائي لنشأة الهرمنيوطيقا كان ينبع من تفسير الكتاب المقدس. وأول عمل مهم من هذا النوع، ولعله أعمقها، هو «مفتاح الكتاب المقدس» – Clavis scripturae sacrae 1567)).
هنا ولأول مرة، انتظمت القواعد الأساسية للتفسير التي قد وضعت في عقيدة منهجية، وقد حدث ذلك عن طريق افتراض أنه يجب تحقيق فهم صحيح بشكل عام من خلال التطبيق الفني والمنظم لهذه القواعد. هذه النقطة المبدئية، التي هيمنت على الهيرمنيوطيقا في الواقع، تم التوصل إليها من قبل فلاسيوس (Matija Vlačić Ilirik)18 خلال معارك القرن السادس عشر. إذْ كان عليه القتال على جبهتين، وقد حافظ كل من القائلين بعقيدة تجديد العماد، والإصلاح المضاد الكاثوليكي على هالة من الغموض حول الكتاب المقدس. في معارضة هذا الرأي، اعتمد فلاسيوس بشكل خاص على تفسير جان كالفن، والذي يعود في كثير من الحالات من التفسير إلى مبادئه نفسها. كان العمل الأشد إلحاحًا بالنسبة لـ «اللوثريين» حينها هو دحض العقيدة الكاثوليكية في التقليد، والتي أعيدت صياغتها حديثًا. لا يصح تأييد ادعاء التقليد الذي يحكم تفسير الكتاب المقدس ضد المبدأ البروتستانتي لسيادة الكتاب المقدس إلا بواسطة إنكار إمكانية صياغة تفسير صحيح وقابل للتطبيق بشكل عام على أساس الكتاب المقدس وحده. تناول مجمع ترينت، الذي اجتمع من عام 1545 إلى عام 1563، هذه الإشكالية بدءًا من دورته الرابعة. وصدرت أول طبعة أصيلة لمراسيمها في عام 1564. وفي عام 1581، بعد ظهور أعمال فلاسيوس، شن بيلارمين (Roberto Bellarmino)19 ممثل ترينت الكاثوليكي، الهجوم الأشد مكرًا على ادعاء وضوح الكتاب المقدس في كتيب سعى فيه إلى إثبات ضرورة التقليد لاستكمال تفسيره. في سياق هذه الصراعات، تعهد فلاسيوس بإثبات إمكانية وجود تفسير صحيح كوني بواسطة الهيرمنيوطيقا. وفي أثناء قيامه بتلك المهمة، أصبح على دراية بالوسائل والقواعد لحل معضلاتها بطريقة لم تُوجد في أي تأويلات سابقة. إذا واجه المفسر صعوبات في نصه، فهناك طريقة سامية تتيح له حلها؛ أي الرجوع إلى سياق النص المقدس المعطى في التدين المسيحي الحي. فلو ترجمنا ذلك من نمط تفكيره العقائدي إلى طريقة تفكيرنا، فإن هذه القيمة الهيرمنيوطيقية للتجربة الدينية ليست سوى مثالًا بسيطًا لمبدأ أعم؛ فوفقًا لكل طريقة من طرق التفسير، تُشمل بوصفها عاملًا على الإشارة على سياق موضوعي. بالإضافة إلى هذا المبدأ الديني للتفسير، هناك أيضًا مبادئ أكثر عقلانية، أولها التفسير النحوي. ولكن فلاسيوس كان أول من أدرك أهمية المبدأ النفسي أو التقني للتفسير، والذي وفقًا له يجب تفسير المقاطع الفردية في ضوء مقصد العمل بأكمله وتكوينه. ومن أجل ذلك، اعتمد بشكل منهجي على المعرفة البلاغية للسياق الداخلي للمنتج الأدبي، وتكوينه وعناصره القوية، مهدت إعادة صياغة الخطاب الأرسطي من قبل ميلانشتون (Philipp Melanchthon)20 الطريق لذلك. أدرك فلاسيوس أنه استخدم لأول مرة بشكل منهجي من أجل تحديد لا لبس فيه للمواضع الجزئية التي ترد في السياق، والغاية منها، والنسبة، والترابط بين أجزائها المنفصلة. وأن ذلك من شأنه جلب قيمته الهيرمنيوطيقية من وجهة نظر عامة للمنهجية؛ فكما يقول «تستمد الأجزاء الفردية من الكل في كل مكان قابليتها للفهم من علاقتها بهذا الكل والأجزاء الأخرى»21. يتتبع هذا الشكل الداخلي للعمل وصولاً إلى الأسلوب والعناصر الفعالة الفردية، ويُصمم الخصائص الدقيقة لأساليب اللاهوت البوليسي – نسبة إلى بولس – واليوحناوي – نسبة إلى يوحنا -. لقد كانت خطوة كبيرة إلى الأمام، ولكن في حدود الإدراك البلاغي. كل عمل لميلانشتون وفلاسيوس كان يُكتب وفقًا للقواعد كما يتم فهمه أيضًا وفقًا لها. إنه أشبه بإنسان آلي منطقي يرتدي أسلوبًا وصورًا وأشكالًا خطابية.
تغلب فلاسيوس في عمله على أوجه القصور الرسمية في هيرمنيوطيقية بومغارتن (Siegmund Jakob Baumgarten)22. ومع ذلك، ظهرت حركة لاهوتية-هيرمنيوطيقية ثانية كبيرة في نفس الوقت من خلال كتاب «أخبار من مكتبة هاله» Nachrichten Von Einer Hallischen Bibliothek الذي ألفه بومغارتن. وقد بدأ المفكرون الإنجليز الأحرار، ومفسرو العهد القديم من الإثنولجيين، يأخذون مكانهم جنبًا إلى جنب مع المفسرين الهولنديين في الوعي الألماني. أما سملر (Johann Salomo Semler)23 وميشائيلس (Johann David Michaelis)24 فقد تأثر ببومغارتن وعمله. طبق ميشائيلس لأول مرة وجهة نظر تاريخية موحدة للغة والتاريخ والطبيعة والقانون لتفسير العهد القديم. وقام سملر سلف كريستيان باور (Christian Baur)25 العظيم، بتحطيم وحدة قانون العهد الجديد، وحدد المهمة الصحيحة لفهم كل كتاب مقدس على حدة في طابعه المحلي، ثم ربط جمع هذه الكتب المقدسة في وحدة جديدة كانت ضمنية في المفهوم الحي والتاريخي للصراع المسيحي الأولي بين المسيحية اليهودية والمسيحيين الذين يتبعون طرقًا أكثر ليبرالية. في كتابه «التمهيد للهيرمنيوطيقا اللاهوتية» – Vorbereitung Zur Theologischen Hermeneutik، كان سملر حاسمًا بنفس القدر في اشتقاق الهيرمنيوطيقا ككل من عنصرين أساسيين: التفسير القائم على الاستخدام اللغوي، والتفسير القائم على الظروف التاريخية. وبهذا تم تحرير التفسير من العقيدة، وأنشئت المدرسة النحوية التاريخية. ثم قدم إرنستي (Johann August Ernesti)26 بتفكيره الثاقب والحذر النص الكلاسيكي لهذه الهيرمنيوطيقا الجديدة في «مؤسسة مترجم العهد الجديد» – Institutio Interpretis Novi Testamenti). وهي الطريقة التي استخدمها شلايرماخر في تطوير المنهج الهيرمنيوطيقي الخاص به. وقد حدث هذ التطور المنهجي بما لا يدعو مجالًا للشك ضمن حدود ثابتة معينة. في أيدي هؤلاء المفسرين، يذوب التركيب والنسيج الفكري لكل كتابة في عصر ما في ذات الخيوط لدائرة الأفكار المحلية والزمانية. وفقًا لهذه النظرة البراغماتية للتاريخ، فإن الطبيعة البشرية الموحدة دينيًا وأخلاقيًا لا تُقيّد محليًا وزمانيًا إلا بطريقة خارجية؛ أي أنها تصبح مفهومًا غير تاريخي.
حتى ذلك الحين، كانت الهيرمينوطيقا الكلاسيكية والكتابية تسيران جنبًا إلى جنب. لكن ألم يكن من الضروري أن يُنظر إلى كليهما على أنهما تطبيقات عامة للطرق التفسيرية؟ اتخذ ماير (Georg Friedrich Meier)27 تلميذ كريستيان فولف (Christian Wolff)28 في عام 1757 هذه الخطوة فكتب «محاولة لفن عام للتفسير» – Versuch einer allgemeinen Auslegungskunst لقد فهم حق الفهم ماهية علمه بشكل عام بقدر الإمكان، بوصفه علمًا من المفترض أن يحدد القواعد التي يجب مراعاتها في كل تفسير للعلامات. لكن الكتاب يثبت مرة أخرى استحالة ابتكار علوم جديدة من منظور البناء الهندسي والتناسق. هذا يخلق لنا فقط نوافذ عمياء لا يستطيع أحد الرؤية من خلالها؛ إذ لا تظهر الهيرمنيوطيقا الفعالة إلا في عقل تم فيه دمج براعة التفسير اللغوي مع كليات فلسفية حقيقية. ولقد كان هذا شلايرماخر.
4
دعونا نرسم البيئة الفكرية التي عمل فيها: تفسير فينكلمان (Johann Joachim Winckelmann)29 للأعمال الفنية، وتعاطف هيردر المتجانس مع روح العصور والشعوب، ووجهة النظر الجمالية الجديدة، وفلسفة اللغة عند كل من هاين (Christian Gottlob Heyne)30 وفريدرش فولف وطلابه، ومن بينهم هايندروف (Ludwig Friedrich Heindorf)31 الذي تابع دراساته الأفلاطونية مع شلايرماخر. تم دمج كل هذا عند شلايرماخر مع مقاربة للفلسفة المتعالية الألمانية التي تسعى إلى قوة إبداعية تكمن وراء ما يُعطى في الوعي، قوة غير واعية بذاتها، ولكنها تعمل بطريقة موحدة لتنتج شكل العالم بأكمله فينا. ومن الصلة بين هاتين اللحظتين على وجه التحديد، طور شلايرماخر فنه الخاص في التفسير والأساس النهائي للهيرمنيوطيقا العملية.
كانت الهيرمنيوطيقا، في أحسن الأحوال حينها، عبارة عن مجموعة من القواعد التي جُمِعَتْ أجزاؤها من القواعد الفردية ذاتها بغرض إعطاء تفسيرات عامة. كان لها عدة وظائف تعمل معًا في عملية التفسير هذه بشكل منفصل بوصفها تفسيرًا نحويًا، وتفسيرًا تاريخيًا، وتفسيرًا جماليًا بلاغيًا، وتفسيرًا واقعيًا. وبعد قرون من البراعة اللغوية، أصبحت الهيرمنيوطيقا مدركة للقواعد التي يجب أن تعمل هذه الوظائف وفقًا لها. هذا ما جعل شلايرماخر يسعى إلى تحليل الفهم الكامن وراء هذه القواعد، أي إلى معرفة هذا العمل الهادف لفهم نفسه، ومن هذه المعرفة استمد إمكانية التفسير الشامل، إلى جانب وسائله، وحدوده، وقواعده. إلا أنه لم يستطع تحليل الفهم إلا كإعادة خلق أو إعادة بناء داخل علاقته الحية بعملية الإنتاج الأدبي نفسه. في الإدراك الحي للعملية الإبداعية التي ينشأ فيها عمل أدبي قوي، أدرك شرط معرفة العملية الأخرى، التي بواسطتها يفهم العمل بأكمله من العلامات الفردية أي من خلال مبدع العمل وحسه الروحي الخاص.
ومع ذلك، كانت هناك حاجة إلى منظور نفسي تاريخي جديد لحل المشكلة المطروحة بهذه الطريقة. انطلاقًا من العلاقة التي كانت قائمة بين التفسير اليوناني، والبلاغة بوصفها نظرية فنية لنوع معين من الإنتاج الأدبي، – قمنا سابقا بتتبع العلاقة هنا، وهي ليست محل خلاف-. ولكن الإشكالية كانت في أن مفهوم كلتا العمليتين ظل دائمًا منطقيًا وخطابيًا بحتًا. كانت الفئات التي حدثت فيها دائمًا هي صنع الاتصال المنطقي والترتيب المنطقي ثم تزيين هذا المنتج المنطقي بالأساليب والأشكال الخطابية والصور. ولكن الآن تُستخدم مصطلحات جديدة تماما لفهم المنتج الأدبي. إذْ توجد الآن قدرة موحدة وخلاقة، غير واعية بفعاليتها التكوينية والتطويرية للدوافع الأولى للعمل. التقبل والتكوين الذاتي لا ينفصلان في هذه العملية. تتجلى الفردية هنا في كل التفاصيل، وفي كل كلمة. أسمى تعبير لهذه القدرة الإبداعية هو الشكل الخارجي والداخلي للعمل الأدبي. وعلى هذا يُلبي ذلك العمل الحاجة النهمة لتكملة الفردانية عند الأشخاص من خلال مشاهدة الآخرين. وهكذا يكون الفهم والتفسير دائما حيويين ونشطين في الحياة؛ ويصلان إلى كمالهما في التفسير الفني للأعمال المليئة بالحياة وارتباطها بروح مؤلفها. كان هذا هو الشكل الذي اتخذته النظرة التفسيرية الجديدة في ذهن شلايرماخر.
تأثر تصميم شلايرماخر للهيرمنيوطيقا العامة بحقيقة أنه شخصيًا طور بجانب معاصريه أنماطًا جديدة من التفكير النفسي والتاريخي إلى فن لغوي جديد للتفسير. حول كلاً من شيلر، وفلهيلم فون همبولت (Wilhelm von Humboldt)32، والإخوة شليغل، اهتمام الروح الألمانية من الإنتاج الشعري إلى إعادة فهم العالم التاريخي. لقد كانت حركة قوية أثرت على بوك (August Böckh)33 ودسين (Georg Ludolf Dissen)34 وفيلكر وهيغل ورانك (Leopold von Ranke)35 وسافيني (Friedrich Carl von Savigny)36، كما وقد أصبح فريدريش شليغل معلمًا لشلايرماخر في فقه اللغة. فقد كانت المفاهيم التي طورها الأول في مقالاته عن الشعر اليوناني، وأعمال غوته وبوكاتشو (Giovanni Boccaccio) هي تلك المتعلقة بالشكل الداخلي للعمل، وتاريخ تطور الكاتب والأدب المفصلي بأكمله. خلف هذه الإنجازات الفردية للفن اللغوي الترميمي، وضع شليغل خطة لعلم النقد – آرس كريتيكا – والذي من شأنه أن يستند إلى نظرية القدرة الأدبية المنتجة. فما مدى قرب هذه الخطة من هيرمنيوطيقا ونقد لشلايرماخر؟
كان شليغل هو من توصل إلى مشروع ترجمة أفلاطون. وتم استخدام تقنية التفسير الجديد عليها، والتي طبقها قبله بوك ودسين على أعمال بندار (Πίνδαρος)37، وبموجب تلك التقنية يجب أن يُفهم أفلاطون على أنه فنان فلسفي. فيكون الهدف من التفسير هو الوحدة بين شخصية أفلاطون الفلسفية والشكل الفني لأعماله. ما تزال الفلسفة هنا، ممزوجة بالمحادثة، وتمثيلها الكتابي ما هو إلا تثبيت للذاكرة. لذلك وَجَبَ أن يكون هناك حوار، وفي الواقع كان لابد أن يكون حوارًا يستلزم إعادة إنتاج الفرد للارتباط الحي للأفكار. لكن في الوقت نفسه، ووفقًا للوحدة الصارمة لهذا التفكير الأفلاطوني، يجب على كل حوار أن يكون استمرارًا لشيء سابق، واستعدادًا لشيء ما قادم، أي أنه استمرار في نسج خيوط الأجزاء المختلفة من الفلسفة. إذا اتبع المرء هذه العلاقات بين المحاورات، يظهر له الرابطة الشاملة بين الأعمال الرئيسية، مما يكشف عن القصد الأعمق لأفلاطون في التقاط هذا الاتصال المشكل بمهارة. وفقًا لشلايرماخر، هذا هو أول فهم حقيقي لأفلاطون، فالتسلسل الزمني لأعماله، على الرغم من أنه غالبًا ما يتزامن مع هذا الفهم إلا أنه أقل أهمية. في مراجعته الشهيرة، تمكن بوك من القول إن هذه التحفة الفنية أوجدت لأول مرة فقه لغوي أفلاطوني.
كان شلايرماخر يجمع ولأول مرة بين البراعة اللغوية والعبقرية الفلسفية، والتي شكلتها الفلسفة المتعالية، التي قدمت الوسائل المفاهيمية الأولية للصياغة العامة للمشكلة الهيرمنيوطيقية وحلها. ومن هذا المنطلق نشأت النظرية العامة لعلم التفسير وفنه.
أعد شلايرماخر مسودة أولى في خريف عام 1804، فيما يتعلق بقراءة كتاب «مؤسسة مترجم العهد الجديد» لإرنستي، كمحاضرة افتتاحية لمقرره الدراسي حول التفسير في جامعة هاله (Martin-Luther-Universität Halle-Wittenberg). ولكن هذه الهيرمنيوطيقا التي بين أيدينا لم تكن بتلك الفعالية لولا أن بوك طالب شلايرماخر في فترة تدريسه في هاله بذلك، وهذا ما أعطى هذه النسخة صياغة فعالة في محاضراته الرائعة حول هذا الموضوع في «موسوعة ومنهجية العلوم اللغوية» Enzyklopädie التي ألفها بوك.
سأحدد الآن تلك النقاط في هيرمنيوطيقا شلايرماخر والتي تبدو لي حاسمة لمزيد من التطوير: كل تفسير للأعمال المكتوبة هو مجرد تطور فني لعملية الفهم التي تمتد عبر الحياة بأكملها وتتعلق بكل أنواع الكلام والكتابة. وبالتالي فإن تحليل الفهم هو الأساس لتنظيم التفسير، إلا أنه لا يمكن تحقيق ذلك إلا باقترانه مع تحليل إنتاج الأعمال الأدبية. لا تؤسس رابطة القواعد التي تحدد وسائل التفسير وحدوده إلا في العلاقة بين الفهم والإنتاج الأدبي.
يصح اشتقاق إمكانية وجود تفسير عام من طبيعة الفهم نفسه. فهنا لا تتعارض شخصية المُفسر وخصوصية المؤلف كحقيقتين لا يمكن مقارنتهما ببعضهما بعضًا، فقد تم تشكيل كلاهما على أساس طبيعة بشرية عامة، تمكّن المجتمع الإنساني من التواصل مع بعضه بعضًا من أجل تبادل الكلام والفهم. هنا يمكن توضيح صيغ مصطلحات شلايرماخر بشكل أكبر من الناحية النفسية. في النهاية لا ترجع جميع الفروق الفردية إلى الاختلافات النوعية بين الناس، ولكن إلى تلك الاختلافات المتفاوتة للعمليات النفسية. الآن، في محاولة منه لوضع إحساسه بالحياة في بيئة تاريخية أخرى، يكون المفسر قادرًا على تقوية هذه العمليات النفسية وتعزيزها وجعل الأخرين يتوارون خلفها، وبالتالي إنشاء نسخة طبق الأصل من حياة شخص آخر بداخله.
إذا نظر المرء الآن إلى الجانب المنطقي من هذه العملية، لا من خلال إشارات فردية محددة نسبيا فقط، يستطيع التعرف على الرابط المنهجي من خلال التعاون المستمر بين المعرفة النحوية والمنطقية والتاريخية الموجودة بالفعل. يتم التعبير عن هذا الجانب المنطقي من الفهم -في مصطلحاتنا المنطقية- بواسطة الاستقراء، وتطبيق الحقائق الأكثر عمومية على حالات معينة، ووضع منهج للمقارنة بينهما. ستكون المهمة التالية هي تحديد الأشكال المعينة التي تفترضها هذه العمليات المنطقية وتفاعلها هنا.
في هذه المرحلة، تظهر الصعوبة المركزية لجميع الفنون التفسيرية نفسها. يجب فهم العمل بأكمله من الكلمات الفردية وارتباطاتها ببعضها بعضًا، ومع ذلك فإن الفهم الكامل للجزء الفردي يفترض مسبقًا بالفعل فهم الكل. تتكرر هذه الدائرة وتعود مرة أخرى في العلاقة بين العمل الفردي والنوع الأدبي. حل شلايرماخر هذه الصعوبة بطريقة خلابة في مقدمته لجمهورية أفلاطون، وهناك أمثلة أخرى لنفس هذا الإجراء في نصوص محاضراته التفسيرية إلى درجة معينة، فالفهم كله يبقى دائما نسبيًا، ولا يمكن أن يكتمل أبدًا. لذلك الفردية غير قابلة للتطبيق.
رفض شلايرماخر تقسيم عملية التفسير إلى تفسير نحوي وتاريخي وجمالي وواقعي، كما كان سائدًا قبله. تشير هذه التمايزات فقط إلى أن المعرفة النحوية والتاريخية والواقعية والجمالية يجب أن تكون موجودة عندما يبدأ التفسير، ويمكن أن تكون عاملًا مؤثرًا على كل فعل فيه. لكن عملية التفسير نفسها لا يمكن تقسيمها إلا إلى وجهين – نحوي ونفسي – متضمنين في معرفة الخلق العقلي المتكون من العلامات اللغوية. ينتقل التفسير النحوي في النص من اتصال إلى اتصال أعلى بالروابط التي تهيمن على العمل بأكمله. في حين يعتمد التفسير النفسي على العملية الداخلية الإبداعية، ويمضي قدمًا إلى الشكل الخارجي والداخلي للعمل، ومن هناك إلى فهم وحدة أعمال المؤلف فيما يتعلق بنوع وتطور منشأه الروحي.
هذه هي النقطة التي يطور منها شلايرماخر ببراعة قواعد فن التفسير. كان مذهبه للشكل الخارجي والداخلي أساسيًا، واقتراحاته العميقة بشكل خاص حول نظرية عامة للإنتاج الأدبي، يكمن من خلالها اشتقاق أورغانون للتاريخ الأدبي.
الهدف النهائي للإجراء الهيرمنيوطيقي هو فهم المؤلف بشكل أفضل مما فهم نفسه. هذا المبدأ هو النتيجة الضرورية لعقيدة الإبداع اللاواعي.
5
دعونا نأخذ الخلاصة ونختم بها: لا يصبح الفهم تأويلًا إلا فيما يتعلق بالآثار اللغوية المكتوبة التي تحقق الصلاحية العامة. الهيرمنيوطيقا قد تجعل التفسير اللغوي واعيًا لأنماطها الإجرائية وتبريراتها، بيد أن فريدريش أوجست وولف كان محقًا في عدم اعتبار فائدة مثل هذا النظام كبيرة جدًا مقارنة بالممارسات الحية، بل بالإضافة إلى مزاياها العملية في مجال التأويل، يبدو لي أن هناك مهمة ثانية وأساسية في هذا النظام: من المفترض نظريًا الحفاظ على الصلاحية الكونية العامة للتفسير، ضد سطوة النزعة الرومانسية والذاتية المتشككة، في المجال التاريخي اليقيني للمعرفة. فقد أصبحت هذه النظرية التأويلية المُدمجة في سياق نظرية المعرفة ومنطق ومنهجية العلوم الإنسانية، حلقة وصل مهمة بين الفلسفة والعلوم التاريخية، وهي جزء أساسي في تأسيس العلوم الإنسانية.
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
الهوامش
(1) نشر فيلهلم دلتاي هذا المقال لأول مرة في (Festschrift: Philosophische Abhandlungen)، المُهدى لكريستوف سيغوارت في عيد ميلاده السبعين في (28 مارس 1900 – توبنغن)، الصفحات 185-202.
(2) مقال «الفن باعتباره التمثيل الأول للعالم التاريخي البشري في تفرده»، المنشورفي «مساهمات في دراسة الفردية» (1895-96)، الصفحات 273-303.
(3) فريدريش أوجست فولف (1759 – 1824) عالم لغوي كلاسيكي ألماني، وأستاذ جامعي، وناقد أدبي، وباحث في تاريخ العصور الكلاسيكية، وكان عضوًا في الأكاديمية البروسية للعلوم، توفي في مارسيليا، عن عمر يناهز 65 عامًا.
(4) فريدريش جوتليب فيلكر (17 ديسمبر 1868 – 4 نوفمبر 1784) عالم لغوي كلاسيكي ألماني، وعالم آثار.
(5) لودوفيج بريلر (21 يونيو 1861 – 15 سبتمبر 1809) عالم لغة ألماني، وعالم آثار.
(6) البلاغة إلى الإسكندر هي أطروحة تنسب عادة إلى أرسطو إلا أنه لم يكتبها ويُعتقد أن مؤلفها أناكسيمينيس لامبساكوس (Ἀναξιμένης ὁ Λαμψακηνός) مؤرخ يوناني ومعلم للإسكندر الأكبر (380 – 320 قبل الميلاد).
(7) الانثيميم ((ἐνθύμημα هو نوع من القياس المنطقي يستخدم في الممارسة الخطابية.
(8) أرسطرخسوس ساموثراكي (220- 143 قبل الميلاد) مؤسس مدرسة القواعد والنقد في الإسكندرية ناقد ونحوي وأمين مكتبة الإسكندرية، مشهور بمساهمته في دراسات هوميروس.
(9) أبرخش أو هيبارخوس أو هيبارخ (190 – 120 قبل الميلاد) كان أعظم فلكي يوناني في عصره قام بتأسيس الفلك العلمي حيث اعتمد فقط على الأرصاد وليس على التخمينات، ساعدت أرصاده بطليموس على وضع نظريته عن الكون المحيط بالأرض واكتشف تقدم الاعتدالين وخروج الأرض عن مركز مسار الشمس الظاهري وبعض الاختلافات في حركات القمر.
(10) أراطوس ( 315 / 310 – 240 قبل الميلاد) شاعر يوناني اشتهر بقصيدته الفلكية (قصيدة الظواهر) سداسية التفعيل.
(11) زينودوت (330 – 260 قبل الميلاد) نحوي يوناني، وناقد أدبي، وعالم هومري، وأول أمين مكتبة لمكتبة الإسكندرية.
(12) فيلون السكندري أو (ايديدا بالعبرية) (20 – 50 م)، كما أطلق عليه اسم فيلو اليهودي، كان فيلسوفًا هلنستيًا يهوديًا عاش في الإسكندرية في الوقت الذي كانت مصر فيه تابعة للرومان.
(13) القديس إيرينيئوس (130 – 202 م) أسقف ليون في بلاد الغال، اشتهر بنشاطه في مقاومة الغنوصيين.
(14) ثيودورس الموبسويستى (350 – 428 م) عالم لاهوت مسيحى، وأسقف موبسويستى. يُعرف أيضا باسم ثيودور أنطاكية، نسبة إلى مكان ولادته. كان أفضل ممثل للتأويل في مدرسة أنطاكية.
(15) هي نبوءات عن المسيح وتعرف أيضًا باسم النبوءات المسيانية عبارة عن مجموعة أقوال الأنبياء التي وردت في الأسفار المقدسة ضمن التوراة والمزامير وجميع أسفار العهد القديم أو التناخ، ضمن الكتاب المقدس؛ وتصف بعضا من حياة المسيح المنتظر وصفاته وتعتبر تبشير لقدومه.
(16) كاسبار شوبه (19 نوفمبر 1649 – 27 مايو 1576) ألماني كاثوليكي وباحث ومؤلف كتاب ملاحظات حول اللغة اللاتينية.
(17) جان لو كليرك، أو يوهانس كليريكوس (19 مارس 1657 – 8 يناير 1736)، عالم لاهوت جينفي. اشتهر بترويج التفسير النقدي للكتاب المقدس، انفصل عن المذهب الكالفيني بسبب تفسيراته وغادر جنيف لهذا السبب.
(18) هنري فاليسيوس (في الأصل هنري دي فالوا) (1603 – 1676)، مؤرخ فرنسي لتاريخ الكنيسة.
(19) ماتياس فلاسيوس (3 مارس 1520 – 11 مارس 1575) عالم لاهوت ومصلح لوثري من إستريا (كرواتيا).
(20) فيليب ميلانشتون (19 أبريل 1560 – 16 فبراير 1497) كان مصلحًا ألمانيًا، ومتعاونًا مع مارتن لوثر، أول عالم لاهوت نظامي في الاصلاح البروتستانتي، والزعيم الفكري للإصلاح اللوثري، ومصمم مؤثر للأنظمة التعليمية.
(21) Matthias Flacius Illyricus, Clavis Scripturae Sacrae (Basel, 1580), I, Vorwort, S. 3
(22) سيغموند جاكوب بومغارتن (14 مارس 1706 ، وولميرستيد، دوقية ماغديبورغ – 4 يوليو 1757، هاله) عالم لاهوت بروتستانتي ألماني. شقيق الفيلسوف ألكسندر جوتليب بومغارتن (1714-1762).
(23) يوهان سالومو سيملر (18 ديسمبر 1725 – 14 مارس 1791) مؤرخ ألماني للكنيسة، ومفسر للكتاب المقدس، وناقد الوثائق الكنسية وتاريخ العقائد. ويطلق عليه «والد العقلانية الألمانية».
(24) يوهان ديفيد ميشائيلس (27 فبراير 1717 – 22 أغسطس 1791)، عالم ومعلم إنجيل بروسي مشهور وبليغ، كان عضوا في عائلة كان لها دور رئيسي في الحفاظ على الانضباط القوي في اللغة العبرية واللغات المماثلة التي ميزت جامعة هاله وعضوا في مدرسة غوتنغن للتاريخ.
(25) فرديناند كريستيان بور (21 يونيو 1792 – 2 ديسمبر 1860) عالم لاهوت ألماني بروتستانتي ومؤسس وقائد لمدرسة توبنغن اللاهوتية (الجديدة) (التي سميت على اسم جامعة توبنغن).
(26) يوهان أوجوست إرنستي (11 سبتمبر 1781 – 4 أغسطس 1707) فيلسوف عقلاني ألماني وعالم لاهوت وعالم لغة. كان أول من فصل رسميًا التأويل في العهد القديم عن الإنجيل.
(27) جورج فريدريش ماير (21 يونيو 1777 – 26 مارس 1718) فيلسوف ألماني في علم الجمال من أتباع ألكسندر غوتليب بومغارتن، قام بإصلاح الفلسفة المسيحية عند فولف عن طريق إدخال عناصر جون لوك التجريبية في نظرية المعرفة.
(28) كريستيان فولف (24 يناير 1679 – 9 أبريل 1754) فيلسوف ألماني اشتهر بكتابته في كل المجالات العلمية المشهورة في عصره معتمدًا على طريقته الرياضية الاستنتاجية الاستدلالية، والتي تمثل ذروة التنوير العقلاني في ألمانيا. وكان الأب المؤسس للاقتصاد والإدارة العامة كتخصصات أكاديمية.
(29) يوهان يواخيم فينكلمان (9 ديسمبر 1717 – 8 يونيو 1768) كان مؤرخًا ألمانيًا للفن والآثار. والرائد العالم بالحضارة اليونانية. والمؤسس لعلم الآثار الحديث.
(30) كريستيان غوتلوب هاين (14 يوليو 1812 – 25 سبتمبر 1729) أستاذ لغة ألماني كلاسيكي وعالم آثار.
(31) لودفيج فريدريش هايندورف (21 سبتمبر 1774 في برلين – 23 يونيو 1816 في هاله آن دير سال) عالم لغة ألماني كلاسيكي.
(32) فريدريش فيلهلم كريستيان كارل فرديناند فون همبولت (2 يونيو 1767 – 8 أبريل 1835) فيلسوف بروسي، ولغوي، ودبلوماسي، ومؤسس «جامعة هومبولت في برلين».
(33) أوجوست بوك (3 أغسطس 1867 24 – نوفمبر 1785) أستاذ لغة ألماني كلاسيكي وعالم آثار.
(34) جورج لودولف ديسن (17 ديسمبر 1784 – 21 سبتمبر 1837) عالم لغة ألماني كلاسيكي.
(35) ليوبولد فون رانك (21 ديسمبر 1795 – 23 مايو 1886) مؤرخ ألماني ومؤسس التاريخ الحديث المستند إلى المصدر.
(36) فريدريش كارل فون سافيني (21 فبراير 1779 – 25 أكتوبر 1861) فقيه ومؤرخ ألماني.
(37) بندار (518 – 438 قبل الميلاد) شاعر غنائي يوناني، وهو من بين الشعراء الغنائيين التسعة المشهورين في اليونان القديمة.