مراجعات

السّرد التذكُّري وتحبيك القصّ في قصّة «خفيفة مثل بالون» – ضو سليم

تمهيد

عرفت القصّة القصيرة النسائيّة بالإمارات نشأتها سبعينات القرن الماضي مع الكاتبة “شيخة الناخي” (1952) التي نشرت أوّل قصّة قصيرة لها بعنوان “الرحيل” سنة 1970 بمجلّة أخبار دُبيّ وتلتها بمجموعتين قصصيتيْن الأولى بعنوان “رياح الشمال” والثانية بعنوان “العزف على أوتار الفرح” وإليها تعود ريادة هذا الجنس السّردي فقد كان لها الأسبقيّة  التاريخيّة في تجريب الكتابة في القصّة القصيرة وتوطينها في المشهد الأدبي الإماراتي ، ولئن تأخّر ظهور القصّة القصيرة عامّة والنسائيّة على وجه أخصّ بالإمارات  قياسًا بنظيراتها المصريّة واللبنانيّة والمغاربيّة والسعوديّة فقد شهد هذا الجنس الأدبي  في مراحل موالية ازدهارًا وكثافة؛ فقد لعبت المُتغيِّرات الاجتماعيّة والسياسيّة  والاقتصاديّة بالإمارات دورًا مهمًا في ازدهار الحركة الأدبيّة لا سيما تحت تأثيرات الطفرة الاقتصاديّة على دول الخليج بفضل اكتشاف حقول النّفط الذي أحدث تحوّلًا مذهلًا من إمارات كانت تعيش رُكودا اقتصاديًّا وشظفًا في العيش إلى دولة متقدّمة اقتصاديًّا تتبوؤ مكانة متميزة على الخريطة الاستثماريّة العالميّة ، هذا النمو الاقتصادي رافقه ازدهار ثقافي، خاصّة منذُ وجّهت الدّولة بوصلة اهتمامها للأنشطة الرياضيّة والثقافيّة من خلال ما أنشأه أصحاب القرار من جوائز تقديريّة قيّمة كجائزة الشيخ زايد للكتاب إلخ …

وقد مرّت القصّة القصيرة النسائيّة بالإمارات كرونولوجيًّا بمراحل ثلاث، أوّلا: مرحلة التأسيس التي اقترنت ببداية التعليم النظامي للفتيات، وقد اتسمت الأعمال القصصيّة لهذه المرحلة، رغم الوعي بتجنيس القصة القصيرة ومقتضيات الكتابة فيها، بتواضع مضامينها؛ فقد ظلّت المرأة حبيسة القيود التي رسمها لها المجتمع تُنشئ نصوصًا سرديّة تعالجُ الوضع الاجتماعي والحضاري للمرأة دون الخوض في الثالوث المحرّم (الجنس / الدين / السياسة)، وثانيًا:  مرحلة النُّضج الفنّي خلال فترة التسعينات، وقد تزامن ذلك مع حرب الخليج وعودة موجة من اللائي أتممن دراستهنّ بجامعات أجنبيّة. وقد استفادت كاتبات هذا الجيل من النظريات الغربية في بناء الأقصوصة وتوظيف تقنيات الفضاء المكاني وتكثيف المعنى وحبكة الأحداث، وعرفت معهنّ القصّة القصيرة نُضجها وتبلورها. أمّا ثالث هذه المراحل فهي مرحلة الثورة والتمرّد وذلك بدايات الألفيّة الثالثة مع الثورة الرقميّة والإصلاحات الاجتماعيّة التي ساهمت في انفتاح المرأة أكثر على الحياة الثقافيّة واكتساب جرأة كبيرة في معالجة الواقع وحسبنا أن نذكر هنا مجموعة “باص القيامة” لروضة البلوشي و”مريم والحظ السعيد ” لمريم الساعدي و”ضوء يذهب للنوم” لابتسام المعلاّ – رغم انتمائها للجيل السابق –  وهي مجموعة قصص صادرة عن هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث سنة ،2008 تضُمُّ 11 نصًّا قصصيًّا مُفعمة بالبُعد الإنساني، وذلك باستدعاء  نماذج من المجتمع  الإماراتي في بناء شخصياتها القصصية والكشف عن مظاهر التأزم والإحباط والانكسار التي يعيشونها لمعالجة قضايا محليّة كفتور العلاقة بين الأزواج وصراع الأجيال وآفات العمالة الأسيويّة وهجر الأبناء للآباء وتوتر العلاقات الأسريّة …. بوعي فنيٍّ فائق.

تقديم القصّة

قصّة خفيفة مثل البالون هي  واحدة من  11 قصّة من مجموعة “ضوء يذهب  للنوم ” للقاصّة الإماراتيّة “ابتسام المعلّا”، تُركّزُ  خلالها القاصّة اهتمامها على مأساة امرأة مُسنّة تعيشُ وحدة وفراغًا مقيتين بعد وفاة زوجها ورحيل ابنها الوحيد إلى العاصمة واستقلاله عنها بعد زواجه وتكوينه أسرة، ورحيل كلّ أجوارها وتغيُّر متساكني الحيِّ، تلزم هذه المرأة بيتها امتثالًا لتقاليد المجتمع المحافظ، فترفضُ الخروج والاتصال بالعالم الخارجي ، تقودها الأقدار صُدفة للمطار ذات يوم رفقة صديقتها أم سعيد التي ألحّت عليها أن ترافقها لتستقبل ابنها العائد من شهر العسل وهناك تجد متعتها وسلواها التي تعوّضها طعم الفقدان والوحدة ويصيرُ هذا  المكان مزارًا أسبوعيًّا عندها فيه تملأ مخيلتها ووجدانها بما تختزنه من مشاهد الاستقبال والوداع ومشاعر الحب والحميميّة بين الأهل والخلّان، بيد أنّ هذه الزيارات لن تطول كثيرًا إذ تلقى هذه العجوز حتفها خلال إحدى الزيارات.

البناء الفنّي للقصّة

ينفتحُ النصّ ببداية غامضة مُشوّشةٍ ” في المرّة الأولى التي ذهبت إلى المطار ، أحسّت كأنّها تتنفّسُ الهواء لأوّل مرّةٍ  وألجمتها المشاعرُ الملوّنةُ المرسومة على وجوه أفواج  البشر “، هذه الافتتاحيّة تُبهمُ أكثر ممّا تُعلنُ وتُثيرُ فضول القارئ نحو مزيد من التقدّم في مسار القراءة، إنّ المُلاحظ في هذا السياق انزياح الكاتبة عن البنية التقليديّة للأقصوصة؛ فالمُعتاد انفتاح حركة القصِّ بفاتحة نصيّة تؤطّرُ للنصِّ وتضع القارئ في الإطار العام الذي تجري فيه الأحداثُ، بيد أنّ  ابتسام المعلّا تعمد في هذا النصِّ كما في غيره من نصوص مجموعتها “ضوء يذهب للنوم ” إلى طريقة طريفة في بناء النصوص عبر الافتتاح بمقدمات تحيطها هالة من الغُموض، هدفها إغراق القارئ في التساؤل والاستفسار تحفيزًا له على المضي في القراءة لإشباع فُضوله.

ودون إطالة تُذكر تنتقل بنا الساردة في ومضة ورائيّة إلى الماضي غير البعيد لتُصور لنا الوضع الاجتماعي والأُسري لهذه المرأة، فإذا بها أرملة تعيش بمفردها في وحدة اختارتها بنفسها، ولا يكسر رتابة هذه الوحدة غيرُ بعض الزيارات النسائيّة من حين لآخر ، إنّ هذه اللوحة السرديّة كشفت لنا بعض ما اعترى الفاتحة النصيّة من غموض، فهذه السعادة البالغة التي عاشتها هذه المرأة خلال لحظات كانت نتيجة حتميّة للفراغ والعُزلة اللذان كانا يسودان حياتها، وهي سعادة لم تكن مؤقتة أو عابرة إذْ تواصلت حتى بعد عودتها إلى بيتها، بل استمرّت أسبوعُا كاملُا قبل أن تعاودها رغبة الذهاب هناك هربًا من وِحشة العُزلة التي فرضتها على نفسها . فيغدو الخروج من أسر المكان الأوّل (البيت) إلى رحابة الفضاء الخارجي (المطار) من إلحاح وطلب من جارتها أم سعيد إلى رغبة ذاتيّة، بعد أن وجدت فيه المرّة الأولى شيئًا من التنفيس عن ذاتها المأزومة، وكسابقتها تنبهر هذه المرأة بما يعُجُّ به المطار من حركة وأمواج بشريّة في غُدوٍّ ورواحٍ وتشعرُ الشعور ذاته تجاه مشاعر الوداع، وهو ما يُثير تساؤل القارئ أكثر: ما سرُّ هذه العواطف وما تفسير هذا السلوك؟ ولنتعرّف على باعث هذا السلوك تكسرُ الساردة خطيّة السرد وتعود بنا مجدّدًا إلى الماضي، ولتحقيق هذا الانتقال الفُجئي لا بُدّ من باعث على التذكّر؛ فتكون شخصيّة رجل الشرطة قادحًا يُذكّر هذه المرأة بابنها محمّد الذي لم تحدّد الساردة مهنته بدقّة، لكننا نستنتج من خلال النصِّ أنّه شرطي والدليل على ذلك قول الساردة: ” كُلّما رأت رجل أمن شابٍّ تذكّرت ابنها مُحمّد ” وهو مقيم بالعاصمة بعيدًا عنها. هذا الغياب غير المُبرّر كان نقطة سوداء في حياة هذه المرأة أثّر بها ولا زال يُؤثّرُ، فتكون رؤية هذا الشرطي الشاب الشرارة التي تُشعل فتيل السرد التذكري وتُعلن تطوُّر الأحداث؛ لينقشع الغموض الذي يُغلّف حياة هذه المرأة أكثر، فتنهمر الذكريات عليها في خطيّة زمانيّة متسلسلة تبدأُ بزيارة تؤديها رفقة زوجها لابنهما المتزوّج المقيم في مدينة أخرى بعيدة عنهما .خلال هذه الزيارة تكتشف خِفيةً  أمرًا آلمها وأثّر فيها عميقًا وهو رفضُ زوجة ابنها تسمية ابنتهم على اسم جدتها، هذا الموقف أربكها وأحزنها وجعلها تعدلُ عن تسمية الحفيدة باسمها لا سيما وقد كانت هي صاحبة الفكرة. وبتقدم الأحداث تُصوّر لنا الساردة غيابات الابن التي أخذت تطول وانشغاله بحياته الجديدة متناسيًا حق والديه عليه، ممعنة في تصوير أثر هذا الغياب في نفسها في إيجاز لغوي كثيف المعنى، وتتعمق هذه المعاناة وتزداد هُوّة الوحدة اتّساعًا بعد وفاة زوجها وارتحال جيرانها نحو بيوت جديدة لتصفعها الوحدة والغُربة بين الجيران الجُدد.

بعد هذه اللوحة السرديّة التذكّرية تعود بنا الساردة مجدّدًا إلى المطار الذي صار نافذة هذه المرأة على العالم، وسبيلها للخلاص من عُزلتها، ومُحرّكًا لمشاعرها التي تُعتصرُ ألمًا عند رُؤيتها مشاهد الوداع أو تهتزُّ فرحًا لحظات اللقاء. وبين نشوة وألم تظلُّ هذه المرأة تتمثّلُ نفسها في كلّ امرأة تودِّعُ عزيزًا لديها أو تستقبل غائبًا عنها، ليستحيل هذا السلوك ضربًا من العلاج النفسي لديها بعد أن أضناها جفاء ابنها وتناسيه لها.  لقد منحتها هذه الزيارة شعورًا بالحريّة كانت تفتقده وسبغ على حياتها مشاعر جعلتها ترنو للعالم بعيون أخرى.

تعتمدُ الساردة إثر هذا المقطع السرد المُجملَ “في الأسبوع الرابع” وهو ما يعني قفزها من الأسبوع الأوّل إلى الأسبوع الرابع دون التركيز عمّا وقع خلال الزيارتين السابقتين، لأنّهُما حسب رأيها كانتا تكرار لما وقع كل مرّةٍ. خلال هذه الزيارة ستتطوّرُ الأحداث تطورًا سيُغيّر من وجهتها نحو نهاية غير متوقّعة فقد أدّى تكرّر زيارة المرأة المطار أسبوعيًّا دون تشييع أو استقبال أحد إلى لفت انتباه الشرطي الذي ركّزت عليه الساردة منذ البداية تمهيدًا لما سيقع نهاية النصّ، إنّ مجرّد رؤية الشرطي الذي يُذكّرها بابنها محمد سيؤدّي إلى ارتباك المرأة وتواريها قرب أسرة هنديّة جاءت تستقبل قريبا لها، وهنا تُمعن الساردة في تصوير هذه الأسرة من حيثُ عدد أفرادها وما طغى عليهم من فرح وسعادة بالغتين و كأنهم يستقبلون عيدًا وليس أحد أفراد عائلتهم. ويسترعي انتباهها حينئذ طفلة صغيرة تمسك بالونًا ذكرتها بفتاة جيرانها القُدامى، حينها تُكسر خطيّة السّرد في مقطع ارتدادي للوراء تتذكّر أثناءه المرأة هذه الطفلة التي كانت ابنة بالتبنّي لأحد الأسر التي كانت الزوجة فيها غير قادرة على الإنجاب. إنّ هذه القصّة الفرعيّة عبارة عن مقطع سرديٍّ مُغلق يُمكن أن يتحوّل قصّة مستقلّة بذاتها ويُمكن قراءتها بمعزل عن النصّ الأصلي الذي فيه اُدرجت، وقد يعنُّ للقارئ أن يتساءل عن جدوى هذا النصِّ الفرعي المُضمّن لا سيما وقد أمعنت الساردة في تصوير تفاصيله ودقائقه في نوع من الإسهاب، والحال أنّه لن يُضيف لما مضى سرده شيئًا. هذا السرد التذكّري يتوقّفُ بمجرّد اقتراب هذه الفتاة من المرأة للاتصال بها في محاولة فاشلةٍ بعد صدٍّ من والدتها لتبلغ الأحداث ذروة أزمتها عند رؤية هذه الأم تستقبل ابنها في مشهد يُدمي الفؤاد ويفطر القلب، مشهد تمثّلت فيه ابنها محمّد الذي منّت نفسها بعودته، ودون أن تشعر انخرطت في بكاء حارّ لم يقطعه سوى اقتراب الشرطي الشاب الذي ألحّ عليها في السؤال إن كانت تنتظر أحدًا. إنّ إلحاح الشرطي في اكتشاف سرّ هذه المرأة تسبّب في حرج عميق لها ووضعها في مأزق لم تستطع تجاوزه إلّا بمغادرة المكان مُسرعة، تمهيدًا لنهاية مأساويّة فاجعة (اصطدامها بسيّارة أودت حياتها). وبين ارتطام المرأة بالسيارة وصُعود روحها إلى بارئها عرّجت الساردة في اقتصاد لغوي موحي على ما مرّ بذهنها من صور: ابنها الذي يعدها بزيارتها في أقرب وقت، ومريم ابنة الجيران تتمرّد وتخرج من السجن الرمزي الذي فرضه حولها والداها، والطفلة المُمسكة بالبالون تضربُ بأوامر أمّها عرض الحائط وتدنو منها، وهو ما يُبرّرُ لنا سرّ توظيف تلك القصّة الفرعيّة التي اكتمل معناها بفهم السياق الذي خلاله وردت.

تُجري الساردة أحداث النصّ باعتماد ضمير الغائب المفرد “هي”، لكنها ساردة عليمة محيطة ببواطن الشخصيات وعوالمها النفسيّة. تتساوى مع الشخصيّات في معرفة الخبايا،فهي رؤية مُصاحبة، إذْ لا تُقدّمُ الساردة  أي معلومة إلّا بعد أن تكون الشخصيّة قد توصّلت لها. فالساردة لا تريد أن تستبدّ وحدها بمعرفة المعلومات، تحقيقًا لتوازن في الرؤية وإفساحًا للشخصية لتتحدّث بلسانها.

تُعالج الساردة في هذه القصة العديد من الآفات والمشاكل الاجتماعيّة مُعمّقة معرفتنا بخصوصيّات المُجتمع الإماراتي الذي تأثّر بتطور التكنولوجيا؛ فغدت العلاقات الاجتماعيّة مهددة بالفتور، ومُبرزة واقع المرأة ووضعيتها في بناء أسلوبي متين لا يقطعه سوى حنين التذكّر.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى