لتحميل المقال pdf: عن الإبادة العرقيّة – بيار كلاستر
ملخّص
تنشأ كلّ من الإبادة العرقيّة والإبادة الجماعيّة من الفكرة الزاعمة أنّ الآخر أو المختلف، إنسان سيّئ. ولكن إذا كانت الإبادة الجماعيّة ترفض هذا الاختلاف بتدمير الآخر مادّيًا وبصفة مطلقة، فإنّ الإبادة العرقيّة تُمارس من أجل خير الإنسان الهمجيّ، إذ تعتبره قابلاً للتحضّر شرط تدمير ثقافته “المنحطّة”. وتعتمد الإبادة العرقيّة على المركزيّة العرقيّة؛ بيد أنّه إذا كانت كلّ ثقافة بالأساس متمركزة عرقيًّا، فإنّ الثقافة الغربيّة هي وحدها التي يبدو أنّها تعتمد التصفية العرقيّة. ولكن هل يكفي التنديد في المطلق بميل “العالم الأبيض” إلى التصفية العرقيّة؟ يسمح التحليل الاجتماعي التاريخي في المقام الأوّل بإبراز ظاهرتين: ثقافة الإبادة العرقيّة، ومجتمعٌ ذي دولة. وإذا كانت القوّة الفاعلة للواحديّة، ورفض التعدديّة، والرعب من الاختلاف (العنف العرقي) هي من جوهر الدولة، سواء في الإمبراطوريّات الهمجيّة أو في المجتمعات المتحضّرة في الغرب، فما الذي يُميّز الغرب إذن؟ إنّها قدرته على التصفية العرقيّة غير المحدودة، وذلك بحكم نظام الإنتاج الاقتصادي، أي الرأسماليّة (خاصّة كانت أو تابعة للدّولة) نظرًا لاستحالة بقائها داخل حدود معيّنة؛ وبحُكم المجتمع الصناعي، تلك الآلة الهائلة للإنتاج والآلة المخيفة للتدمير. أمّا بالنّسبة للمجتمعات الأخرى، فهي بين خيارين: إمّا التلاشي (إبادة جماعيّة)، أو الاستسلام لآلة الإنتاج (إبادة عرقيّة) !
***********************
تقديم المترجم
لعلّه من الصّعوبة بمكان مُحاولة اختزال ما تضمّنته طُروحات الأنّاس الفرنسيّ المأسوف عليه بيار كلاستر (Pierre Clastres) [1934-1977] من أفكار قويّة وتحاليل جريئة في مجال الإناسة السياسيّة (Anthropologie politique). فهي مُتعدّدة الجوانب وبعيدة عن المثاليّة (بمعنى التّفكير بما يجب أن تكونه طبيعة العقد الاجتماعيّ مثلاً) وعن الطُّوبَى (تخيّل ما يجب أن يكون عليه المجتمع)، وغنيّة بالتّفاصيل التي لا يمكن بأيّ حال المرور عليها مُرور الكرام، ذاك أنّها كانت نتيجة مُعايشة يوميّة لقبائل “الغاياكي” (Guayaki) البدائيّة في غابات الأمازون الاستوائيّة، وهي قبائل كانت مُندرجة تحت فئة “الهمج” أو “البدائيّين” في الدّراسات الإناسيّة إلى حدّ قريب. وقد ساهم كلاستر في التّعريف بهذه القبائل وثقافتها وديانتها وأعرافها مُبيّناً قُصور النّظرة التي تجعلهم خارج التّاريخ ممّا يُبرّر مُحاولات تحضيرهم (باستخدام الأداة الاستعماريّة طبعاً !) في ما نشره من كُتب ومقالات لم يُترجم منها إلى العربيّة، على حدّ علمنا، سوى كتاب واحد ومقالة يتيمة وحوار وحيد ([1]).
وقد تراءى لنا أنّ تعريب هذا المقال حول معنى الإبادة العرقيّة مهمّ في إلقاء بعض الأضواء على فكر هذا الأنّاس الفذّ الذي أمكنه تحطيم الرّؤية التقليديّة السّائدة إلى حُدود سبعينات القرن الماضي حول “طُفولة” المجتمعات الفاقدة مؤسّسة الدّولة أو الجاهلة بتقنية الكتابة ووصمها بـ”البدائيّة” من قبل أصحاب “الفكر التاريخيّ” المنبثق عن المركزيّة الأوروبيّة (Eurocentrisme)وتفوّق “الرجل الأبيض”.
وقد كان كلاستر رغم أعماله القليلة، إذ لم يُسعفه العمر لإكمال مشروعه الإناسي وتُوّفي عن سنّ تجاوز الأربعين بقليل، مُفتتحاً لما سيُسمّى لاحقاً “تيّار المجتمع المضادّ للدّولة” في مجال الإناسة السّياسيّة، وهو تيّار يعتمد فكرة محوريّة لمواجهة المركزيّة الأوروبيّة في مجالي التاريخ والإناسة أساسُها أنّ المجتمعات البدائيّة ليست مُجتمعات دون دولة نتيجة عجز هيكليّ عن إفراز دولة، بل لأنّها في الحقيقة “مُجتمعات ضدّ الدّولة”، بمعنى أنّ غياب الدّولة لم يكن نتيجة عجز أو تأخّر تاريخيّ بقدر ما هُو نتيجة قرار واعٍ اتّخذه المجتمع من أجل منع ظهورها.
ولعلّ المقام لا يسمح هنا إلاّ بهذا التقديم المُبْتَسَر لفكر كلاستر، لئلاّ نحرم القارئ من قراءة نصّ إدانة صادقة وعميقة للمذابح الوحشيّة التي تعرّض لها هنود أمريكا ومن ورائهم جميع “الهمج” على هذه الأرض ابتداء من قبائل الهُنود الحُمر وسُكّان أُستراليا الأصلييّن وُصولاً إلى العرب والأفارقة على يد “المُتحضّرين” بُناة الرّأسماليّة المبشّرة بـ”فردوس التقدّم” على أنقاض “جحيم التخلّف”!
***********************
نصّ المقال
قبل بضع سنوات، لم يكن مصطلح الإبادة العرقيّة موجودًا. وبفضل موجة الموضة، والأهم من ذلك بفضل قدرته على الاستجابة لطلب ولتلبية حاجة معيّنة إلى الدقّة الاصطلاحيّة، تجاوز استخدام المصطلح بسرعة المجال الذي نشأ فيه، وهو النياسة [الاثنولوجيا]، ليتوسّع استخدامه في المجال العامّ. ولكن هل يضمن الانتشار المتسارع لمصطلح ما، التفكير في أنّ مهمّة المصطلح هي التعبير عن الاتّساق والصرامة المطلوبيّن فيه؟ من غير المؤكّد أنّ الانتشار يعني الفهم وأن يعرف المرء تمامًا ماذا يُقصد بالمصطلح حين يتمّ الحديث عن الإبادة العرقيّة. لقد كان المصطلح في أذهان مخترعيه، يهدف بلا شكّ إلى التعبير عن واقع لم يسبق أن عبّر عنه أيّ مصطلح آخر. وإذا ما كنّا شعرنا بالحاجة إلى إنشاء مصطلح جديد، فما ذاك إلاّ بسبب وجود شيء جديد يجب التفكير فيه، أو شيء قديم ولكن لم نُفكّر فيه بعد. وبعبارة أخرى، فإنّنا نرى أنّ مصطلح الإبادة الجماعيّة رغم استخدامه لفترة طويلة، لم يعد مناسبًا لتلبية هذا المطلب الجديد. لذا، فإنّه لا يمكننا بدء تفكير جادّ حول فكرة الإبادة العرقيّة دون محاولة تحديد ما يُميّزها كظاهرة، عن الواقعة التي نُطلق عليها اسم الإبادة الجماعيّة.
تمّ إنشاء المفهوم القانوني للإبادة الجماعيّة في عام 1946 في محاكمات نورمبرغ، بوصفه اعتبارًا قانونيًّا لنوع من الإجرام الذي لم يسبق أن عُرف سابقًا. وبشكل أكثر تحديدًا، فهو يشير إلى أوّل مظهر مسجّل قانونًا حسب الأصول، لهذه الجريمة: الإبادة المنهجيّة لليهود الأوروبيّين من قبل النازيّين الألمان. ومن هنا، فإنّ جريمة الإبادة الجماعيّة كما يُحدّدها القانون متجذّرة في العنصريّة، إذ هي نتاجها المنطقي، ونتاجها الحتمي في الحدّ الأقصى: فالعنصريّة التي تنمو بحريّة، كما كان الحال في ألمانيا النازيّة، لا يُمكن إلاّ أن تُؤدّي إلى إبادة جماعيّة. كما ولّدت الحروب الاستعماريّة التي تتالت منذ عام 1945 في جميع أنحاء العالم الثالث والتي ما يزال بعضها قائمًا، أعمال إبادة جماعيّة قامت بها القوى الاستعماريّة. لكنّ لُعبة العلاقات الدوليّة واللامبالاة النسبيّة للرّأي العامّ، حالا دون قيام إجماع مماثل لإجماع نورمبرغ، ولم نشهد بالتالي أيّ ملاحقات قضائيّة في هذا الخصوص.
وإذا كانت الإبادة الجماعيّة المعادية للساميّة التي قامت بها النازيّة هي الأولى التي يُقضى فيها باسم القانون، فإنّها ليست الأولى من نوعها. فقد شهد تاريخ التوسّع الغربي في القرن التاسع عشر، وتاريخ إنشاء الإمبراطوريّات الاستعماريّة من قبل القوى الأوروبيّة الكبرى، مذابح منظّمة ضدّ السكّان الأصليّين. وقد حظيت الإبادة الجماعيّة للسكّان الأصليّين الأمريكيّين بأكبر قدر من الاهتمام بسبب امتدادها القارّي وهول ما تسبّبت فيه من نقص سكّاني. فبمجرّد اكتشاف أمريكا عام 1492، تمّ إنشاء آلة لتدمير الهنود، وهي الآلة التي ما زالت تعمل حاليًّا على طول غابة الأمازون العظيمة في محاولة للقضاء على آخر القبائل “الهمجيّة”. ففي السنوات الأخيرة، تمّ الإبلاغ عن مذابح ضدّ الهنود في كلّ من البرازيل وكولومبيا وباراغواي. لكن لا حياة لمن تُنادي.
ومع ذلك، فقد كانت التجربة الأمريكيّة بشكل رئيسي منطلق علماء النياسة، وخاصّة روبير جولين (Robert Jaulin)، في صياغة مفهوم الإبادة العرقيّة. فقد كانت الواقعة الهنديّة في أمريكا الجنوبيّة أساس هذه الفكرة، وشكّلت أرضيّة مواتية، إذا جاز التعبير، للسعي إلى التمييز بين الإبادة الجماعيّة والإبادة العرقيّة، لأنّ آخر السكّان الأصليّين في القارّة كانوا في الوقت نفسه ضحايا هذين النوعين من الإجرام. وإذا كان مصطلح “الإبادة الجماعيّة” يشير إلى فكرة “العرق” والرغبة في إبادة أقليّة عرقيّة، فإنّ مصطلح الإبادة العرقيّة لا يُشير إلى تدمير البشر جسديًّا (إذ نظلّ في هذه الحالة في وضعيّة الإبادة الجماعيّة)، بل إلى تدمير ثقافتهم. ومن هنا، فإنّ الإبادة الجماعيّة هي التدمير المنهجي لأنماط عيش وفكر أناس مختلفة عن أنماط عيش وفكر من يتولّون مشروع التدمير هذا. وباختصار، فإنّ الإبادة الجماعيّة تغتال الناس بتدمير أجسادهم، والإبادة العرقيّة تقتلهم باغتيال عقولهم. ولئن كان الأمر في الحالتين يتعلّق دومًا بالموت، إلاّ أنّه موت مختلف: فالتصفية الجسديّة والفوريّة ليست هي القمع الثقافي ذي التأثيرات طويلة الأمد وبحسب قدرة الأقليّة المضطهدة على المقاومة. ولا مجال هنا للاختيار بين أهون هذين الشرّين، لأنّ الجواب واضح للغاية، إذ يُفضّل دومًا الهمجيّة الأدنى على الهمجيّة القصوى. ولجميع هذا، فإنّ المعنى الحقيقي للإبادة العرقيّة هو موضوع تفكيرنا.
إنّه يتشارك مع الإبادة الجماعيّة في النظرة المتطابقة إلى الآخر: فالآخر هو الاختلاف بلا شكّ، ولكنّه في المقام الأوّل الاختلاف السيّئ. غير أنّ هذين الموقفين يتباينان بشأن طبيعة التعاطي مع الاختلاف. فروح الإبادة الجماعيّة، إذا جاز التعبير، تريد ببساطة نفي الاختلاف، ونحن نبيد الآخرين لأنّهم سيّئون مطلقًا. أمّا الإبادة العرقيّة، فهي تعترف بنسبيّة السوء في الاختلاف: فالآخرون سيّئون بلا شكّ، لكن يُمكننا تحسينهم من خلال إجبارهم على تغيير أنفسهم حتى يصبحوا، إذا أمكن، متطابقين مع النموذج الذي نُقدّمه ونفرضه عليهم. ويُؤدّي نفي الآخر العرقي إلى التطابق معنا. ومن هنا، يُمكن للمرء أن يُعارض بين الإبادة الجماعيّة والإبادة العرقيّة بأن يرى فيهما شكلين فاسدين من التشاؤم والتفاؤل. ففي أمريكا الجنوبيّة، يُصعّد قتلة الهنود موقف الآخر بوصفه اختلافًا: فالهندي البري ليس إنسانًا، بل مجرّد حيوان. ومن هنا، فإنّ قتل هندي ليس فعلًا إجراميًّا، بل إنّ خالٍ من كلّ عنصريّة، لأنّ العنصريّة تتطلّب من أجل أن تُمارس، الاعتراف بحدّ أدنى من إنسانيّة الآخر. إنّه التكرار الرتيب لعار قديم قدم التاريخ: ففي إشارة بليغة حول الإبادة العرقيّة، يذكر كلود ليفي ستروس في كتابه العرق والتاريخ كيف تساءل هنود الجزر عمّا إذا كان الوافدون الجدد الإسبان آلهة أم بشرًا، بينما تساءل البيض عمّا إذا كانت طبيعة السكّان الأصليّين بشريّة أم حيوانيّة.
ومن جهة أخرى، من هم الممارسون للإبادة العرقيّة؟ من يهاجم روح الشعوب؟ يظهر المبشّرون أولاً، في أمريكا الجنوبيّة ولكن أيضًا في العديد من المناطق الأخرى. إنّهم الدعاة المناضلون في سبيل نشر الإيمان المسيحي الساعون إلى استبدال المعتقدات الهمجيّة للوثنّيين بدين الغرب. وتنطوي عمليّة التبشير على يقينيْن: الأوّل أنّ الاختلاف – أي الوثنيّة – غير مقبولة ويجب رفضها؛ ثمّ أنّ هذا الاختلاف السيّئ يُمكن التخفيف من شرّه، إن لم يكن إلغاؤه. وهنا يبدو موقف الإبادة العرقيّة بالأحرى متفائلاً: فهو يعتبر الآخر السيّئ بدءًا قابلاً لكي يغدو مثاليًّا، ويعترف له بالقدرة على أن يرتفع بنفسه، من خلال التطابق، نحو الكمال الذي تّمثّله المسيحيّة. فكسر قوّة الإيمان الوثني هو تدمير جوهر المجتمع ذاته. إذن فالأمر يتعلّق بالنتيجة المرجوّة: قيادة السكّان الأصليّين، عبر طريق الإيمان الحقيقي، من التوحّش إلى الحضارة. فنحن نُمارس الإبادة الجماعيّة لصالح الهمج. والخطاب العلماني لا يقول غير هذا حين يُقرّ، على سبيل المثال، العقيدة الرسميّة للحكومة البرازيليّة فيما يتعلّق بسياسة السكّان الأصليّين، حيث يُعلن المسؤولون: “إنّ هنودنا بشر مثل الآخرين. لكن الحياة البريّة التي يعيشونها في الغابات تؤدّي بهم إلى البؤس والتعاسة. وإنّه لمن واجبنا مساعدتهم على تحرير أنفسهم من العبوديّة. إنّ لهم الحقّ في الارتقاء إلى كرامة المواطنين البرازيليّين، من أجل المشاركة الكاملة في تنمية المجتمع الوطني والتمتّع بفوائده“. إن روحانيّة الإبادة العرقيّة هي أخلاق النزعة الإنسيّة.
ويتحدّد الأفق الذي تتشكّل فيه روح الإبادة العرقيّة وممارساتها وفق مسلّمتين. وتتمثّل الأولى في الاعتقاد بتفاضل الثّقافات، فيكون بعضها أدنى أو أرقى من بعض. أمّا الثانية فهي تأكيد التفوّق المطلق للثّقافة الغربيّة. وبالتالي، فإنّه لا يمكن أن يكون لهذه الأخيرة سوى علاقة نفي مع الثقافات الأخرى، ولاسيّما الثقافات البدائيّة. لكنّه نفي إيجابي، بما أنّه يُريد إلغاء الأدنى بصفته تلك ورفعه إلى مستوى الأرقى. إنّنا نُلغي هنديّة الهندي لكي نجعل منه مواطنًا برازيليًّا. ومن وجهة نظر القائمين عليها، فإنّ الإبادة العرقيّة لا يمكن أن تكون مشروع تدمير، بل هي على العكس، مهمّة ضروريّة تقتضيها الإنسيّة المنغرسة في صميم الثقافة الغربيّة.
ونحن نطلق اسم المركزيّة العرقيّة على هذه النزعة نحو قياس الاختلافات بمعيار ثقافتنا. والغرب ينزع نحو الإبادة العرقيًة لأنّه متمركز عرقيًّا، ولأنّه يرى نفسه هو الحضارة بإطلاق ويريد أن يكون كذلك. ومع ذلك، يُوجد سؤال يطرح نفسه: هل تحتكر ثقافتنا التمركز العرقي؟ تسمح لنا التجربة النياسيّة (الإثنولوجيّة) بالإجابة على هذا السؤال. وإذا ما نظرنا في الكيفيّة التي تُسمّي بها المجتمعات البدائيّة نفسها، فسندرك أنّها في الواقع لا تُسمّي نفسها بنفسها، وأنّ العادة جرت دائمًا تقريبًا بأن تُطلق على نفسها نفس الاسم: البشر. ولنطرح بعض الأمثلة على هذه السمة الثقافيّة، ولنذكّر بأنّ الهنود الغاراني (Guarani) يطلقون على أنفسهم اسم “آفا” (Ava)، بمعنى البشر؛ وأنّ الهنود الغاياكي (Guayaki) يتسمّون باسم “آشي” (Aché)، بمعنى “الأشخاص”؛ وأنّ الهنود الوايكا (Waika) في فنزويلا يتّخذون اسم “يانومامي” (Yanomami) بمعنى “الناس”؛ وأنّ الأسكيمو (Eskimo) يرون أنفسهم “إنويت” (Innuit)، بمعنى “البشر”. ويُمكننا إطالة قائمة هذه الأسماء بلا حدّ، بما قد يُشكّل قاموسًا لجميع مفرداته نفس المعنى: البشر. وعلى العكس من ذلك، فإنّ كلّ مجتمع يُسمّي جيرانه بشكل منهجي بأسماء مُهينة ومُحتقِرة وشائنة.
وهكذا فإنّه ما من ثقافة إلاّ وتعمل على تقسيم البشريّة إلى قسمين: هي من جهة أولى بوصفها الممثّل الأسنى للإنسان، ومن جهة أخرى الآخرين الذين لا يحوزون من الإنسانيّة إلاّ قليلها. ومن هنا، فإنّ الخطاب الذي تُنتجه المجتمعات البدائيّة حول نفسها والذي يتكثّف في ما تمنحه لنفسها من أسماء، هو بالتالي متمركز عرقيًّا في البدء والانتهاء، ففيه تأكيد تفوّق الذات الثقافيّة، ورفض الاعتراف بالآخرين مثيلاً في البشريّة. فالمركزيّة العرقيّة تبدو وكأنّها أعدل الأشياء قسمة بين البشر، ومن وجهة النظر هذه على الأقلّ، فإنّ ثقافة الغرب لا تتمايز عن الثقافات الأخرى. بل إنّه من المناسب، إذا أوغلنا في التحليل، القول بأنّ المركزيّة العرقيّة هي خاصيّة ملازمة لكلّ تشكيلة ثقافيّة، وأنّها متأصّلة في الثقافة نفسها. فجوهر الثقافة هو أن تكون متمركزة عرقيًّا، بمعنى أنّ كلّ ثقافة تعتبر نفسها الثقافة حصرًا ولا ثقافة غيرها. وبعبارة أخرى، فإنّ الغيريّة الثقافيّة لا يُمكن أن تُدرك أبدًا باعتبارها اختلافًا إيجابيًّا، بل تُدرك دائمًا بوصفها تدنّيًا في سلّم الثقافة.
وتظلّ الحقيقة أنّه إذا كانت كلّ ثقافة متمركزة عرقيًّا، فإنّ الثقافة الغربيّة وحدها هي التي تنزع نحو الإبادة العرقيّة. ويترتّب على ذلك أنّ ممارسة الإبادة العرقيّة لا تستند بالضرورة إلى الاعتقاد بالتمركز العرقي، وإلاّ لكانت جميع الثقافات قاتلة على أساس العرق، وهذا ما يُكذّبه الحال. وفي هذا المستوى بالذّات، يتبدّى لنا بعض القصور في تفكير بعض الباحثين الذين اهتمّوا مؤخّرَا بمشكلة الإبادة العرقيّة. ذلك أنّه لا يكفي في الواقع الاعتراف بالطبيعة العرقيّة للحضارة الغربيّة ودورها في الإبادة العرقيّة والتأكيد على ذلك. وطالما اكتفينا بتعيين عالم البيض بكونه عالم إبادة عرقيّة، فإنّ تفكيرنا يظلّ سطحيَّا، ونسقط في التكرار، وهذا أمر مفهوم لأنّ شيئًا لم يتغيّر في خطابنا منذ أن ندّد الأسقف لاس كاساس (Las Casas)، على سبيل المثال، في فجر القرن السادس عشر، وبعبارات دقيقة للغاية بالإبادة الجماعيّة والإبادة العرقيّة التي مارسها الإسبان على هنود الجُزُر والمكسيك. ومن خلال قراءة الأعمال المكرّسة للإبادة العرقيّة، يحصل المرء على انطباع بأنّ الحضارة الغربيّة عند أولئك المؤلّفين هي ضرب من التجريد، بلا جذور اجتماعيّة تاريخيّة، وكأنّها جوهر غامض يتضمّن في ذاته وعبر الزمان روح الإبادة العرقيّة. بيد أنّ ثقافتنا ليست بأيّ شكل من الأشكال تجريدًا، بل هي نتاج تاريخ تشكّل ببطء، ونتاج بحث في الأنساب. ما الذي يجعل الحضارة الغربيّة نزّاعة إلى الإبادة العرقيّة؟ هذا هو السؤال الحقيقي. يؤدّي تحليل الإبادة العرقيّة، إذا تجاوزنا إدانة الوقائع، إلى مساءلة الطبيعة المحدّدة تاريخياً لعالمنا الثقافي. لذا، لا مندوحة من اللجوء إلى التاريخ.
إنّ حضارة الغرب ليس أكثر من تجريد خارج الزمان، وهي ليست واقعًا متجانسًا، أو كتلة غير متمايزة متطابقة في جميع أجزائها. ومع ذلك، فهذه هي الصورة التي تبدو عند المؤلّفين المذكورين أعلاه. ولكن إذا كان الغرب ميّالاً إلى الإبادة العرقيّة ميلان الشمس إلى أن تُشرق، فإنّ هذه الحتميّة تجعل من غير الضروري، وحتى من العبث، إدانة الجرائم والدعوة إلى حماية الضحايا. ألا يعود الأمر، على العكس من ذلك، إلى أنّ نزعة الإبادة العرقيّة في الحضارة الغربيّة موجودة بالدّرجة الأولى داخلها لكي يمكنها بعد ذلك أن تظهر تجاه الخارج، أي تجاه التشكيلات الثقافيّة الأخرى؟ لا يمكننا التفكير في نزعة الإبادة العرقيّة عند المجتمع الغربي دون ربطها بخصوصيّة عالمنا هذا، وهي الخصوصيّة التي تُمثل المعيار الكلاسيكي للتمييز بين المتوحّشين والمتحضّرين، بين العالم البدائي والعالم الغربي: يجمع الأوّل مجمل المجتمعات دون دولة، ويتكوّن الثاني من المجتمعات ذات الدولة. وهذا ما يجب أن نحاول التفكير فيه: هل يحقّ لنا وضع هاتين الخاصيّتين عند الغرب في إطارها الصحيح، بوصفه ثقافة إبادة عرقيّة، وبوصفه مجتمعًا ذا دولة؟ إذا كان الأمر كذلك، فسنفهم كيف أمكن للمجتمعات البدائيّة أن تكون متمركزة عرقيًّا دون أن تكون نزّاعة إلى الإبادة العرقيّة، لأنّها تحديدًا مجتمعات دون دولة.
من المسلم به أنّ الإبادة العرقيّة هي إلغاء الاختلافات الثقافيّة التي تعتبر دنيا وسيّئة، وهي تطبيق لمبدأ تطابق، أي لمشروع يختزل الآخر في المتطابق (إلغاء هندي الأمازون بوصفه آخرًا واختزاله في متطابق هو المواطن البرازيلي). وبعبارة أخرى، تُؤدي الإبادة العرقيّة إلى تذويب المتعدّد في الواحد. فماذا عن الدولة؟ إنّها، في جوهرها، استخدام قوّة مركزيّة، تميل عندما تتطلّب الظروف، إلى سحق قوى طرد عكسيّة. فالدّولة تريد أن تكون وأن تُظهر نفسها مركز المجتمع، أي مركز الهيئة الاجتماعيّة برمّتها، والسيّد المطلق على مختلف أجهزة هذه الهيئة. وهكذا نكتشف، في صميم جوهر الدولة، القوّة الفعّالة للواحد ونزعة رفض المتعدّد، والخوف والرعب من الاختلاف. وعلى هذا المستوى الصوري حيث نقف الآن، نرى أنّ ممارسة الإبادة العرقيّة وآلة الدولة تعملان بنفس الطريقة وتُنتجان نفس التأثيرات: وفي ظلّ مختلف تنويعات الحضارة الغربيّة أو الدولة، تتجلّى دائمًا الرغبة في الحدّ من الاختلاف والغيريّة، ويتجلّى حسّ التطابق وهيمنة الواحد.
ولنتجاوز هذا الوجه الصوري والبنيوي بمعنى من المعاني لكي نقترب من الزمني والتاريخ الملموس، ولننظر إلى الثقافة الفرنسيّة كحالة خاصّة للثقافة الغربيّة، وكوجه مثالي لروح الغرب ومصيره. يبدو تشكّل الثقافة الفرنسيّة، المتجذّرة في ماضٍ علماني، موازيًا تمامًا مع تمدّد جهاز الدولة وتوطّده، أوّلاً في شكله الملكي، ثم في شكله الجمهوري. وتتوافق كلّ مرحلة من مراحل تطوّر السلطة المركزيّة مع تمركز متفاقم للعالم الثقافي. فالثقافة الفرنسيّة هي ثقافة وطنيّة، أي ثقافة اللغة الفرنسيّة. وينعكس توسّع سلطة الدولة في توسّع لغة الدولة، أي الفرنسيّة. ويمكن للأمّة أن تعتبر نفسها متشكّلة، وللدّولة أن تُعلن نفسها صاحبة السلطان الأوحد حين يتحدّث الناس الذين تمارس عليهم الدولة سلطتها نفس لغتها. ومن الواضح أنّ عمليّة الاندماج هذه تمرّ عبر إزالة الاختلافات. وهكذا شهد فجر الأمّة الفرنسيّة، حين كانت فرنسا منحصرة في منطقة فرانشيمانيا (Franchimanie) وملكها مجرّد أقطاعي باهت في شمال منطقة لوار (Loire)، الحملة الصليبيّة ضدّ الكَثَاريّين في الجنوب ([2]) للقضاء على حضارته. ويبدو أنّ استئصال بدعة كاثار، وهي تعلّة ووسيلة توسّع في الملكيّة الكابيتيّة ([3])، ورسم الحدود النهائيّة تقريبًا لفرنسا، تبدو حالة صريحة من الإبادة العرقيّة: فقد تمّ القضاء على ثقافة الجنوب – دينًا وأدبًا وشعرًا – قضاءً مُبرمًا وأصبح أهالي منطقة لانغدوك (Languedoc) رعايا مخلصين لملك فرنسا.
أدت ثورة 1789، من خلال السماح بانتصار الروح المركزيّة لليعقوبيّين على الميول الفدراليّة للجرونديّين، إلى إنهاء الهيمنة السياسيّة للإدارة الباريسيّة. وكانت كلّ مقاطعة من المقاطعات تعتمد، بصفتها وحدات إقليميّة، على واقع قديم، متجانس من وجهة النظر الثقافيّة: اللغة والتقاليد السياسيّة، إلخ. فتمّ إعادة تقسيمها حسب تقسيم نظري لا يستند إلى أيّ واقع إلى محافظات، وهو ما أدّى إلى كسر كلّ مرجعيّة خصوصيّة محليّة، وبالتّالي تسهيل تغلغل سلطة الدولة في كلّ مكان. وكانت المرحلة الأخيرة من هذه الحركة التي تذوب فيها الاختلافات واحدة تلو أخرى أمام سلطة الدولة هي حين حوّلت الجمهوريّة الثالثة بشكل قاطع سكّان فرنسا إلى مواطنين بفضل إرساء المدرسة العلمانيّة، المجانيّة والإجباريّة، ثمّ الخدمة العسكريّة الإجباريّة. وبهذا تمّ القضاء على كلّ ما تبقّى من وجود مستقلّ في عالم القرى والأرياف، لتكتمل عمليّة الفرنسة، وتتحقّق الإبادة العرقيّة: قمع اللغات التقليديّة باعتبارها لهجات إقليميّة متخلّفة، وجعل الحياة القرويّة مجرّد مشهد فرجوي فلكلوري مخصّص لاستهلاك السيّاح، إلخ.
ولعلّ هذه اللمحة حول تاريخ بلدنا، على اختصارها، كفيلة بإثبات أنّ الإبادة العرقيّة، بوصفها قمعًا سلطويًا بدرجة أو أخرى للاختلافات الاجتماعيّة والثقافيّة، مندرجة ضمنيًّا في طبيعة آلة الدولة وفي اشتغال تلك الآلة الذي يبدأ بتوحيد العلاقة التي تربطها بالأفراد: فالدولة لا تعرف سوى المواطنين المتساويين أمام القانون.
وانطلاقًا من المثال الفرنسي، يُؤدّي التأكيد منطقيًّا على أنّ الإبادة العرقيّة تنتمي إلى جوهر وحدانيّة الدّولة، إلى القول بأنّه ما من تشكّل دولاني إلاّ وهو ميّال بالضرورة إلى الإبادة العرقيّة. ولنتفحّص بسرعة حالة دولة مختلفة نوعيًّا تمام الاختلاف عن الدول الأوروبيّة. لقد تمكّن شعب الإنكا في جبال الأنديز من بناء آلة حُكْم حازت إعجاب الأسبان سواء في مدى توسّعها الإقليمي أو مدى دقّة وضبط التقنيات الإداريّة التي سمحت للإمبراطور وموظّفيه من ممارسة سيطرة كاملة ودائمة على سكّان الإمبراطوريّة. ويظهر طابع الإبادة العرقيّة لهذه الآلة الدولانيّة في ميلها إلى صبغ سكّان المناطق المغزوّة بصبغة الإنكا، لا بإجبارهم فحسب على دفع الإتاوات للأسياد الجدد، ولكن بشكل خاصّ إجبارهم في المقام الأوّل بممارسة ديانة الفاتحين وعبادة الشمس، أي الإنكا نفسه. وباعتباره دين الدولة، فقد فُرض عليهم الدخول فيه بالقوّة والغصب على حساب الديانات المحليّة. بيد أنّ الحقّ يقتضي الإشارة إلى أنّ الضغط الذي مارسه الإنكا على القبائل المخضعة لم يصل أبدًا إلى درجة عنف الحميّة المهووسة التي سيقضى بها الإسبان في وقت لاحق على وثنيّة السكّان الأصليّين. فنظرًا لما يتمتّع به الإنكا من مهارة دبلوماسيّة، فقد عرفوا كيف يستخدمون القوّة حين يجب استخدامها، وهو ما لا ينفي أقصى قدر من الوحشيّة، على غرار أيّ آلة دولة، حين تتعرّض سلطتهم إلى تهديد. ومن ذلك أنّ ردّ الفعل تجاه الانتفاضات المتكرّرة ضدّ السلطة المركزيّة في العاصمة كوزكو (Cuzco)، إضافة إلى قمعها بلا رحمة في البداية، كان يقتضي بعدها ترحيلاً مكثّفًا للمهزومين إلى مناطق بعيدة جدًّا عن موطنهم الأصلي، أي عن أماكن عبادتهم (الينابيع، التلال، الكهوف، إلخ)، وهو ما يعني الاستئصال والإبعاد عن الوطن، وبالتالي الإبادة العرقيّة…
إن العنف العرقي، باعتباره نفيًا للاختلاف، ينتمي بلا شكّ إلى جوهر الدولة، سواء في الإمبراطوريات البربريّة أو في المجتمعات المتحضّرة في الغرب: فما من تنظيم دولاني إلاّ وهو ميّال إلى الإبادة العرقيّة، إذ هي الشرط الطبيعي الملازم لوجود الدولة. وبالتّالي، تبدو الإبادة العرقيّة وكأنّها أمر كوني لا يُميّز “عالمًا أبيضًا” غامضًا وغير محدّد، بل مجموعة مجتمعات، هي مجتمعات الدولة. وإذا كان التفكير في الإبادة العرقيّة يتطلّب تحليل الدولة، فهل يجب أن يتوقّف هذا التحليل عند هذا الحدّ والاكتفاء بملاحظة أنّ الإبادة العرقيّة هي الدولة، وتاليًا القول من وجهة النظر هذه، بأنّ جميع الدول متساوية في هذا الخصوص؟ الحقّ أنّ هذا سيكون سقوطًا في خطيئة التجريد التي سبق أن شجبناها تحديدًا عند “مدرسة الإبادة العرقيّة”، بل إنّه سيكون مجدّدًا تجاهلاً للتاريخ الملموس لعالمنا الثقافي.
أين يكمن الاختلاف الذي يمنع أن نضع على نفس المستوى، أو في نفس الحقيبة، الدول البربريّة (الإنكا، الفراعنة، الاستبداد الشرقي، إلخ) والدّول المتحضّرة (العالم الغربي)؟ يظهر هذا الاختلاف أوّلاً في مستوى قدرة الآلات الدولويّة على الإبادة العرقيّة. ففي الحالة الأولى، لا تكون هذه القدرة محدودة بسبب ضعف الدولة، بل على العكس من ذلك، بسبب قوّتها: فممارسة الإبادة العرقيّة – إلغاء الاختلاف حين يتحوّل إلى معارضة – تتوّقّف حالما تتوقّف الأخطار التي تتهدّد سلطة الدولة. فقد كان الإنكا يتسامحون تجاه استقلال نسبي لمجتمعات الأنديز إذا اعترفت بالسلطة السياسيّة والدينيّة للإمبراطور. أمّا في الحالة الثانية، أي حالة الدول الغربيّة، فإنّ القدرة على الإبادة العرقيّة لا حدّ لها، وأنّها مكبوحة فحسب. ولأنّها ولهذا السبب بالذّات، يمكنها أن تقود إلى الإبادة الجماعيّة، فإنّه يمكننا الحديث بالفعل عن العالم الغربي بأنّه نزّاع إلى الإبادة الجماعيّة بإطلاق. ولكن من أين يأتي ذلك؟ ما الذي تحويه الحضارة الغربيّة ليجعلها أشدّ نزوعًا وبلا حدّ للإبادة العرقيّة من أيّ شكل آخر من أشكال المجتمعات؟ إنّه نظام إنتاجها الاقتصادي، فهو بحقٍّ مجال بلا محدود، ومجال بلا أماكن باعتباره تراجعًا مستمرًّا عن الحدّ، وفضاء لا متناهي للهروب إلى الأمام بشكل دائم. ما يُميز الغرب هو الرأسماليّة، باعتبارها استحالة بقاء داخل حدود مرسومة، وباعتبارها تجاوزًا لكلّ حدود؛ إنّها الرأسماليّة بوصفها نظام إنتاج لا تعترف بشيء مستحيل، باستثناء أن تكون هي ذاتها سبب نهايتها، سواء كانت رأسماليّة ليبراليّة وخاصّة، كما هو الحال في أوروبّا الغربيّة، أو رأسماليّة دولة تخطّط لها كما هو الحال في أوروبا الشرقيّة. ولهذا السبب بالذّات، فإنّ المجتمع الصناعي، هذه الآلة المذهلة للإنتاج، هو أكثر آلات التدمير رعبًا. فالأعراق والمجتمعات والأفراد؛ والفضاء والطبيعة والبحار والغابات وما تحت الأرض، كلّ ذلك يحقّق منفعة ويجب استخدامه وينبغي أن يكون منتجًا، بل ويُحقّق إنتاجيّة مدفوعة إلى أقصى ما فيها من كثافة.
هذا هو السبب في أنه لا يمكن السماح بأيّ فترة راحة للمجتمعات التي تركت العالم ينعم بعدم إنتاجيّته الأصليّة الهادئة. وهذا هو السبب في عدم تسامح الغرب تجاه ما يعتبره تبديدًا وهدرًا للموارد الهائلة التي لا يتمّ استغلالها. وقد كان الخيار الوحيد المتبقّي لهذه المجتمعات يُشكّل مأزقًا: فإمّا أن تخضع للإنتاج، أو تختفي؛ وإمّا الإبادة العرقيّة أو الإبادة الجماعيّة. ففي نهاية القرن التاسع عشر، تمّ إبادة هنود البامبا في الأرجنتين بالكامل من أجل السماح بتربية الأغنام والأبقار على نطاق واسع، وهو ما كان في أساس ثراء الرأسماليّة الأرجنتينيّة. وفي بداية القرن العشرين، قُتل مئات الآلاف من هنود الأمازون على يد الباحثين عن المطّاط. وحاليًّا، وفي جميع أنحاء أمريكا الجنوبيّة، يستسلم آخر الهنود الأحرار أمام طفرة النموّ الاقتصادي الهائل، وخاصّة في البرازيل. وتُشكّل الطرقات العابرة للقارّات والتي يتسارع بناؤها، محاور استعمار للمناطق التي تمرّ بها تلك الطرقات: ويا ويل الهنود الذين تمرّ في أراضيهم تلك الطرقات! فما هو وزن بضعة آلاف من الهنود غير المنتجين قياسًا بثروات الذهب والمعادن النادرة والبترول وتربية الماشيّة ومزارع القهوة وما إلى ذلك؟ الإنتاج أو الموت، هذا هو شعار الغرب، وقد دفع هنود أمريكا الشماليّة ثمن ذلك من أجسادهم، وقتلوا تقريبًا عن بكرة أبيهم في سبيل الإنتاج. وقد عبّر أحد جلاّديهم، وهو الجنرال شيرمان، عن ذلك ببراعة في رسالة إلى قاتل الهنود الشهير، بيفالو بيل (Buffalo Bill): “بقدر ما أستطيع أن أقدر، كان يُوجد في عام 1862 حوالي تسعة ملايين ونصف من رؤوس بقر البيسون الأمريكي في السهول بين نهر ميسوري وجبال روكي. وقد اختفت جميعها، وقُتلت من أجل لحومها وجلودها وعظامها […] وفي نفس الفترة، كان يُوجد ما يقرب من 165 ألف نسمة من الهنود الباون (Pawnees) والسيو (Sioux) والشيان (Cheyennes) والكيوا (Kiowas) والأباتشي (Apaches)، الذين يعتمد غذاؤهم السنوي على أبقار البيسون هذه. لقد غادروا أيضًا واستبدلوا بما يُعادل عددهم مرّتين أو ثلاث مرّات برجال ونساء بيض حوّلوا هذه الأرض إلى حديقة، وبات ممكنًا تعدادهم وفرض الضرائب عليهم وحكمهم وفقًا لقوانين الطبيعة والحضارة. لقد كان هذا التغيير مفيدًا وسيستمرّ حتّى النهاية” ([4]). لقد كان الجنرال على حقّ، وسيستمرّ التغيير حتى النهاية، إلى حين لن يبقى شيء مطلقًا يُمكن تغييره.
المقال الأصلي:
Clastres (Pierre), « De l’ethnocide », L’Homme, juil.-déc. 1974, XIV (3-4), pp. 101-110.
أعمال بيار كلاستر
1962 – « Échange et pouvoir : philosophie de la chefferie indienne », L’Homme, II (1), pp. 51-65.
1963 – « Indépendance et exogamie. Structure et dynamique des sociétés indiennes de la forêt tropicale », L’Homme, III (3), pp. 67-87.
1964 – « Compte rendu de mission chez les Indiens Guyaki », L’Homme, IV (2), pp. 122-125.
1965 – « Entre silence et dialogue », L’Arc, numéro spécial consacré à Claude Lévi-Strauss, p. 76-78.
1966 – « L’arc et le panier», L’Homme, VI (2), pp. 13-31.
1967 – « Ethnologie des Indiens Guayaki. La vie sociale de la tribu », L’Homme, VII (4), pp. 5-24.
– « Mission au Paraguay et au Brésil », L’Homme, VII (4), pp. 101-108.
– « De quoi rient les Indiens », Les Temps Modernes, n° 253, pp. 2179-2198.
1968 – « Ethnographie des Indiens Guayaki », Journal de la Société des Américanistes, T. 57, pp. 8-61.
– « De que se rien los indios ? », Mundo nuevo. Revista de America Latina, n° 26-27, août-septembre, pp. 74-92.
– « Cambio y poder : filosofia de la jefature india », Aportes, n° 10, octobre, pp. 70-84.
1969 – «Une ethnographie sauvage», L’Homme, IX (1), pp. 58-65.
– « Prophètes dans la jungle », L’Éphémère, n° 10, pp. 232-242.
– «Copernic et les sauvages», Critique, n° 270, pp. 1000-1015.
– « The bow and the basket », Social Science Information, VIII (3), juin, pp. 145-162.
1970 – Dictionnaire guayaki-espagnol, en collaboration avec Léon Cadogan, publié par la société des Américanistes.
1971 – « Le dernier cercle», Les Temps Modernes, n° 298, pp. 1917-1940.
1972 – Chronique des Indiens Guayaki. Paris, Plon, 358 p. (Collection « Terre Humaine »).
– « De l’Un sans le Multiple », L’Éphémère 19-20, pp. 308-314.
– « The Guayaki », in: Hunters and Gatherers Today, M. G. Bicchieri éd., Hold, Rinehart and Winston, Inc., New York, pp. 138-174.
1973 – «Éléments de démographie amérindienne», L’Homme, XIII (1-2), pp. 23-36.
– « De la torture dans les sociétés primitives », L’Homme, XIII (3), pp. 114-120.
– « Le devoir de parole », Nouvelle Revue de Psychanalyse, n° 8, pp. 83-85.
1974 – « Léon Cadogan », L’Homme, XIV (2), pp. 135-136.
– «De l’ethnocide», L’Homme, XIV (3-4), pp. 101-1 10
– La société contre l’État. Recherches d’anthropologie politique. Paris, Éditions de Minuit, 190 p.
– Le Grand Parler. Mythes et chants sacrés des Indiens Guarani. Paris, Éditions du Seuil, 144 p. (Collection : Recherches anthropologiques »).
1975 – « Martchenko », Textures, n° 10-11.
1976 – « La question du pouvoir dans les sociétés primitives », Interrogations, n° 7, juin.
– Préface au livre Age de Pierre, Age d’abondance, de Marshal Sahlins, Paris, Gallimard.
– « Liberté, Malencontre, Innomable ». Réédition du Discours de la Servitude volontaire d’Etienne de La Boétie, Payot.
1977 – « Le retour des Lumières », Revue Française de Science politique, février, n° 1.
– « Archéologie de la violence », Libre, n° 1.
– « Malheur du guerrier sauvage », Libre, n° 2.
[1] – الكتاب المعرّب: مُجتمع اللاّدولة، تعريب وتقديم: مُحمّد حسين دكروب، المؤسّسة الجامعيّة للدّراسات والنّشر والتّوزيع، بيروت 1991.
والمقالة هي: “أثريّات العنف أو الحرب في المجتمعات البدائيّة”، في: كلاستر (بيار) وغوشيه (مارسيل)، حول أصل العنف والدّولة، تعريب وتقديم: عليّ حرب، دار الحداثة، بيروت 1985 .
والحوار هو: “مجتمع بلا دولة” أم “مجتمع ضدّ الدّولة”؟ حوار مع الأنّاس بيار كلاستر، في: حوارات إناسيّة- في الدين والسياسة والمجتمع، ترجمة: محمّد الحاج سالم، دار الوسيطي للنّشر، تونس، 2014 (ص 9-54).
(انظر ثبتاً بأعمال بيار كلاستر في نهاية هذا المقال).
[2] – حملة كاثار الصليبيّة (1209-1229 م): حملة عسكريّة دامت 20 عاماً أطلقها البابا إينوسنت الثالث للقضاء على ما عدّه “بدعة الكَثار” في إقليم لونغدوك الفرنسي. وقد تبنّى التاج الفرنسي هذه الحملة ممّا صبغها بصبغة سياسيّة. وقد أسفرت عن إبادة أعداد كبيرة من الكَثار، وإلحاق مقاطعة تولوز في إقليم لانغدوك بسلطة التاج الفرنسي.
و”الكاثار” لفظ يوناني الأصل يعني الطاهر، وهي حركة مسيحيّة ذات جذور غنوصيّة دعت إلى العودة إلى الرسالة المسيحيّة المتمثّلة في السعي نحو الكمال بعيش الفقر والوعظ. وكانت بمثابة ردّة فعل على أنماط الحياة المترفة والفاضحة لرجال الدين الكاثوليك في جنوب فرنسا. بدأت في منتصف القرن الثاني عشر وانتشرت في بعض مناطق أوروبّا الجنوبيّة بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر. وقد تعرّض أتباعها إلى حقبة طويلة من الاضطهاد من قبل الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة باعتبارهم أصحاب بدعة [المترجم].
[3] – الكابيتيّون: سلالة ملكيّة منسوبة إلى مؤسّسها هوغو كابيت (Hughes Capet) اعتلت عرش فرنسا دون انقطاع من 987 إلى 1792 [المترجم].
[4] – ورد في:
Thévenin (René) & Coze (Paul), Mœurs et histoire des Indiens Peaux-Rouges, Paris, Payot, 1952.