إذا كان القرن السابع عشر هو قرن الرياضيات، والقرن الثامن عشر هو قرن الفيزياء والقرن التاسع عشر هو قرن البيولوجيا، فإن القرن العشرين هو قرن الخوف.
– ألبير كامو
فُرض على الناس التعامل مع مرض كورونا في الآونة الأخيرة بحكم الأمر الواقع، وتسبّب ذلك للكثيرين منهم في صدمات اقتصادية واجتماعية ونفسية. ولقد انقلبت حياة الناس اليومية إلى ما يشبه الحبس القسري، وذلك بالنظر إلى تبعات الجائحة التي قضت باتخاذ إجراءات السلامة والوقاية. وحتى لا نعمّم الحكم بخصوص هذه المسألة، فإنّ البعض منهم استطاع فعلًا أن يعتبر الحجر الصحي فرصة لأخذ قسط من الراحة والتخلص من العمل وعنائه، بينما منح للبعض الآخر وقتًا كافيًا للتمكّن من مزاولة أنشطته المنزلية. لكن، هل كان الجميع راضيًا على ظروف هذه الجائحة؟ ألم تكن حياة العزلة جحيمًا للكثيرين؟ وهل يمكن التفكير فلسفيًّا في هذا الوضع المتّسم بعدم اليقين والرضى؟
واقع الأمر يشِي بأنّ قلق الجائحة ناجمٌ عن كون هذه العدوى الوبائية (كوفيد19) غير مسبوقة في تاريخنا البشري، حيث تبدو كما لو أنّها لغز محير. فالأمر يتعلّق بكائن مجهري غير حيّ ولا مرئي، لكنه بمجرّد أن يتسرّب إلى جسم الإنسان ينشط ليخنق أنفاس المريض حتى الموت أحيانًا. هذه الوضعية كافية لكي تخلق القلق والوسواس في أنفس الناس، وبالتالي فإن الضرورة تفرض اعتزال الناس بعضهم البعض، وعدم المخالطة كحلّ وقائي لا محيد عنه. في سياق هذه الوضعية الوبائية، وجد البشر أنفسهم بين خيارين كلاهما مرّ: إمّا البقاء في المنازل وتحمّل سأم وقنوط جدران البيت وبطءِ الزمن، أو المغامرة بالخروج حيث العدوى الوبائية محتملة. لكن الناس اليوم ليست لهم قدرة تحمل حياة العزلة وتبعاتها التي تفرضها هذه الجائحة، بل كثيرًا ما اشتكوا من السأم الناتج عن لزوم البيوت، وكثر التصريح بعدم القدرة على تحمّل الوحدة والعزلة الإجبارية هذه.
لعلّ معاناة أولئك الذين ترعرعوا في كنف الحياة المعاصرة المرفّهة هم أكثر المبرّمين من وضعية الحجر والإغلاق العام، حيث فقدان العلاقة المصطنعة مع الأمكنة والأزمنة المعاصرة، ثمّ غرابة الوحدة والعزلة الناجمة عن تلاشي كينونتهم في صخب الأشياء المعتادة؛ كلّ ذلك أفقد البشر المعاصر صوابه ومزاجه. حسب المفكّر روجير بول دروا*، ينبغي على البشر التفكير مليًّا في روابطهم الإنسانية، لأنّها تجتاز امتحانًا عسيرًا في ظلّ هذه الظروف[1]. فهل سيجبرهم الوباء على إدراك محدودية هذه الحياة المعتادة؟ في الواقع ما كشفت عنه الجائحة ليس جديدًا من الناحية الطبيّة والاجتماعية، بل هو معروف للإنسانية من قدم الزمن. لكن، هل بمقدور نمط الحياة الفلسفية أن يفيد الناس في التعامل مع هذه الجائحة؟
يكمن تفرّد الإنسان الأساسي في كونه يستطيع أن يدرك ويعي محدودية حياته؛ لكن بمعرفته لذلك، أصبح شقيًّا لا يحسن التصرّف في معظم الأوقات. إنّه يفكّر في اللحظي متناسيًا مصيره المحتوم بوضع هذه الفكرة تحت السجادة. يذكرنا الفيلسوف مونتين** أنّه “يجب أن يكون لديك طعم الموت في الفم”، فلتقدير طعم الأشياء والحياة بشكل أفضل لا ينبغي الانغماس في تفاصيلها أكثر من اللازم، بل باستيعاب مكامن ضعفنا وهشاشتنا من خلالها. نتيجة لذلك، لا يكفي الاهتمام بالجوانب الاستهلاكية والترفيه المبالغ فيه، وإنّما بتقدير الحياة قدرها الحقيقي المتمثّل فلسفيًا في وضع أنفسنا في الحاضر الحيّ وتحمّل مسؤوليتنا فيه. والظاهر أنّ تقييم الناس لحياتهم فيه لبس وعدم فهم بعمقها التراجيدي، لذلك تراهم لا يقدّرون غير جوانب الراحة والفرح والمتعة فيها، كما لو أنّها وعد هناء وموضوع رغبات لا حدود لها. فلذلك، ترى البشر عند كلّ محنة وكارثة يتباكون ويحزنون ويشتكون طلبًا لتيسير الأمور، وعودة هذه الحياة إلى سابق عهدها، أي إلى حياة النِعم والمسرّات.
خلافًا لهذه الوضعية البئيسة في مواجهة الأحداث الجسام، يقدّم الموقف الفلسفي نمطًا مغايرًا من التصرّف حيال المواقف الصعبة التي تجتازها الإنسانية في أوقات الشدّة. فمثلًا، تقدّم التمارين الروحية الفلسفيّة نموذجًا لفنّ العيش، قوامه أن تُعاش الحياة بحكمة، عبر الاهتمام بالذات دون افراط ولا تفريط، وبتنظيم العواطف الجامحة ومداراة الألم الشديد وتعقّل الأفراح والأتراح معًا. إنّ هذه التمارين والطريقة التي مارسها بها الفلاسفة، تعدّ مقترحات للوجود من أجل التفكير والعيش فلسفيًا.[2] فحول ما إذا كان ممكنًا للحياة المنفصلة عن الحكمة أن تكون فلسفية؟ قدّم بيير آدو* تصوّره الذي مفاده أنّ مسألة العيش فلسفيًا دون معرفة بالمبادئ الأساسية التي توجه اختيارات الإنسان في الحياة أمر غير ممكن، إذ كيف يمكن معرفة هذه المبادئ إن لم يكن من خلال حياة فلسفية؟ يبدو إذاً، أنّ إمكانية العيش فلسفيًّا على طريقة التمارين الروحية نهج مثير للاهتمام بالنسبة لمثل هذه الأوضاع الصعبة.[3] يساعد هذا الأمر على إخراج الفلسفة من نخبويتها من جهة، وتجاوز الألم والمرض عن طريق الحكمة العملية بأبعادها الإيتيقية والروحية [4].
وظّف بيير آدو مفهوم التمارين الروحية من أجل تقريب بعض تصورات الفلاسفة والحكماء القدامى إلى الناس، معتبرًا محاولات بعض العاصرين[5]. نماذج فلسفية تحاول إبراز الطابع العلاجي العملي والروحي للفلسفة، كتمرين روحي يهتم بالذات وبوضعيتها الحرجة في هذه الحياة اليومية. ثمّ، جعل التمارين الفلسفية نوعًا من الممارسات الروحية المتميّزة عن الأصناف الأخرى من التمارين الروحية (الدينية، والشعبية، والفنية، إلخ)، وذلك لكونها ممارسة تأملّية فكرية وعقلية بالأساس؛ أي تمارين للتوضيح والفهم والنقد والتحليل والبحث عن توافق الذات مع العالم.
فمثلا، في حالة الشعور بالملل في ظرفية هذه الجائحة، يمكن أن تكون هذه التمارين الفلسفية نموذجًا لاسترجاع الثقة بالذات وعدم الخوف من المرض. ليس هناك داعٍ للخوف من الشعور بالملل لأنّ الملل كما يقول بول فاليري، **حياة عارية. فالكينونة عندما تنظر إلى نفسها تكون دائما مملّةً إلى حدّ ما. غير أنّه عندما نمرّ بزمن الملل، سرعان ما يبدو أنّ هناك الكثير من الأشياء التي يحملها. يجب ألا نخاف من الشعور بالملل، ففيه توجد أشياء خصبة تختمر، وهي التي ستظهر في وقت لاحق، عندما نحاول أن نجد فكرة جديدة في خضم هذا الملل.
بدوره يصوّر الفيلسوف المعاصر نيكولاس جريمالدي* هذا الوضع بكونه يمثّل جانبًا عفا عليه الزمن، حيث نسينا أن الأوبئة يمكن أن تكون عنيفة ومعدية، فتجعل الحياة هشة للغاية.[6] لكن عندما اتخذنا حالة المجتمع الراهن بداهة يقينية، بدا لنا نظامه شبه طبيعي للتبادل، حيث لم يعد الناس يتصوّرون حالة البقاء في البيت لمدّة طويلة كهذه. لكن الآن، فجأة، وفي لحظة قصيرة، حوّلت جائحة كوفيد– 19هذا المجتمع إلى حالة إغلاق تام، فبدت الأمور الاعتيادية صعبة المنال. لقد نسي الناس فعلًا أنّ ما يجعل الترفيه ضروريًا، كما كان يقول الفيلسوف بليز باسكال،** هو أنّه ينسينا ويحوّلنا من الاضطرار إلى التفكير في حياتنا الخاصة كي لا نضطر إلى التفكير في موتنا ونهايتنا. إذ لمّا مُنع الناس من مغادرة بيوتهم صارت العودة إلى الذات أمرًا يصعب تحمّله بالنسبة لأولئك الذين لم يتعودوا على ممارسة التفكير والتأمل، وهكذا شعر الناس بضيق الإقامة والضجر الخانق في مساكنهم وبالملل من أنفسهم الشيء الذي أجّج نوعًا من قلق الوجود الحادّ.
حالة القلق هذه ليس سببها الملل فقط، وإنّما عدم تمكّن البشر من تحمّل الوحدة في غرفهم المنزلية. هذه الحالة تقتضي لمن يريد تجاوزها الخروج عن طور الحياة المعتادة، والدخول في نمط تواجد آخر، فلسفي وروحي؛ أي حالة العزلة كتجربة وجودية وكتمرين روحي. إنّ لحظة الأزمة هذه، وبالنظر إلى ما يسمُها من انسحاب وعزلة وتحصن، تجعلنا نعيش حقيقة ما وصفه باسكال بالوضعية الإنسانية الهشّة. فالملل من الغرف المنعزلة يفرضه ضعف تحمّل البشر لأنفسهم وهم في وهن وهشاشة. نحن نعيش من لحظة إلى لحظة، ومن تحفيز إلى تحفيز، كطريقة لإضفاء المعنى على الحياة، لكنّنا ننسى أن جوهر هذه الحياة هو هذه الدينامية والاستمرارية والجهد، وهي في ذلك لا تضمن السعادة لأحد، بل يظل القلق ملازمًا لها حتى وإن تجاهله الإنسان بفعل الانغماس في المسرّات والترفيه[7].
لكن، بمجرّد ما يظهر المرض فجأة أو تعمّ جائحة، يتسلل إلى الجميع الشعور بعدم الاستقرار وهشاشة الحياة والملل حين ملازمة مكان الإقامة. ويظهر في ظلّ هذا الحجر الصحي الذي نخضع له أنّ لا أحد يستفيد من هذه الحياة التي انتهت للتو. لكن الاكتشاف العظيم الذي يظهره هذا الموقف، هو أننا بالفعل لا نعيش لأنفسنا فقط، بل من أجل الآخرين أيضًا، وهنا نكتشف أن حياتنا في البيت لا تساوي شيئًا تقريبًا ما دمنا لا نتمكّن من تحقيق هذا الأمر. هكذا، تساهم العزلة القسرية في زيادة الإحساس بالملل والضجر لأنّ «مصيبة كلّ الناس تأتي من شيء واحد، هو عدم معرفة كيفية البقاء في راحة داخل غرفة» كما قال باسْكال.
مقابل ضياع التسلية وحرية التصرّف المتاحان خارج المنزل، يمكن للتمارين الفلسفية الروحية أن تعطي الناس بعض الوصفات الفكرية لتجاوز هذا الضجر والقلق الناجمان عن ملل البقاء بالمنازل لمدّة طويلة. كيف ذلك؟
تقدّم الفلسفة، باعتبارها ممارسة تأمّلية، تمارين روحيّة تهدف إلى تعديل السلوك وتنوير الفكر نحو الأفضل، بالتالي إيجاد نوع من التوازن في النفس والانسجام في العقل. إنّها نوع من العمل على الذات لتأهيلها والاهتمام بها على حدّ قول مشيل فوكو[8]. في هذا الإطار، يقدّم الفيلسوف بيير آدو العديد من الفلسفات التي تهدف إلى مساعدة الإنسان على العيش بشكل أفضل، خاصّة منها الحكمة العملية للمدارس الثلاث الكبرى في العصور القديمة (الأبيقورية، الرواقية، الكلبية)، وهي نماذج للحكمة العملية التي تقدّم تقنيات وأساليب لعيش حياة هادئة منسجمة في توافق مع الذات والعالم[9].
تقترح هذه الفلسفات تمارين فلسفية لدفع الأحزان وتجنّب الكدر والسأم من الوضع المتأزّم، وهي عبارة عن “وصفات” حِكَمِيَّة وشذرات وخلاصات تجارب فلسفية، تستبطن آلام الجسد والنفس وكيفية التعامل معها في الحالات التي يعيش فيها الإنسان نوعا من القهر كما يمكن أن نجده في: “عزاء الفلسفة” لـ«بوئتيوس»، أو “تأملاتي” لـ«مارك أوريل»، أو “الخواطر ” لـ«بليز باسكال»… إلخ. وتسمح هذه التمارين الروحية بالأخذ بزمام الأمور في الرخاء والشدّة معا دون إفراط ولا تفريط، فيتغلّب بها على ملل وضجر النفس من قنوطها، كما يسعى عبرها لخلق أجواء السعادة والسكينة وراحة البال وتحقيق الوئام مع الذات والعالم، بما يسمح له بالعيش بسلام مع إدراك أنّ الحياة قصيرة وأنّ وقت الحياة غير مؤكد[10].
فما يجعل الحياة العادية مهمة من الناحية الفلسفية هي أنّها لا تنكشف ولا تظهر إلاّ عبر رفع حُجب الجهل التي تغطي غرابته وأصالته[11]. هذا الإظهار للأشياء برفع «حجب إزيس» عنها، وهو ما يتأتى بالتحديد عبر ممارسة التمارين الفلسفية كنشاط فكري روحي يعيد للأشياء البسيطة والتافهة طابعها الغامض والعميق أيضًا. وهذا ما يجعل مفهوم التمارين الروحية مترابطًا مع مفهوم الحياة وبالأخص الحياة اليومية التي تتكشّف عبرها كلّ التوترات التي ينطوي عليها الوجود البشري. هذه الطريقة في رؤية الحياة العادية كمجال واقعي للمعيش الإنساني هو ما يُنيط بالفلسفة مهمّة استكشاف هذا المعيش اليومي عبر فعاليتها النقدية والمفهومية[12].
إنّ الحياة توليفة واقعية، إلاّ أنها تبقى غير متناهية، وهي في تحول دائم في الفعل والتفكير. لذا، فمفارقة حضورنا في هذا العالم هي ما يجعلنا لا نألف نمط عيش معين فيه، حتى نتخلى عن تجريب أيّ محاولة أخرى[13]. فهل يلزمنا التوقّف عن التفكير للعمل، فتصبح الحياة بذلك خفية؟ أم أنّه يلزم التوقف عن العمل للتفكير، فتتكشّف الحياة في ضوء هذا الموت المترتب عن عدم المشاركة فيها في ظلّ هذه الجائحة؟ وهل لنا بالخروج من هذه الازدواجية؟ هل نستطيع الكلام عن حياة يومية دون تحطيم شأنها كما الحال في هذه الجائحة؟ ما السبيل إلى إظهار الحياة دون أن تفقد جوهرها؟ هل من الممكن الاستمتاع بالحياة رغم قهر المرض وظروف الحجر الصحي؟
تثير هذه المسألة اهتمام بعض الفلاسفة بالحياة العادية وبتفاصيلها الدقيقة، غير أنّ شكوكًا أخرى قد تجعل المرء يعتقد بسهولة أنها لا يمكن أن تكون الموضوع الراهن للفلسفة. فالشروع في ممارسة التفلسف بصدد اليومي المعاش في ظلّ الجائحة هو مخاطرة بالتفكير في عدم الاستقرار والتحول والغموض لدى البعض، حيث تحدث فقط توليفات جزئية نتائجها لا يمكن أن تكون موضوعًا لتوليف كلي. إن عالم الحياة اليومية مجال لما هو غير متوقع، وبالتالي ليس قابلاً لأن يتلاءم مع مجموعة منهجية من الممارسات الخاضعة لانتظاميات ثابتة تحكم الفكر والمعرفة: فالحياة اليومية معرضة دائمًا إلى خطر المخالفات، مما يجعلها شكلًا من اللاتحديد. من هنا، سيكون التواجد المشترك الدائم وغير المحدود في هذه الحياة مصدر المفاجأة والتوتر الذي سيشكل نسيج الحياة اليومية، حيث يتشابك اليقين وعدم اليقين بشكل غير قابل للتحديد[14].
التفكير في الأشياء البسيطة بطريقة فلسفية من شأنه أن يؤسّس لمعناها الأصيل في حياة الناس هذه الأيام العصيبة. وفي هذه الحالة، سيكون كلّ شيء مهمًّا طالما نظرنا إليه عبر تمرين الاندهاش والإعجاب والتساؤل والشك والبحث عن معنى الأشياء حتى نستعيد أملنا في الحياة من جديد. إنّ ما يهم في ظلّ هذه الجائحة ليس هو بحث الأشياء الجديدة، وإنّما النظر إلى الأشياء الاعتيادية بكيفية جديدة، بحيث يمكن إنقاذ إرادتنا من تهديدات قلق الجائحة، وإماطة اللثام عن ذلك الجانب من الحقيقة الذي يختبئ وراء الأحكام القبلية الجاهزة عن الصحة والمرض. إنّ اليومي مليء بالحكمة المغمورة التي يتوجّب على الفلسفة كشفها وإظهارها حتى في ظلّ الجائحة القاهرة[15]. لكن، وفقًا لأية قاعدة يمكن لهذا المشروع أن يكون ممكنًا؟ وهل سيكون نمط التمرين الفلسفي الروحي الذي نقترحه في هذا السياق متاحًا لأيّ كان؟ ما الجانب الصحي العلاجي في تجربة هذا التمرين الفلسفي؟
إنّ امتلاك أيّ منّا لتفاصيل يومه في ظلّ الحجر الصحي أمر ليس بديهيًّا، ولا هو متاح للجميع، إلاّ إذا تمّ تحديد تلك التفاصيل التي يمكن اتباعها لتبديد القلق والخوف. فلذلك، قد يكون مغريًا التحدّث عن الأشياء اليومية البسيطة: الاستيقاظ والاستحمام والعناية بالمظهر، السفر والعمل والاستراحة، وعن جودة هذه الأشياء وكمالها الذي يخصّها؛ غير أنّ التفكير في هذه الأمور البسيطة في ظلّ هذه الجائحة يحتاج إلى تمرين روحي، وليس فقط لتدريب الحواس والملكات العقلية[16]. ومن شأن تكييف هذه التمارين مع ظروف الحجر الصحي، في زمن هذه الجائحة، أمرًا مفيدًا للكثير من الناس الذين لا يستطيعون تحمّل عزلتهم في بيوتهم.
من هنا تأتي أهمية التمارين الفلسفية التي من شأن ممارستها أن يحدث تحولًا وجوديًّا وخلقيًّا معنويًا في ذاتية الإنسان، بالتالي تجاوز حالات الضعف والمرض والهوان. إلاّ أنّه ينبغي أن لا تأخذ عبارة تمارين روحية على أنّها طقوس ثقافية، وإنّما فقط استنهاض لهمّة العقل كي يتولى مأمورية قيادة النفس والجسد نحو الأفعال والتصرفات المعتدلة والفاضلة، بدلًا من الاستسلام للهواجس والمخاوف والغرائز. يمكن التغلّب على ملل الحجر الصحي وقلق الخوف من عدوى هذه الجائحة، فقط، بجعل التمارين الفلسفية طريقة للعيش في منازلنا، وذلك بممارسة التأمل والقراءة والاستبطان، إلخ، كتجارب روحية تجعل التفكير في الحياة اليومية تمرينًا فلسفيًّا روحيًّا.
إنّ ربط الحياة بالتمرين الفلسفي من شأنه أن يجعل رسالة الأمل، كما في الفلسفة السقراطية، تكشف أنّ لدينا القدرة على شفاء أنفسنا. يمكننا أن نشكك في أفكارنا ونقرّر تغييرها متى امتلكنا القدرة على التفلسف، وهذا الأمر كذلك هو ما سيغير مشاعرنا. “كل واحد منا أكثر ثراءً مما يعتقد: لكننا مدربون على الاقتراض والتسول…”، يكتب مونتين، يعلمنا سقراط كيف نفكّر، وكيف نعثر على السلام الداخلي فينا، إنّه بهذا المعنى قد أنزل الفلسفة من السماء إلى العالم، من التفكير في الكوسموس إلى التفكير في النفس. كان هذا مضمون شعاره “اِعرف نفسك بنفسك”[17].
العيش بالفلسفة يعني حياة صافية، معتدلة، حذرة، واعية وخالية من الغرائز. لقد جعل الفلسفة نهجًا لتحسين الحياة عبر تدريب العقل على كيفية الوصول إلى الحكمة. كانت فلسفته نظامًا يهدف إلى مساعدة الإنسان على عيش الحياة بشكل أفضل. وهذه الحكمة هي ما سوف تطوره المدارس الفلسفية الثلاث الكبرى في العصور القديمة (الأبيقورية، الرواقية، الكلبية)، لتجعل من الفلسفة تمارين وأساليب عيش لأجل تحقيق حياة أفضل. لقد سلّط رواد تلك المدارس الضوء على كيفية ممارسة الفلسفة كتمارين روحية من شأنها خلق وئام يسمح للإنسان بالعيش بسلام مع إدراك أن الحياة قصيرة وأن زمنها غير مؤكد[18].
لقد عمل الفيلسوف نيتشه على ربط الفلسفة بالحياة اليومية في شتى تجلياتها الأخلاقية والجمالية، الصحية والغذائية والعلاجية. يقول: «قد يسألني سائل: لمَ الكلام عن هذه الأشياء الصغيرة والتافهة حسب الأحكام المعروفة؟ وسيُقال لي إنّني لا أفعل بهذا سوى الإساءة لنفسي، خاصّة وأنّني مؤهّل حسب رأيهم للانخراط في مهمات كبرى. وجوابي هو: إنّ هذه الأشياء الصغيرة من غذاء وأمكنة واستجمام، أي مجمل دقائق الولع بالذات، لهِيَ في كلّ الأحوال أهم من كلّ ما ظلّ إلى حدّ الآن يؤخذ على أنّه مهم. من هنا ينبغي إعادة المنهج»[19]. يظهر من هذا التصريح أنّه عندما تخدم الفلسفة القوى الحيوية في الإنسان، تكون في خدمة الحياة، حينها تكفّ عن أن تبقى مجرّد تجريد خالص لا يتصل بالواقع المعيش.
ترتبط الفلسفة بالحياة من خلال تناولها لقضايانا المعيشية، من هنا يمكن أن يكون المرض، أو الحجر الصحي، تجربة فلسفية عميقة، متى استطاع المرء أن يستكشف ذاته في عزلته. إنّها دعوة إلى عيش حياة أساسها الاهتمام والعناية بالذات وفقًا لتجربة فلسفية وجودية واعية بما يُطرح من تحدّيات. إن الحبس المفروض علينا هذه الأيام يعطينا درسًا في التواضع، بل ويدفعنا إلى استجواب أنفسنا، فيذكرنا بهشاشة وضعنا البشري. لكن هذا الانسحاب إلى الذات يجب ألا يعزلنا عن الآخرين، عن كبار السن والأطفال وباقي الكائنات البشرية المحتاجة للعون والمساعدة. لذلك، ينبغي لنا أن نحافظ على الرابطة الأخلاقية الأساسية التي توحدنا كبشر، حيث نستحق العيش بكرامة بعيدًا عن عزلة المرض والجائحة.
يعلم الجميع أنّنا نخفّف من ألم المرض وشرور الفواجع عندما نقدّم يد العون وندعم المحتاجين. من بين هذه الشرور، يبدو الملل والقنوط أخطرها، ولهذا السبب نحتاج في مثل هذه الجائحة إلى الخروج عن أنانيتنا والتعاون مع الآخرين بما يليق بحياتنا الإنسانية. بالمقابل، يمكن لمن يريد التوحّد مع ذاته أن يمارس هذا التمرين الفلسفي الروحي، لكن على أمل أن يخرج بطاقة إيجابية، ومن ثمّ يتعاون مع غيره، فيبادر إلى مساعدة الأخرين والتخفيف عن المحتاجين. لهذا، يجب أن نتعلم كيف نخلق الطاقة الإيجابية بالتمرين الفلسفي الروحي خلال الحجْر الصحي. يمكن ذلك عبر التأمّل و الترفيه ودراسة الأفكار العظيمة الإيجابية، والتأمل الجمالي والعبادة التي تملأ فراغنا الداخلي، وتجعلنا نتحمل العزلة. ليست الوحدة كلّها شرًّا، بل يمكن تحويلها إلى تجربة فلسفية روحية، تسير جنبًا إلى جنب مع محبة الحرية واستقلالية الحياة.
خاتمة
تدعونا الفلسفة في زمن الجائحة إلى التأمل والتمرين الروحي على فنّ العيش مهما كانت الصعوبات. والغاية من هذا التمرين الروحي ليس استعراض حِكَم الفلاسفة في فنّ العيش والحياة، بل تقوية هشاشة وضعنا البشري بما يجعله يتحمّل المرض والحجْر، إلخ. إنّنا نحتاج إلى التفلسف لا للتأمل في هشاشتنا فقط، ولكن للعودة إلى أعماق ذواتنا لعلّنا نتعرّف عليها من جديد. حقًّا، لن يزول قلق وجودنا أبدًا ما دمنا موجودين في هذه الحياة، غير أنّه من الحكمة تخفيفه ومواساة كينونتنا الهشة بالتمارين الفلسفية الروحية. فبدلاً من يستحكم الملل والقلق حياتنا في ظلّ الجائحة، سيكون من الحكمة معرفة طريق النجاة وتجاوز الأزمة بأقّل الأضرار الممكنة، ومواجهة الأمر المحتوم بكثير من الشجاعة والفضيلة.
* (Roger-Pol Droit)
[1] Roger-Pol Droit , “Le confinement est une expérience philosophique gigantesque” : Entretien avec Pierre Neveux, France culture, 30/03/2020; https://www.franceculture.fr/
**(Montaigne)
[2] – Xavier Pavie, L ‘apprentissage de soi: Exercices spirituels de Socrate à Foucault, éd Eyrolles, Paris, 2009, p. 59.
* (Pierre Hadot)
[3]–Mael Goarzin,Une philosophie sans discours est-elle possible? (Pierre Hadot) – Février 2015 ; publié 23 AVRIL 2015 · MIS À JOUR 21 DÉCEMBRE 2017 ; site web: https://biospraktikos.hypotheses.org/2015
[4]– Hadot Pierre, Exercices spirituelles, Edition Albin Michel, Paris, 2002, p.385
[5] – Michel Foucault , L’herméneutique du sujet. édition Seuil, Gallimard ; Paris, 2001, p.79.
** (Paul Valéry)
* (Nicolas Grimaldi)
[6] Nicolas Grimaldi, “Nous ne sommes pas accoutumés au recueillement”, Entretien avec Florence Sturm France culture ; 18/03/2020 (MIS À JOUR À 13:35) ; site web : https://www.franceculture.fr/societe/covid-19
** (Balaise Pascal)
[7]-Pierre Dulau, Thierry Formet, Martin Steffens, Une journée de philosophie, éditions ellipses, Paris, 2013, p7
[8]– Michel Foucault , L’herméneutique du sujet. édition Seuil, Gallimard ; Paris, 2001, p.79.
[9] – Hadot Pierre, Exercices spirituelles, Edition Albin Michel, Paris, 2002, p.385.
[10] – Xavier Pavie, Exercices Spirituels. Leçons de la philosophie antique, éd les belles lettre, Paris, 2012, pp. 78- 79.
[11] – Pierre Dulau, Thierry Formet, Martin Steffens, Une journée de philosophie : les grandes notions vues à travers le quotidien, éditions ellipses, Paris, 2013, p7.
[12]-DanieleLorenzini, La vie comme ”réel” de la philosophie. Cavell, Foucault, Hadot et les techniques de l’ordinaire, Variétés du perfectionnisme moral, Presses Universitaires de France, pp.469-487, 2010. halshs-00742693, p.474.
[13] – Ibid, p.8.
[14]– Pierre Macherey, « Le quotidien, objet philosophique ? », Articulo – Journal of UrbanResearch [Online], 1 | 2005, Online since 24 October 2005, connection on 04 May 2020.
URL : http://journals.openedition.org/articulo/871 ; DOI : https://doi.org/10.4000/articulo.871p.15.
[15] Pierre Dulau, Thierry Formet, Martin Steffens, Une journée de philosophie, op, cit , p.10.
[16] – Ibid, p.11.
[17] – Jules Evans, la philosophie c’est la vie, traduit de l’anglais par Emmanuelle Huguenot, édition Marabout, 2013, p21.
[18] – Xavier Pavie, Exercices Spirituels. Leçons de la philosophie antique, éd les belles lettre, Paris, 2012, pp. 78- 79.
[19]– Nietzsche, Ecce Homo, traduction Alexandre Vialatte, œuvres ouvertes, Mis en ligne le 25 janvier 2011, p.46.