السؤال الفوقي أو البعدي: توصيفه وسماته
السؤال الفوقي[1] هو سؤال حول سؤال. إنه تِسآل جَسور، لا يستثمر مدخراته الاستفهامية ومكتنزاته الفضولية في جواب معلّب مطمئن، بل في سؤال مفتوح قلِق. السؤال الفوقي هو فتّاح علب الأسئلة. إذ إنه يفتحها ويشسّعها عبر سؤال استكشافي تنقيبي خلاّق. وليس يفتح شيءُ شيئاً ما لم يكن الفتّاح أقوى من المفتوح، فالزجاج والخشب يفتحهما معدن (نوع)، والمعدن يفتحه معدن أصلب منه (نوع وكم). إنه – بتوصيف رياضي – سؤال من الدرجة الثانية، وهو بهذا يفترق عن سؤال الدرجة الأولى، وهو ذلك الذي يدور حول إجابة منشودة لسؤال مباشر عن معنى أو موضوع أو مسألة ما.
يتسم السؤال الفوقي بعدة سمات متداخلة متضافرة، ومن أهمها، أنه سؤال:
1- مُطوِّق. حيث يولَّد أسئلةً عديدة تحوط الظاهرة المبحوثة في كل أبعادها، فنحن مثلاً إزاء سؤال لماذا نكتب، لا نكتفي بسؤال اللماذا، بل نصل إلى أسئلة: الماذا والكيف والمَنْ والكمْ والأينَ والمتى. فمثلاً، هذا النص يشتغل -من جهة التطبيق العملي- على سؤال ” لماذا يكتب الكتَّاب لماذا يكتبون؟”، أي أن تركيزه سيكون على الدوافع المفتاحية “الجوانية” للسلوك الكتابي؛ عبر اكتشاف بواعث كتابة نصوص بعنوان: لماذا نكتب؟ من قِبل بعض الكتّاب. لنفترض أن نصاً ثانياً يُبنى على سؤال: الأين والمتى؟ ونصاً ثالثاً على سؤال الكيف، ونصاً رابعاً يتعارك مع سؤال المن، وهكذا، فإن هذا سيقودنا إلى نوع من المقاربات الجديدة التي تحوط سؤالنا البعدي، من زوايا العلية/السببية والمكان والزمان والأوضاع (الكيفيات) وأنماط الشخصيات والتفكير والكلفة والجهد والوقت ونحو ذلك.
2- مُفصِح. إذ يروم الكشف عن البِنية العميقة المُضمَرة، ويسعى جاهداً إلى أن يدفعها للانعطاء أو الظهور. هذه السمة تساعدنا على الكشف أو “فضح” ما نود إخفاءه أو تزيينه أو إرجاءه إلى حين لسبب أو لآخر. فمثلاً، لو كان سؤالنا الفوقي يلوذ بـ “لماذا”، فإن هذا يعني أننا سنعتني بالبواعث الذهنية والسيكولوجية والسيولوجية القابعة وراء السلوك الذي نحلله. هذه السمة تعيننا على بلورة البواعث التي قد تختفي أو تموّه في النص المؤسس للإجابة على السؤال من الدرجة الأولى.
3- مُنسِّق. حيث يربط المسائل المفكَّر فيها بنسق معين، بعد اكتشاف الأنساق السياقية المختبئة، وهذا على افتراض وجود أنساق ناجزة يمكننا القبض عليها، أو افتراض قدرتنا على اكتشافها من حيث الأصل أو من حيث البيانات المتاحة لنا في مغامرتنا التحليلية. هذه السمة تفيد في تصنيف الفئات التي نحللها وفق الأنساق التي تندرج تحتها، وربما يقود هذا التصنيف إلى تعميق مسارات التحليل للظاهرة المبحوثة أو إنارة بعض الزوايا المعتمة.
عتبات ثلاث للسؤال
إشارتنا السابقة إلى أن السؤال الفوقي هو من الدرجة الثانية، هل تشي بأن ثمة سؤالاً أرفع منه مرتبة؟ نعم. فثمة مستوى ثالث، ويتمثل في “ما فوق ما فوق السؤال” أو “ما بعد-ما بعد السؤال”. يصعب تصور ذلك دون مثال واضح. ولكي نربط التطبيق بالتنظير، فسيكون التطبيق عبر الأمثلة حول سؤال “لماذا يكتب الكتَّاب لماذا يكتبون؟”، طارحين ثلاثة نماذج من الأسئلة في ثلاث عتبات أو درجات، مع الرجاء بألا نحجر أو نضيّق تفكيرنا داخل حدود هذا التطبيق العملي، فهو مجرد مثال، لا أكثر.
سؤال الدرجة الأولى: لماذا نكتب؟ هذا سؤال مباشر يتوخى إجابة قاصدة، ولهذا نشاهد جملة من الكتّاب يندفعون لإعطاء الأسباب التي تغريهم على الكتابة. هذا السؤال ينطفئ سريعاً بالإجابة الممنوحة له. هذا السؤال لا يُعمَّرُ طويلاً، وإن عُمِّرَ ففي أسبال سمِلة في الغالب، تصبغ الأدبيات بمشاهد مكرورة.
سؤال الدرجة الثانية: كيف يكتب الكتّاب “لماذا نكتب”؟ هذا سؤال حول سؤال. ولهذا، فهو لا يهتم كثيراً بالمضمون ذاته الذي يقوله الكتّاب حيال الأسباب الدافعة لهم للكتابة، وإنما يتوجه إلى الكيفية أو لنقل المنهجية التي يقاربون بها الجواب على سؤال “لماذا نكتب”. إذ قد نكتشف أن بعض الكتّاب يعنصرون الأسباب ويسلسلونها في بضعة أسباب محددة وربما منطقية أو منهجية، وبعضهم الآخر يلوذ بقالب سردي منظم أو عشوائي. قد نجد أن بعضهم يروم أن تكون إجابته شاملة أو مقنعة، في حين لا يهتم آخرون بذلك، أو أنهم يُظهرون أنهم لا يهتمون بذلك، بتحذلق واضح أو خفي. ربما يجتهد البعض في أن تكون إجابته خلاّقة جديدة في فكرتها أو أسلوبها أو لغتها، وقد لا يحفل آخرون بمثل ذلك لسبب أو لآخر.
سؤال الدرجة الثالثة. كيف ندرس أو نقارب كيفية كتابة الكتّاب “لماذا نكتب”؟ هذا سؤال حول سؤال حول سؤال، أو لنقل سؤال فوق فوق سؤال (أو بعد بعد سؤال). إنه سؤال حول منهج. أي أنه يختص بالمفاهيم والمناهج التي يشتغل بها وعليها المشتغلون بالأسئلة من الدرجة الثانية. وحدهم، مفكرو المستوى الثالث[2] هم الذين يطيقون الاشتغال على هذه الأسئلة، إذ إنهم يمتلكون قدرات عالية في بلورة مفاهيم جديدة أو استدعاء أو تجديد مفاهيم قديمة وإعادة تأثيثها بما يجلعها مناسبة لهذا اللون من العمل التحليلي والفكري، كما أنهم يمتلكون قدرات ومهارات كبيرة في ابتداع مناهج للتحليل والدراسة والمقاربة. باختصار، هولاء المفكرون هم الذين يمولون أصحابهم في الدرجة الثانية بما يحتاجونه من مفاهيم ومناهج. أنهم صانعو مفاهيم ومطورو مناهج ومسوقو مقاربات.
أليس ثمة عتبة رابعة؟ بلى هناك. ولكنها ستقودنا إلى تحليلات ذات طابع أنطولوجي و إبستمولوجي معقد، مما يجعلنا نكتفي بهذه العتبات الثلاث، لنتحول بعدها إلى الجانب التطبيقي في هذا النص. هذا الجانب اخترنا له أن يكون بسؤال اللماذا حول سؤال لماذا نكتب. وهذه الممارسة التطبيقية لا تدعي البتة أي لون من المعالجات المعمقة التفصيلية لهذه المسألة، فالهدف ليس هو مضمون معالجتنا، وإنما إطارها التطبيقي الذي يجهد لأن يكمّل ويوضّح قدر الإمكان التنظير الأولي الذي صدّرنا به هذا النص الصغير.
بحثاً في “لماذا لماذا يكتبون؟”
بعد اجتياز الكاتب مراحل كتابية عديدة، وبلوغه نضجاً كتابياً متوسطاً أو متقدماً، نجده يبوح بالأسباب التي تدعوه للكتابة أو ببعضهاوأو ، سواء أكان ذلك البوح باستكتاب خارجي من قبل ناشر أو مجلة أو ما شابه ذلك، أو باستكتاب ذاتي يبادر له الكاتب من تلقاء نفسه، ويخلق له فرصة مواتية للنشر والذيوع.
لقد فتَّش مئاتُ الكتّاب عن الأسباب الدافعة للكتابة، وربما تكلفوها، ونقشوها في نصوص كثيرة جداً. صحيح، أن بعضهم يفلح في تأديتها بقوالب لغوية متنوعة، ومقاربات أسلوبية بديعة، وأمثلة ظريفة، على أن بعض الكتّاب يصرح بأن المزاج يلعب دوراً كبيراً في تنويع الإجابات بين الحين والآخر[3]، إلا أنها في نهاية مطافها لا تخرج عن قائمة محدودة من الأسباب. وهنا، يتخلق سؤال: لماذا يكتب الكتّاب لماذا يكتبون؟
من الواضح أن هذا السؤال يتضمن “لماذا” مرتين، لا مرة واحدة كما هو المعتاد. هذا يعني أنه يلتمس صلابة أكبر ليكون قادراً على فتح “علبة سؤال الدرجة الأولى”. إنه يصعد بتحليلنا درجة أعلى، ويقرّبنا من تخوم قد تكون جديدة أو تقود إلى جديد.
لقد قرأت عشرات النصوص التي كتبها كتّاب عرب وأجانب للإجابة عن سؤال لماذا نكتب؟ وقبل الخوص في مقاربتي الأولية -التي هي أشبه بالتمرين التطبيقي على فكرة السؤال الفوقي لا أكثر- لتحليل سؤال لماذا نكتب لماذا نكتب، تجدر الإشارة إلى أن ثمة نصوصاً عديدة تسعى إلى الإجابة عن سؤال “كيف نكتب”، أي عن الصنعة الكتابية وتقنياتها وأسرارها ونحو ذلك، إلا إنها من حيث عددها هي دون النصوص الدائرة حول سؤال “لماذا نكتب”.
الكثير من نصوص “كيف نكتب” لم تُكتب من قبل الكتّاب أنفسهم[4]، وإنما من لدن كتّاب آخرين، في محاولة منهم للإيقاع بطريقة هذا الروائي أو ذاك الكاتب في المصيدة المنهجية للكتابة. ولا تخلو هذه الكتابة من زاوية معينة من الجانب الاستعراضي للكاتب المحلل، حيث يروم إبراز قدراته على اكتشاف طرائق الكتابة ومَنْهَجَتها بقالب أو آخر، ويغلب على هولاء كونهم من العاملين في الحقل الأدبي “الأكاديمي”، مثل كتابة “ديناه بريتش” أستاذة الأدب الإنجليزي في جامعة ليفربول عن الروائي الاسكتلندي الشهير “آرثر كونان دويل” في أعماله عن المحقق “شرلوك هولمز”[5]، وكتابة “إيلان ستافانز” عن “غابرييل غارسيا ماركيز” في خالدته “مائة عام من العزلة”، حيث يعمل إيلان أستاذاَ للثقافة الأمريكية اللاتينية في كلية أمهيرست[6].
إن السؤال الذي طرحه الفذ “جورج أوريول” في مقالته الذائعة “لماذا أكتب” المنشورة عام 1946 في مجلة [7]Gangrel هو نوع أصيل من الأسئلة الفوقية، حيث حلل بعمق واقتصاب جملة من الدوافع الكامنة لما وراء الكتابة. ومع أهمية هذه المحاولة التحليلية، إلا أنها تبقى مجرد محاولة يسعنا تجاوزها. والتجاوز لا يعني البتة إهدارها وإنما البناء عليها واجتيازها إلى مراحل أخرى.
السؤال الفوقي يحتاج منا البحث عن كلمة فوقية أو أكثر. هذه الكلمة الفوقية هي فوق الإجابة المباشرة. إنها الكلمة السحرية التي تحل لغز السؤال الفوقي. بعد تحليلي لهذه النصوص في سياق “سؤالنا الفوقي”: لماذا نكتب لماذا نكتب، خلصتُ إلى أن هذه الأسباب -بالجملة- يمكن تكويمها حول كلمة فوقية “سحرية” للكتابة تتجسد في “المشروعية”. إن الكتابة ليست سوى مشروعية. وهذه المشروعية تنشطر إلى نوعين محوريين: مشروعية الكاتب ومشروعية المكتوب[8]. أسباب كتابة لماذا نكتب يمكن حشوها في عدة سلال كبيرة، إلا أنني سأضع أمام القارئ ستاً منها فقط، وذلك بقالب تحليلي مختصر، على أن الاندراج بعضٍ من هذه السلال يعتمد بدرجة كبيرة على نوع الكتابة وغرضها ومجالها، بجانب سمات الكاتب وأوضاعه والجوانب السياقية الأخرى. هذا التحليل وإن كان منطوياً على نظرات نقدية، إلا إنه لا يحمل تصنيفاً سيئاً للنوايا أو التصرفات التي تقف وراء كتابة لماذا يكتبون، وإنما هو توصيف محايد، والجوانب السلبية مقترنة بالبواعث والسلوكيات الصادرة من الكتّاب أنفسهم في الحالات الكتابية التطبيقية، ولا شأن لي بها البتة، لا من قريب ولا من بعيد.
السلة الأولى: “أنا كاتب مهم”
هذه سلة “مشروعية الكاتب“، فلستَ ترى داخلها، وإن أطلت التحديق فيها سِواه. هي سلة نفسية بامتياز، وهي السلة الأكبر والأحوى، إذ يمكن للسلال الأخرى أن تُحشَر أو أن تَنحشر داخلها في نهاية مطافنا التحليلي أو الكتابي[9]. ويدخل فيها ما عبر عنه أوريول ببراعة بالقول “الرغبة في أن تبدو ذكياً، أن يتم الحديث عنك، أن تُذكر بعد الموت”[10]، أو كما يضعها “موريس بلانشو” بهذه اللقطة الرئعة: “سيرة الكاتب: توفي، عاش ومات”[11]. إذن، الدافع الأكبر الضمني في لماذا نكتب لماذا نكتب إنما هو لتحقيق أعلى درجة ممكنة من الإشباع النفسي الجواني في “تقدير الذات” Self-Esteem؛ في محاولة لتجذير “احترام الذات” Self-Respect المحيلة على المكانة البرانية في المجتمع، بما يجعله مستحقاً لـ “الخلود”. ويختلف الكتّاب في كيفية ومهارة إضمار هذا الدافع وإخفائه وجعله عصيّاً عن التقاط القراءة العابرة. وربما تنوعت أنماط الإضمار بحسب كون الكاتب: مشهوراً أو مغموراً أو “مشموراً” (نحتاً من مشهور/مغمور: بين بين).
السلة الثانية: “أنا أقرأ كثيراً ”
هذه سلة “مشروعية المكتوب“. إنها سلة نفسية بالدرجة الأولى، وتشتغل على تأسيس المشروعية للكتابة التي انتظم فيها الكاتب لفترات زمنية قصيرة أو طويلة. يشك الكاتب أحياناً في أن القراء أو بعضهم غير مقتنع بأحقيته في الكتابة، بسبب قلة المقروء (كماً) أو ضحالته (نوعاً) أو ضيقه (تخصصاً)، مما يدفعه إلى أن يبين بشكل سافر أو خفي عن ذخائره في القراءة، ويحرص كثيرون إذ ذاك على استجرار سنوات الطفولة الأولى، وما حملته من قراءات مبكرة، وقد يفاجئك بعضهم بأفكار “إبداعية” مبكرة. ومن هذا القبيل ما يفصح عنه المؤرخ الأكاديمي السعودي عبدالله العسكر، إذ يقول: ” وأكتب لأنني وجدت نفسي مثل بركة الماء امتلأت بالماء العذب، ففاضت جوانبها. لقد مرت سنون لا أحصيها أقرأ كثيراً في علوم ومعارف شتى، ثم وجدت نفسي مليئة كبركة ماء، ولابد أن تفيض جوانبها، فاخترت جريدة سيارة أسكب فيها إضاءات بينات فاضت بها نفسي”[12].
السلة الثالثة: “أنا متيم باللغة”
هذه سلة “مشروعية المكتوب به“. إنها سلة لغوية نفسية، حيث يعبر الكاتب فيها عن تملُّك اللغة له، مجسداً حالة من التماهي الكبير معها، وكيف أنه يعيش الحياة فيها وبها، وهنا نستذكر ما سطرته “إيزابيل الليندي” حيالها، حيث تقول: “إن اللغة مسألة جوهرية إلى الكاتب، فهي شيء شخصي كالدم. أنا أعيش في كاليفورنيا بالإنجليزية، لكنني لا أستطيع أن أكتب بغير الإسبانية. في الحقيقة، كل الأشياء الأساسية في حياتي تحدث في الإسبانية، بدءاً من توبيخ أحفادي، وصولاً إلى الطهي وممارسة الحب”، مصورة الكتابة بوصفها علاجاً[13]، وفي هذا نستذكر “كافكا” الذي يقرر بأنه إن لم يكتب فسيُجنُّ[14]، و”عبدالرحمن منيف” أيضاً حيث يقول: “الكتابة في بعض الأحيان ليست اختياراً، وإنما أقرب إلى المرض أو هاجس المرض”، مستصعباً الاشتغال بالكتابة بوصفها حرفة لكونها غالباً غير مجدية[15]. وفي هذه السلة خيط يربطها بـ “سلة أنا مهم”، حيث يروم الكاتب أيضاً عبرها إظهار قدراته اللغوية الفذة، سواء من جهة الأسلوب أو الدلالات أو الحبكة. وداخل هذه السلة سلال صغيرة، ومن بينها “سلة أكتب لكي أعلمكم الكتابة”.وقد يقترف بعض الكتّاب كذباً ممجوجاً من أجل تمرير خدعة أنهم إنما يكتبون لأنفسهم فقط، ويجلي هذه الكذبة أمبرتو إيكو قائلاً: “فما يكتبه كاتب لنفسه هو فقط لائحة المشتريات، التي يلقي بها أرضاً بعد شراء أغراضه”[16].
السلة الرابعة: “أنا حلَّال ألغاز”
هذه سلة “مشروعية المكتوب عنه“. عبر هذه السلة تطل علينا الذهنية المفككة للغموض والمفتتة للتعقيد والمتعاركة مع الإشكاليات والمشتتة للسطحية. تطرح نفسها على أنها ذهنية “عالية ظافرة”، إذ إنها تعلو غيرها، وتظفر بـ “حل اللغز” لمسألة ينشطون بإيضاح أهميتها إن اقتضى الأمر ذلك. يغلب على المندرجين في هذه السلة الانتماء للذهنية المُمَنهَجَة، التي تؤمن بأن ثمة منهجية توصل إلى شفرات للألغاز المطلوب حلها. في هذه السلة، نجد مثلاً “ميلان كونديرا” صائحاً بأن الكتّاب الكبار إنما يضعون الرواية “على سكة اكتشاف حياة الإنسان الباطنية”، ماضياً إلى الإجابة عن سؤال طُرح عليه مفاده أن نصوصه تتهيأ كثيراً للتعارك مع “لغز الوجود”، حيث يقول ما نصه: “ينعت هيدجر الوجود بهذه الصيغة الشهيرة in-der-Welt-sein (الوجود-في-العالم). يرتبط الإنسان بالعالَم لا مثل ارتباط الذات بالموضوع، ولا مثل ارتباط العين باللوحة، ولا حتى اترباط ممثل بديكور مشهد. إن الإنسان والعالَم مرتبطان ارتباط الحلزون بصدفته، فالعالَم جزء من الإنسان. إنه بُعدُ الإنسان، وبقدر ما يتغير العالَم، يتغير الوجود أيضاً”، مع عدم اكتراثه كثيراً للسلة اللغوية، فهو لا يولي “موسيقى الأسلوب” أهمية في ذاتها، مستشهداً بالتكرار الموجود في نصوص إرنست همنغواي [17]. هل يعني هذا أن النص ميزان كفتين، كف عمقه، وكف آخر أسلوبه؟!
السلة الخامسة: “أنا مكترث بمجتمعي”
هذه سلة “مشروعية المكتوب له“. إنها سلة مجتمعية، فعبرها يصور الكاتب أنه إنما يكتب للدفاع عن الحقوق وضمان العدالة وتأمين حياة أفضل للناس. هذا الدافع عادة ما يجعله الكتّاب الحذَّاق مضمراً إلى درجة كبيرة، حتى لا يبدو فجاً في نظر القراء. ومن ذلك أن “إيزابيل الليندي” حين تتغيا إخبارنا لماذا أصبحت كاتبة، فهي تهمس قائلة: “تكاد حياتي تتمحور حول الوجع والفقد والحب والذاكرة”[18]. وأما الكتّاب “العقائديون” (الحاملون والمسوقون لأيديولوجية ما) فيمتازون بنزعة رسالية صريحة حيال الاكتراث بالمجتمع وصيانة حقوقه، ومن ذلك مثلاً ما يقرره “عبدالرحمن منيف” حيال سبب الكتابة، إذ هو يقول: “لا أكتب ما حصل وانتهى، ولكنني أعيد تشكيل الحياة، مشيراً إلى أن الكاتب يتوسل بأدوات فعالة للتعبير والتغيير ومن بينها الرواية، ولافتاً الأنظار إلى فرضية أن الكاتب سيكون بإمكانه “ترتيب فوضى العالم، وخلق نوع من المنطق والانسجام فيه”[19].
السلة السادسة: “أنا أخالف السائد”
هذه سلة “مشروعية مختلطة“، وذلك أنها تحوي النفسي اللغوي المجتمعي. في جوف كل كاتب يقبع “متمرد”، كبيراً كان أم صغيراً. ويحدث هذا التمرد تارة على السائد اللغوي أو الكتابي وتارة أخرى على السائد المجتمعي. وتكمن قيمة التمرد نفسياً في كونه المشعر للكاتب بالإبداع أو بالحرية أو بهما معاً. مع وجود أقدار من التمرد في الكتابة، قد يشعر كاتب بأن كثيرين لم ينتبهوا بعدُ إلى هذا “التمرد”، أو لم يقدروه حق قدره، مما يجعله يلجأ إلى الإبانة الصريحة عنه، حينما يكتب: لماذا أكتب؟. فهاهي الروائية المصرية “آمال الشاذلي” تلوذ بالسؤال جواباً، فتقول صراحة: “هل أكتب لأمارس تمرُّدي على الورق، بعد أن أخفقت في ممارسته في الواقع؟ هل أكتب لأصرخ كما يحلو لي دون أن يكتم أحدُ صراخي، أو أتلقى اللوم على فعلتي؟”[20]. وفي مسار مشابه، وبقالب شاعري، يجيب “نزار قباني” عن سؤال: لماذا أكتب بـ :
أكتب..
كي أفجر الأشياء،
والكتابة انفجار
أكتب..
كي ينتصر الضوء على العتمة،
والقصيدة انتصار..
أكتب..
كي تقرأني سنابل القمح،
وكي تقرأني الأشجار
كي تفهمني الوردة، والنجمة، والعصفور،
والقطة، والأسماك، والأصداف، والمحار..
أكتب..
حتى أنقذ العالم من أضراس هولاكو.
ومن حكم الميليشيات،
ومن جنون قائد العصابه.
هذه ممارسة تنظيرية تحليلية سريعة حيال السؤال الفوقي أو البعدي، وهو جدير بمراكمة المحاولات لإنضاج أبعاده المفاهيمية والتطبيقية، حيث يسعه أن يثقب بِنية الأجوبة المتكسلِّة، التي ران عليها الجمود لفترات طويلة. السؤال الفوقي هو إقبار للجواب وإنبات للسؤال، المفضي للعمق والاكتشاف والشساعة. لكم أن تجربوا طرح أسئلة فوقية حيال مسائل أعتدتم على تحليلها بمناظير الأسئلة الاعتيادية. تسلَّقوا أذهانَكم بأسئلة فوقية، لتعاينوا غابةَ الإجاباتِ العميقةِ الجديدة.
[1] يقابل هذا السؤال -في بعض جوانبه التي نبلورها هنا- في الأدبيات ما يعرف بـ Meta-Question. كلمة ميتا Meta بالإنجليزية لها معان عدة ومنها : بعد، ما وراء، أكثر تنظيماً، أكثر شمولية، متجاوز أو متعال، تحول، ثنائي أو متعدد المواقف أو متضمن للبدائل. انظر: https://www.merriam-webster.com/dictionary/meta . لم أقف على ترجمة عربية جيدة لـ ميتا-سؤال. للوهلة الأولى، تبدو كلمتا المتجاوز والمتعالي مناسبتين، ولكنهما يحيلان إلى المكون الفلسفي، مما يجعل من الصعوبة بمكان التورط بأي منهما، فنحن لا نروم بالضرورة الحمولة الفلسفية (الأنطولوجية أو الإبستمولوجية). ولهذا رأيت استخدام مفهوم السؤال الفوقي أو البعدي. وستلاحظون أننا سنفعّل جملة من المعاني السابقة في أجزاء عديدة من هذا النص. وتُستخدَم كلمة Meta كثيراً كـ “بادئة” لتأمين أحد هذه المعاني. ومن المصطلحات الشهيرة : Meta-analysis والذي يعني الدراسة المقارِنة لنتائج مجموعة من الأبحاث في مجال معين للخلوص إلى استنتاجات حيالها، وتحديد مدى تشكّل أنماط Pattern من النتائج ومدى تراكميتها ونحو ذلك. انظر: Peter Stratton and Nicky Hayes, A Student’s Dictionary of Psychology (London: Edward Arnold, 1993), p. 115. . ومن أهم استخداماتها التي تعنينا فيما يخص مسألتنا الأساسية ما نجده -على سبيل المثال- في مصطلح Metapsychology ، حيث يشير إلى دراسة الأسئلة المفاهيمية السيكولوجية التأسيسية . انظر: Andrew Colman, Oxford Dictionary of Psychology (Oxford: Oxford University Press, 2015), p. 457. .
[2] للمزيد حول مفكري المستوى الثالث ونظرائهم مفكري المستويين الأول والثاني، انظر: عبدالله البريدي (2011)، أسرار الهندسة الاجتماعية (الرياض: المجلة العربية)، ص 255-292.
[3] أمبرتو إيكو، اعترافات روائي ناشيء، ترجمة: سعيد بنكراد (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2014)، ص 23-23.
[4] هناك نصوص حول كيفية الكتابة لكتّاب مشهورين، أمثال: “أمبرتو إيكو” في كتابه السابق (اعترافات روائي ناشيء)، وتأملات في السرد الروائي، ترجمة: سعيد بنكراد (الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2015)، و”أورهان باموك” في: “الروائي الساذج والحساس“، ترجمة: ميادة خليل (بغداد: منشورات الجمل، 2015). ونلاحظ أن مثل هذه النصوص لا تخلو في أغلب الحالات عن إجابات لسؤال لماذا نكتب، وفي هذا تجذير لأهمية هذا السؤال، وكأنه بذلك يخلق لنفسه مرجعية عنيدة للأسئلة الفوقية الأخرى، ومنها كيف نكتب، ومتى نكتب، وأين نكتب، وكم نكتب وغيرها.
[5] مجموعة مؤلفين، كيف كانوا يكتبون؟، ترجمة: عادل العامل (بغداد: دار الكتب العلمية، 2018)، ص 81-93.
[6] السابق، ص 193-200.
[7] طالع هذه المقالة في: جورج أوريول، لماذا أكتب، ترجمة: علي مدن (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2013)، ص 205-217.
[8] في موضع آخر، تحدثت بقدر من التفصيل عن عدة أنواع لمشروعية الكاتب ومشروعية المكتوب، حيث تطرقت إلى 13 نوعاً للمشروعية. انظر: عبدالله البريدي، نحو دراسة الشخصية المحلية- إطار منهجي تطبيقي على الشخصية القصيمية السعودية (بيروت: الانتشار العربي، 2019)، ص 115-135.
[9] في هذه الجملة، مايزنا بين مطافنا “التحليلي” و”الكتابي”. بدلالة رمزية خاطفة، أشير إلى أن “تُحشَر” تؤشر على عمل المحلل، حيث يدرجها في السلة السيكولوجية وفق معايير تحليلية، و”تنحشر” تؤشر على الدافعية القارة في وجدان الكاتب نفسه، حيث يمكن أن تسقط كل الدوافع في قاع هذه السلة إن هو رام تكويمها في سلة واحدة.
[10] أوريول، لماذا أكتب، ص 208.
[11] موريس بلانشو، كتابة الفاجعة، ترجمة: عز الدين الشنتوف (الدار البيضاء: توبقال، 2018)، ص 82.
[12] د. عبدالله العسكر، لماذا أكتب، صحيفة الرياض السعودية، 6-6-2012:
http://www.alriyadh.com/741956
[13] عبدالله الزماي، حياة الكتابة (تونس: مسكيلياني، 2018)ص 45، 57.
[14] بلانشو، كتابة الفاجعة، ص 89.
[15] عبدالرحمن منيف، الكاتب والمنفى (بيروت: دار الفكر الجديد، 1992)، ص 182.
[16] إيكو، اعترافات روائي ناشيء، ص 43.
[17] ميلان كونديرا، فن الرواية، ترجمة: خالد بلقاسم (الدار البيضاء: 2017)، ص 33، 44، 164.
[18] الزماي، حياة الكتابة السابق ص 45.
[19] منيف، الكاتب والمنفى، ص 158، 163، 182.
[20] آمال الشاذلي تتساءل: لماذا أكتب؟، ميدل إيست أون لاين، 2019/05/18:
https://middle-east-online.com/آمال-الشاذلي-تتساءل-لماذا-أكتب؟