يستحق أن تقارب فلسفة جورجياس من حيثية سجالها مع البرمنيدية ؛ وذلك لأنَّنا نلحظ مما تبقى من نصه “في اللاوجود أو الطبيعة” انغماسًا عن اقتدار في الجدل الفكري ضدًا على أهم نزعة فلسفية متداولة في زمنه، أي: الأنطلوجيا الإيلية. أجل، يبدو لنا من الدوال المستعملة في ما تبقى لنا من مكتوبات جورجياس والصيغ المنهجية التي اصطنعها في اختبار مقولة الوجود، أنَّه كان منشغلًا جدًّا بمناهضة المقول البرمنيدي؛ وهو ما يؤكد صدقية ذلك التوصيف الذي وصف به سكستوس أمبيريقوس كتابه “في اللاوجود” بأنَّه خَطَّه كرد على نظرية ميليسوس. وإن كنَّا من جهتنا نرى جواز توسعة ماصدق النقد ليشمل الفلسفة الإيلية في قوامها النظري الكلي وليس فقط في نموذجها المتأخر، أي ميليسوس.
أجل، إنَّ نقد جورجياس لفكرة الامتداد اللانهائي هو استحضار لميليسوس بالتخصيص. ولكن مع ذلك، فإنَّ في بقية استدلالاته نقدًا صريحًا لـ”إيون” إيليا، وما حضور ميلسوس سوى أنَّه مآل للتطوير النظري لمفهوم الوجود البرمينيدي بجعله لانهائيًا من حيث الامتداد. وهو الوجود الذي سيفقد، حسب جورجياس، ليس فقط بسبب لانهائيته تلك([1]) إمكانية الموجودية؛ بل أيضًا بسبب وسومات أخرى حرص الإيليون على وسم الوجود بها.
وبهذا نفسر سرَّ جمع تلك الأسماء الثلاثة لتشكيل عنوان الكتاب المنحول إلى أرسطو، أي “ميلسوس، كزينوفان، جورجياس”، بالقول بأنَّه ترتيب مقصود من المؤلف. إذ نلحظ أنَّ صائغ العنوان وضع كزوينوفان بعد ميليسوس؛ مما يسمح لنا بأن نستنتج بأنَّه لا يريد الترتيب الزمني بل يقصد ترتيبًا فلسفيًا خاصًا، راجعًا إلى مطلبه وهو دراسة المنتهى النظري للفكر الإيلي. أي إنَّ سرَّ تموضع كزينوفان بعد ميليسوس، لا قبله كما يقتضي الترتيب الزمني، راجعٌ إلى فهم خاص من قبل مؤلف “الكتاب المنحول” لفكر كزينوفان بوصفه من تعيَّن عنده الوجود الضروري الإيلي في مقامه كإله، وعليه ساغ له أن يعيِّن مقام كزينوفان في التفلسف الإيلي بغير لحاظ الزمن، بل وفق درجة التجريد النظري لمفهوم الواحد.
أما إيراد جورجياس في المتن، فيحتمل أنَّه آتٍ من اقتناع الكاتب بأنَّ نظرية السوفسطائي هي نقد مباشر للأنطولوجيا الإيلية، أي تسفيه نظرية الوجود الضروري. وأنَّ هذا النقد هو مجرد دفع للنظرية الإيلية نحو منتهاها الذي يستلزمه منطقها في التفكير.
ثم إنَّ موضعة جورجياس كمناهض للإيلية، ليست لحاظًا معرفيًا مقدمًا من قبل أمبيريقوس أو من قبل مؤلف الكتاب المنحول فقط، بل هي ملحوظة تم التعبير عنها قديمًا في المتنين الأفلاطوني والأرسطي. لكن استثمارها لم يتحقق في التقليد الفلسفي القديم؛ فلا أفلاطون، ولا حتى أرسطو، نظر إلى هذه العلاقة النقدية بما تفرضه من مقتضيات منهجية لفهم دلالة النفي الجورجياسي للوجود. بل يصح لنا أن نقول بأنَّ من بين أسباب الفهم “الخاطئ”([2]) لهذا النفي هو عدم استحضار تلك العلاقة النقدية، حيث تم تأويله كنفي للوجود بإطلاق لا كنفي للوجود الإيلي بالحصر والتحديد.
لذا نرى من الضروري استحضار تلك العلاقة لتأسيس فهم الأطروحة الفلسفية لجورجياس. وهو ما سننتهجه في ما يلي من سطور، حيث سنتتبع مستويات تلك العلاقة النقدية، بادئين بلحظة التفكيك التي أجراها جورجياس على التوحيد الإيلي.
1 – في تفكيك جورجياس للثلاثية الإيلية (وجود، فكر، لغة):
تستلزم دراسة الفكر الجورجياسي استحضار موجز نصه الفلسفي “في اللاوجود”، الذي حظي بمختصرين “مختلفين”([3]) هما: مختصر وارد في ذلك الكتاب المنحول إلى أرسطو، موسوم بعنوان ثلاثي (ميليسوس، كزينوفان، جورجياس)؛ والمختصر الثاني هو ذاك الذي أنجزه الفيلسوف الشكاك سكستوس أمبيريقوس في متنه “ضد الرياضيين”([4]). كما قلنا أيضًا بأنَّ هذا المختصر الأخير هو الذي حظي بالاعتماد والشرح. وحتى في الكتابات العربية المعاصرة التي أرخت للفلسفة اليونانية، نلقى حضور مقتطفات من موجز أمبيريقوس ولا نلقى إحالات على النص المنحول إلى أرسطو، رغم أنَّه سبق أن ترجم ترجمة كاملة كملحق على كتاب أرسطو “الكون والفساد”([5]).
وفي قراءتنا للفلسفة الجورجياسية سنحاول الاعتماد على النصين معًا، مع الإشارة إلى بعض الفروقات الموجودة بينهما.
2- نفي موجودية الوجود:
بدا جورجياس حريصًا على هدم التماسك النظري المزعوم في أطاريح الإيليين، بخلخلته من الداخل، حيث نراه يقلب النظرية البرمنيدية نافيًا موجودية وجودها، مستعملًا الطريقة ذاتها التي توسلها برمنيد لتسفيه اللاوجود.
لنتأمل استدلاله أولًا على نحو ما أوجزه سكستوس أمبريقوس:
“1- لا يوجد شيء.
- لا يوجد اللاوجود.
- لا يوجد الوجود كشيء أزلي أو مخلوق، أو أزلي ومخلوق أو واحد أو كثير.
- لا يوجد مزيج من الوجود واللاوجود”([6]).
أما عن استدلاله على أن لا وجود لشيء فيرتكز على اختبار ثلاثة احتمالات، هي إما أن يكون:
- وجودًا.
- أو لاوجودًا.
- أو وجودًا ولاوجودًا معًا.
أما عن ترتيب الاختبار فيبدأ بنفي الاحتمالين الثاني والثالث، فيقول:
“لا يمكن أن يكون لاموجودًا؛ لأنَّ اللاوجود غير موجود. إذ لو وجد لكان في الوقت نفسه موجودًا ولاموجودًا، وهذا مستحيل”([7]).
ثم يعود إلى الاحتمال الأول الذي تبقى من الإبطال السابق، أي أن يكون الشيء موجودًا، فيبطله هكذا:
“ولا يمكن أن يكون موجودًا؛ لأنَّ الوجود غير موجود، إذ لو كان موجودًا فيجب إما أن يكون أزليًا أو مخلوقًا، أو هما معًا”([8]).
أي إنَّ نفي موجودية الوجود قائم على بطلان جميع احتمالاته التي تؤول بالعد والإحصاء إلى ثلاثة هي:
إما أنَّه موجود منذ الأزل، أو حادث، أو أنَّه يجمع بين الأزلية والحدوث.
فكيف نفى جورجياس عن الوجود صفة الأزلية؟
هنا نلحظه يستند على جدلية زينون لصياغة نقد مفهوم اللانهاية الذي نسبه ميليسوس إلى الوجود. وقد بيَّنَّا في كتابنا “كزينوفان والفلسفة الإيلية” ([9]) كيف أسقط زينون أطروحة خصيم فكرة الوحدة والثبات في مفارقتين اثنيتن هما:
- احتواء المتناهي على اللاتناهي، من حيثية مقولة الكم.
- ولاتناهي الحاجة إلى المكان لحمل المكان.
ومهارة جورجياس هي أنَّه استوعب جيدًا درس زينون([10])، ثم التقطه بذكاء لينقض به نظرية لاتناهي الامتداد الميليسوسية. حيث ألزم ميليسوس باستحالة موجودية اللانهائي من حيثية استحالة الحمل المكاني. نقرأ في الشذرة (ب3) من موجز أمبيرقوس:
“ولا يمكن أن يكون أزليًا؛ إذ لو كان كذلك، فلا أول له، وما لا أول له فغير موجود. وما لا حد له فليس له مكان، إذ لو كان له مكان لوجب أن يُحوى في شيء آخر، فلا يصبح بذلك غير محدود؛ لأنَّ الذي يحوي أكبر مما يُحوى، ولا شيء أكبر من اللامحدود. ولا يمكن أن يحوي نفسه، وإلا لكان المحوى والمحوي شيئًا واحدًا، ويصبح الموجود شيئيين، أي المكان والجرم، وهذا باطل. فإذا كان الموجود أزليًا كان لامحدودًا، وإذا كان لا محدودًا فلا مكان له، وإذا لم يكن له مكان فهو غير موجود”([11]).
تلك كانت صيغة الاستدلال في نص أمبريقوس، أما صيغته في النص المنحول فهي:
“إنْ يوجد من شيء فإما أن يكون هذا الشيء لامخلوقًا، وإما أن يكون مخلوقًا. فإذا كان لامخلوقًا فهو لا متناه، على ما يفترض غرغياس بحسب مبادئ ميليسوس ولكن اللامتناهي ليس في مكان ما، ما دام أنَّه ليس في نفسه ولا في غيره، وحينئذ يكون إذا لا متناهيان أو عدة لا متناهيات، هذا الذي في الآخر وذاك الذي الآخر فيه. ولما لم يكن في مكان ما فهو لا شيء، على حسب أدلة زينون على حيز الموجودات. وبهذا يستنتج غرغياس أنَّ الموجود لا مخلوق”([12])([13]).
ويتبيَّن مما سبق أنَّ أساس استدلال جورجياس على نفي قدم الوجود، أي أزليته، هو أنَّ مدلولها يفيد أنَّ الوجود لا بداية له ولا نهاية، والحال أنَّ هذا الوجود يستلزم مكانًا لكي يوجد فيه. وما لا بداية ولا نهاية له، ليس ثمة مكان يمكن أن يحتمله([14]).
وبانتفاء المكان فلا وجود للحَالِّ فيه، وعليه فالوجود غير موجود.
أما الاحتمالان المتبقيان، أي إنَّ الوجود محدث أو أزلي ومحدث معًا، فيبطلهما بقوله – حسب موجز سكستوس أمبيريقوس -:
” – كذلك لا يمكن أن يكون الموجود مخلوقًا؛ إذ لو كان كذلك فيجب أن ينشأ من شيء، إما من موجود أو من لاموجود، وكلا الأمرين مستحيل.
– كذلك لا يمكن أن يكون الموجود أزليًا ومخلوقًا في وقت واحد؛ لأنَّ الأزلي والمخلوق متضادان، فلا يوجد الموجود”([15]).
أما في موجز النص المنحول فيرد الاستدلال بشيء من التوسع لا نلقاه عند أمبيرقوس، لنتأمل:
“ولكن لا يمكن كذلك أن يكون قد خلق. فإنَّه لا يمكن في الواقع أن يكون قد خرج من الموجود ولا من المعدوم؛ لأنَّه إذا كان الموجود يسقط وهو مخلوق فلم يكن إذن الموجود، كما أنَّ اللاموجود لا يكن بعد اللاموجود من وقت أن يصير شيئًا ما. ومن جهة أخرى الموجود لا يمكن أيضًا أن يأتي من اللاموجود؛ لأنَّه إذا كان اللاموجود لا يكون فممتنع من ثمَّ أن أيًا كان يتولد من لاشيء. وإذا كان بالمصادفة اللاموجود يوجد، فإنَّ الأسباب التي تجعل الموجود لا يأتي من الموجود هي عينها تجعله لا يأتي أيضًا من اللاموجود الذي هو كائن”([16]).
نصل هنا إلى أنَّ جورجياس أبطل الاحتمالات الثلاثة جميعها؛ أي احتمال أن يكون الوجود أزليًا، أو محدثًا، أو أزليًا ومحدثًا معًا.
ثم يلتفت إلى الوسم الجوهري الذي تصف به الإيلية وجودها، أي الوحدة، فينفيه مع نفي ضديده أي الكثرة.
يقول جورجياس – بحسب رواية أمبريقوس -: “ولا يمكن أن يكون الموجود واحدًا، وإلا كان له حجم وأمكن قسمته إلى ما لا نهاية له؛ وعلى أقل تقدير كان له ثلاثة أبعاد هي الطول والعرض والعمق”([17]).
بمعنى أنَّ جرمية الموجود تستلزم الكثرة من حيث القسمة، وكذا من حيث وسوماته الهندسية (طول، عرض، عمق). وكل ذلك نفي لوحدة الوجود.
لكننا نرى أنَّ النص المنحول فيه توسع مهم في نفي واحدية الوجود؛ إذ ربطها بأساس الأطروحة وهي نفي موجوديته. كما نرى فيه ملمحًا آخر، أكثر توكيدًا على أطروحتنا، وهي أنَّ نقد جورجياس موجه إلى الـ”إيون” الإيلي، حيث نلقى في النص المنحول إشارة إلى لاجسمية الوجود.
لنتأمل: “زد على هذا أنَّه إذا شيء يوجد فيلزم أن يكون هذا الشيء واحدًا أو كثرة. فإذا لم يكن لاواحدًا ولا كثرة فينتج عنه ألا يوجد شيء.
ذلك الشيء لا يمكن أن يكون واحدًا؛ لأنَّ الواحد يجب أن يكن لاجسمانيًا واللاجسماني هو لاشيء. كما يقول غرغياس متبعًا في ذلك رأيًا يقرب كثيرًا من رأي زينون.
وبما أنَّ الموجود لاواحد؛ فإنَّه ليس أيضًا كثرة من باب أولى. ولكن الموجود بما هو لاواحد ولا كثرة فهو غير موجود البتة.
وبالنتيجة يقول غرغياس أيضًا: إذا كان كذلك فما هو إلا لاشيء. وفي الواقع إذا لم يكن لاواحدًا ولا كثرة فإنما هو ليس أيًا كان”([18]).
كما يتوسع النص المنحول في مزيد إيراد استدلالات جورجياس، حيث نجد فيه استحضارًا لنظرية الحركة بينما لا نلقى ذلك الاستحضار في موجز أمبيرقوس. وأساس الاستدلال على نفي موجودية الوجود بالحركة، قائم على أنَّ الحركة تستلزم الانقسام. وقد استنتج مؤلف المتن المنحول إلى أرسطو من ذلك أنَّ نظام الاستدلال يستحضر ضمنيًا نظرية لوقيبوس. لكننا نضيف أنَّ القسم الأول من الاستدلال يبدو فيه استعمال للنظرية الهيراقليطية([19]) في الصيرورة .
هكذا تنتفي موجودية الوجود بوسم الوحدة.
كما تنتفي موجوديته بوسم الكثرة أيضًا، حيث يقول جورجياس وفق رواية أمبيريقوس:
“ولا يمكن أن يكون كثيرًا؛ لأنَّ الكثير حاصل جمع بين عدد من الواحدات، وحيث كان الواحد غير موجود، فكذلك الكثير”([20]).
أما الاحتمال الثالث فهو أظهر في البطلان؛ لأنَّه جامع بين الوجود واللاوجود، إذ يقول جورجياس:
“ومن المستحيل أن يكون الشيء مزيجًا من الوجود واللاوجود. ولما كان الوجود غير موجود، فلاشيء”([21]).
إذ إنَّ ذلك المزج هو جمع بين نقيضين يتنابذان ويتنافيان.
3 – في نفي إمكان معرفة الوجود، وكذا نفي توصيله إن افترض إمكان المعرفة:
ثم بعد نفي موجودية الوجود، ينتقل جورجياس إلى فرضين آخرين هما:
- إن وجد الوجود فلا يمكن معرفته.
- وإن افترضنا إمكان حصول المعرفة فإنَّه يستحيل تبليغها.
فكيف استدل على هذين الفرضين ؟
إذا تكلمنا بلحاظ المعجم الفلسفي المتداول وقتئذ، يصح لنا أن نقول إنَّ جورجياس يستعمل في استدلاله دوال الفلسفة الإيلية ضدًا عليها. بل يمكن أن نقول إنَّه لم يفعل سوى قلب استدلال برمنيد الذي نفى به اللاوجود. ويكفي أن نتأمل منطوقات شذرة برمنيد، ليتبيَّن لنا تشابهها مع منطوقات مقول جورجياس:
يقول برمنيد في الشذرة الثانية: “أمام الفكر طريقان لا غير للمعرفة؛ الأول أنَّ الوجود موجودTo éon ولا يمكن أن يكون غير موجود، وهذا هو طريق اليقين (لأنَّه يتبع الحق). والآخر أنَّ الوجود غير موجود، ويجب ألا يكون موجودًا، وهذا الطريق غير قابل للبحث؛ لأنك لا تستطيع معرفة اللاوجود، ولا أن تنطق به”([22]).
هكذا يضع برمنيد تمايزًا بين الوجود واللاوجود من حيثية العلاقة باللغة والفكر، نافيًا عن اللاوجود حتى إمكان التعبير عنه. وهو ما يكرره في الشذرة السادسة (ب6)، حيث يؤكد: “ما هو قابل لأن يقال ويفكر فيه، يجب أن يكون موجودًا. واللاوجود غير موجود”([23]).
وقد سلف أن قلنا في كتابنا “كزينوفان والفلسفة الإيلية” بأنَّه: “إذا كان برمنيد لم يكتفِ بالنفي الأنطولوجي للاوجود، بل أضاف إليه نفيًا على المستوين الفكري واللغوي؛ فذاك نراه موصولًا بفكرة أنَّ اللاوجود عدم مطلق”([24]).
وبسبب لاموجودية اللاوجود صَحَّ للإيلية أن تطرح استفهامًا استنكاريًا:
كيف يتأتى التوصيف اللغوي لـ”شيء” غير موجود؟!
وعليه، فاللاوجود “لا يمكن أن تحتويه اللغة، ومن ثمَّ لا يمكن التعبير عنه. وإذا أردنا توصيفه بالاصطلاح المنطقي، لن نبعد عن المعنى البرمنيدي إِنْ قلنا إنَّه ليس موضوعًا، ولا محمولًا، إنَّه بعبارة السلب مجرد “لا شيء”. ومن ثمَّ فهو “مفهوم فارغ تمامًا”([25])، غير قابل للملء بأي توصيف بلغة الإيجاب؛ بل كل ما في إمكاننا هو استعمال لغة السلب. أي إنَّ اللاوجود ليس فقط غير قابل للتصور، بل أيضًا غير قابل لأن يُعبَّر عنه؛ أي غير قابل للاستيعاب في أوعية اللغة؛ لذا يقال بالسلب فقط، أي “لا – وجود””([26]).
ويتبيَّن مما سبق أنَّ صدقية نفي إمكان التعبير عن اللاوجود لازم عن أنَّه غير قابل للتصور. وعدم قابليته للتصور لازم عن أنَّه غير قابل للموجودية.
لكن هذا الذي حسب الإيليون أنَّه توصيف للاوجود، هو بالضبط ما سيسم به جورجياس الوجود الضروري، حيث يراه هو أيضًا يستحيل أن يكون موضوعًا للتصور والتلفظ.
فكيف تأتى له ذلك؟
قلنا إنَّ الفلسفة الإيلية أقامت وصلًا توحيديًا بين الوجود والفكر واللغة، مثلما أقامت فصلًا بين اللاوجود وتلك الحدود أو الدوال الثلاثة السابقة. لكن جورجياس سيتقصد ذلك الأساس التوحيدي في المذهب الإيلي بالخلخلة. حيث نفى موجودية الوجود، كما نفى إدراكه، إن افترضنا إمكان موجوديته ابتداء، ثم نفى توصيل ذلك الإدراك إن افترضنا إمكان حصوله ابتداء. أي إنَّه فصل بين الوجود([27]) والفكر واللغة فصلًا تامًّا.
أما كيف نفى جورجياس إمكانية الإمساك بالـ”إيون” الإيلي فكرًا واستحالة استدخاله في أوعية اللسان، فذاك بتوكيده على أنَّ اشتغال الفكر يبيِّن هو ذاته أنَّه يتصور ما لا يوجد. إذ يقول حسب موجز سكستوس أمبريقوس: “كثير من الأشياء التي تكون موضوع الفكر ليست حقيقية، فنحن قد نتصور عربة تجري على الماء، أو رجلًا له أجنحة”([28]). وعليه، يكون الارتهان بالتصور العقلي ارتهانًا بما لا يوثق. إذ يقول: “ليست الحقيقة موضوع الفكر، ولا يمكن للفكر أن يدركها. فالعقل الخالص في مقابل إدراك الحواس، أو حتى باعتباره معيارًا صادقًا كالإدراك الحسي، أسطورة”([29]).
وظاهر في النص السابق أنَّ الاستدلال على استحالة الوجود للإدراك، يرد عند أمبريقوس بصيغة أنَّ الإدراك ليس دليلًا على الموجودية، بدليل إمكان تصور “جريان العربة على النهر”، ومثال “رجل بأجنحة”؛ أي بما أنَّه بإمكاننا أن نتصور ما ليس بموجود، فإنَّ التصور الذهني لموجود ليس دليلًا على موجوديته.
لكن هذه الطريقة في الاستدلال لا نلقاها في النص المنحول، على الرغم من استعماله لمثال العربة، لنتأمل:
يقول جورجياس: “إذا ثبت حينئذ أن لاشيء فالكل حينئذ يعزب عن علمنا. فلم يبق بعد من ثمَّ إلا ما يتصور. واللاموجود ما دام أنَّه غير كائن فلا يمكن البتة تصوره. ومتى كان هذا كان من المحال، على رأي غرغياس ألا يكون هناك شيء باطل بل لا يكون خطأ أن يقال مثلًا: إنَّ العربات تندرج على أمواج البحر؛ لأنَّ كل هذا حق كما أن نقيضه حق”([30]).
أجل، نلحظ أنَّ ثمة استعمالًا لعبارات جورجياس مستدخلة في الشرح ومختتمة به. ومن ثمَّ يصعب الوقوف على حقيقة استدلال جورجياس، حتى بمقارنته باستدلال أمبريقوس. لكن الشراح مالوا جهة نص هذا الأخير، بل حتى المترجم الفرنسي للنص المنحول، أي بارتلمي سانتهلير، مال إلى غير النص الذي ترجمه، حيث قال بغموضه وبأنَّ نصَّ أمبريقوس أوضح منه في هذا الموضع.
وعود إلى منطوق استدلال جورجياس عند أمبيريقوس نلحظ أنَّه بعد بيانه لفرضية إن وجد شيء فهو غير قابل لأن يدرك، انتقل إلى الفرض الثالث، وهو إن أمكن إدراك الوجود فإنَّه يستحيل نقله إلى الغير. أي نفي إمكان التوصيل اللغوي.
فكيف يستدل على ذلك؟
لنقرأ الوارد في مختصر سكستوس أمبيريقوس:
“إذا أمكن إدراك شيء، فلا يمكن نقله إلى الغير.
الأشياء الموجودة هي المحسوسات، فموضوعات البصر تدرك بالبصر، وموضوعات السمع تدرك بالسمع، ولا تبادل بينها، فلا يمكن لهذه الإحساسات أن يتصل بعضها ببعضها الآخر. ثم إنَّ الكلام هو طريق الاتصال بين الناس، وليس الكلام من نوع الأشياء الموجودة، أي الإحساسات؛ فنحن ننقل الكلام فقط لا الأشياء الموجودة. وكما أنَّ المبصرات لا يمكن أن تصبح مسموعات، فكذلك كلامنا لا يمكن أن يساوي الأشياء الموجودة ما دام مختلفًا عنها. يضاف إلى ذلك أنَّ الكلام يتركب من المدركات التي نتلقاها من خارج المحسوسات؛ لذلك ليس الكلام هو الذي يخبر عن المحسوسات، بل المحسوسات هي التي تخلق الكلام. هذا إلى أنَّ الكلام لا يمكن أبدًا أن يمثل المحسوسات تمامًا، ما دام الكلام مختلفًا عنها، وكان كل محسوس مدركًا بعضو الحس الملائم له، والكلام بعضو آخر. وبناءً على ذلك ما دامت موضوعات الإبصار لا يمكن أن تعرض على أي عضو سوى البصر، وما دامت أعضاء الحس لا تتبادل إدراكها؛ فكذلك الكلام لا يمكن أن يخبر شيئًا عن المحسوسات.
من أجل ذلك إذا وجد شيء وكان مدركًا، فلا يمكن الإخبار عنه”([31]).
يتبيَّن مما سبق أنَّ مستند جورجياس في نفي إمكان التوصيل اللغوي لإدراك الوجود، قائم على الإشارة إلى اختصاصات الإدراك، حيث إنَّ ثمة موضوعات لا يمكن أن تسمع بل تبصر فقط، وموضوعات تسمع ولا تبصر. أي إن كل حس له موضوع مخصوص به. والإحساس غير الشيء. والكلمة غير الشيء أيضًا. ومن ثمَّ فما نمنحه للآخر هو الكلمات فقط وليس الوجود. وبما أنَّ اللغة رموز تواضعية اتفاقية، فليس لها علاقة طبيعية بالأشياء. ومن ثمَّ فالكلام عن الوجود لا يساوي الوجود، مثلما أنَّ الإحساس بالوجود لا يساوي الوجود.
وهذا ما نجده في الموجز الآخر، أي الوارد في النص المنحول، حيث نقرأ:
“يقول غرغياس: حتى مع التسليم بأنها معلومة لنا فهل يمكننا أن ننقل التعبير عنها إلى الغير؟ كيف يمكن للإنسان أن يعلم غيره بطريق الكلام ما قد شاهده هو بالنظر؟ وكيف يمكن الإنسان لمجرد سماعه شيئًا أن يفهمه جليًّا إذا لم يكن قد رآه؟ وفي الواقع كما أنَّ النظر لا يدرك الأصوات كذلك السمع لا يسمع الألوان ولا يسمع الأصوات، فالذي يتكلم يتكلم كلامًا ولا يتكلم لونًا ولا أي شيء آخر”([32]).
وهكذا يتضح أنَّ الوصل الذي أسسه برمنيد بين الوجود والفكر واللغة، تم تفكيكه من قِبل جورجياس؛ ليتمظهر بلا إمكانية للتماسك، حيث فصل بين تلك الثلاثية([33]) فصلًا تامًّا.
===
==
=
لكن بعد بيان استدلالات جورجياس لنستعد الاستفهام السابق:
أي وجود ينفيه؟
4- في التوكيد على أن الوجود المنفي عند جورجياس هو الـ”إيون” الإيلي
نرى أنَّ النصَّ المنحول قدَّم إيضاحًا مهمًّا يكشف أنَّ قول جورجياس “لا شيء موجود” موضوع في سياق جدلي مع الفلسفات السابقة، حيث يقول:
“بالنسبة إلى القول الأول، أي لا شيء موجود، يجمع جورجياس نظريات فلاسفة آخرين، الذين أصدروا أفكارًا متناقضة حول الواقع كما يبدو لنا؛ إذ اعتقد هؤلاء بيقين أنَّه لا توجد إلا الوحدة، وأنَّ الكثرة ممتنعة. وعلى العكس من ذلك، اعتقد آخرون أنَّ الكثرة هي وحدها حقيقية وأنَّ الوحدة غير كذلك. وبعضهم يرون الأشياء غير مخلوقة، وآخرون يرونها مخلوقة”([34]).
وبعد هذا المهاد يمنحنا النص المنحول إيضاحًا يؤكد أنَّ الاستدلال على لاموجودية الوجود تم عند جورجياس بالتأليف بين الرأيين السابقين، أي إنَّه كان بصدد ضرب الأطروحتين معًا، أي أطروحة الوحدة بأطروحة الكثرة، وأطروحة الأزلية بأطروحة الحدوث. وهو سياق مهم جدًّا ومفيد في كشف الجهة التي يجادلها جورجياس، وهو بذلك نراه أفضل من ذلك المقول الوارد عند سكستوس أمبيريقوس على نحو منتزع متفرد.
ومكمن الخطأ في تأويل الشراح لنص جورجياس، نراه واقعًا بشكل خاص في تأويلهم لعبارة أسس فيها ذلك السوفسطائي مفارقة باستعمال ذكي لفعل الكينونة، حيث ساوى بذلك بين اللاوجود والوجود. فظنَّ الشراح أنَّ جورجياس يسفسط – بالمعنى القدحي الأفلاطوني – ولم يتنبهوا إلى أنَّه أدرك مأزق أي صيغة فلسفية تنطق بلفظ اللاوجود.
لنتأمل هذه العبارة التي نزعم أنَّ المترجمين لم يحسنوا نقلها:
في الترجمة العربية التي أنجزها لطفي السيد، يقول مؤلف النص المنحول متحدثًا عن جورجياس:
“إذا كان ممكنًا أنَّ اللاموجود يكون اللاموجود، فيكون اللاموجود ليس بأقل وجودًا من الموجود”([35]).
أين المشكلة في هذه الترجمة؟
الحقيقة أنَّ المترجم العربي ليس وحده من اختل عنده التعبير عن المعنى، بل حتى كثير من المترجمين الغربيين رغم أنهم يتوفرون في ألسنتهم على رابطة الحمل (يكون est)، التي من الضروري الانتباه إليها لإحسان نقل المعنى، اختلت ترجمتهم للعبارة.
أما عن سبب حديثنا عن رابطة الحمل التي استعملها جورجياس كرابطة كينونة، فهو إشارة إلى أنَّ العبارة هنا لا يمكن أن تستقيم إلا في سياق فهمها كاستعمال ضدًا على الإيلية في بناء المفارقة أي إنَّ “اللاوجود يكون”، بمعنى أنَّه ليس أقل في احتمال رابطة الكينونة من الوجود.
ومن ثمَّ فترجمة العبارة عندنا هي:
“إذا كان من الممكن أن اللاوجود يكون لاوجودًا، فإنَّ اللاوجود لا يكون أقل من الوجود”.
أي لكي تنسب اللاوجود إلى اللاوجود، لا بدَّ من توسل فعل الوجود. وبذلك تكون نسبة فعل الوجود إلى اللاوجود لا تقل عن نسبته إلى الوجود.
ولا تسمح اللغة العربية بإظهار تلك المفارقة في استعمال أداة الكينونة موصولة باللاوجود. ولكن في اللغات الأوروبية – واللغة اليونانية من ضمنها – تصير العبارة حتى في بنيتها الصوتية ذات جرس منبه للمفارقة. لكن جمهور الشراح لم يتنبهوا؛ لأنهم كانوا واقعين تحت أسر التأويل الأفلاطوني، فكانت كل عنايتهم منصرفة إلى وسم فكر جورجياس بأنَّه فكر عدمي.
كما نزعم أنَّ العيب ليس في لطفي السيد، بل إنَّه نقل النصَّ عن المترجم الفرنسي بارتلمي سانتهلير، الذي وجدناه في التعليق على مقولة جورجياس، لم يرَ في استعمال رابطة الكينونة سوى سفسطة، أي بمعناها كتلاعب بالكلمات!
لنتأمل قول سانتهلير، المثبت كتعليق على هامش قول جورجياس:
“إنَّ اللاوجود يكون اللاموجود. كل السفسطة تعتمد على فعل “الكون” مستندًا إلى اللاموجود. وما دام أنَّه يقال على اللاوجود إنَّه كائن فيمكن أن يستنتج منه أنَّه هو والموجود سيان. وتلك هي دقائق غير جدية. وقد أحسن أفلاطون وسقراط في أنهما سخرا من هذه السفسطة”([36]).
هذا ما يقوله الأستاذ بارتلمي سانتهلير، ثم كأنَّه استشعر خطر هذا الحكم المتجني فقال: ” ليس النص على هذا القدر من الصراحة”([37]).
وضدًا على هذا الشرح المتعسف، نرى أنَّ جورجياس لم يكن يلهو برابط الكينونة، بل كان يتقصد بناء موقف نقدي. مستثمرًا رابطة الكينونة في إقامة المفارقة. وهو ما يتبيَّن لنا في الفقرة الأخيرة من موجز النص المنحول، حيث يقول:
“ولكن إذا كان اللاوجود يكون، يقول جورجياس، فإنَّ الوجود عندئذ لا يكون ضده؛ لأنَّه إذا كان اللاوجود يكون (est) فلازم ذلك أنَّ الوجود لا يكون. والنتيجة – يضيف – أن لا شيء بموجود، إلا إذا كان الوجود واللاوجود شيئًا واحدًا بعينه. ولكن هم بالفعل شيء واحد، ومن ثمَّ فلا يوجد شيء؛ لأنَّ اللاوجود ليس يكون، والوجود ليس يكون أيضا؛ لأنَّه مماثل للاوجود”([38]).
وقد قلنا في التقديم ينبغي موضعة جورجياس في سياق الجدل مع الفكر الإيلي، وأنَّ في مناهضته الشديدة للإيليين ينبغي الإمساك بمفتاح فهم موقفه الفلسفي، فكيف ساعدتنا تلك الموضعة في فهم أطاريح جورجياس على غير التأويل العدمي الذي فُهمت به؟
إن كان الإيليون نفوا موجودية الوجود الحسي بدعوى تكثُّره وتغيُّره ووقوعه تحت مدركات الحس، فإنَّ جورجياس رأى في هذا النفي مسوغًا له لكي ينفي الوجود الضروري الذي تعلق به أولئك الإيليون؛ لأنَّ البديل الذي قدموه مغرق في السمت النظري.
وإذا كان برمنيد وسم الوجود الحسي بأنَّه لاوجود وغير قابل للتعقل والنقل باللغة، فإنَّ جورجياس يرى أنَّ الوجود المعقولي أحرى بالوسم بتلك الأوصاف، فيرمى بأنَّه غير موجود، وإذا كان موجودًا فهو غير قابل للمعرفة. وحتى إذا عرفه أحد من “مجانين” الإيليين، فيبقى اختلاجًا بين وجدانه؛ إذ يستحيل أن يبرهن عن حقيقة هذا الوجود ويعبر عنها للآخرين.
وهنا نريد التوكيد على أنَّ نقد جورجياس موصول بالعقل العملي، المشدود إلى النظر الواقعي الرافض للفكر الإيلي. وفي هذا نلتقي مع الملحوظة التي قدمها ولتر بروكر، وإن لم نتفق معه مع معيار التقليد الأفلاطوني الذي انتهجه، حيث يقول بأنَّ “ما استبعده برمنيد بوصفه خطأ يدل على تعددية واهمة هو ما أقامه السوفسطائيون على عرش الحقيقة. والاعتراف بأنَّ هذا أيضًا خطأ، هو ما ندين بفضله لأفلاطون”([39]).
إنَّ المشروع المعرفي النقدي الذي بلوره جورجياس هو من حيث المقصد مناهضة لنظرية الوجود الإيلية. وفي مرمى هذا الجدل ينبغي فهم دلالة النفي التي بدأ بها نص كتابه. بمعنى أنَّه لا ينكر أطروحة الوجود ليقيم أطروحة العدم بدلًا منها؛ بل لقد رأينا كيف ينفي اللاوجود أيضًا. ومن ثمَّ، فإنَّ نفيه لموجودية الوجود لا يؤول إلى القول بالأطروحة العدمية، بل هي أطروحة مجادلة وناقدة لنمط مخصوص من فلسفات الوجود، هي الفلسفة الإيلية تحديدًا.
وإذ نركز على هذه العلاقة الجدلية، فذاك بقصد مدافعة ذلك التأويل الشائع الذي يقدم جورجياس في صورة مفكر عدمي؛ بينما لم يكن نفيه للعدم أقل من نفيه للوجود المعقولي!
لكن للأسف شاع ذلك التأويل العدمي، وذاع وهيمن على قراءات تاريخ الفكر السوفسطائي، حتى كاد يستقر كأطروحة غير قابلة للمراجعة. ولا أدل على ذلك من تأخر توقيت ظهور المراجعة، حيث كان أول من نقد هذا التأويل هو جورج جروت Georges Grote، الذي رفض نسبة العدمية إلى جورجياس. أما عن التأويل البديل الذي قدمه جروت فهو أنَّ جورجياس لم ينف “وجود العالم الظاهري، ولكن نفى فقط عالم النومين”([40]).
صحيح أنَّ القارئ سيرى هذا التأويل مثقلًا بلغة كانطية غير متناسبة مع الزمن الإغريقي ما قبل السقراطي([41])، لكن مقصود جروت هو أنَّ النفي الجورجياسي يخص الوجود الإيلي، الذي نظر إليه بوصفه “نومين” أي الحقيقة المتخفية خلف الظاهر الحسي المتغير.
أما عن مسوغات ظهور هذا التمييز بين الوجود الحسي والوجود المعقولي، فَبَيِّنٌ أنَّ زمن جورجياس هو زمن لاحق لجدل ثري قارب نقديًا إمكانات المعرفة، فمن الطبيعي إذن أن ينفتح بفعل هذا الجدل إمكان نقدي آخر، يخص مراجعة الوثوقية التي تحدث بها الإيليون وكذا الفلاسفة الذين تناولوا الشأن الماورائي، بقصد استنزال البحث إلى المسألة الإنسانية، والواقع المعيش المنظور. وهو الاستنزال الذي دفع جورجياس إلى تسفيه البحث الأنطولوجي الإيلي، وهو الاستنزال ذاته الذي أنتج لنا من قبل موقف بروتاغوراس. وهو ما سينتج أيضًا نقد فعل الكينونة مع ليكوفرون، مما يدل على أنَّ اللحظة الثقافية اشتغلت بحس نقدي شكَّاك في إمكان المعرفة النظرية للمسائل الأنطولوجية.
وعليه، نرى أنَّ جورجياس لم ينف الوجود بإطلاق، بل نفى الـ”إيون”، أي الوجود الإيلي، وما يمكن أن نستأنس به لتوثيق ذلك هو أنَّه اهتم ببحث الوجود الفيزيائي. حيث قيل بأنَّه في أواخر حياته أخذ يهتم بالمسألة الفيزيائية([42]) ويختص بدرسها؛ مما يسمح بمزيد توثيق صحة القول بأنَّه في نفيه للوجود كان ينفي ما قدمته الإيلية من ملمح أنطولوجي رآه غريبًا عن منطق العقل العملي.
وهذا الحرص من جورجياس على مغايرة الإيليين ونقد مقولة الوجود الضروري، يبدو أثره في ليكوفرون، الذي قيل بأنَّه تتلمذ عليه، وانساق معه في مشروعه النقدي للفكر الإيلي، حتى بلغ به الأمر في الاحتراس من مفهوم الوجود الإيلي، إلى استثقال استعمال فعل الكينونة.
[1] ركز جورجياس على مفهوم لانهائية الامتداد لنقد موجودية الوجود، ويلحظ في هذا أنَّه استعمل زينون ضدًا على ميليسوس. غير أنَّنا نضيف بأنَّ فقدان الوجود الإيلي لإمكان الموجودية لا ينحصر سببه في خاصيته اللانهائية، إنما هو فقط سبب من بين أسباب أخرى سنتوسع في بيانها عند تحليل استدلالات جورجياس.
[2] لعلنا نقول إنَّ ثمة إرادة قصدية لإساءة فهم السوفسطائيين من قبل أفلاطون وأرسطو.
[3] رغم التشابهات الكثيرة بين الموجزين، فإنَّ ثمة تباينات دقيقة سنشير إليها خلال بحثنا في مقولات جورجياس.
[4] أورد سكستوس أمبيريقوس موجزه لنص جورجياس في متن “ضد الرياضيين”، من المقطع الخامس والستين حتى المقطع السابع والثمانين:
Sextus Empiricus,Against the Mathematicians VII.65 – 87
[5] ترجمه أحمد لطفي السيد كملحق في كتاب أرسطو طاليس، الكون والفساد، وذلك عن النقل الفرنسي لـ”بارتلمي سانتهلير”.
أنظر أرسطو طاليس، الكون والفساد ، ترجمة أحمد لطفي السيد، الدار القومية للطباعة والنشر، بدون تاريخ.
[6] أحمد فؤاد الأهواني، فجر الفلسفة اليونانية، م س، ص279. والاستشهادات التي سننقل فيها شذرات جورجياس الواردة في متن سكستوس أمبيريقوس، مأخوذة من الترجمة التي أنجزها الأستاذ الأهواني. وهي في تقديرنا ترجمة جادة، وإن اختلفنا معها في نقل بعض السياقات.
[7] أحمد فؤاد الأهواني، فجر الفلسفة، م س، ص279.
[8] أحمد فؤاد الأهواني، فجر الفلسفة، م س، نفسه.
[9] – الطيب بوعزة، كزينوفان والفلسفة الإيلية، مركز نماء، بيروت 2016.
[10] قيل في السيرة بأنَّ جورجياس تتلمذ على زينون، وحتى إذا لم يكن في الدوكسوغرافيا القديمة مستند مكين لتوثيق هذه التلمذة، فإنَّنا نراه في معجمه متمهرًا في استعمال الاصطلاح الإيلي. ولا نستبعد القول بأنَّه ربما كان إيليًا ثم انقلب على هذا المذهب.
[11] B3.69.
والنص العربي الذي أثبتناه هو من ترجمة الأستاذ الأهواني، فجر الفلسفة، م س، ص280.
[12] للأسف أخطأ الأستاذ لطفي السيد في ترجمة هذه العبارة، أو لعل الخطأ حاصل سهو، أو حذف من الراقن قبل الطباعة، حيث لا يستقيم الاستنتاج إلا بالقول: “وبهذا يستنتج غرغياس (جورجياس) أنَّ الموجود ليس لا مخلوقًا” أو “وبهذا يستنتج غرغياس (جورجياس) أنَّ الموجود ليس أزليًا”. وقد راجعنا النص الفرنسي فوجدناه صائبًا حيث نفى الأزلية في الاستنتاج. حيث يقول النص الفرنسي:
“Par ces raisons, Gorgias conclut que l’être n’est pas incréé.”
مما يفيد بأنَّ الخطأ حصل في الترجمة العربية لا في الأصل الفرنسي الذي نقلت عنه.
[13] “في ميليسوس وفي أكسينوفان وفي غرغياس”، متن ملحق بكتاب أرسطو طاليس، الكون والفساد، ترجمه عن النقل الفرنسي لـ”بارتلمي سانتهلير”: أحمد لطفي السيد، الدار القومية للطباعة والنشر، ص266.
[14] هنا نلحظ استعمالًا ذكيًا لزينون ضدًا على ميليسوس.
[15] الأهواني، فجر الفلسفة، م س، ص280.
[16] “في ميليسوس وفي أكسينوفان وفي غرغياس”، م س، ص266.
[17] الأهواني، فجر الفلسفة، م س، ص280.
[18] “في ميليسوس وفي أكسينوفان وفي غرغياس”، م س، ص267.
[19] يقول جورجياس حسب النص المنحول: “لكن ليس لاشيء في حركة؛ لأنَّه إذا كان الموجود في حركة فلا يكون بعد هو ما هو. وحينئذ الموجود لا يكون بعد واللاموجود يصير شيئًا. وفوق ذلك، بما أنَّ الموجود يتحرك وينقطع عن أن يكون متصلًا بانتقاله فعلى هذا المعنى هو لا يكون بعد. وبالنتيجة إذا كان متحركًا في جميع أجزائه فهو منقسم في جميعها على الإطلاق، وإذا كان هكذا فليس موجودًا البتة. وفي هذا الصدد يقول غرغياس: إنَّ الموجود هو ناقص من جهة ما هو منقسم. وهو يتكلم على التجربة عرضًا عن أن يتكلم على الخلو كما كتبه لوكيبوس فيما يسمى بمقالاته”.
“في ميليسوس وفي أكسينوفان وفي غرغياس”، م س، ص267-268.
[20] الأهواني، فجر الفلسفة، م س، ص280.
[21] الأهواني، فجر الفلسفة، م س، نفسه.
[22] قابلنا ترجمة الأهواني للشذرة على نصِّ الترجمة الإنجليزية لباتريسيا كورد، وبدلنا في الترجمة العربية بما رأيناه أوفق وأقرب للنص. كما فصلنا الشذرة الثالثة عن الثانية بينما دمجهما الأهواني.
Proclus, Commentary on Plato’s Timaeus 1.345.18; 3-8.
Simplicius, Commentary on Aristotle’s Physics 116.28
[23] Simplicius, Commentary on Aristotle’sPhysics 86.27-28; 117.4-13.
[24] الطيب بوعزة، كزينوفان والفلسفة الإيلية، مركز نماء، بيروت 2016، ص208.
[25] Francis Riaux, Essai sur Parménide d’Elée, Librairie de Joubert,Paris,p46.
[26] الطيب بوعزة، كزينوفان والفلسفة الإيلية، نفسه.
[27] أكرر هنا الإشارة إلى أنَّ الوجود المقصود بالنفي في نص جورجياس هو الـ”إيون”، البرمينيدي، وليس الوجود بإطلاق.
[28] الأهواني، فجر الفلسفة اليونانية، م س، ص280.
[29] الأهواني، فجر الفلسفة اليونانين، م س، ص280-281.
[30] “في ميليسوس وفي أكسينوفان وفي غرغياس”، م س، ص268.
[31] الأهواني ،فجر الفلسفة، م س، ص281.
[32] “في ميليسوس وفي أكسينوفان وفي غرغياس”، م س، ص269.
[33] يصح أن يُعد هذا النقد للربط بين تلك الثلاثية أول بحث نقدي لإشكالية اللغة والوجود والفكر. وهي الإشكالية التي سيستحضرها أفلاطون في محاورة “السوفسطائي” لكن دون ذكر جورجياس.
[34] “في ميليسوس وفي أكسينوفان وفي غرغياس”، م س، ص262
[35] “في ميليسوس وفي أكسينوفان وفي غرغياس”، م س، ص263.
[36] انظر الحاشية الرابعة في “في ميليسوس وفي أكسينوفان وفي غرغياس”، م س، ص263.
[37] “في ميليسوس وفي أكسينوفان وفي غرغياس”، م س، نفسه.
[38] “في ميليسوس وفي أكسينوفان وفي غرغياس”، م س، ص265.
[39] Walter Brocker , Gorgias contra Parménides,Hermes 86,1958,p440.Cité par Barbara , Barbara Cassin,L’effet sophistique,Collection NRF Essais, Gallimard,Paris 1995,p24
[40] Gomperz,ibid,p514.
[41] من نافل القول الإشارة إلى أنَّنا نستعمل هنا عبارة “ما قبل السقراطي” امتثالًا للتوصيف الشائع، وليس دلالة على الترتيب الزمني. إذ من المعلوم أنَّ السوفسطائيين زامنوا سقراط، بل منهم من عاش بعده، وليس قبله.
[42] نقول بالاستئناس بهذا الانشغال بالفيزياء، ولا نعتمده دليلًا؛ لأنَّ الإيليين وعلى رأسهم برمنيد الذي قال بأنَّ طريق البحث في الفيزياء ضلال، مارس بنفسه هذا الضلال في القسم الثاني من قصيدته!