تقديم
تعتبر التراجيديا الرومانية تقليدًا واستمرارًا للربرتوار اليوناني، ولبنية وموضوعات التراجيديا المرتكزة على الأساطير، ففي القرن الأول أصبحت الكتابة المسرحية موضوع تباهي اجتماعي حتى أن قيصر نفسه كتب مسرحية بعنوان أوديب مما جعل من الضروري تصميم وتشييد أبنية خاصة بالمسرح. ومن المؤلفين المسرحيين الأوائل الذين برزوا في هذا العصر نجد “لوسيوساندرينيكوس” حيث انصرف إلى دراسة النتاج الدرامي الإغريقي فحاول أن يكيفه مع بيئة روما ومستلزماتها، فألف تراجيديات اقتبسها خصوصًا من يوربيدس لم يصل منها سوى العناوين التالية: اجيستوس- أجاكس حامل للسوط- حصان طروادة- اندوميدا- تيريوس- داناية. كما نجد أيضا كاتب آخر يدعى “غنائيو ستايئفيوس” قام بمحاولات ذات مضمون روماني لم تصل منها سوى عناوين ست تراجيديات ذات مضمون إغريقي ومقاطع تضم خمسين بيتًا من الشعر(1). لكن أبرز كاتب يمكن أن يُعدّ مصدر إلهام في التراجيديا الرومانية هو المسمى سينكا أحد أفضل كتاب التراجيديا الرومانية، هذا الإنسان المقتدر الذي اشتهر كرجل دولة واستلزم مقاليد الأمور في روما لبضع سنوات، كما اشتهر كداعية للمذهب الرواقي. كما خلفت أعماله وتراجيدياته أثرًا كبيرًا على المسرح الروماني.
إطلالة على حياة الفيلسوف سينكا
ولد سينكا في قرطبة حوالي العام الرابع قبل الميلاد، وسرعان ما جيء به إلى روما وتلقى فيها كل ما كان يستطيع أن يتلقاه من تربية وتعليم، فقد شرب الفلسفة من أبيه، والرواقية من أتاليس والفيثاغورسية من سوتيون، والفلسفة العملية من زوج عمته حاكم مصر من قبل الرومان. حاول في مدى عام أن يعيش على الأطعمة النباتية ثم عدل عن هذا، ولكنه ظل طوال حياته مقلًّا من الطعام والشراب. عانى كثيرًا من مرض الربو وضعف الرئتين، وعرف عدة نزوات من بينها الحكم عليه من طرف مجلس الشيوخ بالإعدام، لكن لحسن حظّه استبدل هذا الحكم بالنفي إلى إحدى الجزر وهي جزيرة كورسيكا وقضى فيها ثماني سنين، حيث صبر في أول الأمر على هذه الكارثة صبر الرواقيين الحقيقيين وكتب إلى أمه مقالًا يواسيها فيه، فلما أن توالت عليه أعوام الشقاء ضعفت نفسيته واستولى عليه اليأس، كتب إلى حكام روما مقالة يرجو فيها متذلّلًا أن يعفو عنه، ولما لم يفده هذا الرجاء حاول أن يخفف من آلامه بكتابة المآسي(2).
يعتبر سينكا أيضًا معلم نيرون حيث ظلّ خمس سنين يعلم تلميذه الشاب بعد إعادته إلى مكانه في مجلس الشيوخ، كما ظل خمس سنين أخرى يرشد الإمبراطور ويمسك بزمام الدولة، وفي هذه العشر سنين كتب سينكا مجموعة من الرسائل يعرض فيها الفلسفة الرواقية عرضًا ظريفًا، ومن هذه الرسائل رسائله في الغضب، وفي قصر الحياة، وفي هدوء الروح، وفي الرحمة، وفي الحياة السعيدة، وفي ثبات المسرح، وفي الفوائد وفي حسن التدبير. فلما اتهم سينكا مرة بالنفاق والزنا، والشدود الجنسي والربا، رد على ذلك في مقاله عن الحياة السعيدة فقال: “إن الحكيم لا يتحتم عليه أن يكون فقيرًا، فإذا جاءه المال من طريق شريف كان في وسعه أن يقبله. ولكن يجب أن يكون في مقدوره أن يتخلى عنه متى شاء دون أن يندم عليه”(3). لذلك عرف سينكا بزهده وتقشفه، فكان ينام على خشبة صلبة خشنة، ولا يتناول إلا القليل من الطعام، حتى ضعف جسمه من قلة التغذية، وقد كتب في ذلك يقول: “إن كثرة الطعام تذهب بالذكاء، والإفراط فيه يخنق الروح”(4).
كانت حياة سينكا قاسية، تدور بين المرض والتآمر والمنفى والقتل وهذا ما سيؤدي إلى تأثيرها على مجموعة من آرائه وأفكاره في مجموعة من رسائله ومقالاته وكذا تراجيدياته.
تراجيديات سينكا
كتب سينكا، عدا المقالات الفلسفية وهجاء الإمبراطور كلاوديوس بعد موته، عددًا من التراجيديات لم يصل إلينا سواها من التراجيديات الرومانية، ولذلك لا يمكن الحكم على هذه التراجيديات إلا من خلال أعمال سينكا، فقد أدخل البعد النفسي في معالجة الشخصيات وجعل القدر أساس الخطيئة، وطرح في أعماله تساؤلات فلسفية حول العالم، لذلك كان أثره كبيرًا على كتاب التراجيديا الإنسانية في عصر النهضة خصوصًا على الدراما الإليزابيثية، وعلى التراجيديا الكلاسيكية في القرن السابع عشر.
يُعدّ النتاج التراجيدي لسينكا ظاهرة منعزلة وفريدة، وتعتبر مسرحياته من أهم ما بقي في أعمال المسرح الروماني ومن بينها عشر تراجيديات هي: أجامنون والطرواديات وهرقل مجنون وهرقل على جبل أويتا وأوديب والفينيقيات وميديا وفايدرا وتستيس ومسرحية وطنية هي أوكتافيا(5).
كما” تظهر الخلفية السياسية لهذه الأعمال بارزة في إشاراتها وتلميحاتها الكثيرة، كاستنكار الظلم والطغيان والقدر الذي يهدد العظمة”(6). كما تعكس هذه المسرحيات قناعة المؤلف الفيلسوف بأن “الملكية المطلقة تحطّ من قيمة الأمير وتجعله كريهًا لدلى الشعب”(7). وقد استطاع سينكا أن يعبر فيها، اعتمادًا على حكم تهكميّة، عن القسوة والاستبداد وطغيان الحكام حيث لا تنفصل تراجيدياته عن آرائه السياسية حول الطغيان والنظام السياسي الصالح وكذا عن فلسفته الرواقية. أما على مستوى بنيات الكتابة الدرامية، فقد كانت مسرحياته قوية الحبكة ذات لغة شاعرية عالية، استطاع صاحبها أن يسبر أغوار نفسيات شخصياته.
تتناول تراجيديات سينكا أيضًا موضوعات إغريقية تنعكس عليها التجارب التي عاشها والتقلبات التي حدثت في نظام الحكم في روما، كما رسم رؤى فظيعة ودموية، وكرس أساليب الإثارة اللفظية حتى أطلق على مسرحه ” المسرح الدموي”.
كان عصر سينكا يتسم بالبهاء، كما كان سينكا يتسم به، إلا أنه كان بهاءً سطحيًا خالصًا، فقد أعاد سينكا كتابة قصص أوديب وميديا وأجامنون القديمة المفجعة في إطار مسرحيات، لكنها كانت مسرحيات خالية من سمو الإحساس اليوناني، ولم تكن الشخصيات الروائية إلا أدوات لحمل الأفكار الأخلاقية، كما كان الفعل فيها عنيفًا. فلم تكن مسرحيات سينكا التراجيدية ترجمة خالصة للأعمال اليونانية، فهي تختلف عن هذه وتلك، وأهم أسباب الاختلاف أنها لم تكتب لغاية العرض المسرحي بل للتلاوة على الجمهور، كما أنها تضمنت مشاهد منع تمثيلها سابقًا كحوادث القتل مثلًا “(8)، بالإضافة إلى أن الممثلين لا يروحون ويغدون على خشبة المسرح كما في المسرحيات الممثلة، بل “يتكلمون فقط ثم يخيّم صمت مطبق”(9). فالجو العام ليس جوًّا مسرحيًا تمثيليًّا حيث يتحتم على الكاتب الدرامي أن يتصور المشهد والحركة وحتى النبرة، لكنه جو سرد أو إلقاء يقوم فيه المتحدث بأدوار مختلفة متجاهلًا كل شيء ما عدا الفكرة والعاطفة مما يؤدي إلى الإفاضة في عواطف الحاضرين. كما عرفت مشاهده المسرحية أيضًا قوة درامية، وقد تجلى ذلك في جو الكآبة والرعب والخيانة والقسوة والسحر التي قد تعتبر صورًا من الحياة التي عاشها، وكانت مسرحياته “مكونة دائمًا من خمسة فصول كما أوصى هوراس، كما أنها تتعامل مع مصائب وعواطف واضحة ومفهومة، رغم ما يبدو فيها من مبالغة كوجود الأشباح والجثث والسحرة”(10).
لقد كان كل شيء عند سينكا يشبه ما كان عند التراجيديين اليونانيين من حيث المظهر، فالأحداث تجري في القصور، وأغاني الكورس تتخلل المنولوج والديالوج في المسرحية، والأبطال يموتون في نهايتها، ولكن موقفه من الأسطورة كان مغايرًا لموقفهم كل المغايرة، فالأسطورة في تراجيدياته ليست أساسًا للفن، وإنما وسيلة أيضًا لعرض الأفكار الرواقية السائدة، وتمويه التلميحات إلى الحياة المعاصرة. وهكذا فقد عرفت تراجيديات سينكا هذا الشكل من التأليف جعلته مميزًا، حتى قيل “إنه لم تكن ثمة فرصة لمثل هذا الرجل لكي يفوز بما كان لإسخيليوس من جمال رفيع أو يصل إلى ما كان ليوربيدس من شجن وعاطفة إنسانية مستغرقة”(11). فقد كان الرجل سياسيًا وقنصلًا وفيلسوفًا وكاتبًا.
ساهمت تراجيديات سينكا بشكل كبير في بعث المسرح التراجيدي في أوروبا خلال عصر النهضة. وتظهر تأثيراتها على نحو واضح في المسرح الإليزابيثي في انجلترا ولاسيما أعمال شكسبير، وتوماس كيد، وبن جونسون، كما أن هناك من يفضل سينكا عن يوريبيدس، ومن هؤلاء اسكلجر سيد النقاد في عصر النهضة. فلما عادت الآداب القديمة إلى الحياة، كان سينكا هو الذي اُتخذ نموذجًا لأولى المسرحيات التي كُتبت باللغات الحديثة، وعنه أُخذت الصيغ الفصيحة، ووحدة الزمان والمكان التي امتازت بها مسرحيات كورني وراسين، والتي ظلت مسيطرة على المسرح الفرنسي حتى القرن التاسع عشر(12). هكذا يعتبر سينكا الكاتب التراجيدي النموذجي الذي احتذاه كتاب عصر النهضة، خصوصًا أنه كتب بلغة لاتينية سهلة الفهم، واتبع نزعة رومانتيكية عاطفية، وحاول نقل تجربة اليونان بطريقته الخاصة. وما يؤكد هذه الأخيرة هذه المقارنة التي وضعها “اديث هاملتون“(13) بين يوريبيدس وسينكا من خلال مسرحية الطرواديات فالمقارنة بين الاثنين توضح بجلاء طرائق الرومانتيكية العاطفية.
في كلتا المسرحيتين ترفع الستارة عن ميدان المعركة بعد أيام قليلة من سقوط طروادة. يوربيدس يظهر امرأة عجوز نائمة على الأرض في مقدمة المسرح. وعندما يضيء النهار تستيقظ ببطء وتنهض متثاقلة بألم تتحدث عن نفسها بكلمات لا يتحدث بها إلا بهدوء وببلادة، كما لو أن امرأة عجوزا في منتهى بؤسها هي التي تتحدث:
انهض على الأرض أيها الرأس المتعب
فهذه ليست طروادة لا حولك
ولا فوقك-
ليست طروادة ولذا لسنا سيادا.
سوف تتهشم فكن متماسكا
……
من أنا التي تجلس
هنا عند بابا ملك الإغريق
أنا امرأة بلا وطن
وحيدة تنوح على موتاها- (14)
كل هذا الكلام هو كلام إنساني، لا شيء فيه مما نسميه الروح الملكية. هذا الكلام بالنسبة لسنيكا هزيل جدًا وليس جديرًا بالملوكية، ولاشك أنه سينفر الجمهور الروماني. منه أما هيكوبي سنيكا فإنها تظهر بعينين وهاجتين وفي كل ما يبدر منها نلمس روحها الملكية، وكلامها هنا موجه إلى الكون:
من يضع إيمانه في السلطة الملكية
التي تحكم في قاعة كبيرة وتثق بالأغنياء
فلينظر إليك يا طروادة، ولينظر إلي أنا.
فلن يسعفه الحظ في برهان أقوى
عن كيف يكون الاعتماد على الكبرياء هشًّا.
الآن ينكسر ويسقط العمود السامق – آسيا
القوية تسقط. فيا أيتها الآلهة
المعادية لي ولكن من يخصني
اطلب شهادتكم، كما أدعوكم أنتم
يا أبنائي العظماء، يا أطفالي: كونوا
شاهدين أني أنا هيكوبي رأيت كل
النواح القادم. لقد رأيته
أولا فلا أخاف أن أتحدث.
سوف أخبركم- (15)
كل كلامها على هذا النسق ليس فيه لمسة من شفقة أو ضعف إنساني. هيكوبي هذه ليست امرأة أصيبت بمحنة، إنها الملكة العظيمة التي لا يمكن لأي كارثة أن تكسر لها عودًا. إنما أيضًا العقلية الرومانية الرزينة والرسمية كما تصورها الحس الشعبي، جاهزة للحديث عما في ذهنها في أي موضوع ودائما قادرة أن تقول لقد أخبرتكم هذا. طبعًا هي غير مبالية بالموت أبدًا. هي والنساء الطرواديات تخبر الواحدة الأخرى “لا تحزن أن بريام مات”. هيكوبي يوربيدس تقول:
أيها الطفل لا يستطيع الموت أن يكون ما تكونه الحياة
فكأس الموت فارغة وهي الحياة دائما ثمة أمل(16).
إنها ليست من النوع البطولي. وعندما تسمع أن القادة الإغريق أجروا القرعة عليها وعلى مرافقاتها، وأنها صارت من نصيب واحد من أشد أعداء طروادة، فإنها تحزن فقط: ابكين عليّ؛ فتاجي تاج البؤس(17).
لكن هيكوبي سنيكا تسمع مبتهجة أن لا أحد من قادة الجيش يريد أن يقترع عليها- وهو شيء يعرفه القارئ من مجرى المسرحية- فتصرخ: إنهم يخافونني، فأنا وحدي جعلت الإغريق خائفين(18).
ذروة كل من المسرحيتين هي موت ابن أندروماك الأصغر، الذي يجب أن يقتل لإنهاء ذرية هكتور. في مسرحية يوريبدس يحضر رسول إنساني العواطف ليأخذ الصغير، فيخاطب الأم بلطف في ألمها:
لقد أمرت أن هذا الطفل- أوه
كيف لي أن أخبرها بالأمر؟ إنها
إرادتهم في أن يموت ابنك..لا
فلندع الأمر يتحقق. فأنت تكونين أحكم
بهذه الطريقة. فلا تتعلقي به بقوة-(19)
رسول من قادة الجيش كهذا لا يؤثر في الجمهور الروماني وسنيكا نفسه فكر ولا شك أن هذا الكلام رقيق جدًا كمدخل لقتل ابن هكتور العظيم. فيدخل رسوله كأنه يعلن بكلماته الأولى عن ذلك، والرعب يستولي على وجوده والخوف يهزّ ساقيه بعنف. ويخبرنا بأنه رأى – “لقد رأيت بنفسي” – الشمس تنكسف وهزة أرضية جعلت البحر ينكمش والقمم تهوي فتلوى أشجار الغابات وتمزق الأرض وتفتح كهفًا مخيفًا راح ينفخ نفخًا من عالم الموتى – ليمهد لدخول شبح أخيل(20).
ويستغل يوربيدس وداع أندروماك للطفل حتى يقدم صورة للمعاناة مؤثرة كأي لوحة مرسومة. لكن لم يفعل ذلك. فقد أنزل الشاعر اليوناني الشخصية الميثولوجية العظيمة للأميرة الطروادية إلى الأرض وجعلها تشعر فقط بما تشعر به أي امرأة من ألم. إن الجمهور الروماني يتوقع من زوجة هكتور أكثر من ذلك. فأندروماك سنيكا هي “الأم” في أعظم مظهر لشخصية يعرفها المسرح. إنها تخبر الطرواديات أنها طبعًا ستقتل نفسها حالما مات هكتور لولا طفلها:
هو الذي جعلني أتراجع فهو الذي
يأمرني. وهو الذي منعني من الموت.
….آ، لقد انتزع مني
المكافأة العظيمة التي قدمتها الشرور الكبيرة
والتي تجعلني لا أخاف من أي شيء (21).
تم قررت أن تخبئه وأن تخبر الإغريق أنه مات. ولكنه طبقًا لأعظم تقاليد الصبي الروماني يرفض بحركة كبرياء أن يخضع لهذا التدبير. وقد فرحت بهذه الحركة للروح الرفيعة: “أنت تحتقر المخبأ الآمن” وتصيح “أنا أعرف طبيعتك النبيلة”. اشمئزازه لم يكن إلا موقفًا، فيخبأ عندما يأتي أوليس ليأخذه، وعلى الفور يلجأ إلى الخدعة. إنه يهدد أندروماك بالتعذيب واصفًا ذلك بتفصيل إن لم تسلمه إياه. بالطبع هي تلبث ساكنة لا تتحرك أبدًا. وتخبره إن الأمهات لا يخفن على أنفسهن. وحتى عندما يكشف الصبي أخيرًا فإنها تتحفظ بلغتها الرفيعة، فتطلب من ابنها أن يكون مسرورًا، لأن حجتهم في قتله أنهم يخافون منه: “أنت صبي صغير فعلًا، ولكن في المستقبل أنت مخيفٌ لهم”(22).
في مسرحية يوربيدس، عندما يعود الرسول يحضر معه الطفل الميت لأمه، ولكنها تكون قد ذهبت، أسيرة في سفينة يونانية مع قاتلي ابنها. وتستلم الجدة جسد الطفل الميت وتتحدث برباطة جأش للجثمان:
أيها الطفل الصغير البائس
هل هو سورنا القديم من الوحشية بحيث
جعل على خديك هذه الآثار…حيث
هنا عليهما كانت أمك تطبع
قبلاتها. وحيث تلتقي العظام
وتبرق الابتسامة عذبة -آه
أيتها السماء لا أستطيع أن أرى..
أوه أيتها الشفتان المنعمتان بالأمل،
والمطبقتان إلى الأبد-
عندها تلف هي والنسوة الجسد بقماش أبيض ويهيأ للدفن “في قبر منخفض”. والخوف من الموت لا يشار إليه إلا في حديث موجز يمر في كلام هيكوبي. رسول سنيكا لا يحضر جثمان الصبي لأنه يشرح بالتفصيل أن القمة الشاهقة التي رمي منها الطفل كانت عظيمة، فلم يبق منه شيء، سوى قطع حفرت الأرض وغاصت فيها. على أي حال يخبر الأم أن تحتفظ بكبريائها لأن ابنها تحمل الموت بروح عالية. لقد سار إلى مكان الموت بخطوات ثابتة غير مترددة أبدًا. وعندما وصل الذروة نظر إلى قادة الإغريق بلا وجل فبكوا جميعا وحتى أوليس نفسه بكى. لم تكن ثمة عين لم تدمع سوى عيني الصغير. عندئذ أبعد عنه الأيدي التي كانت تمسكه وقفز بإرادته ومات، وتمزق نتفًا. تقول اندروماك “مثل أبيه تمامًا” وتنهي هيكوبي المسرحية بخلاصة تقول: إن الموت وحده هو المرغوب فيه(23).
من خلال هذه المقارنة التي وضعها أديث هاملتون في كتابه “الأسلوب الروماني في الفن والأدب والحياة” تظهر عبقرية سينكا كواحد من الفلاسفة والسياسيين الذين نفخوا في التراجيديا روحًا رومانية خاصة، حيث أبرز لنا الشعور الروماني، وطريقة التفكير والأسلوب المتمايز عن الأسلوب اليوناني، وهذا ما يجعل البعض يؤكد على أن ما بعده من تأثير في العصور كان ميراثًا من الرومان وليس اليونان. فقد حظي الرجل بالتقدير والإجلال بوصفه المثل الأعلى في التأليف المأساوي، وكان يفضل في بعض الأحيان على كتابات الثالوث المسرحي اليوناني، وخصوصًا من طرف النقاد الفرنسيين والإيطاليين الذين حددوا معالم المأساة بأرسطو وأعطوا نموذجًا بما حدده سينكا في تراجيدياته.
على سبيل الختم
مع انحلال الإمبراطورية وتراجع حضارتها ستتراجع التراجيديا الرومانية وسيؤول المسرح الروماني إلى الكوميديا الشعبية وإلى حفلات الميم والبانتوميم وعروض الأقنعة، التي ستكتسح فضاء الفرجة المسرحية بعد ذلك ستصبح حفلات مسرحية تتخللها كوميديا خليعة واستعراضات وألعاب بهلوانية سوقية ودعاية مكشوفة تغازل الغرائز. كما أنه اتخذ شكل مسرحيات وملاهي صامتة إيمائية، كانت تزداد فحشًا يوما بعد يوم. ورغم قيام الفلاسفة الرواقيين ضد المسرح فان الشعب لم يردد إلا شغفًا ولهفة بعروضه المتهتكة، لذلك تكاثرت مشاهد المصارعة والقتل ومناظر الدم البشري بينهم في الحلبات والمسارح، وتراجعت الفضيلة التطهيرية للخيال واضمحلت ملكة الفن، واضمحلت التراجيديا بعد أن تصدى لها رجال المسيحية، ووقفوا ضدها وضد المسرح باعتباره فنًّا مدنسًا يرتبط بمعتقدات ديونيزوس الوثنية، حيث حاربت المسيحية التراجيديا من خلال نصوص وقوانين ومراسيم وخطب انصبت على مساوئ التراجيديا والمسرح بصفة عامة، وأخطاره على عقيدة المسيح والأخلاق والفضائل المسيحية، وضرورة منعه وتحريمه، لكنها لم تمنعه بصفة كاملة، ولكنها بعد إقصائها احتوته لغاية الدعوة والتبشير للمسيحية. هذا كله ساعد وبشكل كبير على اضمحلال التراجيديا الرومانية وموتها.
الهوامش:
1- عواد علي، مجلة أقلام عرض لكتاب تاريخ المسرح تأليف فيتو باندوفلي، العدد الأول تشرين الأول 1979 دار الجاحظ- بغداد.ص11
2- ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران الجزء الأول من المجلد الثالث، دار الجيل- بيروت لبنان. ص175
3- نفسه ص،177
4- نفسه، 177
5- عبد الواحد بن ياسر، حياة التراجيديا، الطبعة الأولى 2006، ص113.
6- نفسه، ص113.
7- نفسه، ص113.
8- فايز ترحيني، الدراما والاتجاهات الأدبية، الطبعة الأولى 1988، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص104.
9- نفسه، ص104.
11- شلدون تشيني، تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة ترجمة دريني خشبة ، ج1، ص، 98.
12- ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران الجزء الأول من المجلد الثالث، دار الجيلا-بيروت – لبنان، ص176.
13- أديث هاملتون، الأسلوب الروماني في الفن والأدب والحياة، ترجمة حنا عبود، منشورات وزارة الثقافة معهد الفنون الجميلة، 1997 دمشق. ص207.
14- نفسه، 208.
15-نفسه، 208.
16- نفسه، 209.
17- نفسه، 209.
18- نفسه، 210.
19- نفسه، 210.
20- نفسه، 211.
21- نفسه، 212.
22- نفسه، 213.
23- نفسه، 213
لائحة المصادر والمراجع:
- عواد علي، مجلة أقلام عرض لكتاب تاريخ المسرح تأليف فيتو باندوفلي، العدد الأول تشرين الأول 1979 دار الجاحظ- بغداد.
- ول ديورانت، قصة الحضارة، ترجمة محمد بدران الجزء الأول من المجلد الثالث، دار الجيلا- بيروت لبنان.
- عبد الواحد بن ياسر، حياة التراجيديا في فلسفة الجنس التراجيدي وشعريته، ط1، 2006، المطبعة الوراقة الوطنية.
- دويث هاملتون، الأسلوب الروماني في الفن والأدب والحياة، ترجمة حنا عبود، منشورات وزارة الثقافة معهد الفنون الجميلة، 1997 دمشق.
- شلدون تشيني، تاريخ المسرح في ثلاثة آلاف سنة ترجمة دريني خشبة ، ج1.
- فايز ترحيني، الدراما والاتجاهات الأدبية، الطبعة الأولى 1988، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع.