النص أدناه هو مقدمة كتاب القُرْبَان (مقالة في طبيعة القُرْبَان ووظيفته) لمارسيل موس وهنري هوبير، والذي ستنشره دار منصة معنى للنشر والتوزيع.
نقترح في هذا العمل تحديد طبيعة القُرْبَان ووظيفته الاجتماعيّة، وهو مسعى كاد يكون مجرّد طموح لولا بحوث تايلور (Tylor)، وروبرتسون سميث (Robertson Smith) وفريزر (Frazer) التي مهّدت له. ونحن معترفون بما لهم في رقبتنا من دين. ولكنّ دراسات أخرى تسمح لنا باقتراح نظريّة مختلفة عن نظريّتهم وتبدو لنا أكثر تفهّمًا. ونحن لا نطمح إلى تقديمها إلاّ على سبيل فرضيّة مؤقّتة؛ إذ لا يمكن لأيّ معلومات جديدة حول موضوع واسع ومعقّد مثل موضوعنا، إلاّ أن تؤدّي في المستقبل إلى تغيير أفكارنا الحاليّة. ورغم هذه التحفظّات الصريحة، فإنّنا نظنّ أنّه من المفيد تنظيم ما يتوفّر لدينا من وقائع وتقديم تصوّر عامّ بشأنها.
ومهما كانت أهميّة تاريخ التصوّرات القديمة والشعبيّة حول “القُرْبَان-الهبة” و”القُرْبَان-الطعام” و”القُرْبَان-العَقْد”، ودراسة ما قد أحدثته من انعكاسات سلبيّة على الشعيرة، فإنّنا لن نتوقّف عندها مهما كانت فائدة ذلك. فالنظريّات المتعلّقة بالقُرْبَان قديمة قدم الأديان ذاتها، لكن العثور على نظريّات ذات طابع علمي لا يعود إلاّ لسنوات قليلة وبعد أن نشأت المدرسة الإناسيّة وخاصّة ممثّليها الإنكليز، إذ هي صاحبة الفضل في نشوء نظريّات علميّة.
فمن خلال استلهام كلّ من باستيان (Bastian) وسبنسر (Spencer) وداروين (Darwin)، أمكن لتايلور ([1]) عبر مقارنة وقائع تنتمي إلى أجناس وحضارات مختلفة، تخيّل كيفيّة نشأة أشكال القُرْبَان. فقد كان القُرْبَان في الأصل، وفق هذا المؤلف، هبة يقدّمها الإنسان البرّي إلى كائنات فوق طبيعيّة يحتاج الارتباط بها. ثمّ، عندما كبرت الآلهة وابتعدت عن الإنسان، فإنّ الحاجة إلى مواصلة تقديم تلك الهبة، ولّدت الطقوس القُرْبَانيّة من أجل وصول الأشياء المروحنة إلى تلك الكائنات الروحانيّة. وقد حلّ الإعظام محلّ الهبة، وفيه لا يعبّر المؤمن أبدًا عن انتظاره مقابلًا لذلك. وبهذا لم تعد تنقص الهبة لكي تغدو إيثارًا وتفانيًا سوى خطوة وحيدة؛ وبهذا أدّى التطوّر إلى انتقال الطقس من تقدمات إنسان برّي إلى التضحية بالنفس. – ولكن إذا كانت هذه النظريّة تصف مراحل التطوّر الأخلاقي للظاهرة على نحو كافٍ، إلاّ أنّها لا تفسّر إواليّة عمل الطقس، ولا تقوم في الواقع إلاّ بإعادة إنتاج التصوّرات الشعبيّة القديمة في قالب خطاب بليغ. غير أنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ لها في حدّ ذاتها، نصيب من الحقيقة التاريخيّة. فمن المؤكّد أنّ التضحيات كانت في العادة وإلى حدّ ما، هبات ([2]) تمنح المؤمن حقوقًا على إلهه. كما تصلح أيضًا لإطعام الآلهة. إلاّ أنّه لا يكفي بيان الواقعة، بل ينبغي إدراكها.
وفي الواقع، فقد كان روبرتسون سميث ([3]) أوّل مَن حاول تقديم تفسير معقول للقُرْبَان مستوحى من الاكتشاف الأخير للطوطميّة ([4]). فكما كان تنظيم العشيرة الطوطميّة مفتاح فهم الأسرة العربيّة والساميّة عند سميث ([5])، فقد أراد أيضًا أن يجد في ممارسات العبادة الطوطميّة أصل القُرْبَان. ففي الطوطميّة، يكون الطوطم أو الإله والد عُبّاده، فكلاهما من نفس الدم واللحم، وموضوع الطقوس هو صيانة وضمان هذا العيش المشترك الذي يحييهما والرابطة التي تجمع بينهما. فالطقوس هي مَن يستعيد الوحدة عند الحاجة، وما من وسيلة أيسر من “العهد بالدم” و”الطعام المشترك” لتحقيق هذه النتيجة. ولا يختلف القُرْبَان في نظر روبرتسون سميث عن هذه الممارسات، فهو لا يعدو وليمة يأكل خلالها المؤمنون الطوطم، فيستدمجونه ويندمجون فيه، وينصهرون بذلك فيما بينهم، أو ينصهرون فيه. فالقتل الذبائحي لا غرض منه سوى السماح باستهلاك حيوان مقدّس، وبالتالي حيوان محظور. ومن القُرْبَان الإيلافي، يستخلص روبرتسون سميث القرابين التكفيريّة أو الاسترضائيّة؛ أي “البياكولا” (piacula)، و”القرابين-الهبات” أو القرابين التعويضيّة. وما الكفّارة، حسب رأيه، سوى تجديد لعهد انقطع، والحال أنّ للقُرْبَان الطوطمي جميعَ مفاعيل الشعيرة التكفيريّة. بل إنّه وجد، علاوة على ذلك، هذه الخاصيّة نفسها في جميع القرابين، حتى بعد امّحاء الطوطميّة كليًّا.
ويظلّ شرح لماذا أضحت الضحيّة، التي كانت في الأصل تُقسم وتُؤكل من قبل المؤمنين، تُدمّر تمامًا في الغالب خلال البياكولا (القُرْبَان التكفيري). ونحسب أنّ ذلك يعود إلى اللحظة التي استُعيض فيها عن الطواطم القديمة بالحيوانات الأليفة في عبادات شعوب الرعاة، ليصبح حضورها في القرابين من حينها نادرًا، باستثناء الحالات بالغة الأهميّة. فهي تبدو وكأنّ قداستها لا تسمح للمدنّسين بمسّها، فلا يأكل منها إلاّ الكهنة، أو يتمّ حرقها بالكامل. وفي هذه الحالة، تنتهي الحرمة المفرطة للضحيّة إلى أن تتحوّل إلى نجاسة؛ وقد سمحت الطبيعة الغامضة للأشياء المقدّسة، التي ألقى عليها روبرتسون سميث الضوء بطريقة مذهلة، بأن تُفسّر بسهولة كيف أمكن لهذه التحوّلات أن تحدث. ومن ناحية أخرى، وحين توقّفت القرابة بين البشر والحيوانات عن أن تكون مُدْرَكَة عند الساميّين، عوّضت الأضحية البشريّة الأضحية الحيوانيّة؛ إذ كان ذلك السبيل الوحيدة حينها لإقامة تبادل دموي مباشر بين العشيرة والإله. ولكن الأفكار والعادات التي كانت تحمي حياة الأفراد في المجتمع بحظرها أكل لحوم البشر، أدّت فيما بعد إلى إهمال الطعام القُرْبَاني.
ومن ناحية أخرى، وشيئًا فشيئًا، بدأ الطابع المقدّس للحيوانات الداجنة، بفعل تدنيسها يوميًّا من قبل الإنسان من أجل غذائه، بالتّلاشى. وبهذا، انفصل الإله عن أشكاله الحيوانيّة. وبابتعادها عن الإله، بدأت الضحيّة تقترب من الإنسان صاحب القطيع. وحينها، ولتبرير التقدمة الموجّهة إلى الإله، تمّ تمثّل الأضحية باعتبارها هديّة من الإنسان إلى الآلهة. وهكذا، وُلد “القُرْبَان الهديّة”. وفي ذات الوقت، أدّى تشابه طقوس العقاب والطقوس القُرْبَانيّة وسفك الدّم في كليهما، إلى إكساء القرابين البياكوليّة الأصل (الاسترضائيّة) طابعًا عقابيًّا، وتحويلها إلى قرابين تكفيريّة.
وتتّصل بهذه البحوث، من جهة أولى، أعمال السيّد فريزر، ومن جهة أخرى نظريّات السيّد جيفونز (Jevons). وهذه الأخيرة ولئن كانت أكثر حذرًا بشأن بعض النقاط، إلاّ أنّها لا تعدو في الغالب مبالغة في مذهب سميث ([6]). أما السيّد فريزر ([7])، فيضيف عليها تطوّرًا مهمًّا. فقد بقي تفسير التضحية بالإله جنينيًّا عند سميث، فقد جعل منها دون تجاهل لطابعها الطبيعي، تضحية استرضائيّة من نمط أعلى. وقد استمرّت الفكرة القديمة حول القرابة بين الضحيّة الطوطميّة وبين الآلهة قائمة من أجل تفسير التضحيات السنويّة، فهي تحتفي وتستعيد مأساة كان ضحيّتها الإله. وقد أقرّ السيّد فريزر وجود تشابه بين الآلهة المضحّى بها وشياطين النبات عند مانهاردت (Mannhardt) ([8]). وقد قارب بين القتل الطقوسي لأرواح النبات والتضحية الطوطميّة، وأظهر كيف تولّد، انطلاقًا من القُرْبَان ومن الوليمة القُربانيّة اللذبن يُفترض فيهما استيعاب الآلهة، القُرْبَان الزراعي التي يتمّ فيه التحالف مع إله الحقول في مختتم حياته السنويّة، من خلال قتله، ومن ثمّ التهامه. كما لاحظ في ذات الوقت أنّ الإله القديم المضحّى به، كان في كثير من الأحيان، ربّما بسبب المحرمّات التي كان مسؤولًا عنها، يحمل معه المرض والموت والخطيئة، ويلعب بذلك دور الضحيّة التكفيريّة، أي دور كبش الفداء. ولكن على الرغم من تميّز فكرة التسييب في هذه التضحيات، فإنّ التكفير ما يزال يبدو متولّدًا عن القُرْبَان. وبذلك يكون السيّد فريزر مكمّلًا لنظريّة سميث، أكثر منه مناقشًا لها.
ويكمن العيبُ الرئيسُ في هذا المنهج في محاولة إعادة مختلف أشكال القُرْبَان المتعدّدة إلى مبدأ وحيد تمّ اختياره اعتباطيًّا. ذلك أنّ كونيّة الطوطميّة، وهي نقطة انطلاق النظريّة بأكملها، لا تعدو مجرّد مصادرة غير مبرهنة. فالطوطميّة لا تظهر في حالتها النقيّة إلاّ عند بعض القبائل المنعزلة في أستراليا وأمريكا، ووضعها في أساس جميع العبادات الحيوانيّة هو مجرّد افتراض قد يكون عديم الجدوى، ولكنّه بالخصوص مستحيل التحقّق منه مهما كانت الحال، خاصّة وأنّه يصعب العثور على قرابين طوطميّة بأتمّ معنى الكلمة. وقد اعترف السيّد فريزر نفسه بأنّ الضحيّة الطوطميّة كانت هي نفسها في كثير من الأحيان قُرْبَانا زراعيًّا. وفي حالات أخرى، كانت الطواطم المزعومة تمثّل النوع الحيواني الذي تقوم عليه حياة القبيلة، سواء كان ذاك النوع مستأنسًا، أو طريدة مفضّلة أو، على العكس من ذلك، ممّا يُخشى منه بشكل خاصّ. وفي أقلّ تقدير، فإنّ وصفًا مفصّلًا لبعض هذه الاحتفالات كان ضروريًّا، وهذا تحديدًا ما ينقصنا.
لكن، لنقبل مبدئيًّا الفرضيّة الأولى، رغم ما يعترينا بشأنها من شكوك. فحتّى في هذه الحالة، فإنّ المنهج يبقى عرضة للنقد. فالنقطة الرخوة لهذا المذهب هي التعاقب التاريخيّ والتفرّع المنطقي الذي يزعم سميث البرهنة عليه، بين القُرْبَان الإيلافي وغيره من أنواع القرابين، والحال أنّ هذا أكبر مصدر للشكّ، وهو ما يجعل أيّ محاولة لمقارنة التسلسل الزمني بين القرابين العربيّة والقرابين العبريّة أو غيرها ممّا يدرسه، فاشلة لا محالة. فالأشكال التي تبدو الأكثر بساطة غير معروفة لدينا إلاّ من خلال نصوص متأخّرة. كما أنّ بساطتها قد تكون ناتجة عن نقص في الوثائق. وفي جميع الحالات، فهي لا تتضمّن أيّ أولويّة. وإذا ما اكتفينا بوقائع التاريخ والنياسة الوصفيّة (الاثنوغرافيا)، فإنّنا نجد الكفّارات (البياكولوم piaculum) في جميع أنحاء العالم جنبًا إلى جنب مع الإيلاف. وعلاوة على ذلك، فإن مصطلح “البياكولوم” الغامض هذا يسمح لسميث، تحت العنوان نفسه والمصطلحات نفسها، وصف التطهّرات والاسترضاءات والكفّارات، وهذا اللبس هو ما يمنعه من تحليل القُرْبَان التكفيري. ومن المؤكدّ أن تكون هذه القرابين متبوعة عادة بمصالحة مع الإله: وجبة قُرْبَانيّة ونضح دماء وادّهان، يُستعاد من خلالها التحالف معه. ولكن بالنسبة إلى سميث، فإنّ الخاصيّة التطهيريّة تكمن في هذه الطقوس القُرْبَانيّة نفسها؛ وهو ما يجعل فكرة التكفير بالنتيجة مستنفذة في فكرة القُرْبَان. إنّه يلاحظ بلا شكّ، في بعض الأشكال المتطرّفة أو المبسّطة، شيئًا لا يجرؤ أن يربطه بالقُرْبَان، هو نوع من طرد الأرواح الشرّيرة أو النحس. ولكن هذا، وفقًا لرؤيته، مجرّد عمليّات سحريّة خالية تمامًا من كلّ بعد قُرْبَاني، ويوضّح بكثير من التوسّع والحذق دخولها المتأخّر في آليّة القُرْبَان. وهذا هو بالضبط ما يمكننا أن نوافقه عليه. فأحد مواضيع هذا العمل هو إظهار أنّ التخلّص من سمة مقدّسة، أكانت سمة طهر أم نجاسة، هي عنصر أوّلي من عناصر القُرْبَان، أكثر بدائيّة وبدئيّة من الإيلاف ذاته. وإذا ما كان للنّظام القُرْبَاني وحدته، فلا بدّ من البحث عنها في مكان آخر.
لقد كان خطأ روبرتسون سميث في المقام الأوّل خطأً في المنهج. فبدل تحليل نظام الطقوس الساميّة في تعقّدها الأصلي، تولّى تجميع الوقائع بحسب ما بينها من قرابة، معتمدًا ما تراءى له من أوجه تشابه بينها. وهذا في الحقيقة سمة مشتركة بين علماء الإناسة الانكليز المنشغلين بالدرجة الأولى بتجميع الوثائق وتصنيفها. أمّا بالنسبة إلينا، فنحن لا نسعى من جهتنا إلى كتابة موسوعة يستحيل علينا جعلها كاملة، ولا تضيف أيّ جديد لما سبقها. نحن نسعى فحسب إلى دراسة وقائع نموذجيّة بشكل جيّد، وهي وقائع مستمدّة بالخصوص من النصوص السنسكريتيّة والكتاب المقدّس. فنحن أبعد ما يكون عن امتلاك وثائق حول القرابين اليونانيّة والرومانيّة من القيمة نفسها، ولن يمكننا من خلال الجمع بين المعلومات المتناثرة التي توفّرها النقوش والكتابات، سوى بناء طقس مغاير للحقيقة. وعلى العكس من ذلك، فإنّنا نجد في التوراة وفي النصوص الهندوسيّة مدوّنات من العقائد المنتمية إلى حقبة محدّدة. فالوثيقة هنا مباشرة، ومكتوبة من قبل الفاعلين أنفسهم، وبلغتهم، وبالروح نفسها التي كانوا يؤدّون بها الطقوس، إن لم يكن بوعي واضح كلّ الوضوح بأصل أفعالهم وبواعثها.
وبلا شكّ، وبما أنّ الأمر متعلّق بالوصول إلى تمييز الأشكال البسيطة والأساسيّة لمؤسّسة، فمن المؤسف أن نبدأ البحث انطلاقًا من طقوس معقّدة وحديثة ومشروحة، وقد تكون ممّن حرّفه لاهوت متعالم. ولكن في هذا المستوى من الحقائق، فإنّ أيّ بحث تاريخي محضٍ سيكون غير مجدٍ. فقدم النصوص أو الوقائع المستشهد بها، ووحشيّة الشعوب النسبيّة، والبساطة الواضحة للشعائر، هي مؤشّرات تأريخيّة مضلّلة. ومن الشطط البحث في مقطع من الإلياذة عن صورة تقريبيّة للقُرْبَان اليوناني البدائي؛ فهي ليست كافية حتّى لإعطاء فكرة دقيقة عن القُرْبَان زمن هوميروس ذاته. إنّنا لا ننظر إلى أقدم الشعائر إلاّ من خلال وثائق أدبيّة، غامضة وغير كاملة، ومن خلال متردّمات (survivances) جزئيّة وكاذبة لمأثورات غير موثوقة. – كما أنّه من غير الممكن أيضًا أن نطلب من النياسة الوصفيّة (الإثنوغرافيا) وحدها إنجاز خطاطة للمؤسّسات البدائيّة. فالوقائع المسجّلة من قبل النيّاسين، والمستقاة عادة عن طريق ملاحظة متسرّعة أو شوّهتها دقّة لغاتنا، لا تكتسب قيمتها إلاّ كانت مسنودة بوثائق أكثر دقّة وأكثر اكتمالًا.
وبهذا، فنحن لا نسعى هنا إلى كتابة تاريخ القُرْبَان ونشأته، وإن حدث أن تكلّمنا عن أسبقيّة، فسيكون الأمر متعلّقًا بأسبقيّة منطقيّة، لا بأسبقيّة تاريخيّة. ولا يعود ذلك إلى أنّنا نرفض الحقّ في استدعاء النصوص الكلاسيكيّة أو علم النياسة لإضاءة تحاليلنا والتحكّم في عموميّة استنتاجاتنا، بل لأنّنا نرى بدلًا من تركيز دراستنا على مجموعات من الوقائع المشكّلة اصطناعيًّا، أنّ الأجدى هو اعتماد بعض الطقوس المحدّدة والمكتملة وبعض النُّظُم الطبيعيّة لطقوس تفرض نفسها على الملاحظ. وبما أنّ هذه مقيّدة بنصوص، فسنكون بالتّالي أقلّ عرضة للسهو والتصنيفات التعسفيّة. وأخيرًا، ونظرًا إلى الاختلاف الشديد بين الديانتين اللتين ستكونان محور بحثنا، إذ تؤدّي إحداهما إلى التوحيد وتؤدّي الأخرى إلى الحلوليّة (وحدة الوجود)، فإنّه يمكننا أن نأمل عبر المقارنة بينهما في التوصّل إلى استنتاجات يمكن تعميمها نسبيًّا ([9]).
[1] – تايلور (إدوارد بورنيت)، الحضارة البدائيّة، باريس، 1876، ج Il، الفصل XVIII.
- Tylor (Edward Burnett), La Civilisation primitive, traduit par : Pauline Brunet, Edmond Barbier, Paris : C. Reinwald & ce., 1876, Il, chap. XVIII.
[2] – انظر عرضًا سطحيًّا في: نيتشش (فريدريش أوغست برتولد)، فكرة العبادة القُرْبَانيّة ومراحلها: مساهمة في التاريخ العامّ للدّين، كيال، 1889.
– وقد تبنّى هذه النظريّة تباعًا الكاتبان اللذان وجّها أشدّ الانتقاد إلى روبرتسون سميث، وهما جورج ألكسندر ويلكن (Georg Alexander Wilken) و ليون ماريلييه (Léon Marillier). انظر: ويلكن (جورج ألكسندر)، “نظريّة جديدة حول أصل القرابين”، مجلّة الدليل، 1891، ص 535 وما بعدها؛ ماريلييه (ليون)، “مكانة الطوطميّة في التطوّر الديني. حول كتاب صدر مؤخرًا”، مجلّة تاريخ الأديان، العدد 36-37، باريس، 1897-1898.
- Nitzsch (Friedrich August Berthold), Die Idee und die Stufen des Opferkultus: ein Beitrag zur allgemeinen Religionsgeschichte, Kielm: Universitäts-Buchhandlung, 1889.
- Wilken (Georg Alexander), “Eine nieuwe theorie over den oorsprong der offers”, De Gids, 1891, p. 535 sq.
- Marillier (Léon), « La place du totémisme dans l’évolution religieuse. à propos d’un livre récent », Revue de l’histoire des religions, n° 36-37, Paris, 1897-1898.
[3] – انظر: روبرتسون سميث (وليام)، “القُرْبَان”، في: الموسوعة البريطانيّة، الطبعة التاسعة، ادنبره، 1886، المجلد 21، ص 132-138؛ وانظر: روبرتسون سميث (ويليام)، ديانة الساميّين، ادنبره، 1890.
- Smith (William Robertson), Art. « Sacrifice », in EncyclopædiaBritannica, 9th edition, Edinburgh: A. & C. Black, 1886, Volume 21, p. 132–138.
- Smith (William Robertson), Religion of Semites, Gifford Lectures, Edinburgh: A. & C. Black, 1890.
[4] – انظر: ماك لينان (جون فرغسون)، “عبادة النبات والحيوان”، مراجعة نصف شهريّة، لندن، 1869-1870، المجلّد VI، ص 407-427، ص 562-582؛ المجلّد VII، ص 194-216.
- McLennan (John Ferguson), « Plant and Animal Worship », Fortnightly Review, London, 1869-1870, Vol. VI, p. 407-427 & p. 562-582; Vol. VII, p. 194-216.
[5] – روبرتسون سميث (ويليام)، القرابة والزواج في بلاد العرب القديمة، كامبردج، 1884.
- Smith (William Robertson), Kinship and Marriage in Early Arabia, Cambridge, 1884.
[6] – روبرتسون سميث (ويليام)، مدخل إلى تاريخ الدين، لندن، 1896. وبخصوص القيود، انظر: ص 111، 115، 160.
وقد ارتبط السيّد سيدني هارتلاند بنظريّة روبرتسون سميث، انظر: سيدني هارتلاند (إدوين)، أسطورة بيرسيوس: دراسة التقاليد في القصّة والعُرْف والاعتقاد، لندن، 1894، ج II، الفصل XV).
- Smith (William Robertson), Introduction to the History of Religion, London: Methuen, 1896.
- Sydney Hartland (Edwin), Legend of Perseus: a study of tradition in story, custom and belief, London: David Nutt, 1894, t. II, ch. XV.
[7] – فريزر (جيمس جورج)، الغصن الذهبي: دراسة في الدين المقارن، نيويورك ولندن، 1890، الفصل III.
- Frazer (James George, Sir), Golden Bough: A Study in Comparative Religion, New York and London : Macmillan & Co., 1890, chap. III.
[8] – مانهاردت (ويلهم)، طقوس الغابات والحقول، برلين، 1875 (جزءان)؛ نفسه، بحوث أسطوريّة، سترازبورغ، 1884.
- Mannhardt (Wilhem), Wald-und Feldkulte, Berlin: Gebrüder Borntraeger, 2 vol., 1875.
- Mannhardt (Wilhem), Mythologische Forschungen, Strasbourg: Karl J. Trübner, 1884.
[9] – قبل كل شيء، يجب أن نشير إلى النصوص التي نستخدمها هنا وما هو موقفنا النقدي تجاهها:
– تنقسم وثائق الطقوس الفيديّة إلى: الفيدا (Vedas) أو السامهيترا (Samhitras)، والبراهمانا (Brâhmanas) والسوترا (Sûtras). والسامهيترا هي مجموعات من التراتيل والصيغ التي تُتلى في الطقوس. والبراهمانات هي التعليقات الأسطوريّة واللاهوتيّة على الطقوس. والسوترا هي كتب الطقوس. ورغم أنّ كلّ نوع من هذه النصوص يعتمد على الآخر، وكأنّها سلسلة طبقات متعاقبة، أقدمها هي الفيدا، فإنّه يمكننا، إلى جانب التقليد الهندوسي التي يتزايد ميل علماء اللغة السنسكريتية إلى تبنّيه، اعتبارها تُشكّل في مجموعها كتلة واحدة وأنّها يكمّل بعضها البعض. وبدون إعطائها تواريخ محدّدة، ولو تقريبيّة، يمكننا القول إنّه يستحيل فهم بعضها دون الاستعانة بالأخرى. فمعنى الصلوات، وفتاوى البراهمة وأفعالهم، متلاحمة كأشدّ ما يكون التلاحم، ولا يمكن إضفاء معنى على الوقائع إلا من خلال مقارنة متواصلة بين كلّ هذه النصوص. وتتوزّع هذه النصوص وفقًا لمهامّ الكهنة الذين يستخدمونها، وحسب العشائر البراهمانيّة المختلفة. وقد استخدمنا ما يلي: “مدارس المنشد” ريغ فيدا (Rig Veda)، وهي مجموعة من التراتيل المستخدمة من قبل الهوطار (hotar) (ولا نعني أنّها لا تتضمّن سوى ترانيم طقسيّة، أو أنّها حديثة). ومن بين النصوص الأخرى لهذه الدراسة، آيتاريّا براهمانا (Aitareya Brâhmana). آشفالايانا شروتا سوترا (Açvalâyana çrauta sûtra). انظر:
- ماكس مولر (فريديريش) (تحرير)، ريغ فيدا سنهيتا: ترانيم البراهمة المقدّسة، ترجمة: ألفريد لودفيغ، لندن، 1849.
- أوفريخت (تيودور)، آيتاريّا براهمانا، ترجمة هانغ، بون، 1879.
- فيدياراتنا (رمانارايانا)، آشفالايانا شروتا سوترا، كلكوتا، 1864-1874.
- Müller (Max) (edition), Rig-Veda-Sanhita, the sacred hymns of the Brahmans, traduction: Alfred Ludwig, London: W.H. Allen & Co., 1849.
- Aufrecht (Theodor) (edition), Aitareya Brâhmana, traduction: Hang, Bonn: Bei Adolph Marcus, 1879.
- Vidyāratna (Rāmanārāyaṇa) (edition), Āçvalāyana Çrauta Sūtra, Calcuta, 1864-74 (Bibliotheca Indica).
– مدارس الكهنة:
أ) مدرسة ياجور فيدا البيضاء (Vâjasaneyins) مع النصوص التي حرّرها فيبر: فيدا الصيغ (Vajasaneyi-Sambitâ)؛ شاتاباثا براهمانا (Çatapatha Brâhmana)، ترجمها ج. إيغيلينغ في: كتب الشرق المقدّسة، XXII، XXIII، XLI، XLVI؛ كاتيايانا شروتا سوترا (Kâtyâyana çrauta sûtra)؛
- Müller (Max) (edition), Sacred Books of the East, trad. Julius Eggeling, Oxford: Clarendon Press, 1897.
ب) مدرسة ياجور فيدا السوداء (Taittiriyas): تايتريّا سمبيتا (Taittiriya Sambitâ)، في: دراسات هنديّة، تحرير: ألبرشت فيبر، المجلد الحادي عشر، والثاني عشر، برلين، 1863، وهو يحتوي على الصيغ والبراهمانات؛ تايتريّا براهمانا (Taittiriya Brâhmana)، ويحتوي بالمثل على صيغ وتراتيل (براهمانات)؛ أباستامبا شروتا سوترا (Apastamba-çrauta-sûtra)، وهو الذي تابعنا فيه الطقوس بصفة خاصّة.
- Weber (Albrecht) (edition), Indische Studien, Vol. XI, XII, Berlin: F. Dümmler, 1863.
– ويتوازى مع هذه النصوص تلك التي تهتمّ بالطقوس المنزليّة، أي غرهيا سوترا (gŗhya sûtras) لمختلف المدارس. انظر: كتب الشرق المقدّسة، م.م.س، المجلدان XXIX ، XXX.
– يُضاف إلى ما سبق، سلسلة نصوص التراتيل (براهمانات)، منها: أثارفا فيدا (Atharra-Veda)، في: كتب الشرق المقدّسة، م.م.س، المجلد XLVIII؛ الكتابان VIII وXIII)؛ كوشيكا سوترا (Kauçika sûtra)، نفس المصدر.
وكانت دراستنا للطقوس الهندوسيّة ستكون مستحيلة دون الاطلاع على كتب السيّد شواب (Schwab) والسيّد هيلبراندت (Hillebrandt)، ودون مساعدة شخصيّة من السادة كالاند (Caland) وونترنيتز (Winternitz) وسيلفان ليفي (Sylvain Lévi)، وهم أساتذتنا.
وبخصوص دراستنا القُرْبَان التوراتي، سنعتمد أسفار موسى الخمسة كقاعدة، ولن نحاول أن نقترض من النقد التوراتي عناصر تاريخ طقوس القُرْبَانيّة العبريّة. ذلك أنّ الموادّ، في رأينا، غير كافية. ثمّ إذا كنّا نعتقد أنّ النقد التوراتي يمكنه أن يشكّل تاريخ النصوص، فإنّنا بالمقابل نرفض الخلط بين هذا التاريخ وتاريخ الحقائق. وعلى وجه الخصوص، وبغضّ النظر عن تاريخ كتابة سفر اللاويّين وعن السجلّ الكهنوتي (Priestercodex) بشكل عامّ، فإنّ عمر النصّ ليس هو، في رأينا، بالضرورة عمر الطقس؛ فتثبيت سمات الطقوس يمكن أن يكون قد تمّ في وقت متأخّر عن كتابة النصوص، والحال أنّ تلك الطقوس كانت موجودة قبل أن يتمّ التدوين. وبهذا استطعنا تجنّب التساؤل بشأن كلّ طقس عمّا إذا كان ينتمي إلى طقس أقدم منه. حول هشاشة عدد من استنتاجات المدرسة النقديّة، انظر:
هاليفي (جوزيف)، “أبحاث توراتيّة: تأثير القانون الكهنوتي على الأنبياء”، المجلّة الساميّة لدراسة النقوش والتاريخ القديم، 1898، ص 1، وما بعدها، 87 وما بعدها، 193 وما بعدها، 289 وما بعدها؛ 1899، ص 1 وما بعدها.
- Halévy (Joseph), « Recherches bibliques : Influence du code sacerdotal sur les prophètes », Revue sémitique d’épigraphie et d’histoire ancienne, 1898, 1 sqq., 97 sqq., 193 sqq., 289 sqq., 1899, p. 1 sqq.
– وحول القُرْبَان العبري، انظر الأعمال العامّة:
- مونك (سليمان)، فلسطين: وصف جغرافي وتاريخي وأثري، باريس، 1845.
- نواك (فيلهيلم)، كتاب الآثار العبريّة، فرايبورغ ولايبزيغ، 1894، ج II، ص 138 وما بعدها؛
- بن زنكر (عمانوئيل)، علم الآثار العبري، فرايبورغ، 1894، ص 431 وما بعدها؛
- Munk (Salomon), Palestine: description géographique, historique et archéologique, Paris : Firmin-Didot frères, 1845 ;
- Nowack (Wilhelm), Lehrbuch der hebräischen archäologie, Freiburg und Leipzig : C. Mohr (P. Siebeck), 1894, II, p. 138 sqq. ;
- Benzinger (Immanuel), Hebräiscbe Archäologie, Freiburg, 1894, p. 431sqq. ;
– وانظر الأعمال المختصّة:
- هوبفيلد (هيرمان)، كتاب الطبيعة البدائيّة والحقيقيّة للأعياد العبريّة، هال، 1851 (4 أجزاء).
- ريهام (إدوارد)، “حول قُرْبَان الخطيّة”، مجلّة الدراسات اللاهوتيّة والنقد، 1854.
- باخمان (يوهانس)، الشرائع الثابتة في أسفار موسى الخمسة: قراءة نقديّة جديدة، برلين، 1858.
- أوريلي (كونران فون)، “بعض باكورات العهد القديم في العهد الجديد. عقيدة التصالح”، مجلّة العلوم الكنسيّة وحياة الكنيسة، العدد 5، 1884.
- مولر (جويل)، مقال نقدي حول أصل عيدي الفصح والحصاد وتطوّرهما التاريخي، محاضرة افتتاحيّة، بون، 1884.
- شمولر (غوستاف فون)، “جوهر التكفير عن الذنوب في العهد القديم. قرابين التوراة “، مجلّة الدراسات اللاهوتيّة والنقد، هامبورغ، 1891.
- فولك (فيلهلم)، حول بعض قرابين الأنبياء في العهد القديم، دوربات، 1893.
- بينتش (برونو)، قانون القداسة في سفر اللاويّين (الآيات XVII-XXVI)، آرفورت، 1893.
- كامبهاوزن (أدولف)، علاقة القُرْبَان البشري بالديانة الإسرائيليّة، بون، 1896.
- Hupfeld (Hermann), De Commentatio de primitiva et vera festorum apud Hebraeos ratione, 4 Teile, Halle: Gebauer, 1851;
- Riehm (Eduard), « Ueber das Schuldopfer », Theologische Studienund Kritiken, Hamburg, 1854;
- Rinck (W. F.), « Ueber das Schuldopfer », Theologische Studienund Kritiken, Hamburg, 1855;
- Bachmann (Johannes), Die Festgesetze des Pentateuchs, aufs neue kritisch Untersucht, Berlin : W. Schultze, 1858 ;
- Kurtz (Johann Heinrich), Der alttestamentliche Opfercultus nach seiner gesetzlichen Begründung und Anwendung, Mitau: A. Neumann, 1862;
- Riehm (Eduard), Der Begriff der Sühne im Alten Testament, Gotha: Friedr. Andr. Perthes, 1877.
- Orelli (Conrad von), « Einige alttestamentliche Prämissen zur neutestamentlichen. Versöhnungslehre », Zeitschrift für kirchliche Wissenschaft und kirchliches Leben 5, 1884;
- Müller (Joel), Kritischer Versuch über den Ursprung und die geschichtliche Entwickelung des Pessach und Mazzothfestes, Inaug. Diss., Bonn, 1884.
- Schmoller (Gustav von), “Das Wesen der Sühne in der alttestamentlich. Opferthora”, Theologische Studien und Kritiken, Hamburg, 1891.
- Volck (Wilhelm), De nonnullis veteris testamenti prophetarum locis ad sacrificia spectantibus, Dorpat: C. Mattiensen, 1893.
- Baentsch (Bruno), Das Heiligkeits-Gesetz Lev. XVII-XXVI, Erfurt: H. Güther, 1893;
- Kamphausen (Adolf), Das Verhältnis des Menschenopfers zur israelitischen Religion, Bonn: Rohr- scheid und Ebbecke, 1896.
– حول النصوص الإنجيليّة المتعلّقة بالقُرْبَان، انظر: كومتون (بردمور)، عظات حول القُرْبَان الكاثوليكي والموضوعات المتّصلة به، لندن، 1896.
- Compton (Berdmore), Sermons on the Catholic Sacrificeand Subjects Connected with it, London: Rivingtons, 1896.