1-الموضوع والمدخَل
في هذا المقال، والمقالين التاليين، نستعرض ستة أعمال من الموسيقى الكلاسيكية، ولكنْ من خلال منظور واحد، هو “النبضة” Pulse. والنبضة مصطلح في نظرية الموسيقى، هو الوحدة الإيقاعية التي يتلقاها السامع، ويتحرك جسده معها أحيانًا، أو هي بالأدق وحدة إيقاعية ما متكررة على مسافات زمنية –فترات- شبه منتظمة في العمل.[1] ولنقرّبَ المصطلح؛ فدقات الساعة مثلاً نبضات خالصة، لا يصحبها صوت سواها، ومتكررة على مسافات متساوية في إدراكنا لها، ولكن يمكن تمثيل النبضة الموسيقية بالأحرى بنبضات القلب، فهي الأقرب إلى النبضة الموسيقية من حيث كوننا ندركها على مسافات زمنية “شبه” متساوية.
وبالنسبة لعمل سيمفوني، وحين نتحدث عن النبضات، فنحن نشير إلى مجموعة كبيرة معقدة، ومتطورة بعضها من بعض، من النبضات؛ فالعمل يتضمن إيقاعات مختلفة بطبيعة الحال. ولكن بعض النبضات في العمل الواحد مميزة، ومقصودة من المؤلف، ويتضح هذا من تركيزه عليها، وإبرازه لها، بالتوزيع، أو بشدة الصوت، أو بالمسافة الصامتة الفاصلة إياها عما يسبقها وما يليها، أو غير ذلك من أساليب تشديد النبْر Accent. وتشديد النبر كما يترجَم عادةً هو علاقة نبضة بأخرى، ويتضح بالتأكيد على نبضة معينة، في مقابل أخرى، يتم توكيدها بدرجة أقل.[2] والمهم هنا أن نؤكد أن النبضة الموسيقية يتلقاها المستمِع في لا زمان بحسب النظرية؛ فهو يسمعها كطرقة واحدة لا امتداد لها.
هذا ما تقوله نظرية الموسيقى بصدد النبضة. غير أننا حين نحاول فهمها من منظور شعوري-بدهي، أي كما نتلقاها دون تنظير أو حكم مسبق،[3] وحيث إن المؤلف الموسيقي يقصدها قصدًا ويوجهها بالأساس إلى جمهور متنوع التخصصات غالبًا، فإننا نفهمها بمعنى أشمل من مجرد الوصف الرياضي لها. هذا لأن كافة عناصر العمل الموسيقي لا يقدمها الموسيقار طبقًا لنظرية الموسيقى وحسب، بل يتدخل موضوع العمل، وأسلوب المؤلف، في إعادة صياغة هذه العناصر. ويمكن تمثيل ذلك بأوزان الشعر؛ فهي محددة في نظرية العروض، ولكن كل شاعر يطوّعها طبقًا لمقصوده منها، ولهذا يختلف إيقاع كل نص، حتى في الديوان نفسه للشاعر نفسه، بحسب النصّ. وهنا يمكن لنا تحليل النبضة في عمل معين وفقًا لموضوعه، وما توحي به هذه النبضة؛ ففي عمل ما ربما تشير إلى ضربة مطرقة، أو سيف، أو سوط، أو مجرد دقات الوقت، أو نبضات قلب، أو دمدمات رعد، أو ارتطامات موج، أو غير ذلك. ولكن بسبب ارتباط النبض بالقلب، ولأننا قلنا أنّ نبض القلب هو أقرب مثال للنبض في الموسيقى، فإننا في هذا المقال، وما يليه، سوف نحاول النظر إلى بعض النبضات الموسيقية في بعض من أشهر الأعمال بما هي نبضات قلب، وبحيث نختبر هذا المنظور في إعادة فهم هذه الأعمال. كيف كان ينبض قلب باخ، أو بيتهوفن، أو برامز؟ وما دلالته في العمل؟ وماذا يترتب على هذا المنظور؟ وهل ترتبط النبضة عادة في الأعمال الكلاسيكية، أو على الأقل في تلك الأعمال موضوع هذه المقالات، بعنصر آخَر يلازمها؟ في رأيي نعم؛ فعند المؤلفين المذكورين يرافق النبضة مفهوم آخَر، هو الوَحْش، وهو هذه المرة ليس اصطلاحًا موسيقيًا محددًا، ولكن يمكن لنا مؤقتًا على الأقل استعمال هذا التعبير؛ للدلالة على انبلاج حدَث عظيم، حيث تحتشد له آلات الأوركسترا، ويشتد الصوت، للإشارة إلى تحول درامي بالغ.
ولم يُوَلِّ نقاد الموسيقى، وفلاسفتها، اهتمامًا مناسبًا لمقام النبض؛ لأن أغلب التركيز انصبّ بطبيعة الحال على العمل ككل، أو على حركة من حركاته، ولكن التحليل الدقيق لمثل هذه العناصر البسيطة في تكوينها، المعقدة حين تتراكب معًا، يكشف عما لا يكشف عنه المنظور الشامل. أو فلنقل إن موضوع هذه المقالات هو من قبيل تحليل البنية الدقيقة Micro-structure، الذي هو أدق من تحليل البنية الصغيرة Mini-structure أيْ بنية قسم من الحركة السيمفونية، والذي هو نفسه أصغر من تحليل البنية الكبيرة Macro-structure أي تحليل صيغة الحركة ككل. وأغلب التحليل الموسيقي يرتكز على البنيتين الكبيرة، والصغيرة، دون الدقيقة أو الميكرووية.
وفي رأيي فإن تحليل البنية الميكرووية، أو الدقيقة، بالغ الأهمية؛ لأن فهم المركبات المعقدة إنما يتحقق بالأحرى والأكمل بتحليل عناصرها البسيطة، ثم فهم كيف تراكبت في بناء شامل. تتداخل في العمل الموسيقيّ النبضاتُ والوحوشُ Pulses and Beasts، وتتصارع، وما نسمعه من العمل هو صليل السيوف، وصرخات النشوة الانتصارية، أو الانهزامية في هذه المعركة بين قلب ووحش. وبينما النبضة بحسب تعريفها الاصطلاحي غير ممتدة في الزمان، فإن الوحش رد فعل على النبضة، وممتد زمانيًا بوضوح. وسيتضح ذلك بنحو تطبيقي في الأمثلة المختارة من الأعمال. ولكن، وعند هذا الحد، ما العلاقة بالضبط بين النبضات والوحوش؟
2-النبضات والوحوش
النبضات داخلٌ، والوحوش خارجٌ. النبضات الكلاسيكية نبضاتُ نُجومٍ كهرومغناطيسية، تصل إلى الأرض، لتتوقف الآلات عن عملها، وتهوي الطائرات، وتمثل خطرًا حقيقيًا على الحضارة.[4] لكن الوحوش تخرج في عالَم مِن عوالِم ما-بعد-المحرقةPost-Holocaust ،[5] لترفع رؤوسَها، وتعلن سيادتها على عالَم الإنسان، الذي دفنها عميقًا في أراضي النسيان. إنها تنهض لتعلن ألوهة متأخرة، لا تتحقق إلا في عالَم من الدمار الشامل، والذي لا تحققه بدوره إلا نبضةٌ كلاسيكية. النبضة الكلاسيكية تنداح، في لجة الحضارة، يُلقَى فيها بالموسيقى، لتتولد موجات متداخلة من الأصوات، والأصداء، لا تعصف بالغابات، ولا تقلع الجِبال، ولكنها تخلع القلوب من أصولها.
النبضات الكلاسيكية ليست فقط مسموعة، ولكنها كذلك متناغمة بشكل ما مع قلوب الشاهدين، وحين نسمعها، نَخفِق معها، وهي التي تثير هذا الخفَقَان، ولهذا فهي تعمل كمنظّم قلبٍ آليّ، فيوليني، بيانوي، أو أوركسترالي كبير، لقلب عليل بما هو إنساني، ولكنها –على عكس المنظِّم- لا تحافظ على إيقاع منتظم للقلب، بل تحِدث فيه انفجارًا محدودًا، صغيرًا ربما بالنسبة للجسم ككل، ولكنه مضروبًا في مجموع السامعين، في المكان، وفي التاريخ، هو انفجار كوني من نوع خاص جدًا، نبضة كونية غير طبيعية، إنسانية، عميقة جدًا، صوت غليظ وراء ضوضاء الوجود يعلن عصرَ الصوت الجديد، العميق، في الكون الصامت القديم، المُسطَّح.
هكذا تصنع النبضة الكلاسيكية عمقًا بلا أبعاد معروفة؛ بلا طول أو عرض أو ارتفاع، هو بالتأكيد في زمان، كما أكّدنا في مقالات سابقة أن الموسيقى هي نفسها زمان، ولكنّ كونه عُمقًا يفترض مكانًا، وهو بالفعل في مكان، ولكنه مكان تنتجه الموسيقى، وقد أكدنا في غير موضع أن الموسيقى منتجة بتلقائيتها للمكان.[6]
النبضات والوحوش صنوان غير متماثلين، النبضة حالة، والوحش حركة. النبضة حدَث واحد رهيب، والوحش رهبة واحدة ممتدة. النبضة أمّ الوحش، كما أن الانفجار أمّ سحابة عيش الغراب. النبضة تدمير، والوحش تكوين. النبضة إفناء مفاجئ، والوحش حضور مطلَق السيطرة.
و”لكل موسيقار كلاسيكي، كما لكل قديس، معجزة، أو أكثر”[7].. كما قلنا من قبل، ولكن المعجزات الحقيقية لا تَمنح نفسَها بسهولة، بل تُكتَشَف اكتشافًا، وننقب عنها طويلاً وعميقًا، حتى نلتقطها، ونمسح عنها الغبار كالجوهرة. وكما سنرى، فبعض هذه المعجزات، بعض الماسات الموسيقية، قد ظلت دفينة لعشرات السنين، حتى قدر أحدهم قيمتها التي لا قياسَ لها. ولكنه حين استخرجها، وطالعها للمرة الأولى، اكتشف أنها ليست فقط معجزة. لكل موسيقار كلاسيكي معجزة، ولكن بعض هذه المعجزات نابضة. ونبضها يغزو القلب، ليحل محل إيقاعه المنتظم. ولكن الموسيقى الكلاسيكية في أصلها غير موضوعية، لا مضمونية، وبالتالي فهو غزو بلا هدف.[8] إنه مجرد نبض. إنه نبض مستمرّ منذ مئات السنين، وعبر قارات العالَم القديم، يكافح عبر شرائح النسيان، وطبقات التاريخ؛ ليصل إلى قلبك بالذات. وكما تعودنا منذ سنوات، نعلن التحذير الشهير: هذه الموسيقى تضرّ بالعالَم، وتسبب القيامة. وفي هذه الحالة قد تسبب الذبحة؛ ففيما يلي سنتعرض لمجموعة قلوب، قلوب أعتى أشرار التاريخ، التي نبضت في صدور أبطال الموسيقى الكلاسيكية الخارقين، وبحيث نستكمل تشريح الوَحْش في مقام قادم.
2-قلوب ديفي جونز: يوهان سيباستيان باخ
لنبدأ من الصِّفْر بعبارة تقريرية: “للأخطبوط أذرع كثيرة، وقلوب عديدة، ثماني أذرع، وثلاثة قلوب”. ولكننا سنكتشف أن هذه العبارة، على بداهتها، حين نبسطها على لوحة مصنف 565 لباخToccata and Fugue in D minor, BWV 565، الفوجة الشهيرة في مقام ري الصغير، كم هي كاشفة، كشريحة الإحداثيات الشفافة، حين نضعها على الخارطة. استمع إلى الدقيقة 00:21-00:32 من هذا الفيديو.
https://www.youtube.com/watch?v=Nnuq9PXbywA
استمع من البداية، وركز على هذا الجزء. هنا يظهر الأخطبوط. والأخطبوط أكثر الكائنات اللا فقارية إرهابًا، وإفزاعًا، ولهذا فهو رأس (ديفي جونز) العظيم في فيلم “قراصنة الكاريبي”Pirates of the Caribbean، الذي يجلس بنفسه، كباخ، إلى الأرغن، ويعزف كباخ، وربما يبدو –بقدر أكبر من الخيال- في هيئة باخ![9] هذا التكوين المفزِع هو الذي انتخبه كاتب الرعب الأمريكي الأشهر لافْكرافْت H. P. Lovecraft (ت 1937)؛ ليقرِّب لنا صورة الأوائل the old ones، تلك الكائنات، التي –بحسبه- كانت تحكم الكون قبل ظهور الإنسان، وهي الآن في طيّ النسيان، لكنها في سبيلها للعودة لتسود العوالم.[10]
هذا وحش، وليس نبضة.. ولكن كما قلنا.. كل وحش كلاسيكي لا بد له من نبضة، تتمخض عن ظهوره المرعب. في الواقع ليس الموضوع رأس ديفي جونز، أو موسيقى هانز زيمر الأسطورية –وصفًا لا تقييمًا- بل الواقع هو مصنف باخ المذكور. صحيح أننا نتخيل أخطبوطًا يعزف كل هذه التآلفات العميقة الشنيعة، ولكن ضربات الأخطبوط العديدة المتزامنة نفسها هي النبضة.
تبدأ المقطوعة بالجملة الشهيرة، وبعد الافتتاح صمت مهيب، درامي، في الحقيقة غريب إلى حد ما على باخ، ولهذا فهناك شك في نسبة العمل له،[11] ولكن ما يرجح صحة هذه النسبة سوى أسلوب باخ: أن باخ وحده هو القدير على تأليف مثل هذا الروح للأرغن. بعد الصمت تدوي التآلفات كانفجارات متزامنة على مفاتيح الآلة في غزارة مدهشة. تتداخل التآلفات، وتتخارَج، كأنها إيقاعات متضافرة لأكثر من قلب لذلك الكائن متعدد الأفئدة.
إنها نبضات يوهان سيباستيان باخ، الأخطبوط باخ يُخرِج لنا من صدره قلوبه العديدة، ويُسمعنا نبضاتها بلا وسائط. إن الموسيقى تتجاوز حدود الماديات، وتَعبُر من عالَم إلى عالَم، أفتعجز أن تمنحنا نبضًا بلا قلب، وقلبًا بلا عالَم؟ ما يميز هذه النبضة أنها ملوّنة، صادرة عن أكثر من قلب متآلفِين، متداخلِين، وممتدة، ومتصاعدة بتدريج سريع مخيف من الصمت، ثم ساكتة، سكتة قلبية، تترك صداها إعلانًا عن قوة مميتة متعالية.
هذا العمل ليس موضوعيًا thematic، أي لا يعبر عن برنامج معين كالموسيقى التصويرية في الأفلام مثلاً، ولكن شكله نفسه المجرد من الموضوع ذو موضوع! هو في الأصل توكاتا وفوجة. التوكاتا مقطوعة لإظهار مهارة العازف بطريقة معينة، والفوجة جملة لحنية قصيرة، يسهل تذكّرها، وتتبّعها، وتعزف على مقامات وأوكتافات مختلفة. وهي بما هي فوجه توحي بحالة من الهرب، كما هو معنى الكلمة اللاتينية في الأصل Fuga “الهرب أو الفرار”. وبالتالي تبدو لنا النبضات كأنما تهرب من كابوس ما، ندرك مدى شناعته دون أن نراه. هكذا هي نبضة باخ الأكثر شهرةً، وقوة.
3-قلب الأب الروحي: موتسارت[12]
هناك فرق بالتأكيد بين المحرم دوليًا، والمحرم إلهيًا، ومشكلة موتسارت الحقيقية أنه يضعك، كلما كنتَ مستمعًا مخضرمًا للموسيقى الكلاسيكية، بين هذين الاختيارين الصعبين: موهبة البشر، وهبة الإله. في الحقيقة ليس موتسارت إلهيًا إلى هذا الحد. نعم، لن أختلف في أن معه قدرًا من ذلك، ولكن ليس بهذه الدرجة. لقد أنتج موتسارت أفضل أعماله، وهي أعماله ذات الشهرة، والشعبية، والإحكام الجمالي، وتفرد الجملة الموسيقية، بعد سن الثلاثين في الغالب. صحيح أنه بدأ التأليف في سن غير معقولة، وترك تراثًا قائمًا بذاته، قوامه حوالي 600 عمل موسيقي، لكن المسألة ليست متى، ولا كم. المسألة هي ماذا، وكيف. كي نكون واقعيين، فسِرّ عبقرية موتسارت ليس في حياته، بل في تراثه. وبمجرد أن تستمع إلى هذا النموذج النابض، السيمفونية رقم 40 مقام صول صغير، ستجد نفسك قائلاً: ها نحن أخيرًا نستمع إلى موسيقى.
وقد كُتب، وسيُكتب دائمًا، الكثير عن هذه السيمفونية، التي تمثل بحق الطابع المختلف لموتسارت حين يعالج المقام الصغير، ولكننا لم نقرأ بعد عن سر اختيار موتسارت لهذا الإيقاع النابض بوضوح في حركتها الثانية. ويبدو أن السبب هو الانبهار بمبناها، الذي قد يغشي بصرك عن معناها، كلما نظرت لها. ربما تمثل هذه السيمفونية قمة الجمال، الذي جاء به موتسارت إلى العالم، ورحل تاركًا لنا إياه، للدرجة التي تشعر معها أن هناك (حقيقة ما) خلف هذا الجمال، ولكن موتسارت يتجاوز ذلك الشعور بشكل غريب في الواقع. وهناك فرق.
يعلق د. حسين فوزي على هذه السيمفونية بأننا نستمع هنا إلى الشابّ الحزين موتسارت،[13] ومع كامل الاحترام لحسين فوزي، فليس هذا مستوى تعبير موتسارت. كل هذا الإحكام، والتناظر، واللحن المدلهمّ المنذِر، يوحي بما هو أكبر من مجرد شعور بشري. وأقول “يوحي” لأن العمل كذلك ليس من قبيل الموسيقى الموضوعية. وبين أن يعبّر الموسيقار عن الشعور، وبين أن يمنحك البناءُ ذاتُه -بغض النظر عما يعبر عنه- هذا الشعورَ.. هناك فرق.
وهناك فرق بين “سحبة قوس في أوتار كمان”، على رأي سيد حجاب، وبين حركة الذبح، وهناك تشابه كذلك. لكن حين يكون المذبوح هو القلب، وحين يسحب العازف قوسه بالقرب من قلبه فعلاً، وفي هذا العمل بالذات ذي الألحان القاطعة، فهناك جريمة فعلية مكتملة الأركان؛ فذبحة القلب غير مرئية، شعورية، وشِعرية، وقد لا ينتهي بها العذاب، بل يبدأ. وفي حقيقة الأمر، وبكل أمانة، فهذا العمل غير مفهوم بإضافة صفة القطعية، التي نسبناها لألحانه منذ قليل، إلى الكمال المنسوب إليه دومًا. هذه الجمل تتسلل في بداية الحركة الأولى، لتخطط ذلك العالَم القصيّ الخالي، لتظهر بعدها في الحركة الثانية كائنات نابضة آخذة في التطور، وأخّاذة فيه، لتهوي بعدها مقصلة الحركة الثالثة، حكمًا بإعدام الأحياء، وإعلان كون من الجماد المطلَق، ثم تأتي الحركة الرابعة ملخصة لكل ذلك في صيغة الصوناتا، بتفاعلها القصير السوداوي المؤثر، ونهايتها التراجيدية.
بشيء من الخيال الضروري يمكن القول أنها تاسعة موتسارت، العمل الملحمي لكل موسيقار كلاسيكي هو “سيمفونية تاسعة”، ترتيبًا، أو مضمونًا، أو كلاً منهما معًا. وهي –كتاسعة بيتهوفن- تظهر فيها بأعلى درجة من الوضوح خطة التعارض اللحني (الكونترابنط)، ودور اليد اليسرى، إن وزّعنا العمل على البيانو، كما يستمع عازف البيانو أحيانًا للموسيقى السيمفونية. وفي سياق النسيج الهارموني عند موتسارت، الذي لا صنو له، لا يمكن فصل الحركات، ولا أجزاء الحركات، برغم أنها موسيقى غير توليدية، على عكس موسيقى بيتهوفن مثلاً. فعلينا ألا نتوقع ما هو جديد، أو ما يظهر (للمرة الأولى) عند بيتهوفن؛ فبيتهوفن بلا أول، ولا آخِر، حرفيًا، لا مجازًا، ولا تقييمًا، ومن الطبيعي أن تتناسج جمله، وحركاته، وربما أعماله، بعضها من بعض، لكن تكامل النسيج المعدّ مسبقًا عند موتسارت يرغمنا إرغامًا أن (نتعمّد) الاستماع إليه في إطار توليدي متخيَّل. وهذا هو الفرق.
موتسارت لا يقدم الكمال بكامله، بل (يوحي) ببقاياه، بالأحرى يدفعنا، عن طريق خطة مقررة سلفًا، لكي نستحضره، وبالتالي فموتسارت موسيقى عقلية، ذهنية، متخيَّلة، إذا كانت موسيقى بيتهوفن أكثر حسية، ومادية، واندفاعًا، وقوة ظاهرة طاغية. موتسارت ليس طاغية. هو لا يدفعنا بيديه في الطريق مثل بيتهوفن، بل يشير إليه، ويضيئه، طريقًا وحيدًا. وخطة العمل كله، كل عمل لموتسارت، أن يترك أمامك طريقًا واحدًا فقط، وأن يُظلِم ما سواه في مساحاتٍ متجانسةِ الظلالِ. خطته أن ترى الفرق.
على كل ذلك لا يمكن فصل الحركة الثانية عن الثالثة، كما لا يمكن فصل توالُد الكائنات النابضة عن فنائها. بعد النهاية الدرامية لكودا الحركة الأولى، تبدأ الحركة الثانية بعد صمت، بداية هادئة، توالُد تلقائي، لا بد أنه كان شبه صامت، خافتًا، وحيدًا، ويا لَوحدة الموجود الأول! تبدأ الحركة الثانية المتهادية (أندانتي) بنبض منتظم رتيب، متصاعد في خفة، وبطء، يمثّل الخط القاعدي baseline، أساس البناء (باليد اليسرى)، الذي عليه يبدأ موتسارت (باليد اليمنى) نسج اللحن، أو عرضه بالأجدر، لكن هذا الخط القاعدي ليس مجرد أساس سفلي، بل هو الحمم التي تتحرك عليها دون أن نشعر الصفائح القارية التي تطفو كالسفن الطيطانية في بحار بوسيدونية، لتصطدم في زلازل مروعة، لا نفهم كيف بدأت، أو متى بالضبط، لا فارق هنا. بالضبط تتحرك الموسيقى، بسبب تحولات الخط القاعدي، وتتطور، في بطء، وتدرُّج خفي، بطيء ولكنه أكيد، كما يقول الأجانب، لنكتشف فجأة هذه التغيرات، رغم بطئها؛ فنحن لا ندرك الكميات الكبيرة جدًا، أو الصغيرة جدًا، بالحدس اليومي، أو الحس المشترَك، وهذا هو الهدف من هذا الجزء من العمل: أن تخدع الموسيقى حدسكَ، وحسَّكَ؛ لتصل إلى مكان مجهول، ولا تعرف متي حدث هذا، أو كيف، أو أين بالضبط يكمن الفرق.
لكن الخط القاعدي، خط النبضات المنتظمة في عنقود بسيط، لا يتحول بذاته، هناك ما، أو مَن، يتسبب في تحولاته الدرامية، الغائبة، الحاضرة. هذا السبب هو خيط الكمان، مجموعة الكمان، التي تتسلل بدءًا من الدقيقة (12:10) في الفيديو المرفق،[14] وتصبغ بلون الغيم النبضات الأساسية، ليتغير معدلها، تقف، وتنطلق، تنتظم، وترتبك، ترتفع، وتنخفض، تنقبض، وتنبسط باختصار. إنه ما ينسرب إلى القلب من دخان شعوري أسوَد كثيف، كأن شيئًا في الصدر يحترق، حتى يخنقنا كقاتل صامت، دون أن نشعر بتسلله، دون أن ندرك في الوقت المناسب الفرق الرهيف بين شروق جميل، وغروب آخِر الشموس. ولكننا هنا لنكتشف هذا الفرق.
نعم، يتسرب الظلام إلى العمل في الحركة الثانية، ليخنق النبضات، حتى نسمع الأوركسترا تطلق صرخاتها المتقطعة، محاكية تلك النبضات بوضوح، ولكن الحركة تستمر، لينتهي النبض دون دراما كبيرة؛ فالدراما الحقيقية قادمة. الحركة الثالثة هي أهم ما يعلق في ذهن المستمع الخبير لهذه السيمفونية؛ فاللحن الأساسي في الحركة الأولى معروف، حتى للأذن العربية، من خلال أغنية فيروز الشهيرة المأخوذة بلحنها من الحركة. أما الحركة الثالثة فهي الجملة الأوضح، والأصعب على التصور عند مستمع موتسارت؛ بما هي غريبة، وغير متوقعة، في عالَمه. هذه الحركة حاول شوبرت فيما بعد تقليدها –بنجاح ربما- في الحركة الثالثة من سيمفونيته الخامسة.[15] هي لحظات سقوط المقاصل لتفتك بالكائنات النابضة، لحظات قصف متتالية، موغِلة في يقين التدمير، تتأكد من فناء الكل. إن موتسارت عظيم؛ ليس لأنه خالقٌ واحدٌ، بل لأنه مُبيد للجميع.
هذه هي الجريمة الكاملة، كمالاً موتسارتيًا، ليس فقط لأنها بلا دليل واحد على الفاعل، بل لأنها موسيقى بلا موضوع. إن فعل الذبح، الإعدام، هذا الذي يفزعنا في الحركة الثالثة، بلا مفعول به، وبالتالي فلا معنى لمعرفة الفاعل. لا موضوع أي: لا جثة. ومن هنا نكتشف مواهب أخرى للطفل الإلهي. كان بإمكانه أن يكون أبًا روحيًا لمافيا أوروبية متميزة، أو زعيمًا لفريق اغتيالات تاريخي، لا يترك بصمة، أو شريطًا وراثيًا واحدًا، لكنه فضّل –في ظروف غير مفهومة- أن يولَد كطفل، وأن يعيش إلى الأبد كطفل، وأن يقتل الجميع، بكل براءة. وهذا الفرق بين القاتل المجرِم، والقاتل البريء، هو الفَرْق، بألف-لام الفَرْق، وآلامِ الفَرْق.
في المقال التالي نتعرض إلى مزيد من النبضات الكلاسيكية عند اثنين من أهم أعلام الرومانتيكية المبكرة: بيتهوفن وشوبرت.
[1] Winold, Allen (1975). “Rhythm in Twentieth-Century Music”, Aspects of Twentieth-Century Music. Wittlich, Gary (ed.). Englewood Cliffs, New Jersey: Prentice-Hall, 208-269.
[2] Cooper, Grosvenor and Leonard Meyer, (1960), The Rhythmic Structure of Music, University of Chicago Press, pp. 7-8.
[3] ويعرَف هذا المدخل في الفلسفة بالمدخل الظاهراتي أو الفينومينولوجي.
[4] النبضة الكهرومغناطيسية Electromagnetic pulse أو EMP هي انبجاس مفاجئ للطاقة الكهرومغناطيسية، يترتب على بعض الظواهر الطبيعية، كما يمكن اصطناعه عن طريق التفجير النووي. ومن آثار النبضة الكهرومغناطيسية إتلاف الآلات الإلكترونية، وإيقافها المفاجئ عن العمل في نطاق انتشار النبضة (وهي هنا مستعملة كاستعارة بالطبع). انظر لفهم مبسط:
– Guyer, J. Paul (Editor), An Introduction to Nuclear Electromagnetic Pulse Effects for Electronic Facilities, The Clubhouse Press, California, 2019, pp. 1-7.
[5] “ما بعد المحرقة” أو ما بعد نهاية العالم :post-apocalyptic صنف من صنوف أدب الخيال العلمي، يصور الأرض بعد نازلة طبيعية، أو إنسانية، قضت على الحضارة، وهو موضوع أدبي قديم يعود إلى البابليين والآشوريين، وازدهر في الأدب الحديث –في رأي بعض الباحثين- على يد ماري شيللي في روايتها “فرانكنشتاين، أو الإنسان الأخير”، ثم عاود ظهوره بقوة بعد الحرب العالمية الثانية، في سياق ما يعرف بما بعد الحداثة. انظر:
-Zimbaro, Valerie P. (1996). Encyclopedia of Apocalyptic Literature. US: ABC-CLIO. p. 9.
[6] الصياد، كريم: زمن الموسيقَى ومكانها، مؤسسة معازف، لندن، 2016.
[7] الصياد، كريم: ما وراء الموسيقى- المشروع التأليفي عند شوستاكوفيتش، معازف، لندن، 2017.
[8] قارن:
Hanslick, Eduard, Vom Musikalisch-Schönen– Ein Beitrag zur Revision der Ästhetik der Tonkunst, Druck und Verlag von Breitkopf & Härtel, Leipzig, 1922, S. 23.
[9] https://www.youtube.com/watch?v=L0JbaZtoKAs
[10] Lovecraft, H. P., “The Call of Cthulhu”, in Weird Tales, Vol. 11, No. 2, February 1928, pp. 159-78, 287.
[11] انظر مثلاً:
Johann Nikolaus Forkel, Johann Sebastian Bach: His Life, Art, and Work, translated by Charles Sanford Terry (1920). New York: Harcourt, Brace and Howe; London.
[12] https://www.youtube.com/watch?v=JTc1mDieQI8 (الدقيقة 12:10)
[13] حسين فوزي: الموسيقى السيمفونية، دار المعارف، القاهرة، 1999.
[14] https://www.youtube.com/watch?v=JTc1mDieQI8 (الدقيقة 12:10)