عندما ينغمس الإنسان في أعماله الحياتية يعيش حياةً هادئةً، لا يلتفت إلى سلبية الهدوء ولا إلى تكرار التفاصيل اليومية. يعتاد تلك الحياة برضا ظاهريٍّ ويصبح كائنًا منفصلًا عن العالم الخارجي. كانت فرانشيسكا جونسون وعائلتها من هؤلاء الناس الذين ارتضوا حياةَ السكون والهدوء والاعتياد بتفاصيلها كلها، ساعدهم على ذلك الأمر أن تلك البلدة الصغيرة (ماديسون) تحتفظ بطابِع تقليدي يجعل الأُسَر تعيش في حالة من التشابه، تعززها رغبتهم في ذلك الانسجام الجماعي الذي أصبح عنوانًا لذلك المكان.
كادت تمضي حياة فرانشيسكا في اعتياديتها لولا ظهور ذلك الرجل العابر الذي ضلّ طريقَه؛ فجاء إلى منزلها يسألها عن أحد الجسور التي ينوي تصويرها. إنه المصور روبرت كينكيد، الذي يعمل في مجلة الناشيونال جيوغرافيك. لقد جاء روبرت، دون سابق إنذار، إلى امرأةٍ كانت ستعيش وحيدة ومتخفِّفةً من واجباتها المنزلية لمدة أربعة أيام وهي الفترة التي سيغيبها زوجُها وأبناؤها بينما فضلت البقاءَ لتنعمَ ببعض الراحة، وقد سألها زوجها عمّا ستفعله طيلة أربعة أيام كامرأة تملك وقتَ فراغٍ فائضًا فقالت: ما اعتدتُ فعله دائمًا لكن مع قدرٍ أقلّ من المساعدة. لم تكن فرانشيسكا آنذاك تعلم بأن ما ستعيشه في هذه الأيام الأربعة لا يوازي شيئًا مما اعتادتْه طيلة حياتِها كما ظنَّت، وإنَّ وقت الفراغ الذي تملكه سيمتلئ بتفاصيل ذلك العابر الغريب.
عندما سأل روبرت كينكيد فرانشيسكا عن جسر روزمان فشلت في وصف مكان الجسر؛ لكنها وهي تحاول أن تقدِّمَ له الوصف، كانت عيناها تلتقطان تفاصيل هذا الرجل العابر، الذي يبدو في حالة مغايرة عن أولئك الرجال الاعتياديين في محيطها، كان يبدو رجلًا مختلفًا؛ لذا فقد قدَّمت له أول عروضها واقترحت أن ترافقه إلى موقع الجسر.
في الطريق إلى الجسر امتلأ الحوارُ بتلك الأسئلة الاستكشافية بينهما، كان يجيب عن أسئلتها بحرَفِيّةٍ عالية، بينما كانت ترتبك عندما تجيب عن أسئلته الاعتيادية. عندما سألها عن عمر زواجها أخذت ثوانيَ من التفكير ثم اختارت الإجابة التي ترى أنها إجابة مثالية ترد بها على رجل غريب؛ إذ قالت: إنها فترة طويلة.
فاجأ روبرت فرانشيسكا عندما أخبرها بأن لتلك البلدة رائحةً رائعة، لعلها تنبعثُ من الأرض؛ فيما تخبره هي أنها لا تشعر بتميز تلك الرائحة وتبرر لنفسها: ربما لأنني أعيش في ذلك المكان. كانت لملاحظةِ روبرت تلك عن رائحة المكان دلالةٌ على كونه ذلك الرجل الذي يفهم الأرض والمرأة؛ لذا، فعندما قالت إنها إيطالية الأصل وإنها من قرية صغيرة تسمى “باري” أخبرها روبرت أنه قد مر بتلك القرية وأعجب بالأرض والمكان فنزل من القطار ليقضي فيها عدة أيام؛ الأمر الذي أدهشها وقد عبرت عن دهشتها متسائلةً: هل نزلت من القطار لأن المنظرَ كان جميلًا؟!
وهكذا يمضي الحوار الاستكشافي بين هاتين الشخصيتين، ثم ما إن توقفت السيارة عند الجسر حتى كانت فرانشيسكا غارقةً ومندهشة من عوالم ذلك الرجل العابر، فقد كان طيلة الحوار يجيب عن أسئلتها بعفوية وجرأةٍ، وأشعرَها أنه رجل له عالمٌ مختلفٌ ومغايرٌ، الرجل الذي وجدته يستمع في السيارة للمحطة الإذاعية الموسيقية المفضلة لها؛ مما زاد رغبتها في التعرف عليه، وعندما دعاها لتناول مشروب بارد من سيارته في وقت انتظارها بينما هو يعدّ الكاميرا للتصوير؛ لم تمنع عينيها من التلصص على بعض محتويات السيارة بنظرات خاطفةٍ قبل أن تفتح صندوق المشروبات، وكان ذلك هو التلصص الأول.
بعد أن أعادها إلى المنزل كان يفُترض بالحكاية أن تنتهي؛ لكن كان لدى فرانشيسكا -الوحيدة الآن- فضول ورغبة لم ينتهيا بعدُ، فقدِ استعذبت هذا المصورَ العابر، وقد قالت له: تبدو أقوالك كأقوال فنان، وكانت قد قدمت له العرض الثاني بشرب الشاي.
لقد قَبِل روبرت الدعوة باحترافيةِ رجلٍ أدمن أن يكون الرجلَ المدهش لامرأة بمواصفات فرانشيسكا التي لم تفرط في فرصة التلصص عليه وهو يغتسل خارج المنزل وكان ذلك هو التلصص الثاني. كانت فرانشيسكا في تلك اللحظات تتهاوى أمام ذاتها وهي تشعر بالرغبة وبأن ذلك الرجل قد جاء في الوقت المناسب.
كان الحوارُ بينهما حوارًا يمثل حالة من استكشاف شخصية الآخر، وفي حوار آخر كان حوارًا يتعلق بمفاهيم الحياة والقناعات الشخصية، كمفهوم العائلة والحب والزواج، وكانت المفارقة بينهما واضحة؛ فهو منغمس في عالمٍ من الحرية والفوضوية وعدم التعلق بأي كائنٍ، وكان التصوير وعوالمه وتداعياته هو عالمه المفضل. وعندما أرادات فرانشيسكا أن تتعرف على أسباب استحواذ التصوير عليه أجابها روبرت: لا أتوقع للاستحواذ أسباب؛ لذلك فهو استحواذ فحسب. وفي المقابل نجدها امرأةً عالقة بعالم الزوجية والعائلة والمكان. كان هو شديد الرضا بقناعته بينما هي شديدة الكتمان والتحفظ في الإعلان عن رؤيتها حول عالمها الخاص الذي ليس هو حلمها الحقيقي؛ لذا كانت تسمي منزلَها كوخًا وتصف حياتها بالعادية والمملة. كانت تلك العبارات التي كانت تفلت منها يتفهمها روبرت ويتفهم تلك الحالة المرتبكة التي تبدو عليها والتي لا تجعلها تسمي الأشياء بأسمائها.
ينتهي الحوار بينهما ويغادر روبرت المنزل وهو ممتن لتلك اللطافة منها. لقد خرج من المنزل باعتيادية رجل تمرَّس على ذلك اللطف من النساء، بينما كانت هي غارقة في تبجيل رجل أنار عتَمَة وحدتها. وهنا كانت يجب أن تنتهي الحكاية؛ لكن فراغ فرانشيسكا، التي سألها زوجها قبل ذهابه عمّا ستفعله فيه، أصبح شاسعًا وشرسًا الآن، ولم تعد تلك المهام اليومية في المنزل وفي المزرعة تكفي لتغْييب صورة ذلك الرجل العابر، فما الذي عليها أن تفعله؟
إنها تمضي ليلتها في قراءة ديوان ييتس، وكأنها بقراءتها ييتس تستبقي روبرت معها فترةً أطول، فهو الشاعر الذي اكتشفت أنه يحب شعرَه ويحفظه مثلها. آنذاك طرَأت في ذهنها فكرةُ دعوتِه لعشاء ثانٍ بكتابة ورقة تعلقها على الجسر الذي يعدُّ لتصويره غدًا. لقد اخترعت فكرة أن تدعوه للعشاء، وهذا هو عرضها الثالث في الفيلم.
أصبح الحوار بينهما أشدَّ عمقًا وأكثرَ رحابةً، وكان يذهب إلى المكان الأكثر خصوصيةً؛ لذا عندما سألها عن زوجها قالت: إنه نظيف جدًّا، ثم أضافت إنه مجتهد، مستقيم، مهتمٌّ، وإنه أيضًا رجل طيب. عندما تصفُ المرأةُ الرجلَ بهذه الصفات فهي تعني فقط الامتنانَ للإنسان في ذلك الرجل، أما مشاعر الدهشة والشغف فليس لها مكان في ذلك الوصف الإنساني. تخبره بأنها كانت لها أحلامٌ قديمة لم تَتَحقق، فيقول لها روبرت: إنه كتب ما يماثل هذا المعنى ”كانت الأحلام القديمة جيدة، ولم تُحقق؛ لكنني سعيد كوني حلمت بها“. كان في كل ردوده يمزج ما بين الدهشة والفَهم والأفعال المغايرة، وهذا ما كانت تحتاج إليه في تلك اللحظات من عمرها.
كانت فرانشيسكا تملكُ السعادةَ العامة التي تمتلئ بها منازل تلك البلدة؛ لكن سعادتها الخاصة كانت غائبةً. وفي المقابل جاء روبرت مخترقًا سياجها الخاص، مستشعرًا مللها الكامن بداخلها من حياتها؛ ليسألها السؤال الصادم: هل تنوين تركَ زوجك؟ فتجيبه برفض صارم لكنه كان يعلق على إجابتها بفَهم عميق لشخصيتها ويقول: لا تخدعي نفسك فرانشيسكا، أنتِ أبعد من أن تكوني امرأة بسيطة.
في اليوم الثالث كان حوارُهما هو الحوار الأكثر عمقًا، إنه حوار جاء بعد حالةٍ من الحميمية التي أخذت مسارًا حسيًّا مشتهى، وإذا كانت الأسئلة في الحوارات السابقة قد حافظت على بعض المسافة بحيث كانت تسأله عن أجمل الأماكن التي زارها وكيف وجدها بنظرة المصور المحترف، فإنها في هذا الحوار بدأت بطرح أسئلة من نوع آخر، أسئلة لا تسألها المرأة عادةً للرجل إلا عندما تهتم بأمره عاطفيًّا، لقد سألته: كيف تحافظ على صديقاتك في أنحاء العالم كله؟ وقد كانت سألته في البدايات: ألديك صديقات؟ ليجيب بدبلوماسية قاتلة: أحب أن أعيش منفردًا؛ ولكنني لست راهبًا، ثم تسأله: كيف كنت في شبابِك؟ كانت في ذلك الحوار هي من تولَّت طرح الأسئلة فيما كان هو يجيب دون أن يفكر ما إذا كانت ستعجبها الإجابات أم لا.
في اليوم الأخير جاء الحوار الأخير، وكان قد أوشك مجد الأيام الأربعة على الانتهاء، وصار عليهما أن يتدبرا نهايةً تليق بتلك الحميمية الخاطفة. بالنسبة له، كان الأمر اعتياديًّا، فهو سيخرج من المنزل وقد عاش حكايةً عاطفيةً تضاف إلى رصيده كرجل امتهن السفر والترحال، بينما هي كانت في أقصى عذاباتها وهي ترى أن حياتَها ستعود إلى الرتابة والملل، وإنها برحيله ستفقد الوَهج الذي أضاء حياتها في الأيام السابقة؛ لذا، فقد افتعلت الغضب وتشاجرت معه وبدأت تحاسبه على إجاباته السابقة عندما كان يجيب عن أسئلتها. لقد أصبحت تراه في تلك اللحظة بأنه مجرد رجل عابث، وليس لديه ولاء خاص، لا للمكان ولا للإنسان. لقد تحولت تلك المزايا التي أعجبتْها في شخصيته إلى عيوب لتقول: هل أعيش مع رجل يحتاج إلى الجميع ولا يحتاج إلى أحد بعينه! لقد اتهمتْه بأن رجل يعيش كرجل مسترق للنظر، وهي تعني بأن هوايته في التصوير أصبحت تهيمن عليه في حياته وفي أسلوبه مع الآخرين، فالمصور رجل يعيش على التلصص وعلى الأماكن ليفوز بالمنظر المناسب، وكان روبرت يفعل ذلك مع الناس والحياة.
لقد عدَّتْه رجلًا أنانيًّا، فهو يعيش كمنفرد وكحبيب متى ما يشاء، وترى بأنها والنساء الأخريات في حياته يفترض أن يكن ممنونات لأنه لمسهن في لحظة عابرة؛ ولكن لأنه رجل يتقن التعامل مع ذلك التعلق العابر، وكان خبيرًا بإدارة تلك اللحظة الأخيرة، فقد كان هادئًا وباردًا وبادرها بذلك العرض الذي كان على يقينٍ أنها سترفضه وأنها لو قبِلت بعرضه فلن يخسرً شيئًا عندما ترافقه، لقد طلب منها أن ترافقَه لكنها رفضت كما هو متوقع، فهي تدرك بأنها لو ذهبت معه لن تعيش الأيام القادمة بوَهَجِ تلك الأيام الأربعة وأَلَقِها، وحتى تحافظ على نعيم ذكراها فإن عليها أن تتخلى عن فكرة الرحيل. لعلّ رفضها لم يكن من أجل الحفاظ على العائلة بل لرغبتها في أن تمنح تلك العلاقة العابرة الخلودَ في ذاكرتها، لم تكن تريد أن تخدشَها بجعلها تمتد أكثر مما يجب. إن تلك العلاقة العابرة هي ما كانت تحتاج إليه في حياتها لتصنع لذاتها وروحها حكايةً تمنحها ضجيجًا داخليًّا لا يشعر به أحد سواها. أما روبرت في المقابل فقد كان متفهمًا لهذا الاحتياج فعزز الحكاية بأن أرسل إليها أشياءَ من ذكريات تلك الأيام الأربعة ومعها كتابٌ كان الإهداء فيه: هناك لذةٌ في الغابات المعدومة السبل.
إن تلك الأيام الأربعة كانت بالنسبة لروبرت أيامًا جميلةً عاشها، تضاف إلى أيامه ومغامراته الماضية وربما الآتية لكنها بالنسبة لفرانشيسكا كانت هي الأيام الوحيدة الجميلة التي لها بريقُ الذهب في ذاكرتها؛ لذا فقد دونتها في مذكراتها ومنحت أولادها فرصةَ أن يقرأوا تلك المذكرات حتى يدركوا الحبَّ مبكرًا فيمضوا في طريقه، ولكي يتجنبوا مشقة احتمال مجاملة الآخرين على حساب عواطفهم، وكما قال لها روبرت: إن الشيء اليقيني لا يأتي إلا مرة واحدة في العمر، وفرانشيسكا التي آمنت بتلك العبارة لم تستطِع أن تعيشها كواقع؛ لكنها خلدتها في مذكراتها وأحلامها الصامتة التي لم تتحقق.
جسور مقاطعة ماديسون
سيناريو: ريتشارد لاغرافينيز، مستوحى من رواية تحمل عنوان الفيلم نفسه، من تأليف: روبرت جيمس والر.
بطولة: كلينت ايستوود في دور روبرت كينكيد
ميريل ستريب في دور فرانشيسكا جونسون
إخراج: كلينت ايستوود، تصوير سينمائي: جاك غرين