مقالات

جدل البذاءة ولغة الشارع: قراءة نقدية – علي محمود

لطالما رُبطت اللغة المقنّنة القريبة من الفصحى، في اللغة العربية بالخصوص، والمغلّفة بعباراتٍ بعيدة عن الاستخدام اليوميّ والشائعِ، بالرقيِّ والأدب والأخلاق. حتى أنّه يصعبُ الفصلُ بين الأدب بمعناه الثقافيّ المرتبط بالشعر والرواية مثلاً عن ذلك المرتبط بالأخلاق. بل يكاد أن يقيسَ الخطابُ السائدُ اللياقةَ الأخلاقيةَ والاجتماعيةَ بالقدْرِ المستخدمِ من الكلماتِ الغريبة. بالمقابل، لا يتردّد اليسار من ربط الفكرة هذه بصراع الطبقات. إذ توصَفُ الفكرة السائدة هذه بأنها سلطة برجوازية على الخطاب، لا تنفصل عن أيديولوجيا عامة تحافظ على امتيازات الطبقة البرجوازية في مقابل تلك البروليتارية أو المسحوقة، أو أي علاقة سلطوية قائمة على امتياز فئوي. حتى أنّ بعض الشعراء اليساريين، مثل مظفر النواب، لم يتورّعوا عن إدخال البذاءة في قصائدهم، ليُقحموها في الإطار الثقافي. في هذه التدوينة، يُمكن للقارئ أن يجدَ معالجة تأملية لوجهتيْ النظر المذكورتين، وما يرتبط بهما اليوم من صوابية سياسية، وخطاب نسوي في العالم العربي، ولربما تنتهي بخارطة طريق.

اللغة المنمّقة بوصفها ضرورة أخلاقيّة

ليست اللغة العربية الفصحى، اليوم، مجرّد أسلوب راقٍ في الحديث، وكلمات غريبة يستخدمها الناس لتظهر لباقتَهم فحسب. بل هي تكاد أن تكون لغة أخرى مخصّصة للاستهلاك الثقافي والرسمي بالعموم. إذ أنّه يُمكن لنا أن نضع حدًّا فاصلاً وواضحًا بين لغتين: إحداهما للاستخدام اليومي والاعتيادي، والأخرى للاستخدام الثقافي والرسمي غير الاعتيادي. ذلك ما يضع اللغة العربية في موضع مختلف عن الانجليزية مثلاً. إذ أنّ بنية اللغة الانجليزية، في الأغلب الأعم، لا تختلف عند الاستخدام اليومي عن ذلك الرسمي بحدة، إلا في حال لغة الأفريقيين الأمريكيين ربما. اللغة الأمريكية اليومية هي التي تُكتب في صحيفة النيويورك تايمز أو في رواية لهمِنغواي. غير أنه يصعُب علينا أن نجد صحيفة رسميّةً أو رواية تُكتب باللهجة المستخدمة يوميًا في العالم العربي، ما يدلّ على حصر المجال الأعم على لغة مغايرة عن تلك التي نستخدمها يوميًا. نجد أننا قد وصلنا، بالتالي، إلى مفرق أساسي في اللغة: يجب على الإنسان أن يفكّر كي ينتج لغة “تليق” بالإطار الأعم من الاعتيادي في العالم العربي.

يُمكن لأيّ من الداعمين هنا للحجة الأساسية، وهي اللياقة الأخلاقية للّغةِ الراقية المرتبطة بالفصحى، بأن يصيغُوها كالتالي: تنبع اللغة الفصحى والغريبة عن تفكيرٍ يقوم به من يستخدمها أولاً، إذ أنها ليست عفويةً تمامًا، كما أن من يستخدمها بحاجة لتواصلٍ فعلي مع منتج ثقافي ليكوّن من خلالِه معجمه ومفرداته ثانيًا. أي، يُمكن القول أنّ اللغة لائقة ومؤدّبة إذا ما كانت خارجة من متعلّمٍ يقرأُ ويفكّر، ولا يقول شيئًا لم يفكّر به ولم يخترْه بعناية. من يستخدم اللغة الغريبة عن السائد يقوم بجهدٍ أخلاقي إرادي في اختيار مفرداته وما يقول، ولذا هو أكثر أخلاقية، وأعلى منزلة من ذلك الذي لا يزِنُ ما يقول، ولا يفكّر فيما يدل، كما أنه لا يتواصل مع أي منتج ثقافي. وعلى صعيدٍ متصل: لا يجدُ مناهضو البذاءة مشكلةً حقيقيّةً في الهجاء والهجومِ القاسي بالضرورة. إذ أننا من الممكن أن نجدَ الكثير من الشتائم التي يقبلها الإعلام الرسمي القديم مثلاً، ويقبل بها الإطار العام بوصفها نقدًا تحت شرطٍ واحد: أن تكون فصيحةً ومنمّقةً ومختارةً بعناية. لا وجود لتابوهاتَ فعليّة إذا ما تواجدت الفصحى. نجد المهذّبين وغير البذيئين يستخدمون الإحالات الجنسية والشتائم دون أن يصفهم أحد بالبذاءة في حال كان الهجاء والهجوم متواريًا خلف كلمات فصيحة صعبة لا يستخدمها الناس يوميًا، ولا يدركونها مباشرةً، كما أنها لا تخرج موضوع الجنس، مثلاً، ليكون موضوعًا عامًا.

ولربما، للإنصاف، يجدر بنا أن نجرّد الحجة المضادة للبذاءة من ارتباطها باللغة العربية الفصحى، ونأخذ جانبًا أكثرَ حداثةٍ، وهو ذلك المرتبط بالصوابيّة السياسية. يُمكننا أن نرى تقاطعًا بين استخدام الفصحى والصوابيّة السياسية في الشرطين الأساسيين للغة المصيبة سياسيًا: يجب على المصيبِ سياسيًا أن يفكّر بدلالات ما يقول وما ينتج عنه قبل أن يقوله، كما أنه يجدر به أن يتعلّم من مصادر ثقافية متعددة عن دلالات هذا القول مسبقًا.

ما يُمكننا أن نصل إليه، بالنتيجة، أنّ البذاءة عند مناهضيها مرادفٌ للخطأ الأخلاقي اللغوي واللفظي. أي أنّ ما يلفظه الإنسان دون تفكير هو لاأخلاقيّ بالقدر ذاته الذي يكون الفعلُ التلقائي فيه لاأخلاقيًّا. من هذا المنطلق نستنتج أنّ البذاءة، بالضرورة، تُعرَّفُ من منطلقاتٍ أيديولوجية. قد يكون، في حالِ الأصوليين المتمسّكين بالفصحى، مرتبطًا بأخلاق أصولية، سواءً كانت أصولاً دينيةً، أم اجتماعية من عادات وتقاليد، أم، في حال أحدث، عبر الصوابية السياسية. ذلك ما يحيلنا إلى نقاش الأيديولوجيا، ما نفصّله في التالي.

أيديولوجيا اللباقة والبذاءة

        يصعبُ، بعد صعود الخطاب الماركسي واليساري بالعموم، تجاهل النقد الأيديولوجي للخطاب والذي ينحى إلى تقنينِ اللغة. ما قامت به المادية الديالكتيكية الماركسية من ربط بين الواقع الطبقي والأيديولوجيات الموازية له ثوري لا يُمكن لنا أن نتجاوزه. ففي موضوعنا، يقدّم اليسار نقدًا أيديولوجيًا في عدة محاور: في الأول يتحدى اليسار جميع المفاهيم الأساسية المتعلقة بالأخلاق واللياقة والذوق مثلاً، إذ يجد كثيرًا منها مجرد أخلاق “برجوازية”، تنتج مبررات أيديولوجية، مغلّفةً باسم الأخلاق، ما يبرر ميلان موازين القوى بالعموم لصالح فئة دون أخرى من خلال تسقيط الفئات المقموعة أخلاقيًا. إذ أنّ وسم الجريمة بالخطأ الأخلاقي للأفراد، مثلاً، هو دفاع عن استقرار الفئة المستفيدة من النظام الاجتماعي العام. وفي المحور الثاني، وهو موضوع هذه المقالة، تقنّن الأيديولوجيا اللغةَ بما يناسب استقرار الخطاب الأيديولوجي السائد. إذ نجد المفكر الفرنسي ميشيل فوكو، مثلاً، يحيل خلق تابو الجنس لسيطرة أيديولوجيا مسيحية تحاول أن تحتكر الخطاب -وبالتالي اللغة- المتعلّق بشكلِ أهم عنصر يكوّن المجتمعات، وهي الأسرة.(1) الجنس هنا، وما يرتبط به من لذّات ونكات، بل وحتى حديث عام اعتيادي، يُقصى لصالح أن يكون الحديث المشروع عنه هو ذلك الذي يكون في الاعتراف الديني والمقدّس، ما يتيح للدين أن يسيطر على شكل الأسرة وبنيتها. ليس بعيدًا هذا الطرح عن الطرح الإسلامي والعالم العربي، إذ أنه كما تقول العبارة الشهيرة “لا حياء في الدين”، والدين فقط.

ما يمكننا أن نراه، من هذا المنطلق، أن اللغة اليومية التي تستخدم البذاءة والإحالات الجنسية وغير الجنسية، هي في واقعها إحالة لواقع اجتماعي غير منسجم تمامًا مع الخطاب الأيديولوجي السائد. يستخدم جزءٌ لا يُستهان به من الناس الإحالات الجنسية، والعبارات الشوارعية إن صح التعبير في المحادثات اليومية دون أن يكون استخدامهم لها لا أخلاقيًا بالضرورة، وإنما يكون نتيجةً لسياقاتٍ تفرضُ هذه البذاءة، إن قبلنا بالمصطلح، بدرجة أو بأخرى. قد تكون الكلمة الموسومة بالبذاءة مزحةً اعتيادية بين أصدقاء ترتبط بسياق طوّرها وخلقها بشكل عفوي وطبيعي، وقد تكون غضبًا وردَّ فعلٍ تجاه خصم سياسي مثلاً. ما يحاول اليسار هنا أن يناقشه هو أنّ استخدام العبارة ليس لا أخلاقيًا بذاته، إلا إذا كنا نفترض أنّ أسلوب الحياة المريح والمرفه لمن يكون في موقع امتياز، والذي لا ينتج عبارات غاضبة يومية، هو أسلوب الحياة الصحيح والأخلاقي. بل يذهب اليسار إلى أبعد من ذلك، ليؤكد أنّ اعتبار هذه البذاءة خطأً أخلاقيًا، هو، في جوهره، محاولة لإخفاء الواقع السيئ الذي ينتجها. إذ أنّ النسوية نفسها التي تستخدمُ لفظة تُعتبر بذيئة وسط حوار ما لا تستخدمها سوى لإظهار عقم الحوار هذا مثلاً، أو إظهار غضب مشروع. ولا يتم وسمها بالبذاءة سوى تمويهًا وهربًا من معاناة النساء.

وعلى صعيدٍ متصل، يصعب تجاوز أن وصف “بذاءة”، والذي يربط اللغة العامية هذه، أو اللغة التي ترتبط بإحالات جنسية، هو بذاته مؤدلج ومنحاز إلى منظومة أخلاقية تقنّن الخطاب فيما يتلاءم مع الوضع الاجتماعي السائد والعام. نحن هنا أمام رفض للعبارات العامية نفسها لأنها لا تنسجم مع الحياة المرفهة والمليئة بالراحة من جهة، ورفض، من جهة أخرى، لاختراق التابوهات الأيديولوجية، وهي الاختراقات التي تزعزع ثبات الخطاب السائد، كما أننا أمام اختراع جديد لتصنيفات أخلاقية آيديولوجية، وهي هنا تتمثّل في لفظة البذاءة نفسها، والتي تم استخدامها فيما سبق في تمثّل واضح لهيمنتها على الخطاب العام من خلال تصنيف سلطوي بالتعريف.

ختامًا،

لا يرى اليسار في ادعاء رافضي البذاءة بأنها لا تنتج عن عقلية أخلاقية سوى تبريرًا لوضع طبقي غير عادل، وتجريمًا لأسلوبِ حياة مختلف، وذلك ما يبرر أسلوب حياة سلطوي وانتفاعي. إذ أنه يجد ما يسمى بالإرادة في اللفظة وفيما يرتبط بالبذاءة وهمًا أيديولوجيًا غير مرتبط بصحة اللفظة من عدمها. لكن ما نجده مثيرًا للاهتمام، هو أن اليسار نفسه قد عاد واستخدم التقييد الأيديولوجي للغة هذا من خلال الصوابية السياسية نفسها في السنوات الماضية، وخصوصًا مع صعود الخطاب الشعبوي اليميني الذي يقوده الرئيس دونالد ترامب. نحن هنا أمام معضلة فعلية، وهي أن في التابو الجنسي مثلاً ما هو مسيء للمرأة، ويعبر عن ثقافة وأيديولوجيا أبوية، وليس فقط حفاظ على بنية اجتماعية أيديولوجية أبوية. ما تقترحه المقالة هنا هو تجريد البذاءة من الوصمة السلبية المرتبطة بها بشكل مباشر، وإعادة قراءتها قراءة دلالية، بل وتداولها في الإطار العام في ظل هذا التفكيك البنيوي واللغوي لها. على أقل تقدير، من المهم أن يصاحب تصاعد الخطاب البذيء في الإطار الاجتماعي العربي الأعم تنظيرٌ وقراءة دلالية دقيقة لكل ما يرتبط به من نقد ومزايدات أخلاقية. هذا ما لا أعتبره خارطة طريق بالطبع، بل رتوش تدل على بداية لرسم خارطة طريق.

 

 


  • راجع كتاب “تاريخ الجنسانية” لميشيل فوكو، إذ أنه يتوسّع في دلالات الهيمنة على الخطاب الجنسي في التاريخ لنصل لتابو هو في جوهره باب حراسة لشكل مؤسسة الأسرة الحالي، كما أنه كما يصفه تقنين للجنس وحصره في معاني محددة ومؤطرة فيما يناسب أيديولوجيا معينة ومحددة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى