وقفت الفلسفات والتّيّارات الماركسيّة منذ تأسيسها موقفًا معاديًا من الدّين، وتجلّى ذلك الموقف في ممارسات الأنظمة الشّيوعيّة المختلفة الشّرقيّة والغربيّة تجاه المؤسّسات الدّينيّة، من الكنيسة الأرثوذكسيّة في روسيا مرورًا بالكنائس الكاثوليكيّة ووصولاً للمعابد والأديار البوذيّة في الصّين. ولكنْ ما هي طبيعة هذا الموقف العدائيّ من الأديان الميتافيزيقيّة؟ هل هو موجودٌ أصلاً في النّظام الفلسفيّ الماركسيّ أم أنّه نتج عن سوء ممارسةٍ بولشيفيّةٍ حاكتها الأحزاب الشّيوعيّة الأخرى في العالم؟ وما هي أصوله الفلسفيّة النّقديّة؟ وإلى أيّ مدى يمكن اعتباره نقدًا فلسفيًّا عوضًا عن حكمٍ عقائديّ دينيّ؟ لذا لا بدّ من وضع الماركسيّة في سياقها الفلسفيّ التّاريخيّ، وتتبّع تطوّر القراءة الفلسفيّة الماركسيّة للدّين الميتافيزيقيّ قبل التّحقيق في طبيعتها النّقديّة.
الدّين والجدليّة
لعب الدّين دورًا محوريًّا في بلورة فكر «هيغل» «G. W. F. Hegel» الشّاب، وهو الذي التَحَقَ بمعهد «توبينغن» «Tübingen» لدراسة اللاّهوت. لكنّ دعوة الفلسفة كانت أشدّ تأثيرًا على نفسه، خصوصًا بسبب تشجيع زميليه «هولدرلين» «F. Hölderlin» و«شلّينغ» «F. W. J. Schelling». ولم يكن «هيغل»، إلى جانب عددٍ كبيرٍ من المثقّفين الألمان، راضيًا عن اتّجاه الفلسفة الألمانيّة آنذاك، وتحديدًا في مسألة الظّواهر الكانطيّة وحدود التّفلسف. ومتأثّرينَ برومنطيقيّة عصرهم أراد هؤلاء الشّبّان الألمان إعادة الفلسفة إلى مرحلتها التّقليديّة العقلانيّة، حيث يستطيع المرء الولوج إلى الجوهر ومعرفة الأشياء في ذاتها. هنا يظهر اهتمام «هيغل» بالدّين بوصفه حلاًّ لمشكلة الأضداد التي تمكّن الفرد من الكشف عن الوحدة الجوهريّة الكامنة وراء التّضاد (عبد الفتاح إمام، 2007، ص 33-39)، لكن ما هو الدّين عنده؟
يميّز «هيغل» بين الإيمان القلبيّ أو الحيّ وبين الطّقوس والعقائد الدّغمائيّة الثّابتة، فيسمّي الأوّل «الدّين الذّاتيّ»، وهو يرتبط بالطّبيعة الغرائزيّة وبالمشاعر الفطريّة، في حين يطلق على الآخر تسمية «الدّين الموضوعيّ»، وهو اللاّهوت المنظّم الذي يشكّل موضوع الفهم. فالأوّل فرديٌّ بينما الثّاني جماعيٌّ (موراني، 2003، ص 26-27). ومن خلال هذا التّمييز تتوضّح مواقف الهيغليّة من الظّواهر الدّينيّة، إذ أصبح الدّين جزءًا من الجدليّة، فالإنسان مخلوقٌ متناهٍ ومحدودٌ أمّا الإله فلامتناهٍ ولامحدودٌ، والدّين هو الطّريق التي يرتفع منها الإنسان في حياته إلى المطلق. وهذه الجدليّة ترتكز على وعي الرّوح «Geist» بذاتها عبر مسارٍ تصاعديّ طويلٍ، فهي التي تدفع إلى التّغيّر والصّيرورة، «إذ من خلال الأديان المُحدّدة تصبح تلك الرّوح نفسها واعيةً بذاتها. لذلك تعتبر الأديان مراحلَ أو محطّاتٍ تعي فيها الرّوح ذاتها.» (Grondin, 2012, p. 108). وهذه الفكرة سيعود إليها «ماركس» و«إنغلز» في تعليقهما على الدّين، وستشكّل نقطة انطلاق النّقد الماركسيّ.
لكنّ الدّين الحيّ الذي قال به «هيغل» استُبدِلَ بالموضوعيّ، أي اللاّهوت، وبات جامدًا حسّيًّا ومكبّلاً بالموروث والتّقليد، بدلاً من الانفتاح القلبيّ للمطلق ومعانقة اللاّنهائيّ. لهذا السّبب يحيا الإنسان في بؤسٍ وكآبةٍ ذاتيّةٍ، فهو يعيش حالة اغترابٍ، إنّه مغتربٌ عن ذاته، وفي اغترابه عن ذاته مغتربٌ عن الإله، لأنّ الإله في ذاته. وهذه إشكاليّة الحلوليّة عند «هيغل» التي تبرز جليّةً في كتاب «فينومينولوجيا الرّوح» «Phenomenologie des Geistes» حيث يقدّم الفيلسوف مفهوم «الوعي التّعيس» «the Unhappy consciousness» ذي الطّبيعتينِ، ويرجع سبب تعاسته إلى حالته المتناقضة في نفسه وضدّ نفسه، أي إنّه ذاتٌ مغتربةٌ تعتبر وعيها خارجًا عنها عملاً باعتقادٍ موضوعيّ، في حين أنّ وعيها قائمٌ في ذاتها ذاتيًّا (Hegel, 1977 p. 126-127). ولتبسيط مقصد «هيغل»، فلنأخذ إنسانًا متعبّدًا يُصلّي إلى إلهٍ خارجيّ عنه، وبنظره إنّه جزءٌ محدودٌ يعبد كلاًّ لامحدودًا، وهذا التّناقض ينتج تعاسةً لذلك المؤمن. والحقُّ أنّ تلك الصّفات الإلهيّة أي اللّامحدوديّة والكلّيّة وغيرها هي موجودةٌ عند المؤمن وليست في كائنٍ منفصلٍ عنه، والأخير يصبح فردًا مغتربًا عن ذاته الكلّيّة واللاّمحدودة، فهو يسعى إلى امتلاك جوهره الخارج عنه، وفي الوقت نفسه جوهره جزءٌ منه. فما اعتُبِرَ في ظاهره شيئًا مغتربًا هو في حقيقته متجانسٌ وموحّدٌ. وقد ذهب بعض الباحثين في الفلسفة الهيغليّة إلى أنّ الصّورة التي يعبّر عنها «هيغل» في مفهوم «الوعي التّعيس» هي الذّهنيّة القروسطيّة للفرد الأوروبيّ المسيحيّ الكاثوليكيّ (In: Burbidge, 1978).
إنّ حالة الاغتراب التي يصفها «هيغل» جاءت نتيجة مسارٍ جدليّ طويلٍ بدأ مع تأليه الطّبيعة، حينما لم يكن ثمّة من حدّ فاصلٍ بين الإنسان والطّبيعة، ثمّ انتقل إلى مرحلةٍ أخرى مع تحوّل الشّعوب من مجتمعات المحاربين إلى مجتمعات الزّراعيّينَ. في المرحلة الجديدة تحوّلت العلاقة مع الألوهة إلى علاقةٍ وسيطةٍ حيث أصبح الفرد المتديّن مزارعًا يغيّر الطّبيعة ويطوّعها، أي ينحت أو يرسم أو يبني تمثيلاً للإله. لذا تحوّلت «الألوهيّة» من حالتها الطّبيعيّة الخامّة إلى حالتها الاصطناعيّة المصنّعة. وتطوّر التّصوير لدى الإنسان إلى أنْ بلغ مرحلةً بات يصوّر فيها الألوهيّة تصويرًا يشبهه، أي بات يرسم/ينحت الإله إنسانًا ذا خصالٍ إنسانيّةٍ، وبذلك تحوّل المتديّن إلى فنّانٍ، وانتقل الدّين من حالته الطّبيعيّة إلى حالته الفنّيّة. (Stern, 2001, 185-186).
فالأديان الشّرقيّة القديمة (ديانة السّحر، البوذيّة، والزّرادشتيّة) أقامت حاجزًا بين الألوهيّة والإنسانيّة في تصويرها للمطلق، فالإله كائنٌ منفصلٌ عن الإنسان، ولا يمكن اكتشاف ماهيّته، لذلك تقوم هذه الأديان على اللاّشخصيّة، أي انفصال الإلهيّ عمّا هو إنسانيّ. وتقابل تلك الأديان أديان الشّخصيّة، أي شخصنة الألوهيّة، وأوّل تلك الأديان كانت الدّيانة اليهوديّة التي حظّرت تصوير المطلق لعدم القدرة على بلوغ التّعبير الدّقيق عن ماهيّته. ثمّ جاء اليونان فصوّروا آلهتهم تصويرًا إنسانيًّا، فنحتوا التّماثيل وأوجدوا التّرانيم، لكنّ هذا التّمثيل البشريّ لم يكن كافيًا فدخل التّصوير مرحلة الملحمة والمأساة والملهاة حيث بلغ أوجه في سياقٍ علمانيّ (باتت الآلهة ممثّلين واضعينَ أقنعةً). لكنّ الأمر لم يدم طويلاً، واصطدم بشكوكيّة ورواقيّة الرّومان الذين أعادوا روحانيّة الألوهيّة وجعلوها في الضّمير الإنسانيّ بعد أنْ كانت في المنحوتات الفنّيّة والتّرانيم المقدّسة (Stern, 2001, p. 189-190). هكذا بدأت الوثنيّة تشهد أفولها، فالوعي الدّينيّ فقد إيمانه بروحانيّة المادّة وبمادّيّة الرّوحانيّة، فبات «وعيًا تعيسًا» (مقابل الوعي السّعيد اليونانيّ)، لذلك لا بدّ للرّوح أنْ تتّخذ شكلاً جديدًا، أي دينًا مطلقًا، وهو عند «هيغل» الدّيانة المسيحيّة.
«هاتانِ الصّورتان المتعارضتان اللّاشخصيّة والشخصيّة تأتلفان في المسيحيّة القائمة على أنّ المسيح إلهٌ وإنسانٌ معًا، فتتصوّر اللّامتناهي ينزل من عرشه ويدخل في منطقة المتناهي فيحيا حياتنا ويتألّم ويموت ثمّ يبعث فيعود إلى مجده، ففيها إثباتٌ ونفيٌ وتركيبٌ وهي تختصر الأديان وتصفّيها وتكمّلها كما يختصر الشّعر الفنون الجميلة، فهي الدّين المطلق.» (عويضة، 1993، ص 108)
لكنّ «هيغل» في نقده وتحليله للدّين يقدّم نقدًا للرّؤية التّنويريّة الأوروبيّة التي اعتبرت الدّين أمرًا منفصلاً عن الذّات لا جزءًا أساسًا من الحالة الإنسانيّة، وذهب بعضهم كـ«دولباخ» «Baron D’Holbach» إلى حدّ اعتبار الدّين تشويهًا وانحرافًا عن الطّبيعة. وقد لاحظ زكريا إبراهيم نزعةً أنثروبولوجيّةً في «صوفيّة هيغل»، وتحديدًا في بعض نصوص كتابات الشّباب بعد أنْ قابلها بمؤلَّف «فويرباخ» «L. Feuerbach» الضّخم «جوهر المسيحيّة» «Das Wesen des Christentums» (راجع: إبراهيم، 2010). وهذه النّزعة، وإنْ كانت مبطّنةً، سيدفعها «جدول النّار» النّقديّ إلى الظّهور في قالبٍ مادّيّ جديدٍ، متحرّرةً من سطوة اللاّهوت عليها.
أنسنة الألوهة وتأليه الإنسانيّة
إنّ «جدول النّار» المذكور سابقًا هو المعنى الحرفيّ لاسم «فويرباخ» (في صيغة التّعريف)، وهو الفيلسوف الذي بدأ حياته طالبًا للاّهوت، وانتهى به الأمر بأنْ يكونَ أوّل شارحٍ وناقدٍ مادّيّ للهيغليّة في ألمانيا. ولطالما اعتُبِرَت فلسفته فلسفةً «انتقاليّةً» «transitional»، أي إنّها المجال الوسط ما بين الهيغليّة والماركسيّة، ولعلّ كتابات الماركسيّينَ هي التي ساهمت في تشكيل ذلك الانطباع العامّ. وممّا لا شكَّ فيه أنّ «فويرباخ» قدّم نقدًا «ثورويًّا» للنّظام الفلسفيّ الهيغليّ، ومهّد الطّريق أمام «الهيغليّينَ الشّبّان» كي يبنوا تأويلهم للهيغليّة على أسسٍ مادّيّةٍ راديكاليّةٍ بدلاً من «التّوفيقيّة» التي لم يتجرّأْ على تخطّيها «هيغل» نفسه. أمّا الخطوط النّقديّة العريضة فلخّصها «فويرباخ» على شكل أقوالٍ مأثورةٍ سنة 1842 حيث كتب في «مقولاتٍ تمهيديّةٍ حول إصلاح الفلسفة» «Vorläufige Thesen zur Reformation der Philosophie»:
«المنطق الهيغليّ هو لاهوتٌ تمّ تحويله إلى عقلٍ وحضورٍ؛ إنّه لاهوتٌ محوّلٌ إلى منطقٍ. وتمامًا مثلما أنّ الكينونة الإلهيّة للّاهوت هي الأمثولة أو التّجسيد التّجريديّ لكلّ الوقائع، أي، لكلّ التّحديدات، لكلّ المتناهيات، كذلك، أيضاً، الأمر ذاته مع المنطق. فكلّ ذلك الموجود على الأرض يجد نفسه مرّةً أخرى في سماء اللّاهوت أيضاً، كلّ ما يكون في الطّبيعة يعاود الظّهور في سماء المنطق الإلهيّ – نوعٌ، كمٌّ، معيارٌ، جوهرٌ، كميائيّةٌ، آليّةٌ، وعضويّةٌ. في اللّاهوت، لدينا كلّ شيءٍ مرّتين، الأولى بالمجرّد ومن ثمّ بالعيانيّ؛ على نحوٍ مشابهٍ، لدينا كلّ شيءٍ مرّتين في الفلسفة الهيغليّة – كموضوعٍ للمنطق، ومن ثمّ، من جديدٍ، كموضوعٍ لفلسفة الطّبيعة والرّوح.
جوهر اللّاهوت هو المتعال؛ أي جوهر الانسان مفترضًا خارج الإنسان. وجوهر منطق هيغل هو فكرٌ متعالٍ؛ أي، فكر الإنسان مفترضًا خارج الإنسان.» (فويرباخ، النقديّة، 2017، ص 206)
تتّضح من هذه الحِكم طبيعة النّقديّة الفويرباخيّة التي لم تنتقد المثاليّة الهيغليّة وحدها بل شملت أيضًا الدّيانة المسيحيّة. فكلاهما يُعتبرانِ لدى تلك النّقديّة حقيقتانِ مطلقتانِ، أي أنّهما لامتناهيانِ ولامحدودانِ، في حين أنّهما محدودانِ تاريخيًّا وزمنيًّا، أي لهما وجودٌ سياقيٌّ ومادّيٌّ، ما يشير إلى إمكانيّة تخطّيهما. (Soares, 2016, p. 462-463) لكنّي لنْ أدخلَ في النّقد الفويرباخيّ للمثاليّة الهيغليّة (وتحديدًا في مسألة العدم)، وسأكتفي بموقف «فويرباخ» من مسألة الاغتراب الهيغليّ. فقد استفاد هذا الأخير من المفهوم العامّ للاغتراب، وهو الاعتقاد بأنّ شيئًا مغتربًا ومنفصلاً عن الذّات في حين أنّه في الحقيقة جزءٌ من الذّات.
لكنّما «فويرباخ» يُلحق بمفهوم الاغتراب مفهومًا آخر وهو «الإسقاط». إذ «بالنّسبة لفويرباخ إنّ جوهر الإنسان الحقيقيّ هو أنّه كائنٌ مادّيٌّ وجزءٌ من الطّبيعة، وعلى حدّ قوله الشّهير «إنّ الإنسان هو ما يأكله». لكنّ الإنسان يختلف عن الحيوانات الأخرى، والاختلاف الذي يميّزه هو موقفه من الدّين. وعيُ الإنسان على اعتماده على الطّبيعة يجعله بشكلٍ أساسٍ يؤلّه الأشياء الطّبيعيّة مثل الأشجار والينابيع. وتبرز فكرة الإله الشّخصيّ التّوحيديّة عندما يعي البشر أنفسهم كأصحاب عقلٍ، وإرادةٍ، ومحبّةٍ. فالإنسان يتأمّل في الدّين طبيعته كشيءٍ منفصلٍ عن نفسه.» (Kenny, 2008, p. 291 – 292) فنحن الكائنات البشريّة نسقط مشاعرنا وأفكارنا المثاليّة في سماءٍ وهميّةٍ ثمّ نقدّس تلك السّماء على أنّها الحقيقة المطلقة والقصوى، لنصبح نحن الكائنات البشريّة بدورنا أوهامًا لتلك السّماء الحقيقيّة. فكأنّ الإنسان في عبادته للإله يعبد نفسه، لذا إنّ الدّين الميتافيزيقيّ هو الاغتراب بذاته، ولا بدّ من نزع عائق القدسيّة الإلهيّة عنه كي يتحوّل إلى دينٍ إنسانويّ. وتوصّل «فويرباخ» إلى أنّ فلسفة «هيغل» شكلٌ من أشكال الاغتراب لأنّها تعتبر جوهر الإنسان خارجيًّا عنه.

إذن تُحدَّد فلسفة «فويرباخ» بثلاثة محاورَ «الأوّل هو تحرير الإنسان والطّبيعة من ربقة عبوديّة النّزعة المثاليّة الهيغليّة، والثّاني تحرير الإنسان من هيمنة سلطة الفكر اللاّهوتيّ، أمّا الثّالث وهو الأهمّ فهو تأسيس قواعد الّين الأنثروبولوجيّ إذ إنّه في هذا المحور شذب الّين المسيحيّ من جميع الأوهام التي تسرّبت له من الاتّجاهينِ اللاّهوتيّ والمثاليّ، وأبقى الدّين معبّرًا عن نشاطٍ إنسانيّ خالصٍ». (النصراوي، 2017، ص 14)
وهذه هي خلاصة «الفلسفة الجديدة» «Neue Philosophie» التي أتى بها «فويرباخ» حيث يقول في «مبادئ فلسفة المستقبل» «Grundsatze der Philosophie der Zukunft»:
«كانت مهمّة العصر الحديث إدراك الإله وأنسنته – تحويل اللاّهوت إلى أنثروبولوجيا وحلّه فيها.» (فويرباخ، النقديّة، 2017، ص 235)
ولا بُدّ من الإشارة إلى المقاربة المنهجيّة المختلفة عند «فويرباخ»، فقد اعتمد هذا الأخير في قراءته لنشوء الدّين على مخطّطٍ تطوّريّ بدلاً عن المخطّط الجدليّ الذي نعثر عليه عند «هيغل» أو «ماركس». فإنّهما لدى «فويرباخ» فيلسوفان مطلقانِ، أي يفكّرانِ كمفكّرينِ لا كبشريّينِ، إذ يكون شعارهما «Vérité c’est moi» «الحقيقةُ أنا» تمامًا كشعار الحاكم المطلق «L’Etat c’est moi» «الدّولة أنا» (فويرباخ، النقديّة، 2017، ص 319). ولعلّه يستذكر مقولة «هيوم» «D. Hume» «كنْ فيلسوفًا؛ إنّما، في خضمّ فلسفتك كلّها، ابقَ رجلاً» «Be a philosopher; but, amidst all your philosophy, be still a man» (Hume, 2004, p. 3). فإنّ «فويرباخ» لا يؤكّد على محدوديّة الفكر في حالته الفرديّة والعقليّة الخالصة وحاجته للآخر للخروج عن تلك المحدوديّة فقط، بل حملت جملته مقصدًا شكوكيًّا رفض شموليّة الأنظمة الفلسفيّة المُحاكية للعقائد الدّينيّة.
بغضّ النّظر عن المقاربة الفويرباخيّة للدّين فإنّ أهمّيّتها تكمن في تشديدها على البُعد الأنثروبولوجيّ للظّواهر الدّينيّة، وكأنّ «فويرباخ» أقدم على ثورةٍ كوبرناكيّةٍ في هذا المجال. فقد بات الإنسان في اغترابه وعلاقاته محور الدّراسات الدّينيّة بعد أنْ كان اللّاهوت، أي الإله، مركز تلك الدراسات. فإنّ «فيورباخ»، على حدّ تعبير أحمد عبد الحليم عطية، «كان محرّرًا وموقذًا للفكر أكثر من كونه صانع أنساقٍ. ودعا النّاس إلى استخدام أبصارهم، ونصحهم بأنْ يعتمدوا على رؤيتهم الشخصيّة للأشياء ولكنّه لم يعيّن لهم ما ينبغي عليهم أن يروه. أمّا تأثيره على الأجيال التالية فكان قويًّا. فقد كان يدفعهم إلى التفكير والنّظر بأنفسهم، ولم يكن اتّجاهه اتّجاه أستاذٍ يسعى إلى إنشاء مدرسةٍ لنفسه في تاريخ الفكر.» (فويرباخ، جوهر الدّين، 2017، ص 14). لكنْ ماذا بقي من لانسقيّة «فويرباخ» في الماركسيّة ونقدها للعقائد الدّينيّة؟
اللاّنسقيّة الفويرباخيّة و«ماركس» الشّاب
يبدو أنّ «ماركس» و«إنغلز» كانا يدركانِ قيمة الإنجاز الفويرباخيّ النّقدّي في الفلسفة المرتكز على الإنسان بوصفه محور دراسة الواقع بدلاً من الرّوح (أو الوعي) التي تشكّل جزءًا منه (أي إنّها وظيفةٌ من وظائف دماغه)، وقد عبّرا عن ذلك في أوّل مؤلَّفٍ مشتركٍ لهما:
«ولكنْ مَنْ كشف سرّ “النّظام”؟ إنّه فيورباخ. مَنْ أبطل ديالكتيك المفاهيم، وأنهى حرب الآلهة المعروفة من الفلاسفة وحدهم؟ إنّه فيورباخ. من استبدل الهراء القديم و”الوعي الذّاتيّ غير المحدود” ليس “بأهمّية الإنسان” – فكان الانسان يملك من الأهمّيّة أكثر من كونه إنسانًا – بل بـ”الإنسان”؟ إنّه فيورباخ، وفيورباخ وحده. وقد فعل أكثر من ذلك. فمنذ أمدٍ بعيدٍ تخلّص من المقولات التي يستخدمها “النّقد” الآن ببراعةٍ _ “الثّروة الحقيقيّة للعلاقات الإنسانيّة، المضمون الوفير للتّاريخ، نضال التّاريخ. كفاح الجمهور ضدّ الرّوح”…الخ.
حين يعترف الإنسان مرّةً على أنّه الجوهر، على أنّه أساس كلّ الأوضاع والنّشاطات البشريّة، فبإمكان “النّقد” وحده أنْ يبتكرَ مقولاتٍ جديدةٍ وأنْ يحوّل الإنسان نفسه إلى مقولةٍ ومبدأ لكلّ سلسلة المقولات كما يفعل الآن. وصحيحٌ أنّه بعمله هذا يخطو على طريق الخلاص الوحيدة التي بقيت أمام “اللّاإنسانيّة” اللّاهوتيّة المضطهدة والمطاردة. التّاريخ لا يفعل شيئًا، إنّه “لا يملك ثروةً وفيرةً”، إنّه “لا يشنّ معاركَ”. إنّه الإنسان، الإنسان الحيّ الحقيقيّ، الذي يفعل كلّ ذلك، الذي يملك ويحارب؛ التّاريخ ليس شخصًا منفصلاً، يستخدم الإنسان كوسيلةٍ لأهدافه الخاصّة؛ التاريخ ليس سوى فعاليّة الإنسان الذي يلاحق أهدافه.» (ماركس وإنجلز، 1978، ص 118)
لكنّ «ماركس» الشّاب بدأ ينسلخ تدريجيًّا عن الأنثروبولوجيا الفويرباخيّة، ومثّلت «12 أطروحةً حول فويرباخ» الانسلاخ التّامّ بين فكرَيْ الرّجلَيْنِ، كما تجلّى ذلك في المفهوم الجديد الذي ألحقه «ماركس» بالاغتراب، لذا لا بدّ من توضيح مفهوم الاغتراب عند «ماركس». فكما رأينا عند «فويرباخ» أنّ الاغتراب حمل مفهومًا إنسانيًّا، أي حين يغترب الإنسان عن نتاجه، ونتاجه هو اللّه، فيكفي بأنْ يكتشف حقيقته كي يكون سعيدًا. وهنا يتوقّف «ماركس» ليتأمّل ناقدًا الفلسفة الفويرباخيّة، فيقول بأنّ الإنسان الذي يطمح إليه «فويرباخ» إنسانٌ لا وجودَ له، ولا يمكن بلوغه في عالم الواقع، فهو سيبقى دومًا في اغترابٍ دينيّ، لأنّه يحيا دومًا في اغترابٍ سياسي واجتماعيّ، والسبب في ذلك كلّه يعود إلى الاغتراب الاقتصاديّ، فهو الأصل والباقي الفرع. لذا شارك «ماركس» اعتقاد «فويرباخ» بوجود الاغتراب الدّينيّ، ولكنّه ليس الأساس في المجتمعات الرّأسماليّة، «فوحده العمل يخلق الاغتراب في المجتمع الرّأسماليّ. ولما كان على البشر أنْ يعملوا (خلافًا للحيوانات) وينتجوا لكي يعيشوا، وبما أنّ العمل يخلق إنتاجًا إضافيًّا فإنّ العلاقة بين الإنسان والطّبيعة تصبح علاقةً دياليكتيكيّةً يغيّر فيها كلّ طرفٍ الطّرف الآخر. وما التّاريخ إلاّ تلك العمليّة الدّياليكتيكيّة للتّطوّر يزداد بها تحوّل الطّبيعة تدريجيًّا بفضل العمل الإنساني، كما يزداد بها تشكّل البشر بالمنتوجات التي يخلقونها. والطّبيعة في المجتمع الرّأسماليّ تحوّلت تحوّلاً عظيمًا: والبشر محاطون بالمعامل والمدن. وفي الوقت ذاته، نشأ انقسامٌ ثنائيٌّ عنيفٌ بين الرّأسماليِّين وطبقة العمّال (البروليتاريا)، وبين البشر وناتج عملهم. ولم يعد البشر أسياد ما ينتجون، وتحوّل ما ينتجونه إلى قوّةٍ مستقلّةٍ تجبرهم على العمل لها.» (سكيريك وغيلجي، 2012، ص 674-675).
ولتبسيط الموقف الماركسيّ، فقد نظر «ماركس» إلى «فويرباخ» نظرة «فويرباخ» إلى «هيغل»، أي اتّهمه باللاّواقعيّة، فعبادة الإنسان المجرّد ليست سوى مثاليّةٍ مقنّعةٍ، وهذا ما دفع «ماركس» إلى الرّجوع للواقع لا لنقض النّقد بل لتحسينه. إذ «كان فويرباخ ينظر إلى الإنسان على أنّه، بصورةٍ رئيسيّةٍ، نتاجٌ للطّبيعة، ولم يكن ليولي اهتمامًا كافيًا لأهمّيّة العامل الاجتماعيّ، ولذا جاءت نظرته إلى الإنسان نظرةٌ لاتاريخيّةٌ. فالإنسان، عند فويرباخ، كائنٌ سلبيٌّ، مشروطٌ بالطّبيعة وحدها، وعلى هذا النّحو غابت عنه حقيقة دور الممارسة الاجتماعيّة كرابطةٍ واقعيّةٍ بين الإنسان والطّبيعة، وكقوّةٍ تحوّر الطّبيعة والبشر أنفسهم أيضًا. أمّا ماركس فإنّه في تطوّره اللاّحق، سينتقد بالضّبط هذه الجوانب الضّعيفة من فلسفة فويرباخ، وسيطرح، في مواجهتها، فهمًا للإنسان، يرى فيه كائنًا نشيطًا وفعّالاً، يحوّر – بفضل العمل – عالمه المحيط ونفسه أيضًا.» (مجموعةٌ من المؤلّفين، 2017، ص 54)
لقد استوعب «لودفيغ فويرباخ» الدّياليكتيك الهيغليّ في فلسفته، لكنّه أهمل الجانب التّاريخيّ منه، وهذا ما لفت انتباه ماركس. فالإنسان المجرّد يجب أنْ يكون لديه تاريخ، وماديّة «فويرباخ» الإنسانويّة بقدر ما نقدت الفكر المثالي الهيغليّ بقدر ما عجزت على تقديم حلٍّ لواقع البؤس في أوروبا، لهذا السّبب إنّ «إنسانويّته مبنيّةٌ على أسطورةٍ: الطّبيعة الخالصة، تلك الشّبيهة بغابةٍ عذراء أو جزيرةٍ مرجانيّةٍ انبثقت حديثًا في المحيط الباسيفيكيّ.» (Lefebvre, 1955, p. 127).

والحقّ أنّ ماركس قد هضم الجدليّةَ الهيغليّة بفلسفته، لكنّه استمدّ من ماديّة فويرباخ الموادّ اللاّزمة لعكسها. لذا بعد أنْ شارك الهيغلّيّ الشّاب رأي «فويرباخ» المادّيّ ما لبث أنْ أسّس لنفسه منهجًا مستوحيًا من الإثنين، فأصبح الاغتراب عنده يعني العمل المغترب، وبات ركنًا أساسًا في نظامه الفلسفيّ أو «علمه» الجديد. فقد «كان فويرباخ ماديًّا منسجمًا، وعنه أخذ ماركس نظرته المادّية الى العالم، لكنّه اعتبره “ماديًّا من تحت ومثاليًّا من فوق”، أيّ ماديًّا في نظرته إلى الطّبيعة ومثاليًّا في نظرته إلى المجتمع. فقد رأى ماركس أنّ الإنسان الذي اتّخذه فيورباخ كفرضيّةٍ لنظرته الفلسفية والاجتماعية لم يكن سوى إنسانٍ مجرّدٍ لم تلده أمٌّ ولا يوجد مثيلٌ له إلاّ في الفِكر» (ديب، 1994، ص 25).
لكنْ على ماذا تأسّست النّقدّيّة الماركسيّة للفويرباخيّة؟ والجواب: تأسّست على نظامٍ فلسفيّ، أي قامت على الجدليّة المادّيّة، وبذلك خرجت عن الرّوح الفويرباخيّة نفسها وتحوّلت من اللاّنسقيّة إلى تركيبٍ عقائديّ. لذلك لا بُدّ من دراسة طبيعة النّقديّة الماركسيّة، وتحديدًا قراءتها للدّين في إطار تقييم «علميّة» ما طرحه «ماركس» و«إنغلز».
النّظام الفلسفيّ الماركسيّ وحدود العلم
اعتبرت الماركسيّة نفسها علمًا موضوعيًّا حيث تحوّل فيها «ماركس» من كاتبٍ فيلسوفٍ إلى عالمٍ اكتشف سرّ تطوّر التّاريخ من خلال المادّيّة الجدليّة. وانطلاقًا من دراسة الواقع توصّل «ماركس» إلى أنّ التّاريخ مجموعةُ العوامل الاقتصاديّة التي تؤثّر على العلاقات في المجتمع، أي على كلّ ما هو اجتماعي. فالعمليّة التاريخيّة هي عمليّةٌ اقتصاديّةٌ وتاليًا ماديّةٌ، وليست تصارع أفكارٍ ومُثُلٍ. هكذا درس «ماركس» التّاريخ من جانبٍ أكثر عمليّةً، أي الجانب الاقتصاديّ، فوجد أنّ «تاريخ المجتمعات كلّها حتّى يومنا هذا، لهو تاريخ الصّراع الطّبقيّ. ذلك أنّ الحرّ والعبد، النّبيل والعامي، السيّد والخادم، المعلّم والصّانع، وباختصار، فإنّ المستغِلين والمستغَلين كانوا دائمًا في مواجهةٍ محتدمةٍ، فانتظموا في صراعٍ غير منقطعٍ، ظاهرٍ للعيان أحيانًا، معلنة ومستتر في أحيانٍ أخرى، انتهى تارةً بانقلابٍ ثوريٍّ شمل المجتمع بأسره، وتارةً أخرى بانهيار الطّبقتين المتصارعتين معًا.» (ماركس وإنجلز، 2000، ص 37-38)
ولطالما انتقد الماركسيّون الأشكال الأخرى من الاشتراكيّة، أي تلك الاشتراكيّات الطّوباويّة المسيحيّة النظريّة، ووصفوها بالخياليّة وغير العلميّة. وقد وجّهوا سهام نقدهم نحو بعدها النّظريّ المجرّد والبعيد عن الممارسة والتطبيق، والذي لا يستند على الأدلّة الحسّيّة والوقائع الماديّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، وهذه الأشكال من الفكر الشيوعيّ هي أنواعٌ بدائيّةٌ شبيهةٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بالإملاءات الدّينيّة. فالاشتراكيّة تنطلق من الواقع وليس من تصوّراتٍ عقليّةٍ مسبقةٍ تُسقطها في الواقع. ويعود هذا الموقف إلى «فريدريك إنغلز» الذي دحض في كتابه «الاشتراكيّة: الطوباويّة والعلم» أطروحات أولئك الاشتراكيّينَ الطّوباويّين أمثال «سان سيمون» «Saint-Simon»، «فورييه» «C. Fourier»، و«أوين» «R. Owen». لذا ما يميّز اشتراكيّة «ماركس» و«إنغلز» العلميّة هو اعتمادها على الديالكتيك والتّصوّر المادّيّ للتّاريخ. وفي هذا السّياق يقول «إنغلز»: «إنّ هذينِ الاكتشافينِ العظيمينِ: التّصوّر المادّيّ للتّاريخ، والكشف عن سرّ الإنتاج الرّأسماليّ بواسطة فائض القيمة، ندين بهما لماركس. وبفضلهما أصبحت الاشتراكيّة علمًا ينبغي الآن مواصلة بلورته بكلّ تفاصيله وترابطاته.» (إنجلز، 2013، ص 121) فالشّيوعيّة هي الشّكل العلميّ للاشتراكيّة، إنّها «علم شروط تحرّر البروليتاريا» (إنجلز، 2015، ص 15).
لكنْ ألا يمكننا نقض «علميّة» هذا العلم؟ فقد بيّنَ «كارل بوبر» «K. Popper» الحدّ الفاصل بين العلم والعلم الزّائف «Pseudoscience»، وبيّن أنّ العلوم تقوم على الدّحض أو التّكذيب «Falsification». (راجع: بوبر، 2006) فالعلم يتطوّر بدحض النّظريّات السّابقة لا بجدليّةٍ لاهوتيّةٍ، خذ مثلاً «أينشاتين» «A. Einstein»، فقد قامت نظريّته الفيزيائيّة على إبطال ودحض نظريّة «هايزنبرغ» «W. Heisenberg»، حتّى أنّه أمضى حياته كلّها محاولاً إبطال نظريّته النّسبيّة. أمّا «ماركس» فلمّا قدّم طرحه حول التطوّر المادّيّ للتّاريخ لم يحاول تكذيبه، بل أمضى حياته يحاول ترسيخ هذا الطّرح ودعمه بإبطال عامل الشّكّ وإحلال مكانه اليقين الدّغمائيّ العقائديّ. ففي الماركسيّة أمست الاكتشافات الطّبيعيّة والنّظريّات الفيزيائيّة والبيولوجيّة برهانًا ودلائل تدعم الجدليّة لا العكس، مثلما نجد في مؤلّف «إنغلز» «ديالكتيك الطّبيعة» «Dialektik der Natur»:
«يجب تبيان أنّ نظريّة داروين تشكّل إثباتًا عمليًّا للنّظريّة الهيغليّة في الصّلة الضّمنيّة بين الضّرورة والصّدفة.»
(إنجلز، 2011، ص 357).
وهذا ما يناقض طبيعة تطوّر المناهج العلميّة، حيث تشكّل الوقائع نقطة الارتكاز لا المناهج، وتلك الأخيرة هي التي تتغيّر وتتبدّل عوضًا عن الطّبيعة (أي الوقائع). إذن كلّ ما يخرج عن النّظام الفلسفيّ الماركسيّ هو علمٌ زائفٌ، فماذا عن القراءة الماركسيّة للدّين؟
ماذا عن «أفيون الشعوب»؟
يقول «فريدريك إنغلز»:
«إنّ جميع الأديان المعروفة حتّى الآن كانت تعبيرًا عن مراحلَ من التّطوّر التّاريخيّ لشعوبٍ منفردةٍ أو مجموعاتٍ من الشّعوب. غير أنّ الشيوعيّة هي تلك المرحلة من التطوّر التاريخيّ التي تجعل كافّة الأديان القائمة دونما أهمّيّةٍ وتلغيها.»
(إنجلز، 2015، ص 62-63)
إنّ التّحليل الماركسيّ للظّاهرة الدّينيّة لا يمكن فصله عن النّظام الفلسفيّ المتجانس للماركسيّة. فإنّ «ماركس» و«إنغلز» رأيا في الدّين مرحلةً مؤقّتةً سيتمّ تجاوزها بعمليّةٍ جدليّةٍ. ولأنّ المادّة عندهما تسبق الأفكار، والمادّة عند «ماركس» هي العوامل الاقتصاديّة، نراه يسمّيها بـ«البنية التّحتيّة/الأساسيّة». أمّا الأفكار، وما يعنيه هنا العوامل أو الظّواهر الثّقافيّة كالفنّ والدِّين والفلسفة…، فقد أسماها «البنية الفوقيّة» «The Superstructure»، ويستنتج ماركس إثر ذلك:
ـ أنّ البنية التّحتيّة تحرّك التّاريخ.
ـ أنّ البنية التّحتيّة تسبق البنية الفوقيّة وليس العكس.
وإنْ تؤثّر البنية الفوقيّة على البنية التّحتيّة فهي لا تديرها أو توجّهها، لأنّ الكلمة الفصل تبقى للاقتصاد (سكيربك وغيلجي، 2012، ص 680 – 683).
فالثّقافة والدّين والأخلاق… ليست العوامل الحاسمة في تطوّر حركة التّاريخ، بل المحرّك الأساس هو الصّراع الطّبقيّ. هذا الصّراع اتّخذ العديد من الأشكال على مدار تاريخ البشريّة، وقد انتهى، مع الرّأسماليّة، بالعامل وربّ العمل. فلا يمكن اكتشاف سرَ التّاريخ وتطوّره بالاعتماد على الوعي أو الرّوح (أي ما هو خارجيٌّ عن الإنسان)، إنّما بالاعتماد على العمل والقوى المنتجة (أي العلاقات الاقتصاديّة-الاجتماعيّة).
وسيتمّ ذلك كلّه في عمليّةٍ جدليّةٍ تفرض مركّبًا جديدًا، وستحدث هذه العمليّة بغضّ النّظر عن آراء الأفراد فيها، لأنّهم سيشاركون وسيكونون جزءًا منها من دون علمهم، وذلك تبعًا للحتميّة الاقتصاديّة. لذا إنّ الماديّ يحددّ الرّوحيّ (أو الفكريّ)، فيرتبط رأي الفرد بوضعه الماديّ، ما يعني أنّ الأفكار تَتَحدّد بأسبابٍ اقتصاديّةٍ لا بأسبابٍ عقليّةٍ، وما عدا كلّ ذلك يصنّف عائقًا أمام المادّية الجدليّة، والدّين ليس سوى عائقٍ أمام تحقيق مجتمعٍ شيوعيّ.
لذلك نجد مقولة «ماركس» المزلزلة «الدّين أفيون الشّعوب» تأخذ منحى عقائديًّا لدى المنظّرينَ الماركسيّينَ أمثال «لينين» «V. Lenin» و«ماو» «Mao Zedong»، حيث على أساسها أُقفلت الكنائس والجوامع والأديرة البوذيّة، ودُمّرت الفنون الدّينيّة، وشُوّهت المباني التُراثيّة، وجُرِّمت الطّقوس الدّينيّة… وصولاً إلى إعلان الأنظمة الشّيوعيّة الحاكمة إلحاد الدّولة. لكنّ مقولة «ماركس» تختلف في سياقها التّاريخيّ عن التّأويلات السّلبيّة اللاّحقة لها. فقد كان الأفيون مخدّرًا أنيقًا «Chic» يستعمله الميسورون اجتماعيًّا، ويؤدّي إلى سعادةٍ وهميّةٍ، مثله مثل الدّين لدى «ماركس»، أي بتشديد الدّين على ما هو روحانيٌّ بمقابل ما هو مادّيٌّ، ووعده بالجنّة بعد حياة البؤس الأرضيّة، يمنع الطّبقات الفقيرة المعدمة من تحقيق سعادتها الحقيقيّة على الأرض. (Grondin, 2012, p. 110-111)
لكنْ ألم يصبح الوهم الدّينيّ بعالمٍ طوباويّ في الآخرة واقعًا مادّيًّا في الشّيوعيّة؟ وألم تتحوّل الماركسيّة في خلال نقدها للدّين الميتافيزيقيّ إلى دينٍ جديدٍ يتّخذ المادّة مقدّسًا بدلاً من الرّوح؟ ألا يستطيع المرء عبر الملاحظة البديهيّة أنْ يعثر على تشابهاتٍ بين الطّقوس الدّينيّة وبعض الممارسات الشّيوعيّة؟ لذا هل نعتبر الشّيوعيّة دينًا مادّيًّا؟
هل ثمّة من مقدّسٍ ماركسيّ؟
تقوم الأديان على فكرة المقدّس، وقد يكون هذا المقدّس إلهًا، آلهةً، روحًا، أو فكرةً مجرّدةً إلخ… حيث تُبنى حوله الطقوس والشعائر. وحينما ينتقل هذا المقدّس إلى المجال السياسيّ يتحوّل إلى أيديولوجيا. لكنّ المقدّس ليس حكرًا على الميتافيزيقيا، إذ تختلف طبيعته بين طبيعةٍ ميتافيزيقيّةٍ وطبيعةٍ مادّيّةٍ فيزيائيّةٍ. وما نعثر عليه في الشيوعيّة يتّفق مع الطبيعة الثانية، أي المقدّس المادّيّ. ففي الشيوعيّة ثمّة بعدٌ عقائديٌّ يتمثّل بالتسليم غير المشروط بعلميّة الصراع الطبقيّ. أضف إلى ذلك أنّ ذلك الطّرح المادّيّ غير قابلٍ للشكّ أو التشكيك به، ففي الأنظمة الشيوعيّة كان المفكّر الذي يطرح تأويلاً جديدًا للماركسيّة أو يقوم بعمليّةٍ تنقيحيّةٍ للّينينيّة يُعرّض نفسه للاعتقال، وهذا شبيهٌ إلى حدٍّ كبيرٍ بسلوك السّلطات الكنسيّة الكاثوليكيّة إزاء التّشكيك بالأرسطوطاليّة المدرسيّة، وتحديدًا بمركزيّة الأرض (الاضطهاد الذي تعرّض له «غاليلي» «G. Galilei»). هذا التقديس لأرسطو في القرون الوسطى، والذي باستطاعتنا أنْ نسمّيه «عبادة الموتى» «Cult of the dead»، يتشابه مع تأليه الماركسيّينَ لـ«ماركس» و«إنغلز» في القرن العشرين.
فسلوكيّات المتديّن الميتافيزيقيّ (المسيحيّ، الهندوسيّ، المسلم، الزّرادشتيّ…) لا تختلف عن سلوكيّات «المتديّن» الشّيوعيّ. ويبدو أنّ الطّقوس التي قيمت حول الماركسيّة، كالاحتفال في الأوّل من أيّار، وتمجيد الطّبقة العاملة، وتأسيس ثقافةٍ شيوعيّةٍ تدور حول البروليتاريا والثّورة والنّضال… ليست عواملَ تدعم فكرة علميّة الماركسيّة، بل تؤكّد تحوّلها من رأي فلسفيّ إلى ظاهرةٍ دينيّةٍ بذاتها تستحقّ الدّراسة العلميّة الأكاديميّة.
يقول «ماركس»:
“The basis of irreligious criticism is: Man makes religion, religion does not make man. In other words, religion is the self-consciousness and self-feeling of man who has either not yet found himself or has already lost himself again. But man is no abstract being squatting outside the world. Man is the world of man, the state, society. This state, this society, produce religion, a reversed world-consciousness, because they are a reversed world. […] The abolition of religion as the illusory happiness of the people is required for their real happiness. The demand to give up the illusions about its condition is the demand to give up a condition which needs illusions.”
(Marx & Engels, 2008, p. 41-42)
«إنّ أساس النّقد اللاّدينيّ يقوم على أنّ الإنسان يصنع الدّين، لا الدّين الذي يصنع الإنسان. وبمعنى آخر، إنّ الدّين هو الوعي الذّاتيّ والشّعور الذّاتيّ للإنسان الذي إمّا لم يكتشفْ نفسه وإمّا قد فَقَدَ نفسه مجدّدًا. لكنّ الإنسان ليس بكائنٍ قابعٍ خارج العالم. الإنسان هو عالم الإنسان، الدّولة، والمجتمع. هذه الدّولة وهذا المجتمع ينتجانِ الدّين الذي هو الوعي المعكوس للعالم، لأنّهما عالمٌ معكوسٌ. […] إنّ إلغاء الدّين بوصفه السّعادة الوهميّة للشّعب أمرٌ مطلوبٌ لتحقيق سعادة الشّعب الفعليّة. فالدّعوة للتّخلّي عن أوهام حالة الدّين يعني الدّعوة إلى التّخلّي عن حالةٍ تحتاج أوهامًا.»
إذن إنّ العناصر الدّينيّة قائمةٌ في الماركسيّة قبل الممارسات اللّينينيّة، والستالينيّة، والماويّة… وتتمحور حول المواقف «البيبليّة» «Biblical» والنّبويّة التي أطلقها «ماركس» و«إنغلز» بناءً على التّحليل الديالكتيكيّ للتّاريخ والعلوم الإنسانيّة. فالدّياليكتيك حتّمَ التّوصّل والوصول لمجتمعٍ اشتراكيٍّ تتساوى فيه الطّبقات كلّها، وهذا هو الوعد الدّينيّ الذي قطعه «ماركس»: تحقيق الجنّة الأرضيّة. وعلى أساس هذا الوعد باتت لانسقيّة «فويرباخ» أشبه بنبويّة يوحنّا المعمدان، أي تمهّد الطّريق أمام اكتشاف المادّيّة الجدليّة (أرفون، 1981، ص 24).
لذلك باستطاعتنا الجزم بأنّ النّقد الماركسيّ للدّين القائم على التّوليفة المادّيّة للمنطق الهيغليّ هو نقدٌ دينيٌّ بدوره. ولكنْ ألم يصبح نقدُ الماركسيّة بذلك حكمًا دينيًّا؟ فمتى تنتهي إذن حدود الفلسفة وتبدأ حدود العقيدة الدّينيّة؟
المراجع المعرّبة:
– أرفون، هنري، فيورباخ، ترجمة إبراهيم العريس، المؤسّسة العربيّة للدّراسات والنّشر: بيروت، ط 1، 1981.
– إنجلز، فريدريك، الاشتراكيّة: الطّوباويّة والعلم، دار الفارابي: بيروت، ط 1، 2013.
– إنجلز، فريدريك، ديالكتيك الطّبيعة، دار الفارابي: بيروت، ط 2، 2011.
– إنجلز، فريدريك، مبادئ الشيوعيّة، دار الفارابي: بيروت، ط 4، 2015.
– بوبر، كارل، منطق البحث العلميّ، ترجمة محمّد البغداديّ، المنظّمة العربيّة للتّرجمة: بيروت، ط 1، 2006.
– سكيربك، غنار، غيلجي، نلز، تاريخ الفكر الغربيّ من اليونان القديمة إلى القرن العشرين، ترجمة حيدر حاج إسماعيل، مراجعة نجوى نصر، المنظّمة العربيّة للتّرجمة: بيروت، ط 1، 2012.
– فويرباخ، لودفيج، جوهر الدّين، ترجمة أحمد عبد الحليم عطية، دار المعارف الحكميّة: بيروت، ط 1، 2017.
– فويرباخ، لودفيغ، نحو نقديّةٍ لفلسفة هيغل ومبادئ فلسفة المستقبل ونصوصٌ أخرى، ترجمة نبيل فياض، دار الرّافدين: بيروت، دار الأمان: الرّباط، ط 1، 2017.
– ماركس، كارل، إنجلز، فريدريش، العائلة المقدّسة أو نقد النّقد النّقديّ، ترجمة حنّا عبود، دار دمشق: دمشق، 1978.
– ماركس، كارل، إنجلز، فريديريك، البيان الشّيوعي، ترجمة وتقديم: محمود شريح، منشورات الجمل: ألمانيا، ط 1، 2000.
– مجموعةٌ من المؤلّفين، ماركس مخطوطات 1844 الفلسفيّة-الاقتصاديّة، إعداد توفيق سلّوم، دار الفارابي: بيروت، ط 2، 2017.
المراجع العربيّة:
– إبراهيم، زكريا، هيجل أو المثاليّة المطلقة، مكتبة مصر: مصر، ط 1، 2010.
– ديب، حنَّا، هيجل وفويرباخ، دار أمواج: بيروت، ط 1، تشرين الأوّل 1994.
– عبدالفتّاح إمام، إمام، المنهج الجدلي عند هيجل دراسةٌ لمنطق هيجل، دار التنوير: بيروت، ط 3، 2007.
– عويضه، كامل محمّد محمّد، هيجل جورج وليم فردريك دراسة وتحليل في الفلسفة المعاصرة، دار الكتب العلميّة: بيروت، ط 1، 1993.
– موراني، أنطوان حميد، هيغل كتابات الشّباب، دار الطّليعة: بيروت، ط 1، 2003.
– النصراوي، نادية أحمد، فلسفة فويرباخ بين المادّيّة والإنسانيّة، دار الرّافدين: بيروت، ط 2، 2017.
References
Books
– Hegel, G. W. F., Phenomenology of Spirit, translated by A. V. Miller, Oxford University Press: Oxford, 1977.
– Hume, David, An Enquiry Concerning Human Understanding, Dover: New York, 2004.
– Stern, Robert, Routledge Philosophy Guidebook to Hegel and the Phenomenology of Spirit, Routledge: London, 2001.
– Kenny, Anthony, a new history of western philosophy vol. 4 philosophy in the modern world, Oxford University Press: Oxford, 2008.
– Marx, Karl, & Engels, Friedrich, On Religion, Dover Publications: New York, 2008.
Articles
– Burbidge, John W., ‘Unhappy Consciousness’ in Hegel – An analysis of Medieval Catholicism?, in Mosaic: An Interdisciplinary Critical Journal, Canada: University of Manitoba, 1978, Vol. 11, No. 4, p. 67-80.
– Hodgson, Peter C., Hegel’s Approach to Religion: The Dialectic of Speculation and Phenomenology, in The Journal of Religion, USA: University of Chicago Press, 1984, Vol. 64, No. 2, p. 158-172.
– Soares, Claudia Dalla Rosa, Ludwig Feuerbach’s Critique and Transformation of the Concept of Philosophy, in Revista Portuguesa de Filosofia, Portugal: Catholic University of Portugal, 2016, T. 72, Fasc. 2/3, p. 459-474.
Références
– Lefebvre, Henri, Pour Connaitre La Pensée de Marx, Bordas Editeur: Paris, 1955.
– Grondin, Jean, La Philosophie de la religion, série: Que sais-je? Presses Universitaire de France: 3e édition, 2012, Editions Point Delta: Liban, 2012.