مقالات

في استحالة تأريخ الفلسفة: هل يمكن تتبع الأفكار زمنيًا؟ – حسين إسماعيل

مقدمة

يبدو السؤال الذي يطرحه عنوان المقالة ضربًا من العبث، أو على الأقل نوعًا من الإيغال في التفاصيل التي من شأنها أن تبرز للعيان بعدًا لا قيمة له إلا في حيز التنظير البحت. هل يمكن تتبع الأفكار عبر التاريخ؟ هل يمكن الإجابة على هذا السؤال بالنفي أصلًا؟ بل هل يمكن الحديث عن استحالة تأريخ شيءٍ ما أساسًا؟ ولو افترضنا أن بالإمكان إثبات استحالة تأريخ الأفكار، ما موقع تواريخ الفلسفة من الإعراب حينها، خصوصًا أنها قائمة على بداهة هذه الإمكانية وبداهة تحول الأفكار عبر الحقب؟

تستبطن الإجابة على العنوان إجابةً على كلٍّ من هذه التساؤلات، سواء كانت الإجابة مباشرةً أم لا. قد لا تكمن أهمية السؤالِ في الإجابة المباشرة عليه بنعم أو بلا، إذ قد تتضمن الإجابة قبولًا غير ناقدٍ لبداهة مضامين السؤال وبداهة الإطار الذي يربط بين النفي والإيجاب طالما اقتُصر في طرح السؤال على حدّيهما. لكنه مهمٌّ قطعًا في مساءلة هذه المضامين بحد ذاتها، أي في سياق مساءلة بداهة الأفكار والتاريخ بل حتى بداهة الربط المباشر بينهما. لا تقتصر هذه المساءلة بطبيعة الحال على مجرد الإسهاب النظري لمفاهيم الفكرة والتاريخ والتقصي، بل تتجاوز هذا الإسهاب في سبيل تقويض المنهجيات المتعلقة بالفهمِ بشكلٍ عام. بعبارة أخرى، سؤال إمكانية تتبع الأفكار يستبطن أسئلة فهم ماضيّتها وراهنيّتها، إضافةً طبعًا إلى بحث العلاقة بين هذا الفهم والمباحث المبنية عليه كذلك.

لا مناص من تعرية افتراض إمكانية تتبع الأفكار: أي أفكارٍ حرية بأن تُتّبع؟ وهل ينحو هذا التتبع باتجاه الفكر أم التاريخ؟ بل ما هي المصادر التي تخول للباحثين التأريخ من أساسه؟ وإلى أي الأنواع تنتمي؟ ولا مناص أيضًا من أخذ خطوةٍ إضافيةٍ للخلف: ما معنى الفكرة؟ وما معنى الفكر والأفكار؟

تشكل هذه الأسئلة وغيرها حجر الأساس الذي حدا بالعديد من الباحثين لرفض التصور البديهي لتاريخ الفكر وما انبنى عليه بغرض التوصل لفهمٍ أعمق لكل ما يرتبط بالفكر والتفكير ماضيًا وحاضرًا. أعني بالتصور البديهي ذاك الذي لا يمايز مثلًا بين تاريخي الفكر والفلسفة ولا يقيم شأنًا لإشكالات الموازاة بين الفلسفة والفلاسفة، أو حتى ذاك التصور المؤمن بوجود بعدٍ إنسانيٍّ خالدٍ يُمكّن الباحث من تقصي فكرةٍ ما في مختلف الحقب بلا إشكالات سياقية أو انزياحية.

نجد أصداء مثل هذه التصورات في كتاب قصة الفلسفة لويل ديورانت، حيث يحمل العنوان الرئيسي فكرة تاريخ الفلسفة فيما يشير العنوان الفرعي إلى أن هذا التاريخ مرتبط بحياة وآراء الفلاسفة (الفلاسفة “الغربيين” تحديدًا)، أي أن تاريخ الفلسفة يبدو كما لو أنه عينه تاريخ الفلاسفة وأنه لا فرق بينهما.[1] ونجدها أيضًا في كتاب تاريخ للفلسفة الغربية لبرتراند راسل، حيث يتمحور تأريخه بشكلٍ رئيسي حول الفلاسفة أو المدارس الفلسفية في سردية موحدة تتجاوز الألفي عام باستعراضٍ إشكالي لبعض السياقات التاريخية.[2] كما نجدها في كتاب تاريخ الفلسفة السياسية بتحرير ليو شترواس وجوزيف كروبسي، حيث تتشارك العديد من الأوراق البحثية بالكتاب افتراضًا ضمنية لماهيّة السياسة وبالتالي افتراضًا لماهيّة الأسئلة السياسية والتفلسف حولها.[3] ولذا ليس من المستغرب ضمن هذا التصور والطرح أن تقتصر مناقشة فلسفة أرسطو السياسية في الكتاب بشكلٍ رئيسي على كتابيه الأخلاق النيقوماخية والسياسة دون تطرق فعلي لبقية المباحث رغم اتصالها.

في مقابل هذه الإشكالات النظرية والمنهجية، نجد محاولات مستميتةً من قبل آخرين حاولوا إعادة الاعتبار لأهمية تاريخ الأفكار وأهمية تجاوز ما يحيط به من إشكالات. وبالتالي نجد لڤجوي مثلًا في افتتاحية مجلة تاريخ الأفكار ينادي بأهمية المجال قائمًا بذاته، بغض النظر عن توظيفات نتائجه.[4] ونجد ماندلبوم يبحث فيما يمايز تاريخ الفكر عن الفلسفة، متناولًا إشكاليات التاريخين وعلاقة الإشكاليات بموضوع بحثٍ كل منهم.[5] ونجد أيضًا محاولة دومينيك لاكابرا لإعادة صياغة تاريخ الفكر بوصفه عملية تقصٍّ محاولًا تبيان إشكالات هذا التصور بقراءة وفهم النصوص بشكلٍ عام.[6]

إحدى أهم هذه المحاولات هي ما طرحه كوينتن سكينر في ورقته البحثية المعنونة بـ: “المعنى والفهم في تاريخ الأفكار.”[7] يمكن استشفاف الإشكالات التي يطرحها سكينر من خلال استنتاجه المثير للجدل: لا وجود لحقائق كونية ولا قضايا أزلية فيما يتعلق بتاريخ الأفكار، واستنطاق أجوبة فلاسفة الماضي لحاضرٍ راهنٍ ضربٌ من الخطأ. هذا يعني –مما يعنيه- أنه لا وجود لأفكار فلسفية متسامية تاريخيًا كالحرية والوجود والسياسة والميتافيزيقا والإبستمولوجيا والجمال وغيرها بحيث تصبح هذه الأفكار كما لو أنها مباحث فلسفية بحتة تتناقل عبر الزمن، وليست الفلسفات المزعومة إلا محاولاتٍ للإجابة على مشاكل وظروف معاصرة وراهنة لزمانها لا أكثر. يؤدي هذا لاستنتاجه بعدم إمكانية تأريخ الأفكار بوصفها موضوع بحثٍ تاريخي دون الوقوع في العديد من الأشكال التي تُبطِل جدوى المجال بشكله التقليدي.

ورغم أنها منشورةٌ في 1969 إلا أن أصداء نقدها ما تزال حاضرة في النقاشات المعاصرة حول تاريخ الفكر وما يعنيه في أيامنا.[8] تثير هذه الراهنية التساؤل: هل يمكن لتاريخ الأفكار تجاوز المآزق النظرية التي صاغها سكينر؟ بعبارةٍ أخرى، إذا كان مؤرخو الأفكار اليوم حبيسي الأطر الإشكالية النظرية ذاتها القائمة قبل نصف قرن، فهل يمكن أصلًا الحديث عن تأريخ أفكار مجردًا من هذه المشاكل؟ بل هل يمكن تصور تأريخ أفكار تكون الأفكار موضوعه؟

لا شك وأن الإجابة على مثل هذه الأسئلة أمرٌ بالغ الصعوبة، ولكنه يستحق المحاولة. ولأن استحالة تأريخ الأفكار تعني استحالة تأريخ الفلسفة بالضرورة (من باب أن وصف الفلسفة مضافٌ لمفهوم الفكرة)، فمن المؤكد أن من الضروري التعريج على ما طرحه سكينر قبل تقديم نقدٍ مبدئي في سبيل البدء بترسيم ملامح إجاباتٍ مبدئية. ستستعرض السطور التالية إذن أهم نقاط مقالة سكينر قبل الدخول في إشكالاتها وقبل محاولة تجاوزها.

ولا بد من التنويه أولًا على انصباب القسم الأول من المقالة على تاريخ الأفكار بشكلٍ عام، إذ ليس توصيف الأفكار بكونها فلسفية إلا تفرعًا من التصور الأعم لماهية الفكرة. نتيجة لذلك، لا يمكن مساءلة إمكانية تاريخ الفلسفة إلا بعد مساءلة تاريخ الأفكار وتقصي إشكالية إمكانيته من عدمها. ولعل من الضروري التنويه أيضًا على أن هذه المقالة ستتناول ورقة سكينر المنشورة عام 1969 بالرغم من نشره نسخة مراجعة ومختصرة لها في المجلد الأول من مؤلفه رؤى في السياسة عام 2002.[9]

المعنى والفهم في تاريخ الأفكار

يفتتح سكينر مقالته بما يعتبره السؤال الأساسي الذي يواجه مؤرخي الأفكار كلما أقبلوا على عملٍ فكري ما: ما المنهجيات التي يجب اتباعها في سبيل التوصل لفهم العمل؟ يستخدم سكينر مفردة “الفكري” لوصفِ أي عملٍ يحمل ممارسةً لأحد أنماط التفكير، سواء كان العمل أدبيًا أم فلسفيًا وسواء تمحور حول السياسة أو الأخلاق أو غيرها. وبالإضافة لذلك، يشير سكينر من البداية لضبابية مفهوم تاريخ الأفكار بحد ذاته وتفاوت مفهومه عند ممارسيه، وبالتالي فهو يقر من البداية بأن مفهومه لتاريخ الأفكار واسعٌ بالدرجة التي تجعله يشمل كل الأبحاث التاريخية حول القضايا الفكرية.

فيما يتعلق بالمنهجيات القائمة في مقاربة الأعمال الفكرية، يقول سكينر بوجود منهجيتين رئيسيتين: هناك أولًا ما يمكن تسميتها بالمنهجية النصية، وهي المقاربة التي تشدد على استقلالية النص في تقرير المعنى، أو على سيادة النص بوصفه المفتاح الأساسي في عملية الفهم. ثانيًا، هناك المنهجية السياقية التي تولي أهمية رئيسية للعوامل المحيطة بالنص في تقرير معناه. بعبارة أخرى، يصبح سياق العمل إطارًا لا مناص منه في إدراك ما يتضمنه النص.

وفيما يقر سكينر مبدئيًا بمواطن قوة كل من هاتين المنهجيتين، يشير أيضًا إلى تشاركهما الخلل نفسه: “ترتكب كلتا المنهجيتان […] أخطاء فلسفية في افتراضاتهما حول الشروط الضرورية لفهم اللفظات.”[10] من الضروري التنبه لممايزة سكينر بين الفكرة واللفظة، إذ أن اللفظة أوسع نطاقًا من نظيرتها. هذا التمييز أحد نقاط اختلافه مع ما يسميه آرثر لڤجوي “وَحدَةً أفكاريّة” (unit idea). يمكن فهمِ هذه الوحدات الأفكاريّة من خلال تشبيهها بمكوّنات الطبخ: مثلما أن تفاوت مزيج المكونات ونِسبها ينتج طبخاتٍ مختلفة فإن تفاوت مزيج الوحدات الأفكارية والعلاقات بينها ينتج أفكارًا أو منظوماتٍ مختلفة كذلك. وبالتالي، على حد تعبير لڤجوي، يمكن في سبيل فهم تاريخ النظم الفلسفية تفكيكها إلى مكوناتها الأساسية، أي إلى وحداتها الأفكارية.[11]

ما ينادي به سكينر حين يستخدم مفردة “لفظة” أكبر من دلالات المعنى المتضمنة في “فكرة”، خصوصًا مع ما تحتملها الأفكار من ارتباطات محددة بين الكلمات واحتمالات معانيها. تقوم الممايزة على أسس القصدية والغاية المرافقة للفظات، إذ يعتقد سكينر أن تفاوت الفاعلِ من وراء اللفظ يقتضي بالضرورات انزياحات لا يمكن تثبيتها للمعنى. ومن هذا المنطلق يمكن فهم اعتراض سكينر على رسوخ الأفكار أو كونها قابلة لأن تصبح وَحدة تقصٍّ تاريخي حسب تصور لڤجوي، فهو يقول بعدم وجود أفكارٍ جوهريةٍ يمكن ممازجتها أساسًا، وبالتالي فإن تقصي أي فكرةٍ يستوجب في المقام الأول إخضاع تكوينيّتها للبحث. بعبارةٍ أخرى، يطالب سكينر بموضعة أساسيّة الأفكار بحد ذاتها ضمن البحث التاريخي.

أكتفي بهذا القدر مبدئيًا في التمييز بين مفهومي الفكرة واللفظة، خصوصًا وأن سكينر لم يتطرق لتفاصيل إشكالاتهما إلا في الثلث الأخير من مقالته. ما يستعرضه قبل ذلك متعلق بنقد المنهجيتين الآنف ذكرهما، بدءًا بالمنهجية النصية التي ترى في النص مفتاح الفهم الأوحد.

يبدأ سيكنر بالقول أن هذه المنهجية تفترض مسبقًا وجود عناصر أزلية أو أفكار كونية في النصوص بحيث يستوجب على مؤرخ الأفكار البحث عنها أو السعي لإيجادها. يسمي سكينر هذا الافتراض أسبقية البارادايم. إثر هذا الافتراض، تصبح العملية عملية تقصٍّ لما يقوله فيلسوف أو مفكر ما عن هذه العناصر والأفكار المرسومة مسبقًا. وهذا بطبيعة الحال نوعٌ من التأطير المسبق للفكرة وحدودها وعناصرها، إذ يقبل المؤرخ على النص بتصورات مسبقة عن معاني ومضامين الفكرة فتصبح العملية مجرد تمييزٍ لما حضر أو غاب منها في النص.

من خلال هذا المدخل يتطرق سكينر للخرافات التي تنبني عليها المنهجيات النصية:

خرافة التعاليم (doctrine): تحضر هذه الخرافة وقتما افترض الباحث أو المؤرخ أن على المفكر الإفصاح عن تعاليمه حول كل المواضيع المكونة لفكرةٍ ما. تتخذ هذه الخرافة العديد من الأشكال، وقد تناولها سكينر بما يمكن تلخيصه أدناه:

  1. استخراج التعاليم من العبارات المتناثرة: في هذا الشكل، تعتبر الفكرة (س) على أنها تتكون من (ص، ع، ط) بشكلٍ مطلق، وبالتالي فإن أي حديثٍ عن ص أو ع أو ط يعني حديثًا عن س. يمثل سكينر على هذه الخرافة بفكرة فصل السلطات كما نُسبت لمارسيليوس البادوڤي، حيث يدعي بعض الباحثين في الفكر السياسي أن من الممكن اعتبار مارسيليوس مؤسسًا لهذا الفصل بين السلطات على إثر تناوله الدور التنفيذي للحاكم والدور التشريعي للشعب في كتابه حامي السلم. لكن سكينر يشير إلى ارتباط طرح مارسيليوس أساسًا بما تواجد إبان تحول الجمهورية الرومانية إلى إمبراطورية وما صاحبها من مركزة للسياسة، وبالتالي فمن الخطأ تحويل هذه العبارات المتناثرة إلى كُلٍّ.
  2. غياب التعاليم: هذا الشكل معكوس ما قبله. بدل أن تُحوّل العبارات المتناثرة إلى تعاليم محددة، يُلام المفكر على فشله في صياغة طرحه ككلٍّ وفق أسسٍ أو معايير معينة. هذا يعني أن الفكرة المطلقة (س) بعناصرها (ص، ع، ط) تصبح المعيار الذي يُقاس على ضوئه طرح المفكر. فإذا تناول المفكر ص دون أن يتوصل إلى س، يُلام المفكر على فشله في بلوغ الفكرة. بحسب تعبير سكينر، ما يقرر اتجاه البحث التاريخي في هذه الحالة هو البرادايم المقبول للماهيّة المعطاة للفكرة، بحيث يعتبر كل انحرافٍ عن هذا البرادايم خروجًا عن الماهية وبالتالي خروجًا عن التعاليم.
  3. أنسقة التعاليم: يحضر هذا الشكل من الخرافة كلما عُدّت نتاجات المفكرين المختلفة جزءًا من نسقٍ وحيدٍ كانوا يحاولون تشييده. هذا الشكل امتدادٌ للشكلين السابقين، حيثُ يواجه الباحث الواقع في شراك خرافة التعاليم خطر الانزلاق نحو هذه الأنسقة كلما حاول استخراج كلٍّ مُنظّمٍ على ضوء تشييئاته المسبقة للتعاليم.
  4. خرافة الاتساق (coherence): تقوم هذه الخرافة على فكرة أنّ هناك اتساقًا مؤكدًا في طرح المفكر الذي يختار الحديث عن موضوعٍ ما. إذا غاب هذا الاتساق عن الباحث، فعليه أن يحاول إيجاده سواءً في النص أو في نتاجات المفكر الأخرى، إذ لا شك في وجود اتساق باطني يربط كل ما يطرحه المفكر في منظومة متسقةٍ متماسكة. يطرح سكينر هذه الخرافة (على الأقل في شقها الثاني المتعلق بالاتساق الباطني) ردًا على ليو شتراوس الذي يؤمن بأن في باطن النصوص الفلسفية ما قد يعارض ظاهرها لسببٍ أو لآخر (خصوصًا فيما أسماه شتراوس عصورَ الاضطهاد). بعبارةٍ أخرى، قد يثمر تقصي ما بين السطور إلى فك لغزِ التناقض النصي الظاهري الذي قد يكون ناتجًا مثلًا عن محاولة المفكر مواراة طرحه الحقيقي.

لكن سكينر يفند هذا الادعاء من ثلاثة أوجه: أولًا، يفترض هذا النوع –خطأ- أن الأصالة الفكرية مرتبطة بالمعارضة إن صح التعبير، أي أن على الطرح الفلسفي الأصيل ألا يكون موافقًا للسائد. تنبني نقطة المعارضة هذه على بعض محاولات شتراوس في تبرير ظاهر النصوص الموافقة للسائد بكونها حجابًا لما هو مخالفٌ له في باطنها. ثانيًا، يفند سكينر الادعاء من جانب افتراض القراءة الباطنية بأن القراء الذين “فشلوا” في قراءة ما بين النصوص هم قراء لامبالون بالضرورة، وهي فكرةٌ يرفضها سكينر لاحتكارها المعنى وتهميشها للظاهر. ثالثًا، يعارض سكينر هذه الفكرة فيما يتعلق بتعريف حدود عصور الاضطهاد المزعومة، متسائلًا عن المعايير التي يجب استيفاؤها لاعتبار العصر اضطهاديًا أو لاعتبار طرح النص باطنيًا. تؤدي ضبابية المعايير إلى إمكانية اعتبار كل نصٍّ يحتمل معانٍ باطنية وبالتالي فكل تأويلٍ مشروع.

  • خرافة الاستباق (prolepsis): تحضر هذه الخرافة كلما أُسقِطت أهميةٌ لاحقةٌ لفكرةٍ ما على زمن التلفظ بها. بعبارةٍ أخرى، تحضر الخرافة كُلما خُلطت أهميتها بالنسبة لنا مثلًا بأهميتها للمفكر في زمنه. يُمثّل سكينر على هذه الخرافة بما قاله كارل پوپر في المجلد الأول من المجتمع المفتوح وأعداؤه حين وصف رؤى أفلاطون السياسية في الجمهورية بكونها رؤى “سياسيّ حزبٍ شمولي.”[12] الشاهد من هذا أن ما نعتبره في عصرنا من قوام الشمولية ليس إلا جزءًا من تبلورٍ فكريٍّ لا ينتمي لزمن أفلاطون، وبالتالي فإن من غير اللائق قراءة رؤاه بأهميّةٍ لا تحتملها.
  • خرافة محدودية الأفق (parochialism): ليس من السهل الإيجازُ في توضيح هذه الخرافة، إذ ترتبط جوهريًا بالحاضرية والأطر الفكرية والقصدية وعملية الفهم وغيرها من القضايا الجدلية. لكن بشكلٍ عام، يمكن القول بأن الباحث أو المؤرخ الواقع في شرك الخرافة هو الذي يسيء قراءة النصوص والأعمال وفق أطرها المعيارية كونه غير قادرٍ على قراءتها إلا ضمن ما هو مألوفٌ لديه. يمثل سكينر على هذه الخرافة بمثالين من تاريخ الأفكار: أولًا، قد ينتفع الباحث من موقعه الزمني اللاحق فيقرأ طرح مفكر س كما لو أنه متأثر بالمفكر ص بحكم ما وجد فيه الباحث ألفةً محددة، بالرغم من أن هذه الألفة قد تكون برمّتها متخيلة. ثانيًا، بما أن الأفكار المعاصرة للباحث متراتبةٌ وفق علاقات معينة، قد يقع الباحث في فخ افتراض ذات التراتبية في المعنى أثناء قراءته للأعمال الفكرية التاريخية.

يأخذ نقد سكينر للمنهجية النصية أكثر من نصف المقالة (36 صفحة من أصل 53)، ولا نصادف نقده للمنهجية السياقية إلا في الربع الأخير. يُعرّف سكينر أرباب السياقية باقتباسٍ من مقالة “النظرية السياسية” لكرابتري: السياقيون هم أولئك المؤمنون بأن النصوص الفكرية “استجابة لظروفٍ مباشرة أكثر”، أي بكون النصوص وليدة سياقاتها.[13] وبالتالي فإن علينا قراءة النصوص ضمن السياقات التي من شأنها أن تشرح لنا هذه الاستجابة.

يقر سكينر بقدرة السياقية نظريًا على تفادي العديد من الأخطاء الحاضرية التي ترتكبها المنهجية النصية، كما يقر بأن أغلب النقد الموجه للنصيّة مبني على تصور عام للسياقية. لكنه يعترض على العلّية المبطنة في السياقية إن صح التعبير. بحسب تعبيره، تنطوي المنهجية السياقية في نسختيها الماركسية والناميرية على خطأ فلسفي في الربط بين الأفعال والظروف، حيث تبدو هذه الأفعال كما لو أنها مجرد نتيجة حتمية. وبالتالي حتى وإن كان السياق الاجتماعي قادرًا على إعانة الباحث في فهم النص، من الضروري ألا يُقرأ العمل في ضوء هذا السياق وحسب لأن فعل إنتاج النص يكتنز ما يتجاوز العلة والمعلول السياقيين. ما يعنيه سكينر هو أن من الضروري تجنب الخلط بين معرفة دوافع الفعل وفهم الفعل نفسه.

يرتبط هذا الإشكال بالقصدية الآنف ذكرها. يؤكد سيكنر على أن تقصي الظروف المحيطة بالنص ليست كفيلة بشرحه، بل أن تقصي معنى النص ضمن سياقاته (أي من باب ارتباط معنى الفعل بالظروف التي حدث فيها) وتقصي العلاقات المختلفة بين العبارات خطوتان ضروريتان في سبيل الفهم. يقوم هذا التوكيد على ما يسميه سكينر بالقوى الخطابية: حين يتلفظ الفاعل بلفظةٍ ما، فإن من وراء فعل التلفظ بحد ذاته قوة خطابية ترافق المعنى، أي أن هناك ما يرتبط بقصدية الفاعل في الإتيان باللفظة مجردًا من نسيج المعاني المحتملة سياقيًا. وبالتالي فإن الكيفية التي عُبّر بها عن اللفظة في علاقتها مع بقية التعبيرات مهمةٌ هي الأخرى في إدراك المعنى أو إعادة تشكيله أطره.

يستنتج سكينر على ضوء كل هذا الطرح أمرين أساسيين: أولًا، لا بد من أخذ القصدية بما يتجاوز العلاقة السببية بين السياق والنص، أي بتناول اللفظة ضمن نطاق إمكاناتها اللغوية التي يلعب الفاعل دورًا في تطويعها، مما يعني في نهاية المطاف تجاوزَ افتراض أن النص محض نتيجةٍ للسياقات التي أفرزته. ثانيًا، يستنتج سكينر أن فهم النصوص يشترط عقد حوارٍ بين أبعادها الفلسفية والأدلة التاريخية لئلا يقع الباحث في فخ التأويلات الاستهتارية. يرتبط الاستنتاج الثاني تحديدًا بفخ الحاضرية الذي تنبني عليه المنهجية النصية، وهو الفخ الذي من شأنه تضليل فهم أي نص تاريخيًا كان أم معاصرًا.

إذن، يخلص سكينر بأن على مؤرخي الأفكار أخذ استنتاجيه بعين الاعتبار إذا ما أرادوا لتواريخهم أن تُعطي الأعمال حقها. كما يؤكد في الوقت نفسه على أن هذا لا يتعارض إطلاقًا مع القيمة الفلسفية لتاريخ الأفكار من حيث أن هذا التاريخ يسعى لإيجاد معنى النصوص ضمن مشاكل حقبتها لا مشاكلنا نحن، وبالتالي فإن من شأن تقصي العلاقة بينهما كشف التنوع في الإمكانات الفكرية المختلفة.

داخل الفلسفة خارج التاريخ:

كاستنتاج رئيسي إذن، يقرّ سكينر بإمكانية تأريخ الأفكار من باب قراءة الأفكار في تاريخانيتها وفهمها في سياقاتها الاجتماعية واللغوية (أي بارتباط التلفظ بالفاعل وما يشتبكان فيه)، ولكنه يعارض إمكانية تتبع تطور الأفكار تاريخيًا. لستُ بصدد مناقشة إشكالات طرحه فيما لا يرتبط بتاريخ الأفكار (إشكالات القراءة الباطنية أو تهميشه لانزياحات الأفق الفكرية مثلًا)، ولذا سأقتصر في السطور التالية على تحليل رأيه حول مغلوطية تناول الفكرة بوصفها موضوع تقصٍّ تاريخي.

هناك إشكالان رئيسيان: أولًا، يرسم طرح سكينر قطيعةً حادة بين الإرث التاريخي للسياقات الاجتماعية والأفراد الذين يعيشون فيها. بعبارةٍ أخرى، برغم اعتقاده بأن فهم السياقات شرطٌ ضروري لفهم اللفظات الناتجة ضمنه واعتقاده بضرورة أخذ القصدية والأبعاد اللغوية بعين الاعتبار، يغفل سكينر حقيقة أن هذه السياقات بدورها قائمةٌ على أفق معانٍ يسبق وجودُها وجود الأفراد. هذا يعني أن نتاج الأفراد الفكري حول تأملاتهم ومشاكلهم يتشكّل لا من تفاعلهم كأفرادٍ أو جماعاتٍ وحسب، بل بوصفهم كائنات تاريخية كذلك. وبالتالي فمن المعقول أن يمتلك الأفراد في طرحهم حصيلةً مبنية فعلًا على نوع من الإدراك لما يسبقهم من طرحٍ فكري. نجد ابن سينا وابن رشد مثلًا يتناولان طرح أرسطو السابق لهم بأكثر من ألف عام ويوظفان مفرداته وأفكاره في تقديم فلسفاتهم الخاصة. أولن يكون الحديث عن انزياح الأفكار هنا مقبولًا؟ أوليس من الممكن تناول تغيّر (من باب أن التغيّر أقل حدة من التطور) الفكرة في طرحِ كل منهما من حيث أنهما منخرطان في حوارٍ فكري؟ لكل توظيفٍ سياقاته ومعانيه، لا جدال في ذلك. لكن أن تكون القطيعة تامة كما صورها سكينر لهو أمر مجحف بحق نتاج من كانوا ملمين فعلًا بنتاجات قبلهم وواعين لاستخداماتهم الخاصة لأفكارهم. في هذا السياق، يبدو تاريخ الأفكار أمرًا أقل شناعةً مما صوره سكينر، على الأقل من باب تأريخ انزياحات المعاني والسياقات.

أما الإشكال الثاني فهو متعلق يارتهان “الفكرة” في طرح سكينر بالأعمال الفكرية أساسًا. بعبارةٍ أخرى، الفكرة التي يتناولها سكينر في طرحه مؤطرة مسبقًا ضمن التاريخ الفكري بالمعنى الضيق له، أي بما يمكن اعتباره نتاجًا فكريًا واعيًا للأفراد حول موضوعٍ ما. أدرك تمامًا أهمية توضيحه بكون الاستشهادات في بحثه مستوحاةً من مجال تخصصه في الفكر السياسي، ومن الطبيعي أن يتمحور أغلب نقده على الإشكالات التي يجدها أثناء اطلاعه. ولكن لا أعتقد بكون هذا التوضيح مبررًا لغياب تناول تاريخية الأفق “اللافكري” من أساسه، أي “الأفكار” التي لا تكون بالضرورة موضوع الطرح الرئيسي. لا أشك بضرورة تقصي السياق والمقصد ولا بضرورة وضع الأفكار في سياقها التاريخي، ولكنني في الوقت نفسه أتساءل عما يعنيه هذا النقد فيما لا يُعدّ من أبواب الفكر في التصور التقليدي الذي يطرحه.

في كنف هذا التصور التقليدي لتاريخ الأفكار، تكون النصوص الفكرية حجر التأريخ الأساسي، أي تلك النصوص المُعرّفة بمواضيعها وثيماتها. فلو أرادَ مؤرخٌ ما كتابة عملٍ تأريخي للأخلاق، فلا ضير من المرور على الفلسفة الأخلاقية لأفلاطون وأرسطو وابن سينا وغيرهم بحكم تعرضهم لسؤال الأخلاق بحثًا، ولا إشكال في الأمر طالما اقتصر التأريخ على هذه المواضيع والثيمات في تجلياتها بطبيعة الحال. لكن هذا التصور يستثني الأفكار التي لم تكن بالضرورة موضع بحثٍ فكري، أو الأفكار التي لا تصنف تقليديًا ضمن نطاق الفلسفة. ينطبق ذلك مثلًا على محاولات كتابة تاريخ العرق أو تاريخ الجندر أو غيرها من المفاهيم التي تتخذ أهمية بارزةً في عصرنا. فمن جانبٍ أول، على من يؤرخ لمثل هذه المفاهيم أن يأخذ بعين الاعتبار الإشكالات التي طرحها سكينر في العلاقة المعقدة والتفاعلية بين السياقات والمفاهيم والمفكرين. ولكن من جانبٍ آخر، بحكم أن مصادر هذا النوع من التأريخ قد لا تكون مباشرة في موضوعها، يستوجب على المؤرخ تقصي معاني الأفكار خارج ما هو نصّي/فكري أساسًا في ذات الوقت الذي يستوجب عليه فيه توسيع نطاق الفكرة بحد ذاتها. الأمر أشبه بمحاولة إعادة بناء مفهومٍ ما (وليس من الضروري أن يكون مفهومًا مباشرًا أو متكاملًا) من خلال الإشارات والاستخدامات المتناثرة لمعانيه وتشابهاته. يمكن التمثيل على ذلك بمحاولة كتابة تاريخٍ للعرق يأخذ بعين الاعتبار التباين الكبير بين مفهوم العرق المعاصر ومكوناته الخطابية ومفهوم العرق سابقًا والدلالات المرتبطة به.

هل تاريخ الأفكار ممكن إذن؟ نعم، ولكن من الجلي أن عليه إذا ما أراد تجاوز إشكالات سكينر أن يتبنى أولًا مفهومًا واسعًا للأفكار وألا يقتصر في موضوعه على ما هو تقليدي منها. ثانيًا، من الضروري الأخذ بعين الاعتبار أن تتبع فكرةٍ ما عبر التاريخ لا يعني بأي حالٍ اكتسابها لحياةٍ مستقلة بها، إذ لا حياة للفكر إلا من خلال حياة الفاعلين في إنتاجها وإعادة إنتاجها. هذا يعني مما يعنيه أن على مؤرخ الفكر التخلص من نموذج الهرمية الذي يتربع الفكر على قمته والممارسة في قاعه، إذ أن ارتباط الاثنين أكثر تعقيدًا من اختزاله في علاقة سببية عمودية. حينها يمكن اعتبار التاريخ الفكري تاريخًا وفكرًا كما يجب عليه أن يكون.

 

 


[1] ويل ديورانت، قصة الفلسفة: حياة وآراء فلاسفة العالم الغربي العظام. دار سايمون وسشوستر (نيويورك 2009).

[2]  برتراند راسل، تاريخ للفلسفة الغربية. منشورات روتلدج (نيويورك 2015).

ويمكن أيضًا الاطلاع على مراجعة جورج بواس:

جورج بواس، “مراجعة: تاريخ للفلسفة الغربية“، مجلة تاريخ الأفكار، المجلد الثامن، العدد الأول (يناير 1947). ص117-123.

[3]  ليو شتراوس وجوزيف كروبسي، تاريخ الفلسفة السياسية. دار نشر جامعة شيكاغو (شيكاغو 2006).

[4]  آرثر لڤجوي، “تأملات في تاريخ الأفكار”، مجلة تاريخ الأفكار، المجلد الأول، العدد الأول (يناير 1940). ص 3-23.

[5]  ماوريس ماندلباوم، “تاريخ الأفكار وتاريخ الفكر وتاريخ الفلسفة”، دورية التاريخ والنظرية، المجلد الخامس (1965). ص 33-66.

[6]  دومينيك لاكابرا، “إعادة التفكير بشأن تاريخ الفكر وقراءة النصوص”، دورية التاريخ والنظرية، المجلد التاسع عشر، العدد الثالث (أكتوبر 1980). ص 245-276.

[7] كوينتن سكينر، “المعنى والفهم في تاريخ الأفكار”، دورية التاريخ والنظرية، المجلد الثامن، العدد الأول (1969). ص 3-53.

[8]  يمكن مثلًا رؤية أصداء نقده في أغلب الأوراق البحثية في كتاب إعادة التفكير بشأن تاريخ الفكر الأوروبي المنشور عام 2013.

[9]  لما راسلنا سكينر بغرض ترجمة مقالته المنشورة في 1969، أبدى رغبته في أن تترجم النسخة المنقحة والمختصرة المنشورة في كتابه الصادر عن منشورات كامبريدج عام 2002. آثرتُ هنا تناول المقالة الأصلية لتناولها العديد من النقاط المهمة فيما يتعلق بماهيّة الفكرة.

[10]  كوينتن سكينر، “المعنى والفهم في تاريخ الأفكار”، ص 4.

[11]  آرثر لڤجوي، سلسلة الكينونة العظمى: دراسةٌ لتاريخ فكرة. منشورات تايلور وفرانس (لندن 2017)، ص 3.

[12]  كوينتن سكينر، “المعنى والفهم في تاريخ الأفكار”، ص 23.

[13]  المصدر السابق، ص 39.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى