مراجعات

«عقيدة» نولان.. حينما يضيع السرد داخل متاهة الزمن – بدر مصطفى

في البداية دعني أعدك -عزيزي القارئ- أن هذه المراجعة لن تفسد متعة مشاهدتك للفيلم، إذا لم تكن قد شاهدته بعد، فمعظم أفلام كريستوفر نولان، كما تعلم بالتأكيد، تتجاوز فكرة كشف الأحداث وتعلو عليها؛ لأنها تجربة بصرية وسردية متكاملة، لا تعتمد على المفاجآت الكبيرة، أو  الحبكة الملتوية (plot twist)، التي إذا أفصحنا عنها، انكشفت الأحداث وتقلصت متعة المشاهدة. هذه الملاحظة تتأكد بصورة أقوى، مع فيلم «عقيدة» (Tenet)، المكتظ بتفاصيل تتجاوز تمامًا القدرة على كشفها في أي مراجعة.

المسألة الثانية أن كتابة مراجعة عن هذا العمل تحديدًا، لا تعني الإحاطة بكل تفاصيله، ولا الكشف عن أعمق خباياه. يحتاج الناقد عادةً إلى مشاهدة الفيلم مرتين، حتى يكتب عنه، ومع ذلك يحتاج فيلم نولان إلى ما هو أكثر من ذلك، كما أنه يحتاج من القارئ البحث عن مفاتيحه، والإمساك بها، ولن يجد تلك المفاتيح إلا في المفاهيم الفيزيائية، وخصوصًا تلك المتعلقة بالزمن، والقصور الحراري، والعوالم الموازية، وغير ذلك من المفاهيم، التي افترض نولان أن القارئ يعرفها جيدًا، أو أن الشعور بها دون تأصيلها، كافيًا جدًا لتجربة المشاهدة!

ثالثًا، من المعلوم به لكل متابعي أعمال كريستوفر نولان، أنه من المخرجين المهووسين بفكرة الزمن، كبُعد فيزيائي يمكن التحرك فيه ذهابًا وإيابًا، وأنه يرى الزمن مرنًا، أو بالأحرى متاهة كبيرة يستحيل الإحاطة بها، وبداخل تلك المتاهة توجد طيّات وثنايا، ينسج داخلها نولان حكايته ذات الطبقات المتعددة! في الواقع لا يوجد مُخرج استحضر الزمن في أفلامه بهذه الطريقة، وتلك هي بصمة نولان الفريدة.

بطبيعة الحال يمكن لمشاهد أفلام نولان، وغيره من صناع الأفلام، الذين يقدمون في أفلامهم مستويات سردية متباينة، أن يكتفي في تجربة مشاهدته بالحكاية المباشرة، التي يقدمها العمل ويجد متعته فيها، دون حاجة إلى التسلح المسبق بأدوات القراءة. لكن في المقابل إذا شئنا  تجربة مشاهدة ثرية، فلا مفر أمام مُشاهد سينما نولان، من تجهيز نفسه قبل المشاهدة، لهذا إذا كان فيلم «عقيدة» هو أول تجربة للمٌشاهد مع نولان، فربما سيكون  هذا من سوء حظه أو أنه قد أخطأ الهدف. لماذا؟ لأنه مختلف في بنائه عن أفلامه الأخرى، التي يأخذ بيد المشاهد فيها خطوة بخطوة حتى يصل إلى مراده، وحتى يزرع عالمه السردي داخل عقله ووجدانه. بعدها تتحرك الأحداث بمرونة ورشاقة، دون أن يطغي عنصر الفهم على  متعة الحواس أو العكس. هذا التوازن بين متع الحواس وبين إشباع العقل وإرضاء القلب، كان نولان بارعًا طوال الوقت في صناعته، وهو ما أعتبره أحد الأسرار الرئيسة لتميزه. لكن دعونا نبدأ أولًا بمدخل مختصر جدًا لسينما نولان يبدو ضروريًا، قبل التطرق للفيلم موضوع هذه المراجعة.

ثوابت نولانية

في العام 2017 أصدرت دار نشر «ليكسينغتون بوكس» (Lexington Books) الإنجليزية كتابًا تحت عنوان «فلسفة كريستوفر نولان» (The Philosophy of Christopher Nolan). يضم الكتاب ستة عشر مقالًا، خصصت جميعها لمناقشة أفلام نولان من زوايا مختلفة، غير أن نقطة الارتكاز الرئيسة،التي تكررت في معظم الدراسات كانت هي الزمن. وفضلًا عن هذا الكتاب، يمكننا العثور بسهولة على عشرات الآلاف من المواد، المقروءة والمرئية، المكرسة لمناقشة سينما نولان، التي ضفّرت بعض النظريات الفيزيائية بالغة الصعوبة بلغة الصورة، فكان نتاج ذلك ما رآه البعض من المستحيلات التي يُمكن تقديمها سينمائيًا، دون المساس بعناصر الجاذبية ومتعة المشاهدة.

يدرك مشاهدو نولان ما يمثله مفهوم الزمن من أهمية لديه، كمحرك باعث لأعماله. هو نفسه قد صرح بذلك في أحد حواراته «تستحوذ عليّ دائمًا في أعمالي فكرة أن نكون مسجونين داخل الزمن؛ ذلك البُعد الثالث. يبدو الزمن وكأنه خبرة شديدة الخصوصية بنا، ولكن إذا استطعنا النظر إلى أنفسنا، من خلال بُعدٍ آخر، فقد ندرك أن هذه العلاقات، تعني في الواقع شيئًا مختلفًا، عمّا اعتدنا عليه. »

في فيلم «تذكار» Memento))، إنتاج سنة 1998م، نجد ذلك البطل الذي يفقد ذكرياته باستمرار، فينحلّ الزمن لديه إلى سلسلة من اللحظات غير المتصلة، التي لا يمكن معها الوصول إلى بنية متماسكة للذكريات، تسمح له بالتوصل لمعنى وجوده، فالذاكرة مكونة من ترابط زمني يجمع الأحداث فيتولّد المعنى، وبدونه تبدو الحياة شتاتًا من أحداث لا رابط بينها.

أما في «أرق» (Insomnia)، إنتاج سنة 2002م، يطرح نولان سؤال الزمن بطريقة مختلفة، كيف تبدو الحياة إذا غدت نهارًا خالصًا وأرق لا فرار منه يصل ببطل الفيلم إلى مشارف الجنون؟ ثم يأتي فيلم«العظمة» (The Prestige)، إنتاج سنة 2006م، كبداية حقيقية لعالم الخيال العلمي لدى نولان، مما يفتح أمامه إمكانيات لا حصر لها، لممارسة ألعاب الزمن. يعمل نولان كعهده في تغيير التسلسل الزمني للقصة، يطلعنا على البداية في الوسط، في ذكريات الماضي المتوازية، حيث يصل كل طرفين إلى بعضهما البعض كما لو كنا أمام كُلاّب زمني؛ يحدثه نولان بواسطة المونتاج.

في «استهلال» (Inception)، إنتاج سنة 2010م، يحدثنا المخرج عن زمن الحلم، ذلك الزمن المكثف الذي يختلف عن زمن الساعة (الوقت). وداخل الحلم يتولّد المعنى عبر طبقات ثلاث، فيبدو الفيلم كأنه ثلاثة أفلام، أو بالأحرى ثلاث قصص داخل عالم سردي واحد. أما ملحمة «بين النجوم» (interstellar)، إنتاج سنة 2014م، فموضوعها الرئيس هو الزمن الخالص؛ إذ تبدو كأنها التجسيد السردي لمقولة نولان الواردة أعلاه. ماذا لو شاهدنا أنفسنا من نقطة خارج الزمن الأرضي؟ كيف نرى حياتنا؟ كان الزمن حاضرًا بقوة طوال السرد، وعلى عدة مستويات؛ من كوكب الأرض الذي يصارع الزمن قبل الفناء، والرحلة الفضائية التي تسابق الزمن للعثور على كوكب صالح للحياة، وتباطؤ الزمن قرب الثقب الأسود وتأثيره على شخوص الرحلة، الذين مرت عليهم أعوام كثيرة في ساعات معدودة، وانعكاس هذا الحدث على الأفراد على الأرض، الذين عاصروا الزمن كما هو. وفي «دونكيرك» (Dunkirk)، إنتاج سنة 2017م، يبدو الزمن أداة طيعة في يد نولان، يكيّفه حسب مقتضيات السرد، دون التقيد بزمن المشاهدة.

وفضلًا عن الزمن، وما يمثله من هاجس لدى نولان، ثمة علاقة أبدية حاضرة في كل أعماله بين الخير والشر. بيد أن حضور الشر في أعماله، ليس بالبساطة والوضوح الذي يبدو عليهما في عالم الواقع، أو حتى ضمن الأطر السينمائية التقليدية، التي تجعله نقيضًا مباشرًا للخير! الشر عند نولان أشبه بقوة السلب لدى هيغل، والتي لولاها لما وجد الخير. هو ضروري إذن ضرورة الخير! نستطيع أن نلمس ذلك بوضوح في أول أعماله «التابع» (Following)، إنتاج سنة 1998م، كما يتجلى في صورته المثلى داخل «ثلاثية فارس الظلام» (The Dark Knight Trilogy)، إنتاج سنوات 2005 و2008 و2012م.

بالإضافة إلى ما سبق يمكننا الحديث عن المسحة السوداوية لأعمال نولان، ولمسات ستانلي كوبريك- الذي لا يكف عن إعلان افتتانه به- في أفلامه، وبصمته الإخراجية في الصورة والمونتاج وحتى اختياره للممثلين، وطريقة ظهورهم في أفلامه.

 ما موقع «عقيدة» نولان إذن داخل تجربته الإخراجية؟

يصف محرر مقال السينما في «ذا جارديان» الفيلم  بأنه «أول إصدار لهوليوود منذ ستة أشهر، بيد أنه ينهار تحت وطأة كل خيوط الحبكة والمفاهيم التي تضمنها». لكن يبدو هذا الحكم، الذي تتفق معه هذه المراجعة، استبقايًا، لذا دعونا نمهد له أولًا.

للوهلة الأولى تبدو قصة الفيلم بسيطة؛ خطر مستقبلي ينذر بما هو أسوأ من الحرب النووية (فناء العالم أو تلاشيه على وجه التحديد). وحتى يتم تدارك الأمر، لابد من العودة إلى الماضي، للتحكم في سير الأحداث من البداية، حتى لا نصل إلى تلك النتيجة. ما وسيلة القيام بذلك؟ بدلًا من العودة إلى الماضي، في نقطة محددة لإحداث التغيير، يعتمد نولان على فكرة أخرى ليست بعيدة عنها، لكنها تحيل إلى مفاهيم فيزيائية أخرى، وهي السير في الزمن بطريقة عكسية، وما يترتب على ذلك من قلب لسير الأحداث بأكملها؛ الأحداث المتعلقة بالمسافر عبر الزمن فقط، وليس العالم كله. لكن هذه الفكرة البسيطة للوهلة الأولى تتعقد كل لحظة، ويثقلها نولان بتفاصيل سردية، ينوء بحملها المشاهد، كلما تقدم زمن المشاهدة.

في سعيه لتأصيل أطروحة الفيلم، يفتش نولان في تاريخ نظريات فيزياء الزمن ومفاهيمه. ما رأيكم في القصور الحراري (Entropy) وبعضًا من كمومية ريتشارد فاينمان؟! جميل. لا مانع أيضًا من استدعاء أشهر مفارقة فكرية متعلقة بالسفر عبر الزمن؛ مفارقة الجد (The Grandfather Paradox).

ماذا لو قررت أن تسافر عزيزي القارئ عبر الزمن للماضي، ليتسبب سفرك هذا في مقتل جدك؟ كيف وجدت من الأساس إذن؟ ماذا لو خاض البطل (أدى الدور جون ديفيد واشنطن على نحو جيد جدًا) الأحداث بطريقة معكوسة، ليخطط لقتل الشخص الذي سيتسبب في فناء العالم؟ كيف وجد إذا كان العالم سيفنى في المستقبل؟ لا يوجد حل منطقي لهذه المفارقة، سوى نظرية العوالم الموازية (أنت توجد في عالم، غير الذي يوجد فيه جدك، إذا عدت إلى الماضي لقتله، فأنت تقتله في عالمه وليس عالمك!) لكن نولان يستحضر العوالم الموازية، دون الإشارة إلى أنه يقرّها. يقول نيل (الذي يؤدي دوره ببراعة روبرت باتنسون): «دعونا نجرب ماذا سيحدث؟!».

لا تحاول فهمها، بل اشعر  بها!

رجل ليس لديه أي خلفية فيزيائية يستطيع أن يستوعب، في مشهد لم يستغرق سوى دقائق محدودة جدًا، التدفق المعكوس للزمن والأسلحة التي تطلق الرصاص بالعكس، والقصور الحراري، وكل هذا التعقيد الذي يحتاج إلى عقلية علمية متخصصة في الفيزياء لفهمه! في أحد المشاهد، تخبر عالمة الفيزياء لورا (تؤدي دورها كليمنس بويزي) البطل بألّا «يحاول فهمها، بل الشعور بها». في الواقع هذه أفضل نصيحة يمكن تقديمها، ليس لشخص البطل فحسب، بل للمشاهد أيضًا.

ثم تبدأ قواعد هذا العالم المعكوس في التوالي واحدة تلو الأخرى. القاعدة الأولى «لا تتلامس مع ذاتك المعكوسة. ستحدث الإبادة إذا فعلت ذلك». القاعدة الثانية «الرصاصة العكسية تأثيرها مهلك أضعاف الرصاصة العادية». القاعدة الثالثة «سترتدي قناعًا للأوكسجين في حال سفرك؛ لأن عملية التنفس ستسير أيضًا بالعكس»، في الواقع ليس ثمة مشكلة في إرساء هذه القواعد، المشكلة الحقيقية في التردد بين التأصيل العلمي لهذا العالم، وبين الاتفاق الضمني مع المشاهد، على قبول هذه القواعد؛ بوصفها جزءًا من المكونات السردية للفيلم.

التدفق المعكوس للزمن

ماذا يعني انعكاس الزمن؟ قد تكون حساسية عدم كشف تفاصيل الأحداث (حرقها) ذريعة رائعة أمام الناقد للتهرب من محاولة شرح مغامرة بالغة التعقيد مثل هذه، لهذا لن أورط نفسي في محاولة الإجابة عن هذا السؤال! ومن الأفضل -في رأيي- ألا ينشغل المشاهد بمحاولة فهم هذه العملية فهمًا كاملًا ونهائيًا. دعونا نردد عبارة لورا مرةً أخرى: «لا تحاول فهمها، بل اشعر بها.»

ربما العودة إلى فيلم نولان العظيم «استهلال» تفيدنا هنا. يخلق نولان في «استهلال» قواعد لعالم الأحلام؛ قواعد لا تمتلك سندًا علميًا أو مبررًا نظريًا، ومع ذلك يقبلها المشاهد ويتحرك بواسطتها، داخل طبقات الفيلم بسلاسة كبيرة، دون عوائق حقيقية. أما في «عقيدة» نجد أن التذبذب بين التأصيل العلمي للفكرة وبين إرساء القواعد يبدو واضحًا، بصورة تخلق حالة من التشوش الواضح، في الفهم وربط الأحداث.

حتى في ملحمة «بين النجوم» كان المشاهد أمام لغز علمي أيضًا، لكن نولان استطاع ببراعة كبيرة -وتلك كانت نقطة تميزه الأصيلة- أن يقدم للمشاهد مفاتيح العمل في بدايته؛ حتى يكون المشاهد قادرًا على التحرك بسهولة، لربط الأحداث ومتابعتها، دون فجوات كبيرة، ودون أن يبذل مجهودًا كبيرًا، ليضفي المشروعية العلمية على كل مشهد. غير أن الأمر مختلف تمامًا في «عقيدة».

يحتاج الفيلم إلى مفاتيح فيزيائية عديدة لا غنى عنها، حتى تستقيم معانيه وتكتمل تجربة مشاهدته، أو على الأقل تصل لحدها الأدني في التواصل مع العمل. المشكلة الحقيقية أن المفاتيح التي يقدمها نولان قليلة جدًا، ويكتفي بالإشارة إليها فقط، مع فكرة مقتضبة، وكأن لسان حاله يقول: «إذا أردتَ أن تعرف أكثر، فابحث عن الأمر وتعال مرة أخرى، لتشاهد الفيلم». من المؤكد  أن المشاهد لم يكن يقضى وقت الحجر الصحي المنزلي، طوال الستة أشهر الماضية، في قراءة كتب الفيزياء ونظريات الزمن استعدادًا لفيلم نولان المرتقب.

مع كل مفتاح يقدمه نولان، يبدأ المشاهد في محاولة بناء الروابط والتفاصيل مرة أخرى، ويسأل نفسه في كل مرة «هل هذا ما فهمته بالفعل؟» لكن تظل هناك تفاصيل كثيرة عالقة، لا تجد لها مكانًا، داخل هذا الفهم، فتحاول البحث لها عن تفسير! كل هذا وأنت أمام صورة مبهرة بصريًا، تتنقل بحرفية مذهلة، وعلى نحو بالغ السرعة، مصحوبة بموسيقى لودفيج جورانسون الجذابة، التي تأسرك منذ سماعها في المشهد الافتتاحي!

والخلاصة أن المشاهد سيجد نفسه مشتتًا، بين محاولة الفهم ومتابعة الصورة. والنتيجة أنك ستخرج -عزيزي المشاهد- بتجربة مشاهدة ناقصة، حققت من خلالها متعة فائقة للحواس، لكن عقلك لم يستمتع بالقدر الكافى، والأهم أن قلبك ظل بمنأى طوال ساعتين ونصف الساعة عن هذه التجربة!

كولاج نولان

في تعليقه على الفيلم يقول محرر مقال السينما في «بي بي سي»، محتفيًا بعودة هوليوود إلى شاشات السينما بفيلم نولان: «هذا الفيلم يعوض الغياب الهوليودي الذي قارب ستة أشهر، حيث سيجد المشاهد بداخله كل ما افتقده في الأفلام بأنواعها المختلفة، فالفيلم ملحمي، ومكتظ بالمواقع الغريبة، والأزياء الأنيقة، وإطلاق النار والانفجارات، بحيث يحصل المشاهد على ستة أشهر من المتعة، على الشاشة الكبيرة في غضون ساعتين ونصف الساعة.»

يبدو من اللافت أيضًا، استعارة نولان لبعض المشاهد الأيقونية من أفلامه الأخرى. إذ يجد المشاهد تناصًا واضحًا مع مشاهد معركة «دونكيرك»، ومع فكرة التجسس في «استهلال»، ومع التحريك عن بعد في«عظمة»، ومع تلاعب «بين النجوم» بالزمن! كما أن شبح «فارس الظلام» يطاردنا جميعًا داخل الفيلم في شخصية البطل.

نعم، هذا بالضبط ما أراده نولان: فيلمًا جامعًا يستدعي أعماله السابقة شكلًا وروحًا ويضفرها معًا، فهل كان له ما أراد؟  الحكمة تقول أن لذة الحواس عابرة وأن متعتي العقل والقلب خير وأبقى.

الصورة هي البطل

دعونا نجرد العمل من جانبه العلمي، ولننظر إلى العلاقات داخله؛ العلاقات الإنسانية. في معظم أفلام نولان نجد خطًا إنسانيًا واضحًا، يمكن أن يكون سببًا في دفع الأحداث إلى الأمام أو مصاحبًا لها. إذا كان من الممكن ملاحظة ذلك في أفلام مثل «أرق» و«دونكيرك»، فيمكن ملاحظته أيضًا في فيلم «بين النجوم» وعلى نحو أقل في «استهلال»، لكن هذا الخط مفقود في «عقيدة»، حتى وإن حاول هو تضمينه من خلال قصة كات (أدت دورها إليزابيث ديبيكي بتميز) وسياتور (أدى الدور كينيث براناغ على نحو جيد جدًا) وابنهما.

لنستحضر حالة «دونكيرك» هنا أيضًا. كل من شاهد العمل سيلاحظ أن شخصيات الفيلم جاءت مهمشة إلى حد كبير، وتفتقد التأصيل العميق. لا يوجد قصة خلفية لأي شخصية من شخصيات العمل، بيد أن المغزى كان واضحًا، ورسالة نولان كانت صريحة «لا تهمنا الشخصيات وخلفياتها، بل القضية الإنسانية ذاتها. المشترك الإنساني الذي يجمع بين هؤلاء جميعًا». لكن في فيلم يدور حول إنقاذ العالم من خطر فناء مستقبلي، تبدو هذه الرسالة غير مقنعة أبدًا للمشاهد. من هو هذا المنقذ؟ وما هي دوافعه للإنقاذ؟ ما تاريخه؟ وكيف اكتسب تلك المهارات الفائقة؟ ومع من يعمل بالضبط؟

نحن لم نشاهد سوى أداء جون ديفيد واشنطن، الذي، بالمناسبة، لم يمنحه نولان اسمًا داخل الفيلم، لهذا نشير إليه في مراجعتنا بالبطل! حتى التأصيل التاريخي، الذي قدمه نولان لشخصية أندريه سياتور، لم يكن مقنعًا أبدًا؛ لم نفهم دوافعه الحقيقية لتدمير العالم، وكذا لم نفهم التناقض الصارخ بين طاقة الشر المدمرة بداخله، وبين إيمانه بضرورة تدمير هذا العالم البائس، من أجل أن يُعاد بناؤه من جديد على أسس سليمة. «لا أريد تدمير العالم؛ بل خلق عالم جديد»، هكذا جاء الكلام على لسانه! ويبدو أن نولان أراد من خلال هذا التأصيل فحسب، التمهيد للمعركة النهائية للفيلم!

لكن ولئن كان البطل الإنساني غائبًا، فثمة بطل آخر عوضنا به نولان عن غيابه؛ إنه الصورة. صورة مبهرة لا تستطيع أن تغمض عينيك عنها للحظة. كل «كادر» يصلح لأن يتحول إلى لوحة بصرية مذهلة. الحركة العكسية داخل الفيلم آسرة للأعين، لا سيما في تزامنها مع الحركة الطبيعية.

أضف إلى ذلك قدرة نولان الفذة على التحكم في تفاصيل الصورة، ابتداءً من مشهد تفجير دار الأوبرا الوطنية، وانتهاءً بمشهد المعركة. مشاهد الحركة رائعة، ومصممة على نحو يصل بها إلى حد الكمال؛ خذ على سبيل المثال مشهد المطعم، ومشهد المعركة بين البطل ونسخته القادمة من المستقبل.

وفي حين قد يختلط الأمر على المشاهد بخصوص أي من الأحداث التي يشاهدها على الشاشة يكون في الماضي، وأيها في المستقبل، أو ما الذي يتجه للخلف أو للأمام؛ إلا أنه سيجد المتعة في فعل المشاهدة ذاته. من الممتع أيضًا التفكير في اسم الفيلم الذي يمكن قراءته من اليمين إلى اليسار أو من اليسار إلى اليمين، وربطه بفكرة الفيلم التي تشير إلى إمكانية التقدم إلى الأمام أو إلى الخلف داخل الزمن!

من المفترض أن القصة سوداوية جدًا في جوهرها، مظلمة جدًا في طبيعتها: العيش تحت وطأة جائحة، ستفضي إلى الدمار، مع جملة شعرية تتردد على امتداد الفيلم للشاعر الأمريكي والت ويتمان تقول «نعيش في عالم غامض». لكن إذا كانت كل أفلام نولان تدور داخل هذه الحلقة الكئيبة المفزعة نفسها، إلا أن جرعة السوداوية، والإحساس بخطورة الموقف ووطأته، تختلف في هذا الفيلم عن سواه من أفلام نولان؛ والسبب في ذلك، بلا شك، يعود إلى غياب التأصيل التاريخي للشخصيات، وضياع الخط الإنساني، بين «حجري رحي» زمن نولان.

أخيرًا ليس هذا هو العمل الأفضل لكريستوفر نولان، وإن كان به نقاط تميز عظيمة. وربما كانت كريستينا نيولاند على حق في وصفها اللافت للفيلم بأنه عبارة عن «صندوق أحجية مٌغلق لا يحتوي على أي شيء بالداخل».

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى