=1=
عندما تبدأ في تصفح محاورة “الجمهورية”؛ ستلحظ أنها مكونة من عشرة كتب مجزأة على نحو غير مبرر. حيث لا تمنحك في الظاهر كيانًا نظريًا منتظمًا، بل إن تحصيل السمت الجامع لهذا المتن يستلزم منك انتهاج وجهة من وجهات الفهم والتأويل، قادرة على استدماج تفاريق النص ومنثوراته.
ثم أكثر من ذلك إن بنية المتن تبدو مشروخة بوضوح أكبر في العلاقة بكتابين اثنين هما الكتاب الأول والكتاب الأخير (أي العاشر).
أما الأول، فأرجح الظنون أنه نصٌ مستقل عن “الجمهورية”، كتبه أفلاطون في لحظة مبكرة من نشاطه التأليفي، ولكن يبدو أنه لم يهتم بإذاعته؛ فتركه. ثم لما عاد لاحقًا إلى ذات الموضوع، أي مفهوم العدالة، عند تأليفه للجمهورية، استثمر تلك المحاورة التي تخيلها بين سقراط والسوفسطائي ثراسيماخوس، كمهاد لمتنه الجديد.
وهذا ما جعل بعض الباحثين المختصين في الدراسات الأفلاطونية يذهبون إلى اقتطاع الكتاب الأول وتسميته بعنوان مستقل، هو محاورة “ثراسيماخوس” ، أي نسبة الى تلك الشخصية المساجلة لسقراط .
وحسب فريدلاندر Friedländer ، فإن ديملر F.Dümmler كان أول من سَمَّى الكتاب الأول من متن الجمهورية بـ”محاورة ثراسيماخوس” وذلك في عام 1895([1]). بيد أنه قبل ديملر كان هيرمان K. F. Hermann ([2]) أول من دعا إلى معاملة الكتاب الأول من نص “الجمهورية” ككتاب مستقل عن المتن وذلك في عام 1839. كما أن ثمة إشارات قديمة أثارت هذا المعنى وإن لم تعبر عنه صراحة، إذ في القرن الثاني الميلادي ألمح المؤرخ اللاتيني أولو جيل Aulus Gellius ([3]) إلى أن كتابين من متن الجمهورية ظهرا في توقيت مبكر! صحيح أن أولو جيل لم يفصح عن الكتابين المقصودين بقوله هذا، ولكن يمكن أن نستفيد منه أمرا مُهِمّاً وهي أن بعض القدماء كان يختلجهم ظن بأن الكتب العشرة التي تشكل محاورة الجمهورية ليست نصًّا واحدًا، بل منها ما كتبَ كنص مستقل، ثم ضُمَّ لاحقًا الى المتن.
وقد “تأكد” ذلك في الدراسات المعاصرة، عند اعتماد المقاربة الأسلوبية للتحقق من أصالة وترتيب تآليف أفلاطون، حيث خلصت تلك المقاربة إلى أن كتب الجمهورية التسعة، اي بدءًا من الكتاب الثاني حتى الكتاب العاشر، متقاربة من حيث الأسلوب، بينما الكتاب الأول متمايز عنها تمايزًا بَيِّنًا. بل يشير ويلاموفيتز Wilamowitz إلى أن الإحصائيات الأسلوبية التي خلص إليها فون أرنيم وغيره من الأسلوبيين بَيَّنَتْ “أن لغة الكتاب الأول لا تختلف فقط عن بقية الكتب، ولكنها لغة تنتمي إلى لغة المحاورات الأولى المرتبة مع “لاخيس”.”([4]).
غير أننا إذ نوافق ويلاموفيتز في استقلال “ثراسيماخوس” عن “الجمهورية”، فإننا لا نذهب مذهبه في الترتيب، حيث لا نضع المحاورة مع “لاخيس” التي نراها تنتمي إلى محاورات الشباب، بل نضع “ثراسيماخوس” ضمن محاورات المرحلة التالية للشباب، ومن بين مستنداتنا في هذا التزمين ليس فقط المقاربة الأسلوبية، بل حتى منهجية الحوار واتجاه صيرورته نحو استفهام الماهية (أي وضع الحد الماهوي كمطلب). وذلك ما يجعلنا نرتبها في غير الموضع الذي رتبها فيه ويلاموفيتز. كما لا نوافقه أيضًا على زعمه بأن “ثراسيماخوس” نص أولي غير مكتمل، وأن أفلاطون تخلى عنه ليكتب “جورجياس” ([5])؛ لأنه لو كان كذلك لما استعاده في الجمهورية بتمامه!
وعليه، إذا كنا نقول بأن ثراسيماخوس محاورة كتبت في لحظة مبكرة قبل الكتب التسعة المضمومة في متن “الجمهورية”، فإننا نحرص أيضًا على ترجيح الظن بأن الذي قام بضم حوارية “ثراسيماخوس” إلى متن الجمهورية هو أفلاطون نفسه. وآية ذلك أن الكتاب الثاني غُفْلٌ من الاستهلال، إذ ليس في فاتحته سوى عبارة وجيزة ، دالة على وصله بالسابق ،وذلك بالإشارة إلى انسحاب ثراسيماخوس.
نقرأ في مبتدأ الكتاب الثاني:
” – جلوكون :العدالة شر يطلب لنتائجه فحسب.
ولقد خُيّل إليّ أنني بهذه الكلمات وضعت حدًّا للنقاش، غير أنه اتضح لي أن تلك النهاية لم تكن في الواقع إلا بداية. ذلك بأن جلوكون … لم يرض عن انسحاب ثراسيماخوس.”([6])
ولا سبيل للمعترض أن يفترض بأن الذي ضم الكتاب الأول إلى الجمهورية وضع تلك الفقرة في مستهل الكتاب الثاني ليضمن الارتباط. إذ لو صحَّ ذلك لصحَّ أن نفترض ما هو أقبح وهو أن الواضع أجرى حذفًا في بداية الكتاب الثاني أيضًا، حيث أنه – كما قلنا سابقًا – غُفْلٌ من كل مهاد، بينما نعلم أن عادة أفلاطون في كثير من محاوراته الحرص على استهلال متونه، بل حتى تلك التي تغفل عن الاستهلال يكون في مبتدئها مسوغ لذلك.
وعليه فإن أفلاطون لم ير في محاورة “ثراسيماخوس” ما يخدش انضمامها الى بقية كتب الجمهورية. لأن ما يبدو فيها من “نقص” هو بالضبط مكمن صلاحيتها، وأعني به أنه لم يقدم على لسان سقراط إيضاحًا كافيًا لفكرة العدالة؛ يكون بديلًا صريحًا للتصور الثراسيماخوسي. فكان ذلك “النقص” في إفصاح سقراط هو ما منح النص صلاحية استمراره كتَقْدِمَةٍ لكتاب جديد في ذات الموضوع، أي إن تعليق جواب سؤال الدلالة الماهوية للعدالة سمح للنص بأن يكون مهادًا مناسبًا لمتن “الجمهورية”([7])؛ الذي سيكون الحقل الذي سيبلور فيه أفلاطون نظرية العدالة بكل امتداداتها الدلالية والفلسفية.
لكن ثمة أمر ربما لم يتنبه إليه أفلاطون عند عملية الضم، وهو أن محاورة “ثراسيماخوس” بدأت في الغسق؛ فلَمَّا ضمها الى الجمهورية نسي ذلك المؤشر الدال على الزمن السردي؛ فلم يجرّ أي تعديل يسوغ انسياب الحوار لمدة طويلة. بينما كان بإمكانه أن يدخل تعديلًا بسيطًا في الوقائع ليؤسس غلافًا زمنيًا مناسبًا لانسياب المحاورة واستطالتها.
ولكن هذا النقص لا نستغربه من أفلاطون، إذ كان من عوائده أن لا ينشغل كثيرًا بصياغة الزمن الحواري، بل يكتفي غالبًا بتزمين لحظة بداية الحوار، دون أن يعتني لاحقًا بضبط التناسب بين كم المحاورة وغلافها الزمني!
كما نرى أن أفلاطون لما ضمّ “ثراسيماخوس” ككتاب أول إلى بقية الكتب لم يقم بأي تعديل جوهري فيه، لذا بقي النص متميزًا بأسلوبه عن بقية الكتب. ومن ثم حقَّ لبعض شراح الفكر الأفلاطوني معاملته ككتاب مستقل.
ذاك فيما يخص الكتاب الأول، أما الكتاب العاشر، فعليه أيضًا ملحوظات كثيرة من حيث دلالته ومسوغ تموضعه في المتن، حيث يذهب بعض الدارسين إلى أنه مجرد ملحق أضيف لاحقًا إلى كُتُبِ “الجمهورية”.
ومن العجيب أنه على الرغم من أن الاستشكالات التي تمس بنية نص الجمهورية لم تكن متداولة في الفلسفة الاسلامية، فإننا نجد بن رشد في شرحه على “جمهورية” أفلاطون يستبعد بالضبط كتابين اثنين هما: الكتاب الأول والكتاب العاشر ([8])؛ حيث اقتصر على شرح المتن بدءًا من نصف الكتاب الثاني – وتحديدًا من الفقرة (369 أ) – حتى الكتاب التاسع! وذاك يدل على عمق الإدراك ودقة البصيرة الفلسفية للشارح الأكبر.
=2=
قلنا بأن متن “الجمهورية” يتكون من عشرة كتب. لكن لابد من الاستدراك بأن هذا التقسيم لبنية المتن ليس من فعل أفلاطون بل من وضع ثراسيل Thrasyllus. وحتى إذا كان بالإمكان الافتراض بأن فيلسوف أثينا وضع تقسيمًا ما لنصه المسهب هذا؛ فإن ذلك التقسيم الأصلي ليس في متناولنا اليوم، ومن ثم يبقى المتداول هو تقسيم ثراسيل إلى عشرة كتب، الذي جاء لاحقًا لتقسيم خماسي كان قد قام به أرسطوفان. كما لدينا إشارة مهمة من نهاية القرن الثاني الميلادي، واردة في كتاب “أنتياتيسيست” Antiatticiste حيث تم تقسيم كتاب الجمهورية إلى “ستة كتب” ([9]).
لكن لابد من التنويه إلى أن ذينك التقسيمين ليسا منضبطين لمعيار دلالي دقيق، بل الظاهر أن معيار الكَمِّ هو الذي حكم تجزئة النص أكثر من معيار الدلالة الفلسفية المرتبطة بسياق المحتوى المعرفي. وإلى هذا يشير روبير باكو Robert Baccou في حديثه عن تقسيمي ثراسيل وأرسطوفان، عندما كتب: “إن التقسيمين معًا مصطنعان ويعبران عن توزيع لنص الحوار إلى حجوم تقريبًا متساوية.” ([10]) والدليل على ذلك واضح، إذ يمكن لقارئ نصّ الجمهورية أن يحس بأن الانتقال من كتاب الى آخر لم يتم على أساس انتهاء بلورة فكرة، وايذان بابتداء أخرى. وإذا تأمل في النقلة الاعتباطية من الكتاب الثاني إلى الثالث، ومن الخامس الى السادس سيحس بأنها لم تحترم حتى صيرورة الحوار، حيث تم قطعه على نحو فجائي غير مبرر.
وهذا الاعتباط في التقسيم هو ما دعا بعض الشرّاح والفلاسفة إلى نقد بنية متن الجمهورية، إذ نذكر على سبيل المثال تقسيم برتراند راسل للمتن إلى ثلاثة أقسام ([11]) بناء على الموضوعات المتناولة. وهو تقسيم ممكن جدًّا، لكن يمكن أيضًا بناء على فهوم أخرى الخلوص الى تقسيمات مغايرة بناء على لحاظ الموضوع.
غير أنه بعد تأملنا في الفرضيات الممكنة لتنظيم محتوى الجمهورية، اهتدينا إلى نتيجة طريفة، وهي أن التقسيم الاعتباطي لثراسيل أفضل بكثير؛ لأنه يسمح لك بأن تفكر في دلالة المتن بحثًا عن روابطه وفواصله، بينما التقسيم الموضوعاتي الذي اقترحه بعض الشراح، ليس له من أثر سوى توجيه القارئ نحو مسار مرسوم سلفًا، من قبل واضع التقسيم!
=3=
حظي هذا المتن الأفلاطوني بشهرة متميزة خلال تاريخ الفكر الفلسفي. ونلحظ منذ الزمن الإغريقي اهتمامًا نقديًا به، فقد كتب زينون الرواقي نصًّا بذات عنوان كتاب “الجمهورية ” (أي “بوليسيا”) خصصه للرد على كتاب أفلاطون. كما نلحظ عند الرواقي إيبكتيت نقدًا ساخرًا من أفلاطون عندما قال بلغة التعريض إن كتاب”الجمهورية” مفضل عند النساء. وفي تراثنا الفلسفي كتب ثابت بن قرة تعليقًا على المتن. إلا أن أهم عمل كان هو “التلخيص” الذي قدمه بن رشد، غير أن الكتاب الذي ضاع نصه العربي، تم استعادته من العبرية إلى لغة الضاد بفضل ترجمة بديعة من الأستاذ أحمد شحلان، ضمن مشروع إعادة نشر الكتب الرشدية الذي أشرف عليه الأستاذ محمد عابد الجابري.
وقد تعددت الشروح والتأويلات المعطاة للأطاريح المنبثة في متن الجمهورية، منذ باكر تاريخ الفكر الفلسفي. بدءًا من أرسطو، وزينون الرواقي … حتى اللحظة المعاصرة، مع كارل بوبر، وليو ستروس ورالف داهرندورف Ralf Dahrendorf…
وحق للشرّاح أن يختلفوا في تأويل متن “الجمهورية”؛ إذ هو نص حواري غني مفتوح أمام القراءة، حتى إنك إذا أردت أن تقدم أفلاطون كمفكر فاشي عرقي ستجد في متنه ما تُسند به تَقْدِمَتَك!
لكن إذا أردت أن توسمه بأنه ثوري يناهض جميع الأنظمة الحكومية وينادي بتأسيس نظام بديل، ففي نقده لأنواع الحكومات الأربعة ونعتها بالفساد، ما يجعله طريدًا عالميًا لا تستحمله دولة ولا تقبل استضافته جمهورية. بل حتى إذا أردت أن تجعله مجرد رجل طوباوي حالم ففي المتن ما يؤكد ذلك الوسم ويزيد.
وإذا نظرت في الكتاب الخامس من المتن لك أن تقول عن أفلاطون بأنه كان منظّرًا شيوعيًا. لكن يمكن أيضًا أن تنظر إلى المتن بوصفه مجرد نصّ استبدادي تسلطي يتدخل في حياة الفرد في أدق خصوصياته، حتى أنه يحدد لكل فرد في الدولة نوعية وظيفته وعمله وحتى نتيجة علاقاته الجنسية، حيث يسحب منه أطفاله بدعوى أن المواليد من ملكية الدولة، وأنها وحدها الكفيلة بإحسان تربيتهم وتأهيليهم!
وفي هذا السياق يمكن أن تستحضر تأويلات ريشارد كروسمان Richard Crossman، وبرتراند رسل، وكارل بوبر… وغيرهم من الناقدين لأفلاطون. وقد كان بوبر أشدهم وأقساهم، حتى أنه خصّص الفصل الأول من كتابه “المجتمع المفتوح وأعداؤه” (1945) لنقد التصور السياسي الأفلاطوني وكأنه تصور سائد ومنتهج من قبل أنظمة الحكم!
لكن لك أيضًا أن تستهجن هذه النقود المتشددة التي تتعقب بالنقد أطاريح أفلاطون الواردة في هذا المتن، بأن تقول إن نص الجمهورية ذاته يفصح في أكثر من موضع بأن الأمر مجرد تصور ينتمي إلى التخييل ولا سبيل إلى تحقيقه في الواقع. وبإمكانك أن تستند على تراث الفلسفة السياسية، فتستحضر تقريظ توماس كامبانيلا لمتن الجمهورية، وتستند عليه للتوكيد على أن هذا النص الأفلاطوني أول متون التنظير التخيلي (اليوتوبي)، التي كانت عنايتها إبداع نماذج تصورية للمدن الفاضلة بوصفها مثالات متعالية لاواقعية. بل يمكن لك أن تجد في المتن الأفلاطوني ذاته ما يسند دعواك، حيث يعبر أفلاطون على لسان سقراط في أكثر من موضع أن تصوره هذا مجرّد تصور نظري مشكوك في إمكان تطبيقه في الواقع!
وهذه القراءة التأويلية الممكنة التي تصنف أفلاطون مع أوغسطين، وكامبانيلا، وتوماس مور، والفارابي … وغيرهم من الفلاسفة الحالمين، نلقاها حاضرة أيضًا في الفلسفة المعاصرة، عند ليو ستروس Leo Strauss… هذا وإن كانت الفكرة حاضرة قبله، حيث نجد ما يقاربها عند أرسطو الذي كان أول من أشار إلى أن التصور السياسي الذي قدمه أستاذه في متن” الجمهورية” مستحيل الإنجاز! وقد كان من بين المؤشرات اللاواقعية التي ركز عليها أرسطو لبيان تلك الاستحالة هو مناداة أفلاطون بحرمان الجنود وطبقة الحكام من الملكية الفردية. إذ يكفي ذلك في نظر أرسطو نفيًا لإمكانية إقامة المدينة الأفلاطونية!
كما رأى بعض الباحثين في متن الجمهورية ملمحًا مقاربًا للفلسفة السياسية الحديثة من حيثية كونه أقدم نص أكد على شيوعية الخيرات والنساء … لكن بإمكانك أن تجد في المتن ما يفيد أمرًا نقيضًا، وهو أنه يُنَظّر لمدينة أكثر طبقية من النظم التي ناهضتها الفلسفة الشيوعية في العصر الحديث، حيث أن أفلاطون كان شديد الحرص على الفصل بين الطبقات الاجتماعية، بل يرى لهذا الفصل مسوغًا من الطبيعة ذاتها.
لهذا وذاك ينبغي الاحتراس من التسرع في إسقاط بعض التأويلات المستحدثة، على نحو ما هو دارج في كثير من الكتابات اليوم.
ونظرًا لثراء النص واختلاف نظامه ومحتواه، يمكن أن تستقي منه مستويات دلالية أخرى، فتقول مثلًا مع فلاستوس Gregory Vlastos إن تصور أفلاطون للمرأة في متن الجمهورية يجعله من أوائل النسويين المدافعين عن حقوقها! أو تقول مع جون جاك روسو الذي قدم في “إيميل” تقريظًا للتصور التربوي الأفلاطوني، بأن كتاب “الجمهورية” “أجمل ما كتب في التربية” ([12]).
أجل إن نصّ أفلاطون متنٌ ثري، حابل بالأفكار والأطاريح التي كل واحدة منها حقيقة بجذب الاهتمام وحفز التأمل. ولا يحق أن نختم دون ذكر أشهر تلك الأطاريح، أي قول أفلاطون بأن الدول لن يصلح حالها إلا إذا حكمها فيلسوف، إذ كانت مقولته هذه فكرة جذبت كثيرًا من الاهتمام والاعجاب، فتنادى إلى تقريظها عدد كبير من المهتمين بالفكر الفلسفي السياسي. لكن لابد هنا أيضًا، في سياق التوكيد على تعدد أحكام القراء وتقييماتهم من ذكر كانط، الذي كانت له بصيرة نقدية مخالفة، حيث رفض بشدة، في كتابه ” نحو سلام دائم” فكرة الحاكم الفيلسوف ([13])؛ وكان دَاعِيه إلى هذا الرفض هو أن سلطة الحاكم ستكون عائقًا أمام حرية العقل. إذ ستؤخذ كتاباته لا كنصوص مثل غيرها، بل كقرارات ملزمة، الأمر الذي سينعكس سلبًا على حالة الفكر في دولته. وهذه الملحوظة النقدية التي قدمها كانط، نجد لها ماصدقها في التجارب السياسية التي كان فيها الحُكَّامُ كَتَبَةً. ويكفي هنا أن نُحيل على مآلات كتب لينين وستالين وماو تسي تونغ والقذافي … حيث صارت في الدول التي حكمها هؤلاء نصوصًا مقدسة تُتلقى بالتسليم لا بإعمال الفكر النقدي.
أجل إن مقدار تعدد المداخل المنهجية التي يقبل نص أفلاطون أن يقرأ بها، مقدار غير قليل. وحاصل تطبيق تلك المداخل موجود في تاريخ الشروح التي تناولت المتن، وهو ركام هائل لا سبيل إلى توثيق تفاصيله هنا، لذا الاكتفاء بالإلماح ضرورة.
وختمًا، إن كان ولابد من مساءلة لهذا النص، فلنكتف بطرح فرضية ساذجة:
إذا أمكن وجود هذه المدينة الأفلاطونية “الفاضلة”، فهل تستحق أن نعيش فيها؟
هل يمكن للفكر أن يحيى في مدينة يحكمها فيلسوف؟
ألا يصح أن نقول مع كانط إن نصوص الفيلسوف ستصير، بفعل كونه حاكمًا، نصوصًا حابسة للتفكير ومانعة لطلاقته؟
لا حل في تقديري إلا بأن يكون الفيلسوف شاعرًا، إذ بهذا المزج يحتمل أن لا يصير نصه الفلسفي قيدًا ضيقًا، بل يَبْرُقُ كإضاءة في أفق شاعري تسمح بطلاقة الفكر وتعدديته. غير أن أفلاطون للأسف، لم يسمح لنا بهذا الاحتمال، حيث حرص في آخر كتب الجمهورية (أي الكتاب العاشر)، على طرد الشعراء من المدينة!
فهل يمكن العيش في مدينة لا يوجد فيها شعر، ولا ينطق فيها عَبْقَر؟
نجترئ على أفلاطون؛ فنقول ضدًّا عليه:
إن المدينة التي لا “شِعْرَ” فيها لا تستحق أن تكون مَقَامًا!
[1] – انظر هامش رقم 6.
Charles H. Kahn,The Classical Quarterly, Vol. 43, No. 1 (1993),p. 131.
[2] -1 K. F. Hermann, Geschichte und System der Platonischen Philosophie 538-40.cité par Charles H. Kahn,The Classical Quarterly, Vol. 43, No. 1 (1993),p. 131.
[3] – Aulus Gellius, Noctes Att. 14.3,cité par Charles H. Kahn,The Classical Quarterly, Vol. 43, No. 1 (1993),p. 131.
[4] – Wilamowitz, Platon (2nd ed., Berlin, 1920), p181.
[5] – نرتب “جورجياس” قبل “ثراسيماخوس” لا بعدها؛ فراجع تحليلنا لمحاورة “جورجياس” في كتابنا “السوفسطائي سقراط و”صغاره”؟.”
[6] – أفلاطون، الجمهورية، ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء، الإسكندرية 2004، ص213.
[7] – أجل من عادة أفلاطون في كتاباته الأولى أن يُبقى السؤال الماهوي عالقًا، لكننا نتحدث هنا عن مسوغ ضم “ثراسيماخوس” إلى “الجمهورية”، التي هي نص ينتمي إلى مرحلة جديدة، أظهر فيها أفلاطون نزوعًا نحو تقديم إجابات مثبتة.
[8] – أشار ابن رشد في بداية شرحه إلى أنه لن يتناول من متن أفلاطون إلا المقالات البرهانية، ولن يستحضر الأقاويل الجدلية من الكتاب. بمعنى أنه ينبه القارئ منذ مبتدأ الشرح بأنه سينتقي من نص أفلاطون ولن يشرح جميع سطوره:” قصدنا في هذا القول أن نجرد الأقاويل العلمية التي في كتاب السياسة المنسوب لأفلاطون في العلم المدني، ونحذف الآراء والأقوال الجدلية، سالكين سبيل الاختصار كما هي عادتنا في ذلك.”
ابن رشد، الضروري في السياسة، مختصر كتاب السياسة لأفلاطون، ترجمة: د.أحمد شحلان، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة 1، بيروت 1998،ص 71.
فهل يكون معياره المنهجي هذا هو ما خلص به إلى استبعاد الكتابين الأول والعاشر؟
[9] – Henri Alline ,L’histoire du texte de Platon, Bibliothèque de l’École des Hautes Études.Ed. Champion, Paris,1915,p15.
[10] – Robert Baccou, Platon, œuvres complètes ,la république, Librairie Garnier frères ,Paris,pVI.
[11]– Bertrand Russell, History of Western Philosophy, Book I, part 2, ch. 14
[12] -Jean-Jacques Rousseau, Emile: ou de l’Education, Garnier-Flammarion, 1966,p10.
[13] – Emmanuel Kant, Projet de paix perpétuelle: esquisse philosophique, 1795,trad J. Gibelin,Vrin, Paris 2002,p87.