النبضات الكلاسيكية 2/3: بيتهوفن وشوبرت.. لقاء بونابرت والإسكندر الأكبر – كريم الصيّاد

كما أشرنا في تقديم المقال السابق: “النبضة” Pulse مصطلح في نظرية الموسيقى، هي الوحدة الإيقاعية التي يتلقاها السامع، ويتحرك جسده معها حركة واحدة، أو هي بالأدق وحدة إيقاعية ما متكررة على مسافات زمنية –فترات- شبه منتظمة في العمل.[1] وقلنا أن النبضة الموسيقية لا تتكرر كدقات الساعة عادة في الأعمال السيمفونية، بل تحدث على مسافات زمنية شبه متساوية، ولذلك فهي أقرب إلى دقات القلب من دقات الساعة. وهذا هو المقال الثاني في سلسلة “النبضات الكلاسيكية”؛ فإذا كنا استعرضنا في الحلقة السابقة قلب يوهان سيباستيان باخ، الوحش الرهيب، وقلب موتسارت، الأب الروحي، ورأينا ما بين القلبين من تفاوت في إيقاع النبض، ونمط حركته، ودلالته، فإننا في هذه الحلقة نتأمل نموذجين من أهم تلامذتهما: بيتهوفن وشوبرت.
وكان شوبرت كما هو معروف تلميذًا لبيتهوفن، استبشر بيتهوفن بأعماله، وتنبأ له بمستقبل باهر، وحين مات، حرص شوبرت على أن يحمل نعشه. تأثر به كثيرًا، وحاول محاكاته أحيانًا، لكن أسلوبه الخاص، وتفرد ألحانه، كان حاضرًا حتى في أشد مواقف المحاكاة صرامة. وبينما عاش بيتهوفن عمرًا حافلاً، ورأى أعماله تدرَّس، وقرأ عن نفسه بأقلام آخرين، وعاصر ثورة كبرى، فإن شوبرت كان من الفنانين قصيري العمر، وهي حالة متكررة بين الموسيقيين والشعراء بوجه خاص، توفي في عمر 32. وكان مشروعه الفني في البداية مبهرًا، لكنه ظل على الدوام مبتورًا. شوبرت يمثل نموذجًا نادرًا في الفن عكس يان سيبيليوس؛ فبينما لم يقدم شوبرت تقريبًا في التأليف السيمفوني غير “بداية” بارقة، فإن سيبيليوس هو الذي قدّمَ “النهاية” التامة بانقطاعه عن العمل في مجال الموسيقى تمامًا بعد إحراقه لسيمفونيته الثامنة والأخيرة. إنهما “الفنان الناشئ على الدوام” في مقابل “الفنان الراحل حاليًا”.
وربما كان أهم ما يلخص بيتهوفن هو سيمفونيته الثالثة، التي فضّلها هو على كل سيمفونياته، والتي كتبها وهو في ذروة شبابه، في السن تقريبًا التي توفي فيها شوبرت. ثالثة بيتهوفن، أو “إيرويكا” روح شابة، متفائلة، حماسية، وفيها توجهه السياسي الجمهوري الواضح، وفيها تصوره لنابليون بونابرت، فقد كان اسمها كما نعلم “بونابرت” قبل أن يشطب بيتهوفن هذا العنوان، ويستبدل به “إيرويكا” أو “البطولية”. وهي ثرية ملحمية، وبالتالي تحمل أغلب جوانب فكرة البطل، التي دارت حولها أعمال بيتهوفن الشاب، ثم الكهل. وفيها التعقيد التكنيكي الذي يمكن أن نرى فيه جل مواهب بيتهوفن في التأليف السيمفوني مركزة في عمل واحد.
أما ما يلخص شوبرت من موسيقاه السيمفونية فربما يكون سيمفونيته الثامنة بعنوان “الناقصة”؛ نظرًا لأنها من حركتين فقط، بعد أن توقف مؤلفها عن كتابتها لسبب مجهول. هي صورة شبه كاملة لشوبرت؛ فهي مختلفة عن بقية سيمفونياته، أكثر إحكامًا، وأغنى في الإنماءات، وأكثر تلوينًا، وتبشر بعمل هائل، وهي مع ذلك مبتورة، كأنها مفتتح، لا يأتي بعده شيء. هل هي تصوير للفكرة العامة جدًا للفجوة، التي قد تبتلع وجودنا، فيصمت فجأة، مهما لامس السماء؟ هل هي –على جمالها ونقصانها معًا- عمل فني مكتمل، يصور الجمال المقتول غيلة بنوع من إسقاط الحائط الرابع؟
وإذا كان بيتهوفن هو بونابرت الموسيقى الكلاسيكية، الذي مزق خارطة الموسيقى الأوروبية بحروبه السيمفونية، فإن شوبرت هو إسكندر الموسيقى الأكبر، الفاتح العظيم، والعبقرية العسكرية، التي توهجت بضع سنين، غيرت فيها العالم، ثم خبت فجأة، تاركة العالم كله، بلا عودة. ولكننا، وكما فعلنا في المقال السابق، لن نقرأ العمل ككل، بل سنتتبع أهم ما فيه من نبضات، ونحاول فهم معناها في سياق العمل.
– قلب بونابرت: بيتهوفن
تطورت النبضة الكلاسيكية، من ديفي جونز باخ، إلى الأب الروحي موتسارت، تطورًا كبيرًا؛ فقد أصبحت أكثر صفاءً بمراحل، صارت تعزَف بيدين بشريتين، بعد أن كان يعزفها الأخطبوط باخ، وقلت التآلفات كثيرًا، وأصبحت أكثر ذهنية، وأقل حسية، وأشد اعتمادًا على خيال المستمع، لكن بيتهوفن جاء أصلاً إلى الحياة ليعيد للموسيقى أخطبوطيتها الآسرة للأرواح. ليست الفكرة في موسيقى بيتهوفن هي المادية-الحسية، أو الشهوانية، كما قد يفهم البعض، بل هي رفضه القاطع لوجود روح بلا جسد، أو جسد فائض –كأذرع الأخطبوط- أكثر مما يحتمله الروح. هكذا قد نرى بيتهوفن تحقيق الحل الأمثل للمعادلة بين باخ وموتسارت. إن بيتهوفن فعلاً يمثل استعادة لجبروت الهارموني الباروكي بعد انقضاء أمد الكلاسيك. بشكل أكثر تعميمًا، ودون إغفال الدقة، يمكن أن نعد بيتهوفن توازنًا غير متوقع بين العنصر الجروتسكي في موسيقى الباروك، والعنصر الكلاسيكي في المدرسة الكلاسيكية في النصف الثاني من القرن الثامن عشر. موسيقى بيتهوفن ليست (جميلة) بمعايير التناظر، والدقة، والتناسب، كتماثيل الإغريق، أو كموسيقى موتسارت، لكنها في ذات الوقت ليست زخمًا متفجرًا بالتآلفات والنغمات والألوان كأعمال باخ. وبين الإله الإغريقي، والشيطان الباروكي، وقف الإنسان. يمكن القول أن بيتهوفن لم يخلق الإنسان، بل عثر عليه، وعرف قبل هذا أين يمكن العثور عليه. إنه (واجِد) للإنسان كبروميثيوس، الطيطان الإغريقي الذي أَوجدَ الإنسان، ومنحه المعرفة، والذي ألف له بيتهوفن باليه، وافتتاحية، ولكن ليس بمعنى الإيجاد من عدم، بل بمعنى العثور. وقد قدّر بيتهوفن أن الإنسان هو ما بين أخطبوط الجسد، وأبوّة الروح.
هذا كله لا يمنحنا إلا فكرة عامة جدًا عن بيتهوفن؛ فالمضمون أكثر تعينًا وغرابة، إنه ليس الإنسان عمومًا، فهذا يقصر فهمنا لبيتهوفن على قلة من أعماله، التي يمكن وصفها بالإنسانية، كما وُصفت مرارًا سيمفونيته التاسعة بما تحمله من مضمون نشيد شيللر إياه. ورغم هذا فهذا النشيد –كما قلنا في مقالنا عن بيتهوفن “الفردوس المسموع” –[2] هو نشيد سياسي التوجُّه، بقطع النظر عن المضمون المباشر لكلماته، أو بالأحرى: بالنظر في سياقه التاريخي، الذي فيه كان يتغنى الألمان المؤيدون للثورة الفرنسية –ومنهم بيتهوفن- بهذه الأبيات. بالتالي فحتى السيمفونية التاسعة عمل سياسي في المقام الأول. ولكن هذا أيضًا ليس تحديدًا ما جذب بيتهوفن فنيًا إلى هذه الثورة، أي ليس ما دفعه لوضع اثنتين من أهم سيمفونياته لها: الثالثة، والتاسعة.
بالأدق لم تكن شعارات الثورة الفرنسية ومبادئها هي ذلك الدافع، صحيح أنه ظل وفيًا لفكرة الجمهورية حتى وفاته، وأنه بالتأكيد آمن بمضمونها، ولكن الدافع الفني أمر مختلف. وفي تقديرنا كان هذا الدافع هو البطولة التراجيدية لجماهير الثورة، وقُوّادها، وهو الموسيقار الذي وضع أعمالاً لعدد من أهم الأبطال التراجيديين ككورليانوس، وإيجمونت، وبروميثيوس. وسط كل هؤلاء لمع نجم نابليون بونابرت في مرحلته الأولى –قبل تنصيب نفسه إمبراطورًا- في خيال بيتهوفن باعتباره درّة من أنجبتهم هذه الثورة، ومُدافعها الأول. البطولة الجمعية لها تقديرها عند بيتهوفن (السيمفونية التاسعة)، ولكن الفردية أعقد، وأصعب، ومأساتها أكبر، وأعظم (السيمفونيتان الثالثة والخامسة). وبالفعل كانت مأساة بونابرت في هزيمته، ونفيه، ثم اغتياله بالسم، أكبر من مجموع معاناة الشعب الفرنسي موزَّعةً على أفراده.

والنبضات عند بيتهوفن كثيرة، ومتنوعة، ضربات السيمفونية الخامسة الافتتاحية يمكن تأويلها كنبضات، خاصة حين تتكرر كظل لحنى figure أثناء عزف اللحن الثاني في كل من قسمي العرض، وإعادة العرض، في الحركة الأولى. كذلك يمكن فهم الضربات الانتقالية على الطبول في اتصال الحركتين الثالثة والرابعة في السيمفونية نفسها. هناك مواضع بعينها في الحركة الأولى من تاسعته يمكن تأويلها كذلك. افتتاحية إيجمونت قد تكون فيها مواضع كهذه للتأويل. ولكن إذا انتقينا بالذات تلك النبضات، التي تُداخِل ضربات القلب، وربما تمتزج بها، فإن الحركة الأولى من السيمفونية الثالثة إيرويكا هي مكمن هدفنا الأساسي. استمع إلى الدقيقة 8:30-9:17 من هذا العزف مثلاً:
https://www.youtube.com/watch?v=G2tEVVeGCk0&list=FLkejJWOiWOmjEbhASiju5kg&index=29&t=77s
هذا المقطع القصير من قسم التفاعل يتكون من جزأين: استعراض القوة في خضم المأساة معزوفًا بالأوركسترا، الذي تظهر فيه ضربات السيف، ضربات التآلف التي تبدأ بها السيمفونية ككل، ثم ضربات القلب المقصودة، التي يبدأ بعدها اللحن الثالث (المختلف عليه إن كان مستقلاً أم مشتقًا)، معزوفًا بالوتريات فقط. ويمكن حتى لغير المتخصص متابعة هذا الاختلاف في التوزيع بصريًا على الفيديو المرفق.
وهي كما هو واضح أقصر بكثير زمنيًا مما رأينا مع موتسارت، أو حتى باخ، لكنها تلعب دورًا أكثر جوهرية مع ذلك كانتقال بين لحنين: الأول في تنويعته الأكثر شدة، والثالث. واللحنان، الأول والثالث، متباينان بجلاء في الطبيعة: الأول قوي، مسيطر، هو أصلاً مشتق من لحن افتتاحية باستيان وباستيين لموتسارت، والثالث شبه جنائزي، يمكننا أن نحلله إلى مركبتين: الأولى في هيئة شبيهة بالمارش (قرار)، والثانية جواب له، وهو عاطفي، جذّاب، فيه طلاوة يفتقر إليها اللحن الأول، والتي يعوض عنها بالقوة. الخلاصة أنهما مختلفان تمامًا في الطابع، ولكي يحقق بيتهوفن النقلة بينهما، من القوة إلى الرقة، اختار ضربات القلب. ولكن ليست كأي ضربات، وليس كأي قلب. وبمنظور أشمل فهذه الضربات عمود فقري للحركة الأولى ككل؛ فهي التي تبدأ بها الحركة، وبها تنتهي، كما أنها مفاصل هامة بين أجزائها كلها.
في الواقع هذه الضربات هي ما يبقَى في آذاننا فعلاً بعد انفعالنا المهول بتحولات اللحن الأول الوحشية. وقد عقدنا الصلة في بداية السلسة بين الوحش والنبضة. حين يصعد الوحش منتهى صعوده، ثم يهوي من سماواته، ويصمت فجأة، لا نسمع سوى ضربات قلوبنا المنفعلة، على زمن الأليجرو، زمن الحركة ككل، مجردًا، أو يكاد، من أي نغم، مجرد نغمة واحدة، تتكرر كدقات الساعة لمدة قصيرة، بقوة، ولاثنتي عشرة مرة، كصدى لنبض، ونبض جديد، في آن. وكأن صدى النبض بما هو الأقرب للنبض هو الإيقاع المناسب للتداخُل مع حركة القلب. يبدأ صدى القلب من حيث انتهى القلب: من نبضات قوية تكاد تنذر بتوقفه، لمدة ست نبضات، هي نصف عدد النبضات الاثنتي عشرة، ثم يهبط تدريجيًا لسِتّ نبضات أخرى، ليفسح المجال لهبوط اللحن الثالث، الذي هو ربما أجمل ألحان السيمفونية كلها.
تخيل أنك قرب مركز انفجار نووي، وبعد الانفجار بدقائق، حين يتلاشى صوت الصدى والحطام، لن تسمع سوى ضربات قلبك، التي تلي ضجة عظيمة منذرة بنهاية العالم. هل حاول بيتهوفن هنا تخيل قلب البطل –بونابرت- وهو يخوض معاركه، وهو يبارز أعداءه، حتى إذا تلاشوا، ولم يجد أحدًا قبالته، لم يجد بعدهم سوى قلبه الضاجّ بمَدافع الحرب؟ هل هي أصوات المَدافع بعد أن أبادت خصومها، وظل صداها يتردد دون عدو أو معركة؟ هل هو قلب بيتهوفن نفسه متخيلاً نفسَه في موقع بونابرت، وناقلاً ذاته من قيادة الأوركسترا إلى قيادة الجيش؟ إن المستمِع المخضرم لهذه السيمفونية يستشعر فعلاً توازيًا، وربما امتزاجًا، بين هذه الضربات الوترية، ونبضات قلبه، تلك الضربات، التي تشبه في ذلك الموضع من العمل نبضات قلب يخوض حربًا وحشية مصيرية وبطولية في وقت واحد.
لاحظوا أن هذه السيمفونية كانت أول عمل، وآخر عمل، من نوعه: كانت أولى السيمفونيات الرومانسيات، أولى السيمفونيات التي توضَع لرواية شخص ما، رواية شخص لا حدث، بكل ما يحمله هذا الشخص من فكر وشعور وإدراك وتفاعل. والمحرك الأساسي للإنسان ككيان مادي هو القلب، كما يتأمله غير المتخصص، لهذا كان يؤمن أرسطو وابن رشد أن موضع الفكر هو القلب، لا المخ. هي موسيقى جديدة، بدأت عهدًا جديدًا من الموسيقى، لم ينته بعد. هي مقطوعة لتصوير إنسان واحد، لا كون، ولا طبيعة، ولا ألوهة، ولا شعب. إنها الأكثر تركيزًا بين أغلب الأعمال التي يمكن لنا سماعها على الأقل. هي آخر عمل حتى الآن في بلاغة تعبيره عن البطولة الفردية، عن شعور البطولة ذاته، عن الألم والخوف والصراع والشك متضافرِين في ضفيرة عصبية واحدة، عن الحياة والموت في سبيل راية واحدة. إنها الشجاعة بكلمة واحدة، والفداء نحو شهادة واحدة.
-قلب الإسكندر الأكبر/الناقص: شوبرت
شوبرت هو السِّفر الناقص في كتاب الموسيقى المقدَّس؛ ليس فقط بسبب شهرة أهم سيمفونياته: السيمفونية الثامنة الناقصة، التي عُرفت بعد عقود من وفاته، بل كذلك لوفاته في سن جد صغيرة، بترتْ بدايات واعدة بموسيقى، ربما لو كتب لها الاستمرار، مع البلورة، والصقل، والتكامل، لكانت أنتجت لنا بيتهوفن ثانيًا. ولكن لا سبيل عمليًا للتحقق من ذلك. وهذه هي بالضبط ظاهرة شوبرت: النقص “المُوحِي” بالكمال.

وتستحق ثامنة شوبرت دراسة مستقلة، سيأتي حينها، لكن المقام مقام النبض. هذه السيمفونية، وحركتها الأولى بالذات، زاخرة بالنبضات، بألوان، ومستويات، مختلفة؛ فهي تبدأ بالجملة المقبِضة على الباصات، لتسري الترددات في الأوركسترا، بشكل قد يذكرنا بالحركة الثانية من تاسعة بيتهوفن؛ حيث تحتشد الآلات تدريجيًا، ولكن شوبرت ليس بيتهوفن. هناك بالفعل حركة احتشاد، لكنها لا تتصاعد إلى الذرى البيتهوفنية المعروفة، بل تقطعها الأكورات العميقة العالية، فتعود لتحتشد مرة أخرى، وفي هذه المرة تتصدى لها الأوركسترا بقوة، كالصخر مقابل الموج، فيصعد الموج، ويبرز الصخر، ويصبح أكثر حدة، وصلادة، حتى ترتطم به الأمواج، ويفور الزبد، وفجأة يهدأ كل شيء عدا نبضات غليظة مضطربة في الخلفية. إنه الوحش، الذي لا بد أن يلازم النبضة، كما قلنا. ثم يظهر اللحن الغنائي المميز، ويعزف مرتين، قبل أن تهوي التآلفات أكثر من مرة، ويهدأ كل شيء مرة ثانية، وهنا تظهر النبضات بوضوح أكبر، بدءًا من الدقيقة 3:02 من الفيديو التالي:
https://www.youtube.com/watch?v=uWnKMzAedK4&t=1317s.
ليست نبضات القلب المستثارة إلى حد مدمدِم كما في إيرويكا، القلب الذي يشهد كارثة، يتوقف بعدها كل شيء، ويصمت، سوى ضربات قلب قاطعة، رعدية، بل هي عند شوبرت نبضات قلب ضعيف يوشك على التوقف. وهو القلب الذي يتوقف فعلاً ليفسح المجال كل مرة للحن المقبِض إياه، الذي يستثمره المؤلف في التفاعل، والكودا، وقبل الكودا تعاود النبضات ظهورها بدءًا من الدقيقة 12:14 في الفيديو نفسه. لكن أكبر ظهور لهذه النبضات هو نهاية الكودا، معزوفة بالأوركسترا كلها، لا نبر الوتريات فحسب هذه المرة، أربع مرات، لتنتهي الحركة. وهي النبضات الوحيدة معنا في هذه السلسلة، التي تتوقف، ليتوقف العزف فعلاً.
وإذا كان بيتهوفن هو نابليون الموسيقى، وثائرها الأشهر، فإن شوبرت أقرب إلى إسكندرها الأكبر؛ الفاتح المدهش، الذي حقق إمبراطورية ناقصة، وتوفي في سن شوبرت تقريبًا حين توفي. ربط الإسكندر الأكبر لأول مرة في التاريخ بين الشرق والغرب في إمبراطورية واحدة، وبشَّر بعالَم جديد، تحقق بعد وفاته فعلاً في الحضارة الهللينستية، أما شوبرت فمات، وهو يبشر بالموسيقى التأثيرية، التي ازدهرت بعد وفاته على أيدي التأثيريين الفرنسيين، وما بعد الرومانسيين، ككلود ديبوسي، وموريس رافل، وبول دوكا، ومانويل دفايا، وغيرهم.
واللافت أن نبضات السيمفونية الناقصة، بما هي مقارِبة لقلب يتوقف، وخاتمة للعزف، أقرب فعلاً لتصورنا عن القلب الفاشل، الذي يموت، فيموت معه كل شيء، ويموت مؤلفها قبل أن يكملها. ربما وجد فيها شوبرت أنها من طبيعتها أن تموت قصيرة العمر مثله، أو أنه أهمل في صحته دون وعي منه، تحركه إرادة موت غير واعية، ليلحق بها، ولتكون مثل الوشم عليه، تحكي حكايته، ولا تزول أبدًا، حتى بعد تحلل الجسد، فالموسيقى بلا جسد.
[1] Winold, Allen (1975). “Rhythm in Twentieth-Century Music”, Aspects of Twentieth-Century Music. Wittlich, Gary (ed.). Englewood Cliffs, New Jersey: Prentice-Hall, 208-269.
[2] كريم الصياد: الفردوس المسموع.. كيف أصبح بيتهوفن بطلَ بيتهوفن؟ مؤسسة معازف، لندن، 2017.