مقالات

جماليات الحقيقة – سعيد بنگراد

عُدت الجماليات منذ تأسيسها فلسفة للجميل كما يمكن أن يتجلى في العمل الفني، لا كما يبدو في مظاهر الطبيعة وظواهرها. وكان أليكساندر بومغارتن هو من نحت هذا المصطلح في القرن الثامن عشر، وأشاعه بين الباحثين ومؤرخي الفن. فالجميل في الجماليات عنده ليس محاكاة لحقيقة موطنها العقل وحده، بل هو ممرٌّ نحو بلورة “حقيقة” جديدة مصدرها الانفعال وحالات الاستهواء المتنوعة. ذلك أن العقل لا يُعبر دائمًا عن نفسه من خلال حدود مجردة تكون هي الناظم لكل كائنات الكون وموجوداته، إنه قد يتخذ شكل أسطورة أو محكي أو حدث مشخص، أو يتبدى من خلال طاقة حسية تسكن اللوحة أو الصورة أو المنحوتة. يتعلق الأمر من خلال ذلك كله بالارتقاء بالعمل الفني من مجرد تمثيل لأشياء موجودة في العالم الخارجي، إلى ما يمكن أن يعبر عن “داخل” نفسي تستوطنه صور ليست مستوحاة دائمًا من محيط طبيعي أخرس.

لذلك لا وجود لتناقض بين “وجدان” يُحس ويُنظم إحساسه في مادة تلتقطها العين وتنتشي بها في حسيتها، وبين “عقل” يفكر ويرد الأحاسيس إلى مفاهيم مجردة تُجليها وتُميز بينها في الصيغ التمثيلية وفي التغطية الدلالية؛ وليس هناك معادلة مطلقة بينهما أيضًا. فالأول يمتلك الموضوع كاملاً في كليته، كما يأتيه من المحيط الحسي المباشر، أما الثاني فيفككه بحثًا عن مضمون الإحساس وغاياته. ووفق ذلك لا نستطيع، في الحالتين معًا، إدراك سر العمل الفني إلا من خلال البحث في المستويين معا: ما توفره “المعرفة الدنيا”، بتعبير أفلوطين، وهي الحس الخالص، وما يأتي من “المعرفة العليا” التي هي عقل محض يبحث في نظام المادة وانسجامها. هناك ممرات تقود من الأولى إلى الثانية، وتعود من الثانية إلى الأولى، وتلك هي مصادر المتعة في الفن. واستنادًا إلى هذا الفصل أيضًا ميَّز كروتشي بين معرفة تتم عن طريق الخيال ومولّدة للصور، يتعلق الأمر بمعرفة بالأشياء، وبين أخرى منطقية تتم عن طريق الذهن ومولّدة للمفاهيم، إنها معرفة بالعلاقات.

استنادًا إلى ذلك لا يمكن فهم العمل الفني اعتمادًا فقط على ما يأتي من انطباعات تسائل الجسد وحده، فنحن “نحس” بكل شيء، ولكن الوعي الثقافي وحده يمكن أن يميز بين الأحاسيس ويصنفها. لذلك لا وجود للجمال في الطبيعة كما هو شائع، فقد تكون هي مادة الجمال وأصله، ولكن أشكال وجوده لا يمكن أن تتحقق إلا من خلال العمل الفني، فالجمال في عين الرائي لا في مادته. بعبارة أخرى، إن الأشياء تُصبح جميلة عندما تتحول إلى عمل فني، أي عندما تلتقطها العين خارج منْبَتها وتصير موضوعًا جميلًا في ذاته، ذلك أن الأشكال والألوان في الطبيعة هي غيرها في اللوحة.

ولقد عبّر عن ذلك سيزان بالقول إنه “يرسم انطلاقا من المخيلة”، وكان يعني بذلك أنه يستبطن كل ما يشاهد ويتأمل ليعيد بناءه ضمن لوحة تقدم للعين موضوعًا جديدًا. وهو ما عبر عنه أيضا فيلوسترات philostrate وهو يتحدث عن المنحوتات التي كانت تمثل للآلهة اليونانية :” فهذه هي نتاج التخيل، وهو أكثر فنية من المحاكاة، ذلك أن المحاكاة تمثل ما يُرى، في حين يمثل التخيّل لما لا يُرى”، إنه الفاصل بين الإدراك الحسي وبين التمثل.

وتلك هي وظيفة الفن، إنه يقوم ” بتسريب “حقيقة” سامية إلى مواد بلا روح” (لوك فيري). فلكي يظهر الموضوع الفني يجب أن تختفي الحجارة من التمثال، تمامًا كما يختفي الموضوع الممثل في الصورة لكي تحضر نظرة الفوتوغرافي فيها، ففي جميع هذه الحالات هناك بحث عن حقيقة الشيء في كينونة أخرى غير مادته أو نفعيته. وقد يكون هذا سببًا في أن الفن ارتبط بتساؤلات وجودية كبرى رافقت الإنسان منذ أن وعى شرطه ككائنٍ فان. فقد كان الفن في مرحلة متقدمة من التاريخ بحثًا عن هرمونية الكون وانسجامه، وأصبح في الفترة التي ظهر فيها الدين بقيمه ورؤاه تعبيرًا عن عظمة الله (لقد كانت اللقى والمنحوتات والأصنام ممرًا من المرئي إلى اللامرئي)، أما حقيقته في عصرنا الراهن فهي التعبير عن عبقرية الإنسان، إنها تعبير عن قدر إنساني يُصنع في الأرض وضمن شروط الحياة، كما نادت بذلك الأنوار في أوروبا خاصة.

وهي صيغة أخرى للقول: إن الفن يَبني عوالمه فيما هو أبعد من المعيش والمرئي والمألوف في الحياة، إن العين فيه لا ترى، بل تُعيد بناء موضوعها ضمن ممكنات النظرة، لا استنادًا إلى ما يأتي من فعل الإبصار فيها؛ إنها، مثلها في ذلك مثل الكلمات، حمًّالة لدلالات لا يشكل “البعد التعييني” فيها سوى لحظة عابرة في الوجود قلما يلتفت إليها الناس. وهذا معناه أن “الجميل، وهو موضوع لإحساس خاص وحميمي، يستثير أفكار العقل الحاضرة في ذهن كل إنسان، وذاك سبيله للتخلص من الذاتية الخاصة، في أفق بلورة معنى مشترك” (كانط). وتلك طريقة أخرى للقول: إن العمل الفني يوقظ فينا الكثير من الأحاسيس، ولكنه يستثير فينا تمثيلات عقلية أيضًا. فنحن نستعيد من خلاله ما غطت عليه المفاهيم أو أهملته.

وهذا ما تشير إليه آليات الإدراك ذاته، فنحن لا ندرك الأشياء والكائنات بالحسي فينا، بل نفعل ذلك اعتمادًا على مفاهيم هي التي تنظم التجربة وتعيد صياغتها في اللغة، إنها أداة التوسط بيننا وبين ما يأتينا من العالم الخارجي. فلا وجود إذن لشيء في الذهن لا معادل له في الحواس، ولكن المعادلة في هذا السياق ليست من باب التوازي من حيث مادة التشكل، بل مصدرها ما يفيض عن العين من استيهامات لا يمكن أن تستقر في الذهن إلا في شكل استعارات كلية أو جزئية، أو في شكل استيهامات تتخذ أشكالًا وأحجامًا بها يعيش الإنسان ومن خلالها يدبر قلقه. فليس غريبا أن تكون الجماليات مشتقة من الإدراك الحسي aisthesis ، وهي أيضا ما يستثير في النفس الإحساس بالجميل وتأمله خارج وساطة المفاهيم. لذلك كان الفن أقدر الأشكال التعبيرية على إنطاق المادة.

وهو أمر سينعكس على حالات انتشار المعنى وشكل تلقيه. إن كلية العمل لا يجب أن تخفي تراتبية داخلية ضامنة لوحدته وانسجامه. وهي وحدة تعود إلى الأحاسيس وتعود إلى الأشكال التي تكشف عنها في الوقت ذاته. فذاك هو سبيل العين نحو الإمساك بكامل الطاقة الدلالية داخل العمل الفني. وقد يكون هذا الترابط بين المستويين هو الذي دفع إلى القول بتعددية المعاني (توصف الصورة دائما بأنها متعددة المعاني)، أي وجود مستويات يتوزع من خلالها الكم الدلالي. يتعلق الأمر بسيرورة في الخلق والبناء يتمكن من خلالها الفنان من حشو المرئي الماثل أمام العين ” بأسرار” دلالية جديدة تمنح العمل الفني القدرة على التخلص من “حسيته” وبناء معانيه ضمن تراتبية تسير به من التعيين المباشر إلى احتضان دلالات هي مبرر الإبداع ومصدر حاجات الإنسان إليه.

لذلك كانت هذه التراتبية في المعنى وفي أشكال الكينونة عند الكثير من مؤرخي الفن ونقّاده، هي حاصل سيرورات ترميز متتالية في حياة الإنسان هي التي خلصته من حسية “صامتة” لا تقول أي شيء، لكي تستعيده بعد ذلك كائنًا عاقلًا يدير الانفعال وفق مقتضيات الفكر لا الهوى. فلم تقف مغامرته على الأرض عند رسم حدود تجربة مشتركة تتم خارج إكراهات “الأنا” الفردية ومحدداتها في الهنا والآن، ما يشير إلى الاستجابة لحاجة معيشية في حياة الناس، بل تجاوزها إلى خلق مستويات دلالية جديدة اتخذت من الرمزية الأولى منفذًا مفضلًا نحو تعددية تستوعب كل واجهات الإنسان، أي التنويع من أشكال حضوره في تفاصيل الحياة. وتلك هي، فيما يبدو، مضافات الإنسان في الثقافة.

واستنادًا إلى هذه التراتبية ميّز بعض مؤرخي الفن بين معنى بدئي وثيق الصلة بالظاهر في العمل الفني، ما يأتي إلى العين باعتباره تمثيلًا لعالم خالص، أي ما له علاقة بالخطوط والألوان، أو ما له علاقة بكتل برونزية منحوتة بطريقة بعينها، أو تمثيلًا لكائنات، كما يشير إلى ذلك إيرفين بانوفسكي. ففي جميع هذه الحالات ستظل اللوحة صامتة لا يمكن أن تقول أي شيء خارج العناصر الممثلة ذاتها، وتلك هي الدلالة البدئية في تصوره. وهناك معنى ثانوي هو حاصل كل الاستعمالات الاستعارية للكائنات والأشياء. يتعلق الأمر باستحضار سقف ثقافي من خلاله نستطيع إعادة بناء قصديات جديدة لا تعبر عنها اللوحة بشكل مباشر، ويصنفها بانوفسكي ضمن ما يطلق عليه الدلالة الثانوية.

ومع ذلك فإن هذين المعنيين قد لا يستنفدان مجمل الدلالات الممكنة في العمل الفني. وفي هذا الاتجاه يشير بانوفسكي إلى دلالة ثالثة يعتبرها وثيقة الصلة بتراث أمة أو ثقافتها. وتلك حالة بعض اللوحات التي تمثل لبعض وضعيات السيدة مريم كما نُظر إليها في القرنين الرابع عشر والخامس عشر. فقد اتخذت السيدة البتول، التي كانت تُمَثَّل ممدة في سرير إلى جانب وليدها، وضعًا جديدًا؛ فقد صورها بعض الفنانين راكعة أمامه في ما يشبه التعبد. وقد كان هذا التحول يشير إلى حساسية جمالية جديدة، وإلى إبدال ديني جديد بدأت بعض معالمه تظهر في كتابات بعض آباء الكنيسة.

بل إن رولان بارث يتحدث عن شيء آخر سيسميه “المعنى الثالث”. يتعلق الأمر بمعنى حاول من خلاله الإمساك بإحساس خاص يتجاوز البصري بكل معادلاته اللفظية التي تقلص من امتداده. ذلك أن قوة الانفعال ليست مستمدة من تسميته، بل مصدرها الاستعصاء على تعيينه في الكثير من الحالات. لذلك قد يكون هذا النوع من المعنى مجرد إحساس، أو انطباعات عامة غير قابلة للوصف لا تشير على الذات بدلالة قابلة للمفهمة، بل تمدها بمتعة عادة ما لا تستطيع تحديد مصدرها، إنها نُتَف دلالية تختفي في تفاصيل تُغطي عليها الدلالة الأولية، لتعشش في مضافات تتجدد بتجدد النظرات.

أو قد يكون من زاوية أخرى “لحظة دلالية” لا تطمئن للمفاهيم التعيينية، بل تلتقطها العين في النظرة ثم تختفي، لتعاود الظهور من جديد مع أي محاولة لتنويع حالات النظر. تماما كما هي “النوعية” مجرد إحساس أولي لا نستطيع رده إلى موضوع بعينه، إنها منفلتة من أي تجسد، ذلك أن الإحساس هو نسخة من نفسه، ولا يمكن أن يوصف خارج حدود هذه النسخة. وذاك ما يُحْدِثه الأحمر من “رنين”، وما يوحي به الخشن من تقزز في النفس، وما يمكن أن تستثيره ابتسامة تُطل من شفاه حزينة، فكل محاولة لتجسيدها لن يقود سوى إلى اختفائها.

إننا في جميع هذه الحالات، أمام “اختيار” يتم على هامش الانزلاقات من معنى أول، معطى من خلال التمثيل المباشر، إلى آخر موحى به فقط، كما هو الشأن مع الإيحاء والتقرير. إن هذا المعنى لا يقاس بحجمه، بل بقدرته على استثارة انفعال هو متعة لا معادل دلالي لها. لذلك، فإن هذا المعنى حكر على الأعمال الفنية البصرية، التشخيصية وحدها، الفوتوغرافيا في المقام الأول، وما يمثل للوجه خاصة. فالوجه وحده بؤرة الانفعالات، ففي العينين تسكن كل الانفعالات وتعشش وتسلم بعضا من طاقاتها وتخفي أخرى.

وتلك هي طبيعة الحقيقة التي تُبنى في الجماليات وهي تحاول التحكم في الحس وتوجيهه نحو خلق تجربة للمتعة، لا ما يمكن أن يكون مجرد اصطدام بالعالم الخارجي.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى