لا تَمْضِ وَدِيعاً في ذلكَ اللِّـيلِ الهَادِئ ..
فَالشَّيخُوخةُ أولى بها أن تحْترق.. ثمّ تتبعثرُ في نهايةِ اليوم..
اغْضَب، اغْضَب على موتِ النُّور..
يُدركُ الحكماءُ بحلولِ نهايتهم أنَّ الظلمةَ حق..
لأنَّ كلماتَـهم لم تُـشَعـِّب البرق ..
اغْضَب، اغْضَب على موتِ النُّور ..[1]
في العاشر من أبريل لعام ٢٠١٩م احتفل العالم بالتقاط أول صورة حقيقية للثقب الأسود، حيثُ كل الصور المتداولة سابقاً في الانترنت كانت مجرّد محاكاة بصرية. وهذا الحدث يستحق الاحتفاء به لأننا استطعنا رصد أهم الظواهر الطبيعية في الكون والتي استمر الجدل بشأنها قُرابة قرن. حيثُ أول من عثر عليها رياضياً عالم الفلك الألماني كارل شوارتزتشيلد عام ١٩١٥م من معادلات النسبية العامة للعالم الفيزيائي الكبير ألبرت آينشتاين، وفي هذا السياق تأتي هذه مراجعة علميّة لفيلم Interstellar الذي تم عرضه في نوفمبر لعام ٢٠١٤م. حيثُ تلقّى الفيلم نقداً إيجابيّاً للدقة العلميّة التي يقف خلفها العالم الفيزيائي والفلكي المعاصر كيب ثورن، والحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام ٢٠١٧م.
قبل البدء بتناول قصة الفيلم، أود التنبيه بأن هذه مراجعة علميّة للفيلم دون التطرق للأحداث حتى لا يُقَيـّـد خيال المشاهد، ومع ذلك أوصي بالاستمتاع بمشاهدة الفيلم قبل قراءة المقال؛ لأن Interstellar ليس مجرّد أحد أفلام هوليوود ذو الصدى الإعلامي الكبير؛ بل هو تحفة فنيّة تم تقديمها عبر عمق الفكرة وبساطة السيناريو، لتحقق الهدف المنشود من صناعة فيلم خيال علمي تشكل كفة الواقعيّة العلميّة فيه ثقلاً يتوازن مع إبداع الخيال السينمائي وأدواته. بدءاً من المخرج العبقري Christopher Nolan الذي نعرفه من أفلام عظيمة مثل: Memento, The prestige, The Dark Knight and Inception. مروراً بطاقم التمثيل Matthew McConaughey, Anne Hathaway, Jessica Chastain, Michael Caine, Bill Irwin. ولا عجب أن يشارك المُصَمّم العبقري لموسيقى الزمن Hans Zimmer في Interstellar Soundtrack لتأخذنا تذبذبات موسيقاه أفق موجات جاذبية الثقب الأسود وتسكننا في الصمت العميق لحلقات كوكب زحل.
قصة الفيلم محورها المزارع كوبر الذي كان يعمل مهندساً وقائد مركبات فضائية في وكالة ناسا، قبل أن تُغلق الوكالة من قبل الحكومة. وهو أيضاً أب لطفلين: توم ومورف، يعيشون جميعاً في منزل وسط مزرعة كبيرة مع جدهم. مورف فتاة في العاشرة من عمرها تبدو عليها علامات الذكاء المبكّر من خلال أسئلتها لوالدها وتنشغل بحدث مهم يحدث داخل غرفتها. حيث توجد مكتبة تغطي جداراً كاملاً تسقط منها الكتب على أرضيّة الغرفة أحياناً، وكانت تتساءل دوماً عن السبب بينما قدّم لها جدّها جواباً جاهزاً بأنها الأشباح.
فضول كوبر في اكتشاف إحداثيات مكانٍ سريّ تحمله للقيام بمهمةٍ الهدف منها: “البحث عن كوكب صالح للحياة”، ولتحقيق هذا الهدف تنقسم المهمة لخطتين:
الخطة الأولى: نقل البشر عن طريق موجات الجاذبية التي مازالت كيفيّتها عالقة في معادلات البروفيسور براند.
الخطة الثانية: هي خطة بديلة في حال فشل الخطة الأولى، تعتزم نقل بويضات بشريّة مخصبة سترافق كوبر وزملاؤه روّاد الفضاء في المركبة الفضائية إلى الكوكب الجديد.
تبدو أحداث الفيلم في مستقبل يمتدّ من واقعنا الحاضر، ويبدو من وجهة نظري العلميّة أنه قريبٌ جداً، فهناك مؤشرات ظهرت في الفيلم وإن كان ظهورها رمزيّاً لفكرة تصوريّة عن حياة البشر على كوكب الأرض في المستقبل القريب. هذه المؤشرات ليست خيالاً علميّاً بل هي انعكاس الواقع التجريبي للمختبر العلمي اليوم.
التغيّر المناخي
تصبح الأرض غير صالحة للعيش، والسبب ليس الكثافة السكانية الهائلة بل التغيّر المناخي، حيث مؤشرات الخطر تدق مهددةً الوطن الأم (الأرض) ونحنُ البشر. إحصائيـّاً تتسارع ارتفاع درجات حرارة الأرض خلال الثلاثين عاماً الأخيرة، لتسجّل أعلى درجة حرارة في عام ٢٠١٥م بمقدار يبلغ 1.08°C [2]. تسجيل قياس 1°C لحرارة الأرض يعني أننا بلغنا منتصف الخطر، لأنه إذا تضاعفت هذه الدرجة لتصل 2°C لن تصبح الأرض وطناً ملائماً للحياة. ويُقدّر العلماء ما بين عاميّ ٢٠٩٠-٢١٠٠ احتماليّة قياس 2°C في حال استمر البشر في هدر موارد الأرض.
والمثير للإعجاب في فيلم Interstellar أنه ترجم هذا التغيّر بالعواصف الرملية، ليس فقط اختزالاً للحقيقة العلميّة ، ولكن توظيفاً لمفهوم الجاذبيّة كبعد مادي كما سنرى لاحقاً. بينما الأثر الثاني للتغيّر المناخي هو انخفاض معدلات الأكسجين مما طوّر نوع من الآفات تتنفس غاز النيتروجين الذي لا يتنفسه البشر والموجود بكثافة في الغلاف الجوي، وهذا بدوره أدى إلى تكاثر هذه الآفات بسرعة عالية فقضت على المحاصيل الزراعيّة، لتصبح الموارد الغذائيّة شحيحة فيضطر البشر في توجيه جهودهم للزراعة.
الطاقة الشمسية
الطائرة التي أصرَّ كوبر على اللحاق بها هي طائرة تعمل بالطاقة الشمسية، كفاءتها تنتج طاقة كافية لمزرعة كوبر والتي سيستخدمها لاحقاً في تشغيل الجرّارات الزراعيّة، وهذا يعني أن كفاءتها أعلى من الكفاءة الحالية والتي وصلت للخلية الشمسية في المختبر اليوم ٤٥٪ تقريباً[3]. لقد فُتنت كثيراً لمنظر توربينات طاقة الرياح خلف مشهد تحليق الطائرة مع منظر جمالي طبيعي بين الأفق والمحيط، كان الأكثر إضاءةً في الفيلم وانعكاساً للمستقبل المشرق للطاقة المتجددة.
الذكاء الاصطناعي
اُستخدم الذكاء الاصطناعي في الفيلم لمهام أعقد مما هو عليه الآن؛ إذ يقود المركبات الفضائية دون الحاجة للبشر، لكنه يظلّ تحت سيطرة الإنسان بالتحكم بالإعدادات المناسبة لكل مهمة، أو في بعض الأحيان يقوم الروبوت بالعمل تآزراً مع الإنسان، لكن المهام التي تتطلب دقّة معقدة قام بها كوبر، كما حصل في لحظة التحام المركبة التي خرجوا بها من الغلاف الجوي للأرض بالسفينة الفضائية Endurance التي تنتظرهم في الفضاء. هذا التعاون بين البشر والذكاء الاصطناعي بعيد جداً عن المخاوف الأخلاقية التي تناولتها أغلب أفلام الخيال العلمي في تصوير تفوق ذكاء الآلة على ذكاء الإنسان، وبالتالي محاولتهم القضاء على البشر، فروح الدعابة والإخلاص والصراحة عناصر قابلة للبرمجة. بالإضافة إلى أن شكل الذكاء الاصطناعي في عضوي الطاقم Tars/Case كان على عكس ما هو معتاد، إذ ليس لها شكل بشري، وهذا قريب من الواقع حيث تصاميم الروبوتات اليوم خرجت من التحيّز الإنساني لتناسب قُدرات حركيّة مماثلة لتلك التي في البشر أو متناسبة مع متطلبات مهام معينة. بل إن الفيلم ذهب لأكثر من ذلك فالروبوت Tarsيختلف في شخصيته عن الروبوت Case لتتناسب مع معنى روح الرفقة بجانب فريق رواد الفضاء، الذين سيقضون وقتاً كبيراً في عزلة مخيفة وتحت ضغط رحلة مجهولة.
الجاذبيّة الاصطناعية
هذا التصميم الدقيق للسفينة الفضائية Endurance ،والذي بذل طاقم المؤثرات البصريّة جهداً كبيراً في محاكاته وتصويره من جوانب عدة، مكوّنٌ من ١٢ صندوقاً استمرت في الدوران حتى لحظة الالتحام مع المركبة الفضائية. هذا الدوران حول محور ثابت يشكّل ثقلًا مكافئًا “قوة طرد مركزيّة” يشابه تأثير جاذبية الأرض على الأجسام، لأن أجسامنا لا تتحمل انعدام الجاذبية لفترات طويلة، حيثُ تضمر العضلات تدريجياً مما يؤدي لتقلصها. كانت ستكون الدقة العلمية عظيمة لو أُخذ في الاعتبار تأثير الجاذبية العالي في كوكب ميلر والتي تُقدّر جاذبيته بـ ١٣٠٪ من جاذبية الأرض، حيثُ يفترض أن يُسحق الجسم البشري عندها.
التطور البيولوجي
لم يتطرق الفيلم إلى التطور البشري في علم البيولوجي بشكل كبير إلا في عمليّة السُّبات في أسرّة خاصة لتوفير الأكسجين والغذاء من ناحية، ومن أخرى لكي يُحفظ الجسم البشري من تأثير الزمن والتقدّم بالعمر. أما تجميد البويضات المخصبة ما يُعرف علميّاً باسم Oocyte cryopreservation فهو ممكن ومتطوّر بنسبة نجاح تجاوزت ٣٠٪.
أبعاد فضائيّة
جوهر الفيلم يكمن في قصته المعقدة بسبب صعوبة فهم الزمن والجاذبية، وسأحاول تبسيط الأحداث من خلال تقسيمها لفضاءات. تخيّلوا أن هناك ثلاث فضاءات بحيث أن كل فضاء مرتبط بثلاث عوامل:
المكان – الزمان – الأبعاد المادية
A الفضاء
المكان: الأرض
الزمان: الزمن الأرضي
الابعاد: ٣ أبعاد مادية
في هذا الفضاء قوانين نيوتن في الفيزياء الكلاسيكية والتي تشكّل قوانين جزئية من الفيزياء الحديثة هي التي تعمل. فنحنُ البشر نعرف الأبعاد المادية الثلاثة وهي الطول، العرض والارتفاع ونطلق عليها المكان. أما الزمن فهو مرتبط بحركة الأرض حول الشمس، فقياسنا للزمن ما هو إلا الدورة الكاملة التي تتمها الأرض في حركتها حول الشمس والتي نعرف أنها تُعادل ٣٦٥ يوماً وست ساعات. ويُحسب اليوم من خلال دوران الأرض حول محورها ليتمثل في ٢٤ ساعة تقريبًا، وكلنا نعلم أن الزمن مرتبط بالمكان فالساعة الخامسة عصراً في مدينة الرياض مثلاً هي الساعة الثانية ظهراً في مدينة لندن. إذن نحن نمثّل الزمن تزامناً مع حركة الأرض لأننا ننتمي إلى الأرض، لكن زمننا الأرضي هذا لا معنى له على كوكب أقرب إلى الشمس أو أبعد. والأولى أن لا معنى له في مجرة أخرى ذات كواكب وجاذبية مختلفة كلياً عن مجموعتنا الشمسية، لذلك تفشل قوانين نيوتن خارج الطبقة الأولى من غلاف الأرض الجوي.
B الفضاء
المكان: المجرة الجديدة بعد تجاوز الثقب الدودي
الزمان: الزمن النسبي
الابعاد: ٤ أبعاد مادية
في هذا الفضاء قوانين النسبية العامة لآينشتاين هي التي تفسّر الكون تفسيراً دقيقاً. ينضم الزمن مع أبعاد المكان الثلاثة كبعد ماديّ رابع يشكلون سوياً نسيجاً يُدعى الزمكان/ Space-Time
موجات الجاذبيّة
الجاذبية في النظرية النسبية العامة هي التشوه (الشذوذ) الذي يحدث بسبب تأثير الكتلة في نسيج الزمكان. ولأن الكون يتمدد تؤثر كتلة الكواكب والنجوم على نسيج الزمكان أثناء حركتها فتسبب تشوه جاذبية منتجاً موجات ثقاليّة. الأمر يشبه نوعاً ما تموّج الماء أثناء حركة جسم عليه، وبالطبع كلما كانت كتلة الجسم كبيرة كبر تردد التموجات. الموجات الثقاليّة تم رصدها من تصادم نجمين نيوترونين لأول مرة في عام ٢٠١٦م ، بعد مرور قرن كامل على نظريّة النسبية التي تنبأت بها. وهي المجال التي حصل العالم كيب ثورن عليه جائزة نوبل بعد عام من اكتشافها. وفي الفيلم رصدوا شذوذ الجاذبية بالقرب من كوكب زحل كان قد تسبب في تحطّم مركبة كوبر الفضائية عندما كان يعمل لدى ناسا ليكتشفوا ثقباً دودياً.
الثقب الدودي
هو ممر نظري وحل رياضي مثالي في نسيج الزمكان تنبأت به نظرية النسبية العامة ويسمى علمياً Einstein-Rosen Bridge، عمل على تطويره العالمان اينشتاين وناثان روزن. وهو رياضياً نسيجٌ أعقد بكثير مما تناوله الفيلم، بل لم نتمكن حتى الآن من إثباته لأنه يتطلب طاقة هائلة جداً، لكنه مادة خصبة لأفلام الخيال العلمي، حيث تستفيد من مفهومه الرياضي الذي يتلخص كممر مختصر لاقتصاد زمن السفر بين النجوم أو المجرات[4]. والثقب الدودي في فضاء ثنائي البعد يتم تخيل فوهته كدائرة لكن في نسيج الزمكان هو كروي الشكل طبقاً لمعادلات الثقب الدودي التي عمل عليها العالم كيب ثورن.
الزمن النسبي هو الزمن في نظرية النسبية لأينشتاين، وهو بعد مادي يشكل مع أبعاد المكان الثلاثة نسيج الزمكان. هذا النسيج يتأثر بكتلة الأجسام، ففي حالة الأجسام الكبيرة جداً مثل الشمس أو الأرض كتلتهم تسبب تشوه في الزمكان. هذا التشوه يجعل الضوء ينحني في انتقاله، وكلما كانت كتلة الجسم كبيرة زاد مقدار انحراف الضوء. وهذا مثبت تجريبيّاً منذُ قرن مضى، بفضل البعثة الاستكشافيّة بقيادة العالم الفيزيائي والفلكي آرثر ادنجتون. واليوم الأقمار الصناعية في الغلاف الجوي تأخذ هذا التشوه بعين الاعتبار في الحسابات الدقيقة لنظام تحديد المواقع العالمي GPS.
هذا التشوه الزمكاني يزداد أيضاً بازدياد الجاذبية فيتمدد الزمن. تسمى هذه الظاهرة العلمية Gravitational Time Dilation أي عند جسم ذو جاذبية عالية جداً مثل الثقب الأسود يمر الزمن ببطء. لذلك قضى كوبر ثلاث ساعات فقط على كوكب ميلر الذي كان يقع ضمن جاذبية الثقب الأسود، لكنها كانت أكثر من ثلاثة وعشرون عاماً بالنسبة للزمن الأرضي.
C الفضاء
المكان : الثقب الأسود Gargantua
الزمان: الزمن كبعد خامس
الابعاد: ٥ أبعاد مادية
الثقب الأسود
لفهم الثقوب السوداء يجب أن تعمل قوانين الفيزياء معاً، هناك فراغ هائل جداً في ذرات المواد والتي تتشكل في النجوم ذات الطاقة الحرارية الكبيرة عن طريق الاندماج النووي ليتم تصنيع العناصر، فإذا ما انتهى الوقود النووي للنجم يختل توازن القوى بين تلك التي تعمل على ترابط المكونات الأساسية للذرات، وهي الجاذبية والنووية والقوى التي تدفع مكونات النجم من العناصر للتطاير في الفضاء. انتهاء الوقود النووي يمنح الجاذبية التفوق لتضغط على كتلة المواد الأساسية للذرة. فتتقلص الكتلة إلى جسم ذو نصف قطر صغير جداً يعرف علمياً باسم “نصف قطر شوارتزتشيلد”. هذا الجسم هو الثقب الأسود، فكتلة مثل كتلة الشمس سيصبح نصف قطرها ٣ كلم لتتحول لثقب أسود، ومع ذلك لتكوّن ثقب أسود أقل كتلة لابد أن تعادل أكثر من ٣ أضعاف كتلة الشمس. الكون مليء بالثقوب السوداء حتى مجرتنا يتوسطها واحد. الثقوب السوداء هي نتيجة طبيعية لمعادلات اينشتاين في النسبية العامة، أما الدليل التجريبي لها هي موجات الجاذبية التي نتجت من تصادم نجمين نيوترونين لأول مرة في عام ٢٠١٦م، فكونّا ثقباً أسود.
الفضاء A هو واقعنا الفيزيائي الذي نعرفه تماماً والفضاء B هو الفضاء النسبي الحقيقي علمياً والذي نستطيع تصوره. أما الفضاء C هو فضاء نعرفه رياضياً، لكنه لم يُثبت علميّاً بعد وهناك سببان:
الأول: الضوء لا يفلت من الثقب الأسود بسبب الجاذبية العالية؛ لذلك لا توجد موجات كهرومغناطيسية منبعثة يمكن رصدها أو إرسالها لدراسة سلوك هذا الجسم.
الثاني: الثقب الأسود هو جسم ذو كثافة لا نهائيّة بجاذبية عالية جداً، وهنا تكمن النظرية الموحدة التي تحاول التوافق بين النسبية وميكانيكا الكم في قوى الكون الأربعة: قوى الجاذبية، القوى الكهرومغناطيسية، القوى النووية القوية والقوى النووية الضعيفة، من أجل حل لغز التفرد الجذبوي. رياضياً يكمن الحل في خمسة أبعاد يصبح فيها الزمن “متجمداً” والجاذبية “لانهائية” بعدان ماديّان يندمجان معاً مع أبعاد المكان الثلاثة.
لذلك داخل الثقب الأسود يجب أن نتخلى عن فكرة المكان العادي والزمن العادي الذينِ نعرفهما.
تصوّر فريق عمل فيلم Interstellar خيالياً فضاء الثقب الأسود كفضاء سريالي، بالأبعاد الخماسية حيثُ هذه الأبعاد تمكّن من تجزئة كل حدث زمكاني في اللانهاية، بسبب لانهائية الجاذبية والانتقال بين هذه الأبعاد يشبه انتقالنا في أبعاد المكان الثلاثة، لكن التواصل يتم عن طريق موجات الجاذبية لأنها البعد المادي الوحيد الثابت في الفضاءات الثلاثة وهذا ما حصل مع كوبر في محاولة التواصل مع ابنته في الفضاء A. ” هو ليس سفراً عبر الزمن ” إنما هو نسيج جديد له أبعاد معينة انفتح بطريقةٍ ما من الفضاء C على الفضاء A ليرسم إحداثيات على أرضية الغرفة بعد العاصفة الترابية فيتعرف منها كوبر على المكان السري.
غريزة البقاء أم الحب
إبداع الفيلم أشمل من تقريب الواقع العلمي وتصوير الخيال المستقبلي، وإن كانت رؤيتنا لأول صورة حقيقية للثقب الأسود قريبة جداً من تصويره في الفيلم والذي وحده يعد نجاحاً باهراً، بجانب تفوّق المؤثرات البصرية والتي استحقت جائزة الأوسكار، وبجانب الدقة العلمية. لكن النجاح العظيم يكمن في الرسالة المخفيّة بضرورة الإيمان بالعلم حتى مع أعمق سوداوية للواقع، وهذا بدا جليّاً في الحوار الذي دار بين كوبر ومعلمة ابنته التي اعتبرت “أنَّ رحلات أبولّو على سطح القمر إنما حملة دعائيّة ذكيّة قامت بها الحكومة الأمريكية لإفلاس الاتحادي السوفيتي”. وتمثّل أيضاً في خوف الحكومة من إثارة الرأي العام بإبقاء وكالة ناسا منظمة سريّة. أما جمال Interstellar برأيي يكمن في تلك النهاية المفتوحة التي تركها الفيلم للمشاهد، كلا الخطتان نجحتا لكن الكيفية غيرت السرد الروائي لتترك حلقة البداية والنهاية في توسع كما يتوسع كوننا بتطور الوعي البشري من كون ذو ثلاثة أبعاد لكون ذو أبعاد خماسية متجاوزاً واقعنا الإدراكي للزمن الخطي.
إنّ صراعَ كوبر في رحلةِ البحث عن كوكب جديد هو تضحية تجاوزت الطبيعة الأنانية للبشرية:
“أفكّر في عائلتي وملايين العائلات”. ناضل كوبر ضد الدكتور مان الذي آمن مع البروفيسور براند بأن الخطة الأولى والتي تكمن في نقل البشر لكوكب صالح للحياة لن تنجح بسبب البيولوجيا التطوريّة التي تشرح فيها نظرية Kin selection theory[5] أن الإيثار سلوك أساسي في الانتقاء الطبيعي، فالفرد يتشارك مع إخوته ٥٠٪ من الجينات، لذلك طبيعياً سيختار الإنسان إيثار الأقربون منه على الأبعد. وهذا ما تبناه البروفيسور براند محطماً إنسانيته في الإيمان بأن البشريّة ستعمل معاً متجاوزةً عمق الأنانية، ومستسلماً لعدم مقدرته من حل لغز الزمن في معادلات موجات الجاذبية.
رابطة الحُب العميقة بين كوبر وابنته هي مفتاح حل لغز “لماذا تم اختياري؟!”. الحُب الذي عـرّفته الدكتورة ايميليا بتلك الرابطة القوية، والتي تدوم حتى في غياب المنفعة الاجتماعية، لتبني بُعداً لا يمكن إدراكه في الوعي ولا يستطيع العلم اثباته.
والسؤال يبقى دائماً: ” هل سنُحبُ أرْضَنا مُتجاوزين طَبيعتُنا الأنانيّة ونعمل معاً إنسانيّاً لكيلا نغادرها أبداً…؟!”.
___________________
[1] Do not go gentle into that good night. قصيدة مشهورة لشاعر ويلز Dylan Thomas في رثاء والده والتي أُلقيت بصوت الممثل الكبير Michael Caine في الفيلم.
[2] Resource: Forecast suggests Earth’s warmest period on record; Phys.org.
[3] NREL; Best Research-Cell Efficiencies (Multijunction cells, 2019)
[4] تُقاس المسافات في الفضاء بالسنة الضوئية حيثُ يقطع الضوء في ثانية واحدة ٣٠٠ ألف كم، وبالتالي تعادل السنة الضوئية ٩٤٦٠ تريليون كم.
[5] هي مجال في البيولوجيا التطوريّة التي طورها العالم
W.D.Hamilton في عام ١٩٦٠.
Resource: Albert Micheletti; Evolutionary Biology PhD student.