لتحميل الحوار : حوار إبراهيم العريس
1- المؤرخ والباحث والناقد السينمائي والصحافي والمترجم القدير إبراهيم العريس، يسعدنا ويشرّفنا استقبالك لإجراء هذا الحوار؛ بدايةً حدّثنا عن بداياتك مع تاريخ تراث الإنسان، كيف أثّر تعدد اللغات لديك في هذا التنوع والإثراء الثقافي، وهل لجذورك البيولوجية السينمائية سبب في دراستك للإخراج السينمائي؟
الحقيقة أنّ فكرة تراث الإنسان فكرة ترافقني منذ بدايات اهتمامي الممنهج بالثقافة وتاريخها بصورةٍ عامة في حياتي، أيّ باكرًا جدًا حتى دون أن أجرؤ على تحديد تاريخ نهائي. فأنا منذ زمنٍ بعيد لاحظت كيف أنّ الألف عام الأولى من الزمن الميلادي الذي يسيّر حياتنا – مهما كانت دنيوية – على هديه، كانت سنوات هيمن عليها الفكر الديني وريثًا لإنسانيات الفكر اليوناني، والأفكار التي سادت خاصةً في مصر والصين والهند ومناطق أخرى من العالم؛ ما وضع الانتاجات الذهنية والإبداعية تحت مظلّة الرؤى والتفسيرات الدينية، فأنتجت إبداعات وأفكارًا مستمدة من الكتب المقدسّة، لتغيّب أخرى في قطيعة مع «اِعرف نفسك بنفسك».
ومع مجيء الألفية الثانية ولأسبابٍ تاريخية متعددة قد لا يكفي المجال هنا للخوض فيها، راحت أفكار ومنتجات ثقافية جديدة تولد مهتمة بالإنسان، ومخرجة للفنون من دور العبادة إلى الساحة العامة، ومبدلة مجهولية المبدعين وجُماعيتهم بفردية خلقت لهؤلاء أسماء وكيانات، وربما غالبًا في استعادة للعلاقة مع الفكر اليوناني خاصة. وكل ممرّ روماني قد ساهم في ذلك، كما ساهمت به شروحات وترجمات وتعليقات عربية سادت خلال العصر الذهبي لانتشار الفكر العربي من بغداد إلى الأندلس؛ وهكذا ولدت فنون نهضوية إنسانية تجلّت في الفن التشكيلي، والمسرح، والرواية، والفلسفة، والشِّعر، والعمران؛ إلخ. ومن ثمّ راحت تتراكم تلك الإبداعات التي اتخذت مكانها في تاريخ الذهنيات تحت مسمى أحبُّ أن أعتبره: «تراث الإنسان».
ولعلَّ معرفتي الجيدة بما لا يقلّ عن أربع لغاتٍ وفهمي قراءةً لثلاثٍ أخرى، أدى دورًا في تفاعلي مع ذلك التراث حتى وإن كنت أدين أولاً في هذا التوجّه إلى تعلّقي بالعربية، بجانب ارتباطي منذ الصغر بالفرنسية والإنجليزية اللتين قرأت بفضلهما كتبًا من حضاراتٍ أخرى متعددة.
أمّا بالنسبة إلى جذوري «البيولوجية»، فهي في الحقيقة مسرحية أكثر منها سينمائية بالنظر إلى أمرين أولهما جاذب والثاني طارد. فوالدي علي العريس كان في الأصل مسرحيًا وكان منذ صباي المبكر يطلب منّي أن أترجم له مسرحيات من الفرنسية والإنجليزية، أملاً في أن يعرّبها ويخرجها يومًا ما (وهو أمل بقي سرابًا على أيّة حال)؛ ومن هذه الطريق تعلّقت بالمسرح الغربي فيما انجذبت إلى المسرح بشكلٍ عام. أما السينما فكانت كما يمكنني أن أقول لا تُطاق في بيئتي لمجرد أنّ خوض والدي فيها قد أورده موارد الإفلاس، لذا اُعتُبِرَتْ مسؤولة عن الفقر الذي عشناه … ومن ثمّ حتى عندما امتهنتها قبل أن أدرسها، كنتُ لا أطيقها!
2- «أحبُّ عادةً أن أنظر إلى نفسي كمؤرخ للثقافة». كمثقف حقيقي، ما الارتباط الجذري الذي يربط تاريخ الثقافة بتاريخ الذهنيات، وما الذي تقوله لمن يمارس النقد السينمائي دون أن يكون ملمًّا ومتعمّقًا بالفكر والفلسفة والأدب والفن بشكلٍ شمولي؟
الحقيقة أنّ هذا البُعد في توجهي وحياتي لم أدركه بصورةٍ ممنهجة، وربما أقول حرفية إلاّ في حقبةٍ لاحقة من حياتي حين «اكتشفت» أعمال مؤرخيّ مدرسة «الحوليات» الفرنسية، ومن بعد ذلك سوسيولوجييّ مدرسة فرانكفورت، وما اشتغل عليه يوجد كُثر غيري اشتغلوا عليه؛ حيث ركّزوا على تواريخ «المدى البعيد»، بحسب تعبيرٍ موفّق لفرنان بروديل، من أنّ التاريخ الحقيقي ليس ذلك التقليدي الذي يتحدث عن الحروب ومؤامرات القصور والاحتلالات وما شابه ذلك، بل هو تاريخ الاقتصاد والأديان والفنون، بخاصة تاريخ الذهنيات الذي يتطور عادة على وتيرةٍ أبطأ كثيرًا لكنها أكثر رسوخًا، وتشتغل عليه الفنون والعادات الاجتماعية وتلاقح الحضارات والهجرات الفردية أو الجماعية وربما في ترابطٍ دائم ومتواصل بين الجغرافية والتاريخ والمكتشفات العلمية وما إلى ذلك.
ومن هذا «الاكتشاف» الذي أحدث واحدة من التقلّبات الأساسية في حياتي، وولّد لديّ ليس فقط تلك الشمولية الثقافية التي تطبع عملي الثقافي، بل أيضًا تلك التوجهات التي راحت تبعدني عن «ستالينية» اشتغلت عليّ ذات حقبة من حياتي وفصلتني عن «ماركس الإيديولوجي»، لتجعلني أقرب إلى تفهم «ماركس كمؤرخ اقتصادي ومحلل للرأسمال»، ومن ثمّ كان للدور الذي لعبته الطبقات الوسطى في بناء المجتمع والثقافة في بناء المجتمعات بل الأمم حتى. من هنا رحت أشتغل، في المجال الذي احترفته أيّ النقد بصورةٍ عامة والنقد السينمائي بصورةٍ خاصة، منطلقًا من مفاهيم جديدة أكثر رحابة وأقل دوغمائية، إذ باتت منفصلة تمامًا عن الإيديولوجيا. وأوسع رحابة أولاً، انطلاقًا من اهتمامي بتاريخ الذهنيات الذي تصنعه المنتجات الإبداعية والفكرية وغيرها من علاقاتٍ بين البشر، وثانيًا، من كون السينما نفسها – في علاقتها بالتاريخ على الأقلّ وبتاريخها الخاصّ هي الأخرى كفنّ ولُد بدايات القرن العشرين بالتزامن مع ولادة الحداثة وتعزُّز الفردية الإنسانية التي عُبّر عنها بولادة التحليل النفسي؛ إلخ -، أكثر من مجرد فن سابع، كما سُميت بشكلٍ غير دقيق من قبل بيلا بالاش، وريتشيوتو كانودو وغيرهما من أوائل المنظّرين.
3- «كل تراث سينمائي هو مكبّل». من هذا المنطلق، كيف أثّرت الأنماط المعينة من الإنتاج السينمائي في اختزال التراث السينمائي، وكيف يمكن إنتاج سينما جديدة تساعد على الخروج عن الصورة النمطية للسينما الموجودة عربيًا وعالميًا اليوم؟
الحقيقة أنني أنظر إلى التراث السينمائي بكونه قيدًا، حين أفكر في المبدعين السينمائيين وليس بالمتفرّجين. وذلك بالتحديد لأنّ هذا التراث لا سيما بنجاحاته، يضحي ذا سطوة على عملية الإنتاج نفسها بالنظر إلى أنّ للسينما في هذا السياق طابعًا مزدوجًا. فهي صناعة ومن ثمّ هي تجارة، تعتمد أكثر ما تعتمد على تكاثر عدد المتفرجين دافعيّ ثمن التذاكر في الماضي، واليوم محققيّ المداخيل من خلال وسائل أخرى كالاشتراك في الكابل، وشراء الأسطوانات المدمجة، والتضافر على مشاهدة الأفلام في الوسائط الإلكترونية المحقِّقة للأرباح الإعلانية وما إلى ذلك. ويتطلب هذا إرضاء الأعداد الأكبر من المتفرجين الذين يصرّون على الوقوف في وجه كل تجديد يحاول أن ينسف الصورة الجاهزة التي يحملونها عن السينما وما يريدونه منها.
ومن هنا يصبح هذا الذي يريدونه هو ما سيتفنن المنتجون وفي سياقهم المبدعون في إعادة إنتاجه ودائمًا بالأشكال وحتى المواضيع التي كان عليها سابقًا. فيما تظلّ السينما من ناحيةٍ أخرى فنّ وإبداع يتطلّب إنتاجه حُريّة لمبدعه تعتقه حتى من حاجته إلى المال المكبِّل. ومن هنا فإن كل تراث يبدو لي مكبّلاً، لأنه يفرض على المبدع قوالب لا يمكنه أن يحيد عنها. وفي هذا السياق أفترض أنّ كلما كان الإنتاج السينمائي في بلدٍ ما أكثر قِدمًا وعراقة ومنتجاته أكثر تراكمًا وشعبية، كلما كانت فرص المبدعين في التجديد والإبداع الفني الحقيقي أقل، وكانت مهمتهم أكثر صعوبة. ولعلَّ مثال الأنماط السينمائية هو الأقرب إلى توضيح هذا الأمر إذ هناك في كل حقلٍ إنتاجي أنماطٌ معينة تختزل كل التراث السينمائي، ما ينطبق على أدوار يقوم بها الممثلون، وحتى على جُملٍ حوارية يريد الجمهور مالك التراث الحقيقي، أن تتكرر إلى ما لا نهاية.
أمّا كيف يمكن إنتاج سينما جديدة فذلكم هو التحدي الأكبر الذي يجابه المبدعين الذين يجب عليهم أن يبتكروا حلولهم، وهم في وحدتهم القاسية. لكن «المطمئن» في الأمر هو أنّ كلما كان الإنتاج في بلدٍ ما جديدًا ستكون القيود التراثية أقل وطأة. أما الحلول المثالية، وقد أقول هنا هذه الحلول اليوتوبية قد تتمثّل في دولٍ متقدمة تتعامل مع السينما كجزء من قضية فنية وطنية، كالمتاحف والمنحوتات في الساحات العامة، والمكتبات في المدارس، فتموّل سينمائيين مجددين ينتجون أفلامًا تعيش في الذاكرة، ونوادي السينما والمكتبات السينمائية العامة دون أن يُطلب منها تحقيق التراكم الربحي المطلوب. وأعتقد أنّ في إمكاني -رغم يوتيوبية هذا الحلّ- أن أورد نماذج حقيقية حقّقت إنتاجًا معنويًا ولم تعبأ بالخسائر المادية، كالقطاع العام في مصر الستينات الذي رغم تهافته الاقتصادي وفساد المسؤولين عنه، موّل عشرات الأفلام التي ما تزال تعتبر حتى اليوم محطات في تاريخ السينما العربية، والعالمية بالنسبة إلى بعضها حتى، والحراك الإنتاجي الجزائري الذي تحقّق بعيد الاستقلال متيحًا لسينمائيين جزائريين مميزين أن يحقّقوا أفلامًا كبيرة، بل حتى لمخرجين عالميين أن يحقّقوا بفضل أموال جزائرية أفلامًا بالغة الأهمية، كما حدث مع الفرنسي كوستا غافراس، إذ تمكّن من تحقيق تحفته في السينما السياسية: «زد».
4- لاهتمامك بالحقلَين، برأيك لمَ لا يزال المجال الذي يجمع السينما بالفلسفة حديثًا بالرغم من تناول الفلسفة للسينما منذ القدم، حيث عُدت محاورة الكهف لأفلاطون أول نقد سينمائي، وما أكثر النظريات الفلسفية التي استندت إليها السينما وفسّرتها؟
ليس حديثًا تمامًا من حيث وجوده، لكنه جديد من حيث توسّع رقعة هذا الوجود. فالسينما وعلاقتها بالفلسفة ظهرت منذ سنوات العشرين، ولكن في كتابات متفرقة قد يكون غلب عليها أوّل الأمر طابع إيديولوجي في كتابات مانهايم، وربما أيضًا سيغفريد كراكور صاحب الكتاب التأسيسي «من كاليغاري إلى هتلر». ولكن المشكلة أن مفكرين كِبار من نمط برغسون وبخاصة فرويد، أبدوا تجاه فنّ السينما عند ظهوره احتقارًا أرعب الفلاسفة حتى وإن كانوا قد سلكوا دروبًا مواربة للجمع بين السينما والفلسفة. لكن هذا سرعان ما راح يتبدل بالتدريج ولا سيما مع ظهور كتابات فلسفية حول السينما تكاد تكون تقنية حتى (كتابات هوغو مونستربرغ على سبيل المثال).
أما اليوم فربما نجد الكثير من الفلسفة في السينما والكثير من السينما في الفلسفة، بل أكثر من اللازم في الحالتين كما كان غودار يقول متفكهًا. بل ثمّة عدد من كِبار فلاسفة نهايات القرن العشرين جعلوا للربط بين الاثنين كتبًا ودراسات في غاية الأهمية كما حال جيل دولوز في كتابيه المتكاملين: «الصورة والزمن»، و«الصورة والحركة»، اللَذين عاد فيهما يستنبط حتى من برغسون اهتمامات بالزمن السينمائي. ويمكنني هنا أن أحصي ما لا يقلّ عن عشرة من فلاسفة كبار في لغاتٍ عدة اهتموا بالسينما وتحديدًا من منظورٍ فلسفي، حتى وإن لم يعترف بعضهم بذلك. فمن رولان بارت إلى ستانلي كافيل، ومن آلان باديو إلى بودريار، ومن أمبرتو إيكو وسلافوي جيجيك ودافيد بوردويل وفردريك جيمسون، وصولاً إلى بيزلي ليفنغستون وستيفن مالهال ويمكن لهذه اللائحة أن تطول كثيرًا، إذ ثمّة الآن في العالم وبلغاتٍ عدة مكتبة غزيرة الإنتاج إضافة إلى عشرات المواقع الإلكترونية المتخصصة، تهتم بالموضوع وهو اهتمام أزعم أنه قد وصل إلى ذروةٍ ما من خلال قاموسين بالغيّ الأهمية كان من حظ اللغة العربية أنهما تُرجما إليها، أوّلهما: «دليل روتلدج للسينما والفلسفة»، من تحرير بيزلي ليفنغستون وكارل بلاتينيا، صدر عن المركز القومي للترجمة في القاهرة من ترجمة أحمد يوسف، والثاني: «قاموس فكر السينما» الذي ترجمته بنفسي عن الفرنسية، من تحرير أنطوان دي بيك وفيليب شيفالييه، صدر قبل أسابيع عن «مشروع نقل المعارف»، ضمن منتجات «هيئة البحرين للثقافة والآثار»، وكل من الكتابين الموسوعيين يقع في نحو 1000 صفحة من القطع الكبير.
وأزعم أنهما معًا كفيلان بإحداث انقلاب كبير في مسار النقد السينمائي، لا سيما القاموس الفرنسي الذي وللمرّة الأولى، يقدّم جردة حول علاقة السينما ليس بالفلسفة – وبخاصة الفينومينولوجيا – وحدها، بل كذلك بعلم النفس، وبعلم الجمال؛ وباختصار، بنحو دزينة من العلوم ومحتويات الأفكار. وأزعم هنا كذلك أن قراءتي لهذا القاموس خمس مرّات خلال اشتغالي عليه ترجمة وتصحيحًا وتدقيقًا، قد أحدثت لديّ خلال السنوات الأخيرة انقلاب جديد في حياتي الفكرية، وجعلتني أضيف إلى نظرتي السابقة للأفلام وصانعيها نظرة أخرى.
5- هل بإمكاننا القول إنّ السينما وسيط فلسفي، ومتى نقول عن فيلمٍ ما بأنه متفلسف فعليًا، وهل في وسع الأفلام أن تصبح أدوات للاستقصاء الفلسفي، وما السِّمات الجوهرية التي تمنح السينما قاعدة جذابة للتأملات الفلسفية؟
لا، لا أعتقد أنّ السينما يمكنها أن تكون وسيطًا فلسفيًا، لكنها بالتأكيد مادة مميزة للدراسة الفلسفية، كما هي مادة للدراسة التاريخية، ومادة لدراسة تطور فن التمثيل أو تطور التقنيات. وهي بالتأكيد وسيط لدراسة تطور المجتمعات واكتشاف مجتمعات وحيوات كانت بالنسبة إلى فردٍ ما أو إلى مجموعةٍ معينة من البشر، غير معروفة. وفي هذا الإطار قد يمكنها أن تفتح مجالًا لاستقصاءٍ أنثروبولوجي يفضي بدوره إلى استنتاجاتٍ فلسفية. لكن في إمكانها- وهذا أضعف الإيمان- أن تتناول تاريخ الفلسفة لتنشره بين جمهور عريض، كما فعل روبرتو روسيلليني حين حقّق أفلامًا للتلفزيون بلغته السينمائية المميزة عن سقراط وباسكال وغيرهما، أو كما فعل الزوجان جان ماري ستروب وهيلييه حين اقتبسا موت أنبادوقلس سينمائيًا، أو حين حُقّقت أفلامًا حتى عن فتغنشتاين أو المركيز دوساد، أو فعل الروسي سوكوروف حين اقتبس الجانب الفلسفي من «فاوست غوته» كخاتمة لرباعية عن دكتاتورييّ القرن العشرين.
وهنا أيضًا يمكن للائحة أن تطول طبعًا. أما بالنسبة إلى السِّمات الجوهرية التي تسألين عنها، فأعتقد بأنها تلامس ما قد أُسمّيه: «الجانب الفلسفي في التحليل النفسي»، على اعتبار أنّ السينما ومن دون سائر الفنون ربما تكون الفن الأكثر قدرة -من خلال مرونة كادراتها، وتنوع لقطاتها- على التوغّل في نفسية الشخصيات التي تصورها كاميراها، ناهيكِ على قدرتها على سبر أغوار وأفكار الشخصيات من خلال تيّار وعي خاصّ بها، يمكنها التسلل عبره إلى دواخل الشخصيات، وهو أمرٌ يمنح تلك الفرصة للتأمل الفلسفي الذي طبّقه روسيليني في شرائطه الفلسفية.
6- هل لتطبيق اللغة الشِّعرية الساحرة التي يصعب تتبعها في الأفلام دور في غياب التأمل النظري الفلسفي للسينما في اللقاء بين الاستطيقا والنظرية السينمائية، ما علاقة التأمل النظري للأفلام بالفيلم السينمائي ذاته، وهل صياغة استطيقا السينما هي من خلقت النقد السينمائي؟
إذا كنتُ قد فهمت هذا السؤال جيدًا، أعتقد أن ليس لنا أن نقول بأنّ هناك مسؤولية ما تقع على اللغة الشِّعرية الساحرة «التي يصعب تتبعها في الأفلام»، إلاّ إذا حددنا بالقول أنّ ذلك يصعب على مَن تحديدًا؟. فمثلاً لغة تاركوفسكي الشِّعرية قد تكون الأصعب في الوصول إلى الجمهور العريض، لكنّ جمهورًا معينًا يشاهد «المرآة»، أو «ستالكر»، أو حتى «طفولة إيفان» الذي قد يكون أكثر أفلام تاركوفسكي سهولة، ومع ذلك لم يمنع هذا، الفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر من أن يكتب عنه واحدة من دراساته السينمائية النادرة بنصٍّ فلسفي عميق.
مهما يكن إذا شئنا أن نصل هنا إلى النقد السينمائي الحقيقي، سأقول نعم، إنّ التوق إلى صياغة استطيقا خاصة بالسينما هو الذي خلق النقد السينمائي، ولا أتحدث هنا عن المتابعات الصحفية للأفلام والتي تُسمّى اليوم «نقدًا» بالطبع، ففي نهاية الأمر كل تطلّع لكتابة نقدٍ ما، سواءً كان سينمائيًا أو أدبيًا أو تشكيليًا، إنما هو مشروع فلسفي وكل تطلّع لخلق جمالياتٍ ما هو مشروع فلسفي.
آمل هنا أن يؤخذ تصوّر خلق مشروع فلسفي بالمعنى العريض لكلمة «فلسفة» لا بالمعنى التقني الضيق. وفي رأيي أن هذا الارتباط منذ «لاؤوكون» ليسنغ، وحوارات غوته مع فينكلمان، واشتغال كانط على «نقد ملكة الحكم» – ولمَ ليس منذ «ريتوريكا» أرسطو؟- بين الفلسفة والجماليات هو المؤسس الحقيقي للرغبات التي هيمنت على المفكرين مُذ وجَدوا أنفسهم يجابهون هذا الفن الجديد «السينما»، ليتحول اليوم إلى نوعٍ فكري يخوضه فلاسفة كِبار على خطى دولوز، ويجعل فيلسوفًا صعبًا ومغرقًا في التقنية كبودريار لا يتورع عن كتابة دراسة بالغة العمق عن فيلم «ماتريكس» كموضوع فلسفي.
7- ما مدى أن يؤدي التدخل الفلسفي في العمل السينمائي، إلى التقليل من عملية التلقي الجمالي للصورة السينمائية، متى يحصر الفيلم كمجرد مضمون لمحاولة صبغه بالصبغة الفلسفية، وهل «الفنّ ليس جعبة لعرض الأفكار»، كما يقول ميرلوبونتي حقًا؟
صدق ميرلو بونتي في قوله الذي يذكرني بما يقوله مواطنه أندريه مالرو، من أنّ الإكثار من الشرح والتفسير لجسد الحبيبة يحدّ من رغبتنا فيها. ولا أعتقد أنّ من مهام المبدعين أن يتقصدوا الإكثار من التفكير الفلسفي وهم ينجزون أعمالهم، إذا كان هذا هو المقصود بالسؤال. أما بالنسبة إلى «التلقّي الجمالي للصورة» وعلاقته بالفلسفة، فلا أعتقد أنه حقيقة واقعة فالمتلقّي يتلقى جماليًا بشكلٍ عفوي وذهنه يشتغل لاحقًا على ما تلقاه، بل أزعم أن المتلقي الطبيعي لا يفكر حتى نقديًا فيما يجابه العمل الفني للمرّة الأولى. وأنا شخصيًا كناقد يحدث لي كثيرًا وربما غالبًا، أن أفرّغ ذهني من كل رغبةٍ تفسيرية نقدية فيما أشاهد الفيلم لاستمتع به كعمل فني، ثم أبدأ بالتفكير فيه لاحقًا وبعد زمن وربما بعد أن أشاهده مرّة ثانية بل ثالثة إن أثار اهتمامي حقًا. أما بعده الفلسفي فسوف يتكوّن لديّ بالتدريج عبر ذلك الارتباط الذي يقيمه الفيلم مع تاريخي وجملة أفكاري. وأزعم أن تلك العملية، عملية التلقّي المتعددة المراحل، هي التي تجعلني شخصيًا بعد مشاهدة الفيلم غير ما كنت عليه قبل ذلك.
8- كيف أثّرت تقليدية تلقّي الأعمال النخبوية من كتب وفنون وإنتاجات سينمائية على إيصال جوهر تلك الأعمال و قوّتها التأثيرية للجمهور العريض الذي لم يتبع خطى النهضويين، ومتى يجب على السينمائي استيعاب مغزى النصّ التراثي لينقله إلى الشاشة؟
في الواقع منذ فترة طويلة ومع تزايد الوعي السينمائي بفضل المهرجانات والتحولات الحاصلة في الوعي العام لاسيما لدى الشباب، بتُّ أحبّ الاعتقاد بأنّ بين السينما السائدة، الجماهيرية وليس الشعبية -يجب دائمًا التفريق بين المفهومين- والسينما النخبوية، ثمّة مستويات وسطى تحول دون أن يكون تلقي الأعمال النخبوية «تقليديًا»، بمعنى أنه صار هناك جمهور ربما يزداد حجمًا وتأثيرًا يمكنه دون أن يدنو كثيرًا من نخبوية تنغلق عليه، يمكنه أن يتلقى سينما مميزة هوليوودية أو غير هوليوودية، خاصة الأفلام التي تأتي من دول المنظومة الاشتراكية السابقة وقد تخلّصت من ربقة الإيديولوجيا، كما من بلدانٍ آسيوية باتت أكثر إنتاجًا وتوزيعًا لأفلامٍ جيدة الصنع مميزة المواضيع تعبّر بشكلٍ أفضل عن مبدعيها، وعندنا أيضًا من بعض البلدان العربية التي دخلت على السينما متأخرة فأبدع مخرجوها حساسيات سينمائية جديدة، ومن اللافت أن عددًا من هؤلاء المخرجين مخرجات في الواقع، كما في فلسطين وتونس على سبيل المثال. وهذا ما يجعلني أقول متفكهًا لمن يخبرني بأنّ السينما تموت: حسنًا تموت السينما، يعيش الفيلم!
أمّا بالنسبة إلى مسألة التراث وقدرة السينما على التفاعل مع جوانبه النهضوية، فإن الأمر لا يزال ومنذ ما لا يقلّ عن نصف قرن مشروعًا قيد التحقّق! دون أن ننسى هنا المثال الفذّ الذي قدّمه يوسف شاهين في «المصير»، عن جزءٍ من مسيرة ابن رشد، فيما لم يوفّق السوري سمير ذكرى في تقديمه عبر فيلمه «تراب الغرباء»، عن سيرة عبد الرحمن الكواكبي. مضى نصف قرن منذ «ثورة استعادة التراث»، إبان ما أسميه بـ«النهضة الثانية» التي أعقبت هزيمة 1967، التي كشفتنا أمام أنفسنا بأكثر مما كشفتنا أمام العالم، ولا زلنا ننتظر سينما يحقّقها مبدعون «يستوعبون مغزى النصّ التراثي!»، واستطرد هنا مع سؤالكِ التالي إذ لا ينفصل عن سابقه، لأجيبكِ بأنّ المسرح حلّ المسألة منذ توفيق الحكيم، إلى قاسم محمد في العراق «بغداد الأزل بين الجِدّ والهزل»، مرورًا بألفريد فرج، وعبد الرحمن الشرقاوي، ويوسف إدريس في ستينيات مصر، ويعقوب شدراوي، والمحترف في لبنان، والطيب صديقي في المغرب ورفاقهم، مدركين أنّ «التراث» في نهاية الأمر ملكيّة عامة.
ولنلاحظ أنّ كوروساوا حين أفلم «الملك لير»، أو «أبله دوستويفسكي» مثلاً، لم يتوقف عند هذه المسألة، بل اعتبر كل ذلك الإنتاج ولا سيما بعد رحيل مبدعيه الكِبار، ملكًا للبشرية جمعاء تمامًا، كما فعل بيتر بروك حين مسرح «الماهابهاراتا»، أو أفلم «الملك لير». ولذا لا يكون التدخل في التراث استشراقًا، إلاّ حين يقتبسه التافهون.
9- بحسب بورخيس الكوميديا الإلهية: «أفضل كتاب أنتجه الأدب على الإطلاق». برأيك ما مدى تأثّر دانتي بـ استعراب أوروبا حينها في استلهامه لـ «رسالة الغفران» للمعري في هندستها للتصوّر الطوبوغرافي للعوالم الأخروية، ولمَ اكتفى أليغييري بعنوان: «الكوميديا» فقط، في حين مُنحت عذابات البشر لاحقًا صفة «الإلهية» لا «التراجيدية» المفترضة؟
ليس من الصعب موافقة بورخيس على رأيه، ومع ذلك يمكن أن نُحصي عشرات الكتب ونعتبرها «أفضل كتب أنتجتها البشرية»، ابتداءً من «ألف ليلة وليلة»، باعتراف بورخيس نفسه في محاضرة له، وصولاً إلى «هاملت» شكسبير، و«الإخوة كارامازوف»، و«موبي دك»، ولمَ ليس روايات ماركيز، وباموك، ونجيب محفوظ، وديوان المتنبي، وإنجازات فرنان بروديل حول البحر الأبيض المتوسط … فالمسألة في نهاية الأمر نسبية.
ولفتني أنّ غودار الراحل حديثًا، كان يصرّ كلما أجاب على سؤالٍ هام يُطرح عليه بأن يبدأ جوابه قائلاً: «هنا، والآن…»؛ قاصدًا أنّ إجابته قد تكون شيئًا آخر لو طُرح عليه السؤال بعد حين. أما استلهام دانتي للمعري فجزء كما يبدو لي من التلاقح الحضاري العام يتشابه مع ولادة الرشدية في أوروبا استلهامًا من تفسير ابن رشد لأرسطو.
لذا نعم، بالتأكيد أنّ دانتي قد تأثّر إلى حدٍّ كبير، ولكن في جزءٍ فقط من «كوميدياه الإلهية»، برسالة الغفران التي قد تكون قد تأثّرت بدورها بنصوصٍ شرقية سابقة عليها تتحدث جميعًا عن نزولٍ ما إلى العوالم السفلية، مثل ملحمة جلجامش السومرية، وكتاب الموتى المصري وما إلى ذلك. ولنضف إلى ذلك أنّ أوروبا كانت منشغلة بالفعل في زمن دانتي بالمؤثرات الفكرية وربما أيضًا الدينية التي كانت تصلها من العرب عن طريق الأندلس، وفي يقيني أنّ هذا الأمر بات متفقًا عليه بين مؤرخيّ الفكر.
10- كيف شكّلت السينما بصريتها السِّحرية لكي تكون الفن الوحيد الذي يمكن أن يوصل إلى قناعة تقديم الحقيقة الواقعية بوصفها حُلمًا لا أُمنية مصوَّرة في الذهن، وما فائدة الكتب النظرية عن السينما في الرفع من جودة العمل السينمائي؟
لم يكن في وسع السينما إلاّ أن تفعل ذلك وربما انطلاقًا من كونها جامعة للفنون فيها اللفظي والبصري والتعبيري والانطباعي، بجانب الأبعاد الفلسفية والتحليل-نفسية. كانت تلك ميزتها وقدرها في قرنٍ انتقلت فيه الصورة، لتصبح رفيقة للحياة والصورة المتحركة، لتصبح شيئًا يشبه الحياة نفسها. وبهذا المعنى اعتبرت السينما عن حقٍّ مصنع الأحلام.
ففي نهاية الأمر بدأت السينما حياتها كحكاية تُروى، سواءً كانت سينما روائية أو سينما وثائقية، مضحكة أو مبكية، أو بين بين، فهي بهذا المعنى تمكنت بسرعة من أن تخلق للجمهور طبيعة ثانية عبر إعاشته في عتمة الصالة السينمائية ما معدله ساعة ونصف من الزمن يغوص فيها في وحدته أمام ما بدا له حلمًا أو تغريبًا عن واقعه. وبهذا تحولت السينما بالنسبة إليه إلى حلم يقظة سيفضّل هو أن يكون بديلاً لحياته الحقيقية، وغالبًا عبر تماهٍ يقيمه مع الشخصية التي يؤثرها بين تلك التي يراها على الشاشة ويعيش معها أفراحها وأحزانها وكل ما يشبه ذلك. ولم يكن من الصعب والحالة هذه أن ينتقل المتفرج من الأمنية إلى الحلم فإلى واقعٍ متخيّل يصبح بالنسبة إليه واقعًا أكثر حقيقية من الواقع نفسه (ولنتذكّر هنا، فيلم «زهرة القاهرة القرمزية» لوودي آلن، حيث يفضي تولّه الشخصية التي تؤديها ميا فارو كمتفرجة تدمن على فيلمٍ واحد أغرمت ببطله، إلى جعل البطل يبارح الشاشة لينضم إليها).
الكتب وغيرها من الدراسات النظرية التي ساهمت حقًا من رفع مستوى الجودة السينمائية، من خلال تفاعل السينمائيين أنفسهم معها. فأنا لا زلت عند رأيي القديم من أنّ الثقافة السينمائية العريقة لا تعني سوى السينمائيين أنفسهم، وهي لئن أثّرت في آخرين فإنما تأثير عابر إلاّ إذا كانوا أصلاً يسعون إلى أن يصبحوا سينمائيين. وأكاد أستثني من هذا الحكم جمهور نوادِ السينما التي ساهمت في خلق نخبٍ، لكنها تكاد تختفي كلية اليوم.
11- «آلة لإعادة إنتاج الحياة الحقيقية»، بالرغم من هذا الوصف الذي أطلقه الأخوين لومير على السينماتوغرافيا في براءة اختراعهما، إلاّ أن خلال تاريخ السينما حظيت قضية الواقعية باهتمام صُنّاع الأفلام أكثر من اهتمام النقاد النظريين، هل كان هذا من قبيل الصدفة فقط أم أن موضوع الواقع لا يعبّر عن رؤيا ذات معينة؟
أعتقد أنّ جوابي على السؤال السابق يتضمن جزءًا كبيرًا مما قد أجيب به على هذا السؤال. ومع ذلك سأوافقكِ الرأي وأقول بأنّ رغم كل شيء كان هناك ثمّة على الدوام هوّة ما بين نظرة النقاد النظريين والسينمائيين من صُنّاع الأفلام، إلى قضية إعادة إنتاج الحياة الواقعية. فالسينمائيون يفعلونها وكأنها من نافل القول حتى دون أن يتوقفوا عندها نظريًا. ولعلّه يجدر بنا في هذا السياق ذاته أن نتذكر كيف أنّ تيارًا سينمائيًا كبيرًا كان له تأثيره الأكبر في تاريخ السينما هو تيار ما سُمي بـ«الموجة الفرنسية الجديدة»، وكان من ميزاته الرئيسة أنه بعدما أسس النقد السينمائي الحديث عبر مساهماته في «كراسات السينما»، انصرف معظم أفراده إلى الإخراج وبخاصة على خطى فرانسوا تروفو و«ابتكاره» لسياسة سينما المؤلف. وهم حين صاروا مخرجين توقفوا عن ممارسة النقد، ولم يعودوا إلى الحديث عن أية واقعية أو عن أية إعادة إنتاج للحياة، حتى وإن كانت سينماهم قد فعلت ذلك.
أمّا غودار بعد أن قدّم في أفلامه دروسًا هائلة في كل أنواع السينما، وناضل سياسيًا من خلال أفلامه وأقواله، وجدناه ينتقل مباشرة إلى التأريخ للسينما لا إلى التعامل معها كناقد، وذلك من خلال كتابه اللامع «تاريخ (تواريخ) السينما»، والأفلام التلفزيونية التي كانت أساسًا له بكل ما تحمله من لغةٍ أدبية مرموقة. ولكِ على أية حال أن تستنتجي من هذا الواقع ما تشائين كردٍ على تساؤلكِ حول الصدفة أو حول أنّ موضوع الواقع لا يعبّر عن رؤيا معينة.
12- «يكفي مسدس وفتاة لصناعة فيلم»، برحيل غودار الأسطورة التي أدخلت السينما في حداثتها، هل ستدخل سينما المؤلف الحُرّة والمستقلة مرحلة جديدة يترأسها جيل مدارس السينما بعد الجيل المثقف الذي تحدّر من الشارع ومن روح المعارضة؟
بكل وضوح لا أعتقد بأنّ رحيل غودار – وهو رحيل مؤسف وأحزنني شخصيًا، كما أحزن كُثرًا من محبيّ فن هذا المبدع ومحترميّ شخصيته – سيغيّر من الأمور كثيرًا، ففي نهاية الأمر غودار من الشعراء الذين ستبقى أغانيهم محلّقة حولنا في كل مكان، كما تقول الأغنية الفرنسية الشهيرة.
أمّا بالنسبة إلى سينما المؤلف والسينما المستقلة، فهما حاضرتان منذ زمنٍ بعيد، وإن كان غودار ورفاقه قد أثرَوا وساهموا في حضورهما. ونعرف أنّ النقاد الفرنسيين الذين كانهم تروفو، وغودار، وشابرول، ورومر وسواهم، قد اكتشفوا حتى في هوليوود الخمسينات والستينات مخرجين مؤلفين وسينمائيين مستقلين في فكرهم تمكن بعضهم من فرض رؤاهم حتى على الاستديوهات الكبرى. ويقينًا أن مخرجين من أمثال: بريمنغر، وهتشكوك، وهستون، وحتى وايلدر، ونيكولاس راي، وصولًا طبعًا إلى جون كازافتس، ثم لاحقًا إلى دافيد لينش، وتيم بورتون، وجيم جارموش، دون أن ننسى وودي آلن وغيرهم، كانوا أول من دُهش حين «اكتشفوا»، اكتشاف الفرنسيين لهم وشعروا بالامتنان لذلك طيلة حيواتهم بعد ذلك.
وفي بدايات سبعينيات القرن العشرين سيكون لفرنسيين آخرين -وخاصةً على صفحات «دفاتر السينما»، و«بوزيتيف»، رغم تنافسهما الذي كان يصل إلى حدود التناحر- دورًا كبيرًا في مساندة سينما «أصحاب اللحى»، من أمثال كوبولا، وسبيلبرغ، ودي بالما، وسكورسيزي، ولوكاس وغيرهم من الذين سرعان ما باتوا هم سادة هوليوود الكِبار ممهدين لوصول سينما تارانتينو، والأخوين كون وغيرهم. ويقيني أنّ هؤلاء جميعًا مؤلفون سينمائيون بشكلٍ أو بآخر ويمكنهم أن يفرضوا استقلالهم حتى على أشرس الاستديوهات، بغودار أو بدونه، بعدما صاروا حجر الرحى في المهرجانات وفي الصالات. بل صاروا داعمين لمهرجاناتٍ مستقلة بدورها مثل «صاندانس». ولكن بالطبع لا يمنع هذا من أنّ غودار كان وسيبقى بعد رحيله أسطورة لا نبجّلها نحن فحسب، بل كِبار سينمائييّ العالم أيضًا؛ هو الذي جعل السينما منبرًا لقول الكلام الرائع، وبالنسبة إلينا منبرًا لإبقاء اسم فلسطين في ذاكرة واهتمامات جمهوره الكبير والذكي بالتأكيد.
13- في باريس ما بين زمن: «سوف ترون، ربما كنتم جميعًا على صواب، وربما كنتم جميعًا على خطأ»، وزمن: «ربما سأنجز هذا الفيلم الإضافي، لكن الحماسة تبخّرت بقدرٍ كبير»، هل تغلّبت تدمير سمعة لا عدمية المخرج الكبير وودي آلن على كوميديته ومخيّلته الإبداعية المشتعلة أخيرًا؟
أعتقد أنّ وودي آلان ومهما جابهه من صعوبات، يبقى حالة فنية استثنائية، بل حالة فكرية شديدة الخصوصية؛ يمكننا أن نحكم على هذا من خلال مواقفه واختياراته الفنية التي تعلّمنا كيف نتعايش معها خلال ما لا يقلّ عن نصف قرن. ولكن خاصة أخيرًا من خلال الكتاب الذي أصدره بعنوان: «على فكرة»، يرسم فيه شيئًا من سيرته، لكنه يخصص معظم صفحاته للدفاع عن نفسه في وجه ما تعرّض له أخلاقيًا وعائليًا.
والحقيقة أنّ الكتاب الذي قرأته بشغفٍ تمكن من إقناعي بعدالة قضيته وبأنه مفترى عليه أكثر مما هو مفتري. طبعًا لا أريد هنا أن أتوغل في مثل هذه المواضيع الخاصة، لكنني فقط أشير إلى قوة الإقناع في أسلوبه وهي تماثل ما يمكنه أن يقنعنا به من أمورٍ خيالية تملأ بعض أفلامه الأكثر سحرًا. أوليس هذه معجزة أخرى من معجزات السينما؟ وكل ما أخشاه أن يكون هذا فيلمه الأخير، فسينماه ممتعة وذكية ومن الخسارة أن يتوقف حضور جديدها في حياتنا.
14- هل من مهام الفن الرئيسة أن يكشف عمّا هو إنساني وعميق داخل الشخصيات السينمائية التي نعتقدها على الدوام هامشية تغرد خارج المجتمع وخرافاته وقوانينه العبثية، ما الهامشي مقارنة بالاجتماعي في السينما، ومن يحدد تموضع هذا من ذاك؟
لا شك أنّ السطر الأول من هذا السؤال، وإن كان يطرح كفرضية، يحمل جوابه في نفسه، بل يتناول واحدة من مهام الفن، والفن السينمائي استطرادًا، الأكثر نبلاً مع أنني أميل إلى استعمال تعبير «يساهم في اكتشاف»، بدلاً من «يكتشف»، لأن المتلقّي هو الذي سيكتشف ما يقترحه عليه العمل السينمائي.
أمّا بالنسبة إلى مسألة الهامش فهي هنا عين الصواب بالنسبة لي، لأن كل فنّ حقيقي يلعب دوره في الحياة ويبدلها إلى الأفضل ويمنحها معنىً جديدًا، هو بالضرورة فنّ هامشي يغرد خارج ما هو سائد بل جامد في المجتمع من خرافاتٍ وقوانين عبثية. وما الذي يحدد كينونة الهامشي ودوره؟ فهي تلك المسافة الزمنية والمكانية التي تفصل/تصل بين لحظة البثّ ولحظة التلقّي، خالقة ذلك الوعي التجديدي دائمًا، والمتجاوز دائمًا، والحميم دائمًا، ومن ثمّ: التغييري دائمًا.
15- من منطلق اهتمامك الكبير بالسينما العربية ما الأزمات التي تمرّ بها السينما العربية خلال المراحل الانتقالية التي تمرّ بها المجتمعات العربية من اختلاف في التوجهات والقضايا التي تشغلها، وما الأفلام العربية التي عبّرت عن هذه المراحل، ومن هو المخرج العربي الذي تعتقد بأنه حوّل السينما العربية إلى فنِّ من الفنون الجميلة؟
الأزمات كثيرة قد تبدأ بأزمة التمويل ولا تنتهي بأزمة افتقار مجتمعاتنا العربية منذ القدم إلى الرغبات الانتقادية. ونعرف أن لا مفعول لفنٍ لا يحمل نظرة انتقادية. وهناك تقليدية المجتمعات العربية وصولاً إلى ضيق الأسواق، وهذا كله تنضاف إليه اليوم أزمة حضور الصالات في حياتنا؛ فهي التي كانت رمز الانطلاقات الاجتماعية للطبقات المدينية الوسطى مع بدايات القرن العشرين، الطبقات التي كانت الباني الحقيقي للأوطان والمحدّث الحقيقي للمجتمعات، إلى آخر ما هنالك. بيد أنني من الصعب أن أرى بأسًا في ذلك كله.
الفنون الكبرى، الفنون الحقيقية، لا تولد إلا من رحم لحظات التأزم خالقة في طريقها ذلك الوعي الذي يساعد على ذلك التجاوز لضروب التأزم. أفلام عربية كثيرة عبّرت عن هذه التوجهات في رأيي لكنها يجب أن تُسمّى بأسماء مبدعيها في إجابةٍ على الشق الأخير من هذا السؤال الهام: فهي أفلام تمتد من يوسف شاهين، وصلاح أبو سيف، وبركات، وتوفيق صالح، لتصل إلى سينما إيليا سليمان، ويسري نصر الله، وأحمد عبد الله، وتامر السعيد، وهيفاء المنصور، وكوثر بن هنية، ولكن مرورًا ببداية خالد الصديق، وعمر أميرالاي، ومحمد الأخضر حامينا، ثم محمد خان، وخيري بشارة، وداود عبد السيد، وعاطف الطيب، وجرأة إيناس الدغيدي في طرحها. ولو أنّ الجماهيري أحيانًا لمواضيع ما كان من السهل طرحها، طرح جرّ في ثلمه مخرجات رائعة مثل مفيدة التلاتلي وغيرها. وكل هؤلاء معًا حوّلوا السينما العربية إلى فنٍ متقدّم من الفنون الجميلة، وساهموا في اكتساب نخب عربية وعيًا إضافيًا.
16- «السعوديون في مرحلة بناء تاريخ سينمائي». من هذا الجانب، هل يجب على الفنون أن تتخطى مرحلة البناء، وما مدى أن يساهم الخروج من مرحلة البناء في دخول الفنون إلى المتحف على غرار ثورة موجة مخرجيّ هوليوود إبان السبعينيات؟
في الحقيقة الفنون حين تتخطّى مرحلة البناء لا يعود لها وجود، بل تتحول إلى مجرد حرفة وفلكلور. أما السعوديون الذين يجدون أنفسهم اليوم أمام ثورة اجتماعية قد تكون بالغة النعومة والهدوء، فإنهم يبدأون من الصفر تقريبًا بعد المحاولات الأولى لروّاد سينمائيين غامروا براحة بالهم ووقتهم ومالهم الخاص؛ لكي تُخلق سينما سعودية من العدم، وأنا أقول هذا وأفكر خاصة بعبد الله المحيسن، وكذلك بهيفاء المنصور اللذين خاضا السينما من حيث لم يكن أحد يتوقع، وكانا كما تقول الأمثولة كمن علّق الجرس في ذيل الثعلب.
ولنعد هنا إلى مفهوم البناء لأقول إنّ المشروع السينمائي مشروع دائم، مشروع قيد التكوّن بشكلٍ متواصل، فبناء السينما ليس متطابقًا بالنسبة إليّ مع إقامة صناعة سينمائية؛ إذ لكل من العمَلين دوره الهام وقد يتزامنان. والدخول إلى المتحف غير الدخول إلى حياة الجمهور العريض. لكن المطلوب من السينمائيين السعوديين اليوم هو تحقيق المشروعين معًا، مع إدراك الفوارق بينهما.
أمّا بالنسبة إلى الحالة الهوليوودية في السبعينات فإنها تختلف تمامًا ولربما كانت مهمة سكورسيزي، وكوبوبولا ورفاقهما هناك أكثر صعوبة بكثير من مهمة الناشطين السعوديين، لتحقيق أفلام أو لإقامة صناعة. وتحديدًا لأن التراث السينمائي الهوليوودي كان ولا يزال إنما بدرجةٍ أقلّ اليوم: إرثًا مكبّلاً.
17- لتواجدك الدائم في مهرجانات السينما العالمية، كيف وجدت مهرجان أفلام السعودية، وما المعايير التي يجب على النهضة السينمائية السعودية الجديدة أن تقوم بها لتخرج من مكة إلى مهرجان كان والأوسكار فعلاً؟
لقد استمتعت كثيرًا بهذا المهرجان وأدهشني الشبّان – ولا سيما الشابّات – المشاركون فيه بنشاطهم وتفاؤلهم واهتمامهم كل هذا الاهتمام الرائع بفنٍ يُزعم في مناطق أخرى من العالم أنه يُحتضر. ورأيت نوايا طيبة جدًا لدى جيل ينهض وكأنه آتٍ من اللّامكان. والحقيقة أن كُثرًا سوف يتذكرون هذه اللحظات التأسيسية بعد سنواتٍ طويلة. قد يضحكون كثيرًا ويتندرون، لكنهم سيفخرون بأنهم كانوا في عداد الذين عاشوا هذه «الثورة» الهائلة في الذهنيات، التي عبّر عنها المهرجان السعودي خاصة وأنه لم يأت من عدم؛ بل من تجارب عديدة سابقة قام بها روّاد وناشطون شبّان، كانوا يشعرون بأنهم يتحركون في فراغٍ وبلا آمالٍ كبيرة.
اليوم لم يعد الفراغ كبيرًا والآمال باتت جدية. لكن وإن كنت أتمنى، بل أتوقع أن تصل السينما السعودية إلى كان والأوسكار، وهو حقّ مشروع للسينمائيين وفي مقدورهم ليس فقط توقعه بل العمل بجهدٍ لتحقيقه، إلاّ أنّي أحبّ أن آمل بأن يصل السينمائيون السعوديون إلى السعودية نفسها، أيّ إلى جمهورٍ عريض فيها، وذلك بالتواكب مع مبدعين آخرين من مسرحيين ورسامين وروائيين ومحللين نفسيين وفلاسفة، فالسينما بحاجةٍ إلى الجميع في نهاية الأمر، والمجتمع السعودي لا يحتاج فقط إلى أن يُعبَّر عنه في أعمالٍ صادقة تلامس الحياة وتصنع جديدها، بل يجتاج كذلك إلى أن يتعرّف على نفسه من خلال رؤى مبدعيه. فلو تحقّق له هذا، لن تكون «كان» صعبة ولا الأوسكارات حلمًا مستحيلاً.
18- حدّثنا عن مرحلةٍ من مراحل حياتك لها مكانة ونكهة مميزة بارزة أثّرت في مسيرتك الثقافية والصحافية والسينمائية، وهل تدوين تاريخ تراث الثقافة ما هو إلاّ تدوين لسيرتك الذاتية؟
أجل بالتحديد هو تدوين لسيرتي الذاتية. وهذه الفكرة بالتحديد تخطر دائمًا في بالي منذ بدأت في «الحياة»، زاويتي اليومية «ألف وجه لألف عام»، وهي الزاوية التي أتابعها منذ ثلاث سنوات في «إندبندنت عربية» وقد طورتها. ففي الحالتين وعبر نحو 4000 مقالة يومية حتى الآن، كتبت بالتأكيد سيرتي الذاتية، من خلال إبداعات الكِبار التي صنعتني، من أوبراتٍ إلى أفلامٍ إلى لوحاتٍ ورواياتٍ ومسرحياتٍ وأشعارٍ ونصوصٍ فلسفية، بجانب الفكر السياسي والحديث عن العمران؛ إلخ.
لكن في عودةٍ إلى الجزء الأول من السؤال لعلَّ ثمّة مرحلتين في حياتي صنعتا ما أنا عليه اليوم. الأولى، في روما أوائل سبعينيات القرن العشرين، إلى جانب عملي ودراستي السينمائية، تعرّفت على العديد من الفنون العالمية ميدانيًا من خلال نوادي السينما، ورفاق في تنظيم المانفستو الذي تعاونت معهم فيه فيما يتعلّق باهتمامهم بالقضية الفلسطينية، ما أتاح لي أن أقرأ كثيرًا وأشاهد الأوبرا والمسرحيات العالمية، بل حتى المشاركة في تحقيق زملائي الطلاب في «التشنترو سبيريمنتالي»، مشاريع التخرج مرّة ككومبارس، ومرّة كمساعد مخرج، وأحيانًا كمشارك في كتابة السيناريو وما إلى ذلك. لقد كانت المرحلة الأكثر غنىً في حياتي بالتأكيد.
أمّا المرحلة الثانية، التي لا تقلّ عنها غنىً فكانت في باريس، حينَ انتقلت إليها مع عائلتي وأطفالي هربًا من طائفية الحرب اللبنانية، وتولّيت مسؤولية القسم الثقافي في مجلة «اليوم السابع» التي كانت تصدرها منظمة التحرير، طوال ست أو سبع سنوات. هنا كانت إطلالتي الكبرى والأهم على العالم والسياسة وكواليسها، ما أزال عن عينيّ غشاوة ربما كانت لذيذة في حدّ ذاتها لكنها كانت خادعة. وهكذا في صحبة محمود درويش، وبلال الحسن، والطاهر بن جلون، وجوزف سماحة وغيرهم، وكذلك في صحبة نخب عربية كبرى من قرّاء المجلة منتشرين في شتى أنحاء العالم الذين كنت أتواصل معهم بصورةٍ يومية، لأنني أصررت حينها على أن أتولى بنفسي بريد القرّاء -وأيّ قرّاء! -، إلى جانب رئاستي للقسم الثقافي، فكان لا بد أن يحدث ذلك كله تبديلًا أساسيًا في حياتي، التبديل الذي أعيشه منذ ثلث قرن. والذي لولاه لما تمكنت من ذلك التدوين لـ«سيرتي الذاتية»، من خلال ما أبدعته تلك العقول الجبارة التي أنتجت طوال ألف عام وأكثر ما أضاف إلى حياتنا تلك الإبداعات الخالدة في كل المجالات.
19- كلمة أخيرة لمعنى، وما التطلّعات النقدية والفكرية والسينمائية التي سنرى نتاجها قريبًا؟
إن كان السؤال يتعلّق بما أشتغل عليه الآن. هو بالتأكيد كثير وكورونا هي السبب. فلقد تزامن حلول كورونا في العالم وإرغامها الناس على ملازمة بيوتهم خوفًا من العدوى، مع توقف العمل اليومي في صحيفة «الحياة». ولما كنت رغم إقامتي والعائلة في باريس منذ بدايات سنوات الثمانين، قد احتفظت بأوراقي وأرشيفي في بيروت؛ إذ إنه أضخم من أن تتسع له أية شقة باريسية (!)، وجدت نفسي مفضلاً الإقامة ولو لفتراتٍ متقطعة في شقتي البيروتية بين كنوزي الثقافية وأوراقي. ولما كنت قد توقفت عن السعي إلى الخروج كثيرًا من البيت، لأن المدينة لم تعد تطاق، ولأنني لا أحبّ أن أعيش تحت الاحتلال، جعلت من بيتي فسحة حريّة وعمل أيضًا، لأني بطبعي أحبّ العمل ولا أتصور أن يمضي عليّ يوم لا أكتب فيه.
وهكذا رحت أنتج وأحقّق مشاريع كنت أحلم بتحقيقها منذ زمنٍ بعيد دون أن تتاح لي فرص لذلك. وكان من بين ما أنتجته ثلاث موسوعات سترى إحداها النّور قريبًا، وهي: «موسوعة الفيلم»، من إنتاج شركة «سينيويف» السعودية، بينما نتداول حاليًا مع مؤسسة إثراء التابعة لأرامكو في شأن نشرهم أو دعمهم، وموسوعة ثانية، وهي: «موسوعة الرواية العالمية»، وربما كذلك «موسوعة تاريخ المسرح».
والموسوعات الثلاث ضخمة، حيث لا يقلّ عدد صفحات كل منها عن 1500 صفحة من القطع الموسوعي الكبير، جاهزة للطباعة. وقد ترى النّور تباعًا خلال الأسابيع المقبلة، لتنضاف إلى موسوعة «تراث الإنسان»، المؤلفة من 12 جزءًا، والتي صدرت بالفعل عن «مركز الشيخ إبراهيم»، في البحرين وتأخر توزيعها بسبب كورونا ذاتها!