
«اليأس هو أن نجهل أسباب كفاحنا، وبالضبط إن كان يجب أن نكافح»[1] – (ألبير كامو).
مع نهاية عام ٢٠١٩م، وانفجار ڤايروس كورونا الجديد، أو Covid-19 بصيغة أدقّ، من مدينة ووهان الصينية، عانى جميع سكان الأرض من انتشار هذا الوباء السريع وقاسوا من تبعاته لما يقارب السنتين. بالرغم من أنه لم يستحوذ على اهتمام الجميع بادئ الأمر، حتى دخل المدن واحدة تلو الأخرى في الشهور التالية. «والواقع أن البلايا هي شيء شائع، ولكنك تصدّقها بصعوبة حين تسقط على رأسك»، كما كتب الفيلسوف والأديب الفرنسي ألبير كامو، في روايته «الطاعون»، والتي أجدها بدورها مشابهة بشكل كبير للأحداث التي نشهدها اليوم، للأثر النفسي الذي خلّفته في نفوس المعاصرين.
إعادة قراءة الرواية للمرّة الثانية، وبتمحيصٍ أكثر خفَّفت أثر الوباء في نفوس الكثيرين، وكنتُ منهم. فالفن، ومنه السرد، «ليس صورة الحياة»، كما يقول أوسكار وايلد، ولكنه «صورة المستعرض لموكب الحياة»[2]. وكامو، بالطبع هو أحد أبرز الروائيين بالعقود الأخيرة، وأقربهم إلى الحياة الواقعية في فلسفته. فيُذكر بأن حصوله على جائزة نوبل للآداب في عام ١٩٥٧م، كان «لإنتاجاته الأدبية المهمة التي تضيء بجدية، وبرؤية واضحة، مشاكل الضمير البشري المعاصر». وبالرغم من أن الرواية كُتِبت في أوقات مختلفة، ولأسباب مختلفة، لكن أتمنى أن تقدّم هذه المراجعة نظرة أخرى للرواية في ظل حياة كاتبها وظروفه، وأن تساعد أيضًا، في فهمنا اليوم للآثار النفسية لتجربة مثل الحياة في ظل وباء كورونا الجديد.
«الغريب» والثلاثية في باريس
خلال أشهر الحرب الزائفة التي امتدت من نهاية ١٩٣٩م، وحتى الأشهر الأولى للعام التالي، أي قبيل الحرب العالمية الثانية، قدِم الصحفي وكاتب القصص القصيرة ألبير كامو، من الجزائر إلى فرنسا، محمَّلًا بالغربة وأسئلة الهوية، كما كتب في دفتر يومياته: «[مارس ١٩٤٠م]، غريبٌ وأجنبي .. أعترف بأنني أجد كل شيء هنا غريبًا وأجنبيًا». لكنه لم يترك هذه الأسئلة الثقيلة توقفه عن العمل وكتابة مشروعاته الأدبية الأبرز، وهي الأعمال التي أطلق عليها «ثلاثية العبث»؛ رواية «“الغريب»»، ومقالة بطولة بعنوان «أسطورة سيزيف»، ومسرحية «كاليجولا»، والتي بدورها اكتسبت اسمها لتناولها قضايا انعدام معنى الوجود الإنساني أو عبثه، والتي كانت سِمة طبيعية في الأعمال الأدبية تلك الفترة.[3]
منذ قدوم كامو، إلى باريس وحيدًا، تنقّل بين الجزائر وباريس لمرّاتٍ قليلة، فزوجته فرانسين، لا تزال عالقة في الجزائر بعد أن استولت عليها قوات الحلفاء، في الوقت الذي كان فيه ألبير، قريبًا من ليون يتلقى العلاج لنوبة سلّ، المرض الذي عاني منه طيلة حياته. وكان قد انتهى لتوّه من «ثلاثية العبث»، التي عمل عليها لمدار ثلاثة أعوام، والتي تحكي ثلاثيتها اضطراب تجربته بوصفه جزائريًا فرنسيًا، عالقًا بين بلدين، لا يشعر بالانتماء لأيّ منهما.
كما تعكس الثلاثية تجربته المبكرة مع الفقر أيضًا، فلم تكن عائلته ذات يسار، وغدا وضعهما أسوأ حين توفي لوسيان، والد ألبير، في العام الأول للحرب العالمية الأولى ١٩١٤م.
وُلد ألبير في يوم ٧ نوفمبر ١٩١٣م، لم يكمل عامه الأول حين حدث ذلك. فنشأ في شقة بائسة في الجزائر مع أخيه وأمه الصمّاء الأميّة، وجدّته لأمه العنيفة بطبعها، والتي لا تعرف القراءة ولا الكتابة هي الأخرى.
وهكذا كانت طفولته في عالم الصمت والغياب؛ البيت الذي لا تصله الكهرباء ولا ماء الشرب، ولا تجد طريقها إليه الجرائد ولا إذاعات الراديو ولا الكتب، مع قلّة من الزوار بين الحين والآخر، الأمر الذي يشبه العزلة عمّا يحيط به من شؤون الحياة، وانعدام الشعور بـ«عوالم الحياة» الواسعة لدى الآخرين. وللخروج من هذا المأزق، التحق ألبير، بالليسيه في الجزائر، ومنها بدأ حياته المهنية صحفيًا وكاتبًا، ولكن طفولته تركت بصمتها عليه. يكفي أن يتضمن المدخل الأول في يومياته الأولى بعمر الثانية عشر، لعبارة مثل: «العيش لعدد محتوم من السنوات بدون مال؛ يكفي لخلق حساسية كاملة».
في أحد أيام ١٩٤٣م، وخلال فترة حياته في باريس، قدّم كامو نفسه إلى أهم الفلاسفة والأدباء الفرنسيين حينها؛ جان بول سارتر، وصديقته سيمون دي بوفوار، في مسرح سارة برنار أثناء قيامهما بأحد التجهيزات لعرض مسرحية سارتر «الذباب». كانت سمعة الثلاثة تسبقهم، فقد كتب كامو سابقًا مراجعة لرواية «الغثيان»، التي كتبها سارتر، والذي بدوره قد انتهى لتوّه من كتابة مراجعة عن رواية «الغريب». تواصل الاثنين بشكلٍ جيد على الفور، قالت بوفوار، فيما بعد أنها وسارتر وجدا كامو: «ذا روح بسيطة ومرحة»، لطيفًا ودودًا أثناء الحديث، وعاطفيًا إلى درجة جلوسه على الصقيع في الشارع فجرًا، يبث لواعج حبّه.[4]
بين حياة كامو، وثلاثية العدم
قد يبدو غريبًا أن هذا الرجل الذي وصفته بوفوار، بالروح البسيطة والمرحة، يكتب بشكلٍ جيد في «الغريب»، عن الشخصية خالية الوجدان، التي لم تعبّر عن إحساسها ومشاعرها بالطريقة التي يفهمها المجتمع. ولكن ذلك يغدو مفهومًا حين عرضه على تجربة كامو، القاسية في الطفولة؛ من وفاة والده، مرضه المهدد لحياته، صمت عائلته وانفصاله. ومع ذلك، تلتقط الرواية شيئًا من تجربة زمن الحرب الفرنسية والحياة في الجزائر.
وفي نفس العام الذي نُشرت فيه رواية «الغريب»، بدأ كتيّب «أسطورة سيزيف»، بالتجلّي في مخيّلة كاتبها. وصارت هذه الأفكار بشكلها النهائي في الكتيب الصغير، لاضطراره إلى حذف فصل كامل منها عن فرانز كافكا، لأن الرقابة لم تقبل نشر مادة عن يهودي، لكن كامو -مثل غيره ممن عاش الاحتلال الألماني لفرنسا- تعلّم تقديم التنازلات في بعض الأحيان. لذا سيعلّق كامو لاحقًا، عند صدور الترجمة الإنجليزية منها عام ١٩٥٥م، بأن كتيب «أسطورة سيزيف» مدينٌ بالكثير لاكتشافه بأنه «في حدود العدمية من الممكن إيجاد وسائل لتجاوز العدمية». [5]
تحكي أسطورة سيزيف، أو سيسيفوس، من الميثولوجيا الإغريقية، عن شخصية ماكرة استطاعت خداع إله الموت ثاناتوس، مما جلب عليها سخط كبير الآلهة زيوس، مما جعله يعاقب سيزيف، بأن يحمل صخرة من أسفل جبلٍ حتى القمّة، وما إن يصل إلى القمة حتى تتدحرج الصخرة إلى الوادي، ويستمر سيزيف، في عقابه المستمر ليصبح بذلك رمزًا للعذاب الدائم. وبناءً على هذه الأسطورة، قام كامو بكتابة «أسطورة سيزيف»، التي تحيل مشاكل الحياة اليومية للطرح على الأسطورة الرمزية.
وكما كتب سارتر في رواية «الغثيان»، يشير كامو أيضًا، في كتيبه إلى أننا عمومًا لا نرى المشكلة الجوهرية في الحياة؛ لأننا لا نتوقف عن الخوض في غمارها لنتفكر فيها. فنحن نستيقظ، ونذهب إلى العمل، ونعود إلى المنزل ونأكل وننام، وهكذا كل يوم. لكن يحدث أحيانًا أن ينهار المرء فجأة، متجاوزًا انتصاراته ليتكرّر في رأسه السؤال عن الغرض من كل هذا. وفي لحظات كهذه، نجرب «السأم المشوب بالدهشة»، في مواجهتنا للسؤال الأكثر جوهرية: «لماذا نستمرّ في ممارسة الحياة؟». ثم يختتم كامو كتيبه باستئناف سيزيف لمهمته الأبدية، مستسلمًا لعبثية المهمة، ومن ثمّ «يجب على المرء تصوّر أن (سيزيف)؛ كان سعيدًا».
قد تكون أقلّهم شُهرة اليوم هي عبثيته الثالثة، مسرحية «كاليجولا»، والتي تستعيد قصة إمبراطور منحرف من القرن الأول، سويتونيوس، بوصفها دراسة حالة عن الحرية وانعدام المعنى، مدفوعة إلى حدودها القصوى. وبقيت رواية «الغريب»، وكتيب «أسطورة سيزيف»، أكثر رواجًا بين القرّاء إلى اليوم، إضافة إلى رواية «الطاعون»، التي نُشرت بعد ذلك بسنوات. بالرغم من ذلك، تظهر بين روايات كامو، وأعمال سارتر فروقات فلسفية مهمة، بين القلق الذي يعتصر روكنتان في رواية «الغثيان»، وبين الخواء الذي يجده ميرسر في رواية «الغريب».
الطاعون، والشعور العام بالنفي والوحدة
تدور أحداث رواية «الطاعون»، المليئة بالرمزيات، وأحد أشهر أعمال كامو، بعد الثلاثية، في مدينة وهران الجزائرية، أثناء تفشّي وباء الطاعون. وكانت أولى شرارات الأحداث في الرواية إذ وُجِد أحد حراس المدينة ميتًا في أرجائها بفعل الطاعون. وبطبيعة الحال، تبدأ الأحداث بعد ذلك في أخذ مجراها المنطقي، فالتعامل البشري مع الأوبئة الأكثر انتشارًا؛ يبدأ دائمًا بالعزل والحجر، لكن النقطة الأهم في تشكيل ثيمة الرواية لم يكن فعل الحجر والعزل، بقدر ما يتناول الشعور الذي تخلّفه بالانعزال.
لاختيار وباء الطاعون دون غيره في الرواية أسباب وأبعاد مختلفة، ترتبط بالفترة التي قضاها كامو، في الجزائر بشكلٍ بديهي، لكنها أيضًا، تقارب بين الحرب والوباء من ناحية الأثر النفسي المشترك، والذي يقع الجميع ضحاياهما. فقد خطّ كامو في مذكراته قبل نشر الرواية بستة سنوات: «أرغب بشيء واحد، يكون عادلًا .. وها هو الطاعون بالضبط»[6]. ولتحقيق مبدأ العدل بين الشخصيات، تفادى كامو تعيين بطل أساسي للقصة، بل تركها قصة كفاح مشتركة ومترابطة أيضًا.
يكتب كامو في مذكراته: «لا تكمن الحضارة في ارتفاع درجة الرفاهية؛ وإنما في الوعي المشترك بأكمله، والوعي هذا ليس رفاهية أبدًا»[7]، وهذا الوعي المشترك والتعاضد ضد المصائب كان مطلبًا في رواية كامو، وعي كل فرد في المجتمع المتخيّل بدوره الضروري للنجاة؛ الأطباء، الحرّاس، وعمال النظافة، وحتى أولئك الذين توقفت أعمالهم بسبب الجائحة. ما يريد كامو أن يصل إليه من حالة الطاعون في روايته، هي حالة التعاطف والاهتمام المجتمعي ببعضه، حالة التعاضد ضد هذا المرض، أو الاهتمام المتبادل بين الغرباء الذين يتشاركون المصير ذاته، حتى يصل إلى حالة من التعاطف والاهتمام المطلق الذي يحمل أيضًا، نوعًا من الأنانية ورغبة كل إنسان بالنجاة بذاته من هذا الوباء.
ويصدق على ذلك وصفه للحظات الأولى من عزل المدينة وإغلاق أبوابها، إذ يقول على لسان الراوي: «يمكن القول إن الطاعون أصبح، ابتداءً من تلك اللحظة، قضيتنا جميعًا. فحتى ذلك الحين، كان كل مواطن من مواطنينا، بالرغم مما حملته له هذه الأحداث الفريدة من مفاجأة وقلق، يتابع شواغله كما يستطيع من مكانه المعتاد. وكان مقدّرًا لهذا أن يستمر دون ريب لولا أن الأبواب أغلقت، فأدرك الناس أنهم جميعًا، بما فيهم الراوي نفسه، أصبحوا متساويين، وينبغي أن يتدبّروا أمرهم. وهكذا أصبح، على حين غرة، شعور فردي كشعور الانفصال عن حبيب، شعور شعب بكامله، منذ الأسابيع الأولى، ومع الخوف؛ الألم الرئيسي الذي يحمله زمن هذا النفي الطويل». [8]
ويمكن اختصار ذلك الشعور أيضًا بوصفه: «وهكذا كان أول ما حمله الطاعون لمواطنينا هو النفي». وهو ما نجده أيضًا في مذكراته في مارس ١٩٤٣م، إذ كتب: «المبعدون، ويوميات الإبعاد؛ لقد كان شعور الإبعاد عامًا، ومن الممكن إعطاء فكرة عنه من خلال المحادثات، البوح الخاص، والقصص التي تنشرها الصحف»[9]. بل إن مذكراته في عام ١٩٤٣م، والفترة التي تليها حملت كثيرًا من المحادثات والشخصيات التي تضمنتها الرواية في نهاية الأمر، إذ نُشرت في عام ١٩٤٧م للمرّة الأولى.
الصراع المستمر بين الخوف والمستقبل
حين يُفرض الحجر الصحي وينتشر رُهاب الاحتجاز بين المجتمع، نجد أن لكل شخصية تصرفها المختلف عن الأخرى تجاه التغيرات. البعض يحاول الفرار مذعورًا، والبعض يحاولون استغلال الموقف لمصالحهم وتحقيق مكاسب مادية، وآخرون يحاربون المرض بدرجات مختلفة من الكفاءة. وقد احتوت مذكرات كامو، على تصوّراته الأولى لردود الفعل المختلفة؛ فكتب مثلًا: «يدفع الجوع البعض إلى التفكير، وآخرين إلى التزود بالمؤن، فلم يكن ما يجلب الشقاء أمرًا حسنًا في الآن نفسه فحسب، بل إن ما كان شقاءً للبعض، كان جيدًا بالنسبة إلى آخرين. كانت الأمور ملتبسة على الجميع»، أو«[مارس ١٩٤٣م] المبعدون؛ تلك الساعة المسائية التي هي ساعة مساءلة الضمير بالنسبة إلى المؤمنين -والقاسية جدًا بالنسبة إلى السجين- هي ساعات الحُبّ المكبوت»[10].
لكن في النهاية تضامن الفئة الأخيرة هو ما جعل النهاية السعيدة نسبيًا ممكنة، كلٌ حسب قدراته واختصاصه. تعتني شخصية الطبيب برنار ريو على سبيل المثال، وبطريقة عملية جدًا للتأقلم مع التغيرات، بعلاج المرضى وتقليل العدوى بفرض قوانين الحجر الصحي، وبالرغم من كونها إجراءات قاسية، فما يدفعه حقيقة كان إيمانه المستمر بأن البشر يستطيعون هزيمة الأوبئة القاتلة على المدى الطويل. قد يبدو أحيانًا تسليمًا بالقدر، وأحيانًا أخرى قد يبدو وكأنه قراءة تحليلية للواقع والتأقلم معه، لكنها حالة متكررة في جميع روايات كامو الأخرى، هذه الحالة من الاستسلام لا نقرأها على سبيل المثال في روايات بوفوار، وسارتر.
فيكتب كامو في روايته هذه: «في نهاية تلك الأسابيع المضنية […] أدرك ريو أنه لم تبق له حيلة في الامتناع عن الشفقة والرحمة. إن الناس يتعبون من الشفقة إذ تكون الشفقة غير مجدية. وإنما كان الطبيب يجد عزاءه الوحيد من تلك الأيام الساحقة في إحساس هذا القلب المنغلق رويدًا رويدًا على نفسه. وكان يعرف أن هذا الشعور يهوّن عليه مهمته، فكان يسعد بذلك».[11]
لكن الطبيب ريو، يركز على الحدّ من الأضرار واتباع استراتيجيات لضمان النصر، وإن لم يكن نصرًا نهائيًا على الأوبئة في العالم، بل مجرد انتصار موضعي ومؤقت. فالرواية تتعمد تقديم رؤية باهتة للبطولة وللفعل أو التصحيح الحاسم، فالإنسان بمستطاعه تقديم الكثير لتحسين أوضاعه، وتحسين الحياة قدر الإمكان للأجيال اللاحقة أيضًا، بالرغم من كل المؤشرات من حولنا التي تخبرنا عمّن استسلمت مبادئه في الحياة أمام ظروفها.
وبطبيعة الحال، لا تتوقف هذه الذهنية على التعامل مع الحياة من حولنا، بل حتى في تعاملنا مع مشاعرنا، فها هو كامو، يكتب بعد سنوات من نشره للرواية: «[سبتمبر ١٩٥٩م]، لقد كان أكبر جهد مضنٍ في حياتي هو التضييق على طبيعتي الخاصة لجعلها تخدم أهدافي الكبرى. من بعيد لبعيد، من بعيد لبعيد فقط، كنت أفلح في ذلك».
الحساسية للوقت، والتركيز على الحاضر
وقد يبدو من أحداث الرواية ووقائعها بأنها تقدم رؤية انهزامية تجاه الحياة، ولكنها في الحقيقة تقدّم تصورًا واقعيًا لحالة الهزيمة، ولما يمكن تحقيقه من مهام عسيرة وبطريقة عملية، كتحرير بلد المرء ووطنه من قوات الاحتلال. بطريقةٍ ما، كان كامو يعي، خلف نظراته السوداوية المتأملة، أنه ولمواجهة فاجعة مثل الاحتلال أو الوباء، يستلزم أن يعيش المرء حياته حتى أقصاها، ليبذل كل شيء في سبيل تحقيق ما يريد، وأنه وكما كتب في مذكراته «[أكتوبر ١٩٤٩م]، لا حريّة لإنسانٍ ما لم يتغلب على خشيته من الموت، وإنما ليس عن طريق الانتحار، فالتغلّب لا يعني الاستسلام؛ وإنما القدرة على الموت وجهًا لوجه، دونما مرارة». [12]
وفي حالة الصراع أو الهزيمة تزداد حساسية المرء للوقت، الشعور بأهمية كل ثانية من حياته، فيصف كامو على لسان الراوي: «والحقّ أن كل شيء كان يصبح لهم حاضرًا. وينبغي أن نعترف بأن الطاعون قد انتزع من الجميع القدرة على الحُبّ، بل حتى على الصداقة. ذلك أن الحُبّ يتطلّب شيئًا من مستقبل، ولم يكن باقيًا لنا بعد إلا لحظات». فالخوف من الحاضر، أو حالة الذعر النفسية المشتركة، تلغي التفكير في المستقبل بالضرورة، ويجيء بثقل كل لحظة في اليوم حتى أقصاها. أو كما كتب في مذكراته: «[أغسطس ١٩٣٨م]، إلغاء الرجاء هو إعادة الفكر إلى الجسد، وعلى الجسد أن يفنى».[13] وهكذا يهيئ كامو البيئة المناسبة لطرح الإشكالات الوجودية للسرد.
وكانت تلك النفسية السائدة وسيلة كامو في تفادي رتابة الأيام العادية، فكما كتب في مذكراته: «[مايو ١٩٣٥م]، إذا كان الوقت ينساب بهذه السرعة، فلأننا لا ننشر فيه علامات استدلال. هكذا من القمر […] وإلى الأفق. لهذا السبب، تكون سنوات الصِبا طويلة جدًا لأنها ممتلئة جدًا، وسنوات الشيخوخة قصيرة جدًا لأنها قد سبق وتكوّنت. على سبيل المثال، يلاحظ شبه استحالة مراقبة عقارب الساعة وهو يدور خلال خمس دقائق، لأن الأمر طويل ومزعج».[14] تجدر الإشارة، بأنه وبعيدًا عن كلا الطرفين من التعامل مع الحياة، أعتقد بأننا جميعًا نبحث عن حالة متوسطة بينهما لمعايشة الأيام وجودة حياتنا.
اصطدام القلِق بـ«الغريب»
بالرغم من المودة التي جمعت كامو بـسارتر، وبوفوار، لم يتقبّل الأخيران الرؤية العبثية للحياة في شخصية ألبير، فالحياة بالنسبة إليهما لم تكن عبثًا، حتى عند النظر إليها بمعيار الحياة الكونية. فالحياة عندهما مفعمة بالمعنى الحقيقي، ولكن هذا المعنى يتجلّى لكل واحد منّا بطريقة مختلفة. لذا كتب سارتر في مراجعته لرواية «الغريب» بأن كامو: «يزعم تقديم تجربة خام، ولكنه ينقيها بمكر من كل الروابط ذات المعنى، والتي هي جزء أساسي من التجربة»، وبأنه أيضًا متأثر بشدة بفلسفة ديفيد هيوم، الذي «أعلن أن كل ما أمكنه العثور عليه في التجربة ليس سوى انطباعات معزولة».
يؤمن سارتر بأن الحياة لا تبدو بلا معنى حقيقي إلاّ إذا انحرفت عن مسارها الصحيح، فالفرد المتنبه «ليس روكنتان، الذي يركز انتباهه على الأشياء في المقاهي والحدائق، كلا وليس سيزيف، الذي يرفع الحجر إلى أعلى قمّة التل مبتهجًا بهجة توم سوير الزائفة وهو يبيض سياجًا؛ وإنما هو الشخص الذي يقوم بفِعلٍ له معنى، مفعمًا بالثقة في أنه يعني شيئًا. ذلكم هو الشخص الحُرّ حقّ الحريّة».[15]
وليس من المستغرب أن تصيب هذه الحريّة وتعدد الاحتمالات صاحبها بالقلق، «فالقلق هو دوخة الحريّة»[16] كما يصفها كيركيغارد. فالقلق ليس خوفًا من شيء ما، ولكنه قلق شامل من نفس المرء أو وجوده. قد يكون من الصعب على المرء التفكير في نفسه حُرًّا بشكل كامل، ولكن سارتر، يظلّ متمسكًا برأيه فيقول إني حرفيًا لست إلّا ما أقرّر أن أكونه، وبالرغم من ذلك فكلما زادت حرّيتي في الحركة، يصبح هذا القلق أسوأ.
والحقيقة وبالنظر إلى وضعنا الراهن، في فترة التعافي من آثار وباء كورونا الجديد، نجد أن الاختراعات والتقدم التكنولوجي بالسنوات الأخيرة يتجه تمامًا إلى زيادة مساحة الفرد في الحريّة تجاه شؤون حياته، وتقديم حلول عملية للتحكم بما حولنا أو على الأقل المعرفة به. الأمر الذي يعدد للمرء اختياراته في كل مفترق للطرق أحيانًا، ولهذا التعدد والاختلاف جانبه السلبي في تأثيره على غير المقتدرين للتعامل مع «عوالم الحياة»، أو حتى حصر أولوياتها وتحديد الأهم منها بالنسبة إليه، أو كما يكتب كامو أيضًا، في مذكراته: «[نوفمبر ١٩٣٩م]، العِفة في الفكر؛ هي منع الرغبات من الضلال، والفكر من التشتت».[17]
[divider style=”solid” top=”20″ bottom=”20″]
[1] ألبير كامو (٢٠١٣)، ذهب أزرق: مفكرة ٢، (ترجمة نجوى بركات)، الإمارات العربية المتحدة، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.
[2] أوسكار وايلد (٢٠١٤)، صورة دوريان جراي، (ترجمة لويس عوض)، الجمهورية اللبنانية، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع.
[3] سارة بكويل (٢٠١٩)، على مقهى الوجودية، (ترجمة: حسام نايل)، الجمهورية اللبنانية، دار التنوير للطباعة والنشر.
[4] نفس المصدر السابق
[5] نفس المصدر السابق
[6] ألبير كامو (٢٠١٣)، لعبة الأوراق والنور: مفكرة ١، (ترجمة نجوى بركات)، الإمارات العربية المتحدة، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.
[7] نفس المصدر السابق.
[8] ألبير كامو (٢٠١٣)، الطاعون، (ترجمة د. سهيل إدريس)، الجمهورية اللبنانية، دار الآداب للنشر والتوزيع.
[9] ألبير كامو (٢٠١٣)، لعبة الأوراق والنور: مفكرة ١، (ترجمة نجوى بركات)، الإمارات العربية المتحدة، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.
[10] نفس المصدر السابق.
[11] ألبير كامو (٢٠١٣)، الطاعون، (ترجمة د. سهيل إدريس)، الجمهورية اللبنانية، دار الآداب للنشر والتوزيع.
[12] ألبير كامو (٢٠١٣)، عشب الأيام: مفكرة ٣، (ترجمة نجوى بركات)، الإمارات العربية المتحدة، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.
[13] ألبير كامو (٢٠١٣)، لعبة الأوراق والنور: مفكرة ١، (ترجمة نجوى بركات)، الإمارات العربية المتحدة، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.
[14] نفس المصدر السابق.
[15] سارة بكويل (٢٠١٩)، على مقهى الوجودية، (ترجمة: حسام نايل)، الجمهورية اللبنانية، دار التنوير للطباعة والنشر.
[16] سورن كيركغارد (٢٠١٩)، الخوف والرعشة، (ترجمة: قحطان جاسم)، جمهورية العراق، دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع.
[17] ألبير كامو (٢٠١٣)، لعبة الأوراق والنور: مفكرة ١، (ترجمة نجوى بركات)، الإمارات العربية المتحدة، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.
المراجع
- ألبير كامو (٢٠١٣)، الطاعون، (ترجمة د. سهيل إدريس)، الجمهورية اللبنانية، دار الآداب للنشر والتوزيع.
- ألبير كامو (٢٠١٣)، لعبة الأوراق والنور: مفكرة ١، (ترجمة نجوى بركات)، الإمارات العربية المتحدة، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.
- ألبير كامو (٢٠١٣)، ذهب أزرق: مفكرة ٢، (ترجمة نجوى بركات)، الإمارات العربية المتحدة، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.
- ألبير كامو (٢٠١٣)، عشب الأيام: مفكرة ٣، (ترجمة نجوى بركات)، الإمارات العربية المتحدة، هيئة أبوظبي للسياحة والثقافة.
- سارة بكويل (٢٠١٩)، على مقهى الوجودية، (ترجمة: حسام نايل)، الجمهورية اللبنانية، دار التنوير للطباعة والنشر.
- سورن كيركغارد (٢٠١٩)، الخوف والرعشة، (ترجمة: قحطان جاسم)، جمهورية العراق، دار الرافدين للطباعة والنشر والتوزيع.