
لتحميل المقالة : صداع الحقيقة بين إكسير المجاز وترياق الجسد -القسم الأول
بأربعة عشر ديواناً ومئات القصائد، ومسيرة شعرية تمتد لأكثر من اثنين وثلاثين عاماً، وتحديداً منذ عام 1411هـ/1990م، وهو التاريخ الذي ذيّل به القصائد الثلاث الأقدم في ديوانه الأول (ظِلّي خليفتي عليكم)، وببصمة إبداعية لافتة هيّأتْ له انتشاراً جماهيرياً واسعاً، وحصداً متتابعاً لجوائز أدبية متنوعة في العالم العربي، بهذا كله وأكثر يبدو الحديث عن شعر جاسم الصحيّح تمريناً شاقاً على الاختزال والاكتفاء ببعض الإيماء.
ومع هذا فإنّ للإيماء لوازمه ومتطلباته، ومن هنا ستعتمد هذه القراءة على اقتناص الحقول الدلالية المرتبطة بـ(الثيمات) الكبرى الـمُكوِّنة للنسيج الشعري عند جاسم الصحيّح، ورصد فَرادة حضورها: كمّاً، ونوعاً على امتداد تجربته الشعرية، ومن خلال هذا الرصد المتساوق تحاول القراءة أن تصل إلى مفاتيح الخصوصية الإبداعية التي منحتْ هذا الصوت الشعري بصمته الذاتية وإيقاعه المختلف عن بقية الأصوات الشعرية.
تُقارب هذه القراءة إذن شعر جاسم الصحيّح عبر مجموعة من المحاور المتعاقِبة المستخلَصة من ثيماته المتواترة، وأهمّ هذه المحاور: قناع الجسد وتأنيث العالم، نار القُرى وفَراش اللهب، نهر الحيرة ومِجداف السؤال، وتر النحيب المشدود على المقام العراقي، فِردوس هابيل المفقود، ظِلال الأسلاف، هاجس التبسيط، فتنة الأقواس وإغواء الرنين. وهذه المحاور بالتفصيل كما يأتي:
1- قناع الجسد وتأنيث العالم:
ربما تكون ثيمة الحس والجسد هي الواجهة العريضة لشعر جاسم والبوابة الكبرى التي يستقبل بها قارئه، وحقولها الدلالية هي الأوسع حضوراً وانتشاراً في قصائده، وبكثافة تكرارية عالية: وكلمات مثل: (الإثارة، والرغبة، واللذة، والنشوة، والاشتهاء، والشبق، والعُري، والعربدة، والغريزة، والفحولة، والنزوة، والغواية، والغزو، والمضاجعة، والافتضاض) هي من الأبجديات المألوفة في معجمه الشعري، بالإضافة إلى سيل لا ينقطع من التراكيب المتفنّنة في التعبير الصريح أو الكنائي عن جسد المرأة بكل تفاصيله وحالاته، وغنيٌّ عن القول: إنّ قصائد الحب والغزل تشغل مساحة واسعة من شعر جاسم، وفي جلّ هذه القصائد هناك إلحاح متكرر على فكرة: التطابق بين الحب واللذة الحسية، وأنه لا معنى للعشق دون ارتواء الجسد، بل لا معنى للشعر إن لم يكن منبثقاً من دفْق اللذة، وكما يقول: “تعالي إذن.. فأنا لا أحِسُّ اكتمالَ القصيدةِ.. قبل اكتمالِ السرير”.
يتكئ جاسم في مذهبه الحسي هذا على تقاليد موروثة لقبيلة ممتدة من شعراء اللذة، بدءاً بالآباء المؤسسين في فجر الشعر العربي، من أمثال امرئ القيس، وطرفة بن العبد، والمنخل اليشكري، مروراً بعمر بن أبي ربيعة، والأحوص، وأبي نواس، وصولاً إلى العصر الحديث الذي تنامَى فيه هذا التوجه عند مجموعة من الشعراء المعاصرين، مثل: صالح جودت، وإلياس أبوشبكة، ونزار قباني، وواكبَ هذا التوجه جهدٌ تنظيري موازٍ حول شعرية الجسد وجماليات الحواس، ويكفي هنا أن نتذكر إصرار منظّر الحداثة الشعرية الأبرز: أدونيس في أكثر من موضع على تحطيم التقابلية المعهودة بين الجسد والروح، مستعيداً إرثاً ممتداً من التوريات الصوفية القديمة التي كثيراً ما كانت تفضّل الإيماء إلى الروحيّ الخفيّ بالجسدي الجليّ، وكعادة أدونيس يمضي في هذا الشوط إلى آخره، فينقل عن بالاماس قوله: إن “الجسد قُـبّة الروح” ! أمّا جاسم الصحيح فيعبّر عن هذا التمازج بين الروح والجسد بقوله:
ستجِفُّ من وهجِ الهوى أرواحنا إن شئتِ أن نحيا بلا أجسامِ
هكذا لا حياةَ للروح دون ارتواء الجسد، ولا مكان للغزل العُذريّ عند الخبير الحقيقي بالعشق، ماذا عن الشوق إذن؟ عن طيف الحبيبة والنجوى البعيدة؟ في أي صورةٍ يمكن أن تتجسد هذه العاطفة المعنوية عند شاعر اللذة ؟ لا مواربة هنا أيضاً عنده، إذْ لا يستطيع الشوقُ أن يدقّ أجراس الشعر داخله إذا لم يتلفّع برداء الغريزة:
وإذا طيورُ الشوقِ تلهثُ داخلي وكأنها في موسمِ النزَوانِ
وحتى حين يستجرُّه التقليد الشعري إلى بعض التسامي الروحي في الحب، فيقول مثلاً:
أُعيذُ الهوى والحبَّ مِن أن أراهما غرائزَنا ملْفوفةً بالبراقعِ
فإنه لا يدع لك فرصة كي تفرك عينيك من المفاجأة، إذْ يُتبِع هذا البيت مباشرةً بقوله:
وما كَفَرَتْ بالطينِ روحي، فلم أزلْ أُعمِّقُ إيماني بِحلوى المضاجعِ !
ويذهب جاسم بعيداً في الاحتفاء بالحس، فيرى أنك أقرب ما تكون إلى حقيقتك الصادقة حين تنغمس في اللذة الحسية، بعيداً عن ادعاء الزهد والتظاهر بالورع، ومن هنا فإن الشاعر الحقيقي عنده هو (المتشجِّر بالكائنات) الذي:
ما ملَّ من لحمِ الحياةِ فحيثُما ألْفاهُ، شبَّ غرامَه وشَواهُ
أغرتْ بِهِ شفةٌ تُدلِّكُ أختَها وأثارهُ نهْدٌ يجُسُّ أخاهُ
الصدقُ كلُّ الصدقِ في شهواتِهِ والزيفُ كلُّ الزيفِ في تقْواهُ !
ولأجل هذا (الصدق) الحسي في التعبير يجترح الشاعر هجاءً مُرّاً لأعزّ كلمة عليه، وهي كلمة (المجاز)، فهذه المفردة المتواترة في شعره -تنويهاً بها، وتعظيماً لأثرها- لم يجد بُدّاً في النهاية من هجائها، حين غدتْ –بتصويرها الضبابي المخاتِل- متّكأً عند الحبيبة تعبّر به رمزياً عن الرغبات الحسية، وهو ما دفع الشاعر إلى أن ينظم قصيدة كاملة بعنوان (في هجاء المجاز) يُوصي فيها صاحبته بأن تعيش سخونة اللحظة، فتُسمّي الأشياء بأسمائها الحقيقية !
ومن تسمية الأشياء بأسمائها عند الشاعر: نفوره من التزويق المثالي لما يريده العشاق، ويحضرنا هنا تلك الصورة الحسية الطريفة التي كررها في أكثر من موضع: صورة العاشق/الثور، ففي ثلاث قصائد تنتمي كلُّ واحدة منها لديوان مختلف -وهو ما يشِي بإلحاح الصورة وتمكُّنها منه- يُـماثِل جاسم بين عُرام الاندفاع الجسدي للعاشق وهيجان الثور، نصادف أولاً في ديوانه (رقصة عرفانية) قصيدة كاملة مخصصة لهذا التماثل، ومعنْونة بكلمة واحدة: (الثور)! وفي ديوانه (أولمبياد الجسد) يواجهك هذان البيتان الظريفان:
وقالتْ بُرجُك الجسديُّ ما هو؟ قلتُ: بُرجُ الثورْ !
أُحِــسُّ خُــوارَهُ يــــمـــتـدُّ فــي صــدري بـــعـيـدَ الــغَـــورْ
وفي ديوانه (ما وراء حنجرة المغنّي) يقول: “عالجتُ داءَ الوقتِ بالأنثى.. فألهتْني ببُرجِ الثورِ عن بُرجِ الأسدْ”.
ويطفح هذا التصوير الحسي حتى في القصائد التي يشعر القارئ بثقل الشجن ولذعة الأسى فيها، وخذْ مثلاً قصيدة (النعشُ أثقلَ حامليه)، فهي قصيدة تعزية لامرأةٍ استأصلتْ ثديها المتسرطن، هل يمكن أن تُوحي لك هذه الحالة بغير الحزن والتعاطف لانكسار الفقد؟ أمّا جاسم فإن خياله دائماً أوسع مما تتصور، ولهذا يستطيع أن يتجاوز سريعاً الإيحاءات الروحية التي تولّدها لحظة الألم، لينتقل بسلاسة مدهشة إلى ما يثيره موضوع المعاناة ومكانها المخصوص من اندلاق حسي وشبق متلذذ وممتد! ثم تنتهي من القصيدة وأنت لا تدري: أكان الشاعر فيها يُواسي أم يتشهّى؟
ويتمدد هذا التشهّي الحسي حتى يكاد يشمل جميع الظواهر الحسية والمعنوية، هذه مثلاً لوحة كونية لا تشتكي من نقص الإثارة:
مرّتْ عليَّ الريحُ تصهلُ في المدى مــشبـوقــةً فـي رغـبــةٍ غـجــريَّــةْ
والبرقُ يغتصبُ السحابةَ كلّما غلبتْ عليه الشهوةُ الضوئيّةْ
هل افتقدتَ في هذه اللوحة الكونية المشبوبة حضور السماء؟ لم يفتْ هذا على الشاعر، فلها في مواضع أخرى من شعره نصيبها الوافي من هذا التشهّي:
خشيتُ على السماواتِ العذارَى أفضُّ غِشاءهنّ بتمْتماتي
وتتكرر هذه الفحولة المتشهّية في صورة سماوية أخرى تستحضر –ربما دون قصد- عصر الجواري المجلوّة:
أجلو السماواتِ الإناثَ لعلّني أُلفي سماءً تستحقُّ غمامي
وللنخل أيضاً طقوسه في تلقّي الخصوبة:
والنخلةُ العذراءُ فضَّ صلاتَها في الحقلِ إعصارٌ مِن الأحقادِ
وحين يقول الشاعر مثلاً:
في جسمِكِ اختزنتْ حوّاءُ رقصتَها حتى نما جبلُ الأردافِ وانتصبا
فهو هنا لا يصِف جسد امرأة خرافية المقاييس كما قد يتبادر إلى ذهن القارئ، بل هو يصف مدينة من مُدُن الله تُدعَى: أبها !
وللفكرةِ أيضاً حضورها الجسديّ الريّان عند الشاعر: “أنا في مِريةٍ مِنّي.. وأنشُدُ فكرةً ريّانةَ الأثداءِ تُرضِعني اليقينَ ولا فِطامُ”، وفي المقدمة النثرية لديوانه (ما وراء حنجرة المغني) ستصادف مثل هذا الوصف المتشهّي للفكرة التي “تخرج من حمّام ساخن في غيمة الأرق.. تفتح نصف جيبها، وأحدِّق في نهدها يجلس القرفصاء على صدر الورقة” !
والقصيدة كذلك هي أيضاً موضوع للغواية وعسف الرغبة، فكتابة الشعر ليست سوى ليلة إبداعية حمراء:
الليـل يـقـتـادُ الكتـابـةَ كـي يُـضـاجـعـهـا الخيـالْ
كـم فـكـرةٍ بِـكـرٍ هنـاك يــفـضُّها حُـلُـمٌ مُــحـالْ
فإذا القصيدةُ ليس أكثرَ مِن رحيقِ دمٍ يُسالْ
والشـعـرُ مِـن فـرطِ الخطـيئةِ لا يُـطـهِّـرهُ اغـتـسـالْ
وتواؤماً مع هذا التصوير الشبقي للشعر ولحظات الإبداع، لن يكون غريباً أن قوافي القصيدة مُهيَّأة دائماً كي تُنكَح:
والـقـوافي تـتـشـهّـى ظِـلَّـنا فـهـي لولا ظِـلُّـنا لـم تُـنـكَـحِ
ماذا عن المشاعر داخل الإنسان؟ شعور الخوف مثلاً؟ إنه عند جاسم ليس سوى (جنابة) يحسُن بالقلب أن يغتسل منها:
قلبي تغسَّلَ مِن جنابةِ خوفِهِ فزكا، وأصبح بالشجاعةِ أنبلا
وتصعيداً لهذا المِنوال: من اللافت حقاً أن الشاعر حتى وهو في أشدّ حالاته الشعرية شجناً لا يستطيع أن يتصور علاقات الوجود –مهما تسامتْ روحياً- دون معنى الخصوبة الجسدية، ها هو مثلاً في بكائيته الطللية على الحسين يناجيه فيقول:
ضَـعنـا على مـرمـى الحقيقةِ إننا عبـرَ احتمـالاتِ الجِـهاتِ نُــهدِّفُ
واطْمِثْ بِمائكَ رَحمَ كلِّ إرادةٍ عقمتْ، فماؤكَ بالخصوبةِ ينطِفُ
من شُرفة الحسّ إذن يُطِلّ هذا الشاعر على الوجود وعوالمه، ومن بوابة الجسد يتملّى حضور المرأة فيه، ومع الكثرة الظاهرة لقصائد الحب في شعر جاسم، فإنّ هذا لا يعني بالضرورة أنها نتاج (تجارب) حب حقيقية، والشاعر نفسه يُقِرّ بأنّ (تجربة الحب) في حياته نادرة جداً، ففي مقدمته النثرية لديوانه (كي لا يميل الكوكب) ظلَّ جاسم يكرر في حدود صفحة واحدة سبع مرات عبارة: “نادراً ما كنتُ أحبّ”، ثم يُضيف: “كانت لكلّ الصبايا نكهة واحدة في روحي، لأني لم أجرِّب الحبَّ الذي يمنح المرأة طعمَ الفَرادة، ولستُ من الشعراء العُذريين”.
هكذا يدرك جاسم أن شغفه الحسي بالمرأة لا يعني أنه واقع في الحب، فكيف نفسِّر كل هذه القصائد الغزلية في شعره؟ هل سنقول: إنَّ (بريق الجسد) الذي لا يعدو حدود الحواس هو الدافع لمعظم ما كتبه جاسم في الغزل بالمرأة؟ أظنّ أنّ ظاهرةً بهذا الاتساع والتنوُّع والإلحاح –والإبداع أيضاً- هي أعقد من أن تُختزَل في باعث واحد، ويُحاجِجُ هذا المقال على أنّ (الانشغال بالمرأة) عند جاسم لم يكن مجرد تعبير شعري عن استغواء حسي، وأنّ لهذا الانشغال بواعث أخفى وأكثر تعقيداً.
وأول هذه البواعث: (صداع الحقيقة) الذي سيأتي تفصيل الحديث عنه في المحور الثالث من هذا المقال، ولكنّ ما يمسُّ محورنا هنا هو: أثر هذا الانزلاق الارتطامي والسقوط الحر الذي شعر به فتى قضى شطراً من عمره متعلقاً بحبال الطمأنينة والأجوبة المسبَقة، ثم بعد تنامي الأسئلة الحارقة داخل عقله، وتعالي عُواء الذئب (ذئب الوعي بحسب تعبيره) بين جنبات روحه، أطلق أخيراً بملء إرادته حبال الطمأنينة من يده، راضياً بأن يواجه الهاوية دون معونة من أحد أو تيار، ولا عُدَّة له سوى: أسئلةٍ مصيرية ما تزال تتوالد، وطائرٍ بالغِ الخِفّة والرشاقة، مدهشِ الرفْرفةِ والتحليق يُسمَّى: الشعر، وكائنٍ صلبٍ في هشاشته، هشٍّ في صلابته، كأنما خُلِق ليبثَّ الدفء في أوصال العالم، ويُدعى: المرأة.
علاجاً لهذا الصداع المزمِن، ولخيبات العمر التي ما تزال تتوالى، ولثقوب الروح التي ما فتِئتْ تتسع وتكبُر لم يكن أمام هذا الفتى المفجوع في طمأنينته سوى أن يرتميَ في أحضان الجسد الأنثوي، منغمساً في خدر نعومته، هارباً من يقظةِ الفكر إلى غفوة الحلم، ومن صحوةِ الوعي إلى سكرة اللذة، ومتشبّثاً بهذا القناع الحسي المثير الذي يُخفي حيرة العقل وارتجاف الروح.
من أجل هذا كان جاسم يُسائل نفسه منذ ديوانه الثاني: “هل العُمرُ ثُقبٌ تُرقِّعه بالنساءِ.. ويفْتقه عنفوانُ القدرْ؟”، ثم يجيب بأن الحياة ليست سوى قهوةٍ مُرَّة، والحب هو سُكّرها الذي يلطِّف بعضَ مرارتها: “حنانيكِ عُودي.. فليس الحياةُ سوى قهوةٍ مُرَّةٍ بالحقيقةِ.. والحبُّ سُكّرها”.
وعلى امتداد دواوينه اللاحقة ظلّتْ هذه الفكرة النُّواسية/الخيّامية: (علاج صداع الحقيقة بالانغماس في اللذة الحسية) تتردد طويلاً طويلاً في قصائده: “وهناك أغمسُ حيرتي في رغوةِ الضحكاتِ.. ممسوساً أُمشِّطُ شَعر ذاكرتي.. فيخمد في دمي كهْلي ويشتعلُ الغلامُ”، و: إذا اندلعتْ خيولُ الهمّ..: “فماذا يصنعُ الإنسانُ غيرَ تقمُّصِ الأفراحْ.. ويحلمُ أن يُعيدَ الخيلَ نحو حظيرةِ الأشباحْ”.
في قصيدته المطوّلة: (يا بحر.. يا شيخَ الرُّواة) هناك أبيات يصف جاسم بها البحر، وكأنه يصف ذاته المنهكَة بالأسى والمتقنِّعة باللهو، يقول:
خبّأتَ حزنَكَ خلفَ ألفِ فُقاعةٍ وبــــرزتَ فــي ألـــوانـِــهـــا تـــتــبـــسَّـــمُ
لا تأمنِ الـزبـدَ الـضـحـوكَ فـطـالـما فــضــحـتْ أســاكَ فُـقـاعةٌ تتهشَّمُ
وأطــلَّ وجـهُـكَ مِــن مــرايــا عــتْـمـةٍ في العمقِ تغرقُ في مداها الأنجمُ
وفي قصيدته (دعوة للغرق) يقدِّم وصفته الخاصة للهروب من ألم الوعي: الغرق في لذائذ الاستدراج:
نحن أشهى مِن أن نجيء ونمضي لم تذُقْنا ولم نذُقْها الحياةُ
كــائــنــاتٌ مُـــؤقَّــتـــون.. ويـكــفــي ألَــمـاً أن تُــؤقَّــتَ الكـائناتُ
نتبعُ الصيدَ حيثُما استدرجتْنا ظـبْـيـةٌ فـيـهِ، أو دعـتْـنا مَهاةُ
غَـــــرَقٌ نـــحــــنُ ذاهـــــبـــــــونَ إلـــيــــهِ فخُذي الطوقَ وارحلي يا نجاةُ !
وفي ديوانيه: (قريب من البحر بعيدٌ عن الزُّرقة)، و(تضاريس الهذيان) قصيدتان متماثلتان في دعوة الأنثى إلى الرقص، وفلسفته في هذه الدعوة هي خلاصة الترياق نفسه: “الرقصُ: فنُّ القفزِ فوق جِراحِنا”، هروباً من مآسي العالم وخيبات الواقع وانكسار الذات، عبر اصطناع الاستمتاع، ولو كذِباً: “فكِذْبٌ كهذا الكِذْبِ يُحترَمُ” !
وهو في ديوانه الأخير (طيورٌ تحلِّقُ في المِصيدة) أكثر وضوحاً في التعبير، فالغناء اللاهي ليس سوى قناع يرتديه النُّواح المكابِر، و(الأوركسترا) التي تؤديها جوقة العازفين هي في حقيقتها همهمةُ شخصٍ وحيد:
يـرانـي مـن يـرى أنـي أغنّـي ولكني أُقـيـمُ طُـقـوسَ ندبـي
أُغنّي: يا جِراحَ الروحِ قَرِّي ويا روحَ الجِراحاتِ استتبّي
هكذا يبدو أن تناسي صداع الحقيقة كان أبرز باعث لهذا الغرق في الاستثارة الحِسيّة، بعد ذلك ستتداعى البواعث الأخرى، فتتشكل الحيثيات العقلية والتسويغات الفكرية لهذا الموقف الوجودي والشعري معاً، فيُعلن الشاعر أولاً: أن اللهو هو هدف الحياة:
جِئنا إلى العالمِ نلهو بِهِ لم نأتِ للعالمِ كي نُصلِحهْ !
وبناءً على هذا التأسيس المبدئي لأوليّة العبث، فإن الزهد في ملذّات الأرض و(تفّاحة) الجسد خطأٌ في الرِّهان: ” إنّ امتحاناً كهذا الذي يحبسُ الخيلَ في الروحِ لا يستحقّ الرِّهانْ.. خطأٌ ذلك الاِمتحانْ.. خطأٌ آخرٌ: أن نمرَّ على الأرضِ مُستعجلينَ فلا نحتفي بالمكانْ”.
والاحتفاء بالمكان الأرضيّ هو ما يصنعه هذا الشاعر (البُستانيّ) بعد أن (كسر مِقصّه القُدسيّ)، مالِـئاً عينيه من مُتَعِ الحياة الأرضية: “فالأرضُ أجملُ فكرةً.. مِن أن تكونَ لنا عِقابا”، ومُكتفياً بطموحٍ أقلَّ رفْرفةً: “أحاولُ أن تكونَ الأرضُ ثامنةَ السماواتِ” ! على أن تظلّ مع ذلك سماءً أرضية أبعد ما تكون عن المثالية ولوازم الجِدّية:
فـلا تـطـلبـي أن أتّــقــي فــي مـحبّتـي تموتُ قِطافُ الحبّ في موسمِ التقْوى
تـعِـبْـنا مِـن الـملهَـى الـكـبـيـرِ نُــديــرُهُ بِــجِـدٍّ، ونــنـسـى أن نـــعــيــشَ بِــهِ الـلهْـوا
ثم يقدِّم الشاعر ثانياً تأصيله الخاص للحب الحسي، فالعُري هو دستور الطبيعة:
آمنتُ بِالعُريِ إيمانَ الخريفِ بِهِ وإنْ نكنْ قد تخالفْنا بِمقدارِ
وانطلاقاً من بكارة الحس يرى أن الجسد هو الموطن الأصلي للشعر، وأن العشق بوابة إلى المطلق، فيقول في (أولمبياد الجسد):
الشعر في جسدِ العشَّاقِ موطنُهُ بئسَ القصائدُ لم تُنحتْ على الجسدِ !
ثم يُعيد تأكيد الفكرة نفسها في ديوانه اللاحق (قريبٌ من البحر بعيدٌ عن الزُّرقة):
والوحيُ مِن كلِّ عضوٍ فيكِ يُلهِمني أنَّ القصيدةَ مِن أشكالِها الجسدُ
هي إذن شعريةُ الجسد، وجسدية الشعر، ولهذا يقدِّم الشاعر شهادة براءته من الحبّ العُذريّ والتعلُّق الروحي العفيف، ومِن: “بقاء الحب دون فِطامِ”، جاعلاً من الجسد نقطة ارتكاز لعاطفة الحب الحقيقية: “أجسادُنا: أوطانُنا الأولى هجرناها إلى منفى مِن الكلماتِ.. تبّتْ هذه الكلماتُ.. إنَّ الحبَّ: مِقدارُ التورُّطِ بالترابْ”، والتورُّع عن هذا (التورُّط الترابيّ) يجعل الحبّ مثل (حديقة بلا غناء) كما هو عنوان قصيدة أخرى له يستهِلُّها بقوله:
لا يأنسُ الطينُ حتى يحضنَ الطِّينا فـلا أريـدكِ ريــحـانـاً ونـسـريــنـا !
بعبارة أخرى: لا انفصال بين لذائذ الجسد وأفراح الروح، أو كما يقول في (تضاريس الهذيان): “الرقصُ ماءُ الروح في إبريقِهِ.. فدعي الجمودَ وحرِّكي الإبريقا”.
ثم يخلص الشاعر ثالثاً إلى تكثيف مشروعه الحسي الكبير في تعبير واحد: أن يظفر بحب المرأة، ويكرر هذا التعبير/الحلم في قصيدتين: “ولم أحلُم بغير محبةِ امرأةٍ..”، و: “كلُّ الذي أصبو إليه محبةُ امرأةٍ تُجدِّدُ لي أثاثَ الوجْدِ في روحي”.
فالأنثى –كما يتصورها جاسم- هي تاج الفتنة في الأرض، وهل يبحث شاعر اللهفة الحسية إلا عن أشدّ الفِتَن إثارة: “كان لا بدّ من الأنثى لتكتمل الفتنةُ في الأرضِ وتشتدَّ اختبارا”، بل إن الأنثى هي فتنة لكل شيء، وليس للرجل فحسب، ولك أن تقرأ قصيدته (تجيئين نهريّةَ المشي)، وترى كيف راح يتتبع مشاعر (الفستان) الذي يغطّي جسد الجميلة، وما يضطرم داخله من سُعار اللهفة والاستئثار، ونار التملُّك والغيرة، وما يزال يُـمعن في فضح أحاسيس هذا الفستان (الوغْد)، حتى يجعلك تستعيد أجواء قصيدة (القمر العاشق) لعلي محمود طه.
والأنثى هي أيضاً بوصلة قلبه حين يتيه عن ذاته: “تقود قلبيَ نحوي حين ينساني”، وهي كذلك ما يحتاجه المكان كي يزداد أُنساً ورحابة:
ولم نزلْ كلما ضاقَ المكانُ بِنا نأوي هناك إلى أُنثى تُوسِّعُهُ
وتصل هذه الرحابة الأنثوية إلى حدودها القصوى في شعر جاسم، عبر (تأنيث العالم)، فالأحياء والأشياء تتلبّس في قصائده بروح المرأة ونكهة الأنوثة:
كلُّ شيءٍ في الحسنِ ندعوه أنثى حـيــن تــجــلـــوه راحــــةُ الــشـــعـــــراءِ
فإذا الــنـســوةُ الـمــليــحــــاتُ خـمــرٌ ننتشيها، والخمرُ إحدى النساءِ
وحيثما تلامسه الـرِقَّـة في الكائنات، فلن يرى فيها إلا تجسيداً إضافياً من فيض الأنوثة: “أُؤنِّثُ الأرضَ مأخوذاً بِرِقّتِها”، وكثيراً ما ينسب بعض أحوال المرأة وتفاصيلها إلى الكائنات، فللّيل (ثديٌ شهرزادي)، وللصبيحةِ كذلك، وهو ما يتكرر أيضاً مع الطبيعة، ومع الحياة، أمّا الوعي فلديه: (ثديه، ورحِـمه، وولادته، وسنُّ يأسه)، بينما (تتوحّم) المحطّة بالقطار، وتنقبض القصيدة في (مخاضها، وطَلْقها)، وأقصى ما تطمح إليه بعد كل هذا المخاض والطَّلْق: “أن تُغني عن امرأةِ”.
لكنّ أعجب مظاهر التأنيث في شعره: تأنيث الذكورة، والشاعر يبدأ بنفسه، ومع فائض التشهّي الفحولي المنتشر في قصائده، فإن هذا لا يمنعه من الإقرار بأنه: “في الأربعين بلغتُ سنَّ اليأسِ من نفسي”، وبتعبير أكثر صراحةً يقول: “وأراني –من فرطِ الأنثى في جسدي- يعصرني الكَرْمُ ويقضمني التفّاح”، وهو لا يرى أيّ التباس في هذا التداخل:
على قدر الفحولةِ كنتُ أنثى على قدر الأنوثةِ كنتُ فحلا !
وغايةُ ما يصل إليه المدُّ الأنثوي في نفسه حين يُرهِفه الغناء ويُشجيه الوتر:
وهناك في روحي.. هناك تفتَّحتْ أُنثـى، وفي رأسي نما بُـسـتـانُ
وأنــــا أُغـــنِّـــي والــــغِــنـــــــاءُ بُــــــــحــــيـــــرةٌ فـــي شـــطِّــهــا تـــتــنــزَّهُ الأحـــزانُ
تـــطــــغَـــــى عــلـــــيَّ أُنــــــوثــــــةٌ وَتَـــــــريَّــــــةٌ مِن فَرطِ ما يطغَى عليَّ حنانُ
يبقى أن نتساءل في ختام هذا المحور –دون أن نجيب- عن دلالة هذا الاحتفاء الكبير بالأنوثة في شعر جاسم: أهو نتاج موقف فكري مبدئي ومتماسك تجاه المرأة، أم إنّ للولع الحسي المتجدد أثره في إذكاء هذا التوجُّه، وتوسيع رقعة حضوره (التكراريّ) في هذا الشعر؟ هل يمكن أن نفرز -ونحن نتلقى الشعر- خيوط الموقف المبدئي عن خيوط الملابسات الظرفية وجموح الخيال الشعري؟
2- نار القُرى وفَراش اللهب:
جاسم الصحيّح: هذا الصياد المبحر دائماً على إيقاع الخَبَب، المبهور أبداً بوهج النار ومواقد الحطب، والذي لا يثير قريحته الشعرية شيء كما تثيرها عواصف التغيير وأعاصير المفاجآت، حتى لكأنّ كلَّ درب يسلكه يبدو دون جدوى إنْ لم تنتصب فيه نار سيناء متوهّجة بالوعد المخبوء على امتداد الأفق، ولو تمثّلتُه قارئاً لتاريخ البشرية، فلا أظنّ أنه سيغادر بسهولة صفحة الطور التي آنسَ فيها موسى –عليه السلام- النارَ من بعيد، فأوحتْ إليه بفكرة الاصطلاء، فهذا تماماً ما ينتظر جاسم حدوثه في كل منعطف يسير فيه: أن يقتنص جذوته الملهِمة من نار القُرى، ولم يكن في الواقع يصف سوى هذا الانجذاب الفِطري في داخله نحو الاحتراق حين كان يتحدث عن أبي الطيب المتنبي فيقول:
لاحتْ له نارٌ فقال لنفسِهِ ما قاله موسى الكليمُ لأهلِهِ
ومشى إلى النارِ/النبوءةِ حافياً لتشُبَّ نارُ الاِنتظار بِنعلِهِ
وهي الصورة التي سيعود إليها جاسم أكثر من مرة على امتداد تجربته الشعرية، ففي حديثه مثلاً عن (الشاعر المتشجِّر بالكائنات) يقول:
ماضٍ إلى المعنى مُضيَّ نُبوءةٍ فكأنَّه مُوسى إلى سيناهُ
وفي تصويره لنداء الحب لا يجد سوى هذا المشهد الاصطلائيّ للتعبير عن خصوصية النداء ولهفة الاستجابة:
لنا (الوادي).. وحبُّكِ (نارُ) وحيٍ وثَمّةَ لا (نبيَّ) سوايَ نُودِي!
ثم يعود إلى (وادي طُوى) للمرة الرابعة في قصيدة أحدث، فيقول:
قلتُ: احذري فعناقُنا (وادي طُوى) لا تدخلي (وادي طُوى) بِنِعالِ !
وفي ديوانه الأخير: (طيور تحلِّق في المِصيدة) يعود لنار الطور للمرة الخامسة، فيقول عن (سَلْمى المجازية):
فنُودِيتُ مِن طُورَينِ: وجهِكِ والهوى لكي أتلقّى مِنهما الوحيَ والوهْما
ونُـبِّـئـتُ مِـن نـاريـنِ: نــارِ غــوايــةٍ ونارٍ إلى غيرِ الصبابةِ لا تُنْمَى
يذكِّرني هذا الاستحضار المتكرر لنار الطور عند جاسم باستحضار شاعر آخر لها، وهو محمد عبدالباري الذي يقول في قصيدته (ذاهباً كالبرق):
لقد شَددتُ إلى طُورِ النساءِ دمي ومـا وجـدتُ على نيـرانِـهِـنَّ هُـدى !
أمَّا جاسم فلم يزل شاقّاً عليه –وهو صاحب الرحلة الأطول- أن يسلِّم بالنتيجة التي خلص إليها عبدالباري، فكم من هدى في نارِ (طُور النساء) سيجده جاسم! وكم من جذوةٍ سيقتبسها منها، ويصطلي بها في مواجهة الرياح الشتوية التي تعصف بالعالم، على الأقل كما يوحي بذلك شعره.
والواقع أن هناك ما يشبه الصداقة الحميمة بين جاسم وفكرة اللهب، فالحقل الناريّ شائع جداً في شعره، حتى يكاد يكون شعره كله ناراً تجذب فَراش اللهب ليحترق (في أتُّونِها الواري)، أو كما قال مُنتشياً:
تـجمَّـعـتِ البصـائــرُ حـول نـاري وذاقتْ نشوةَ اللهبِ الذواتُ
وهو يرجو أن يزداد هذا الشعر الملتهب توقُّداً، وأن تغدو قصائده (حُور الجحيم) في هذه المملكة النارية:
خُــذْنـــا فـــتــافـــيـــتَ جـمـــرٍ عـبــر مـحـــرقــــةٍ مـن الهــواجـس كــي تــبـنـي بِـنا سَــقَـــركْ
واشعلْ جحيمَك واجعل من قصائدنا حُورَ الجحيمِ لكي تقضي بِها وَطَركْ
ومثل شِعره يلخِّص حياته بأنها مجرد محطات حارقة من اللظى المضطرم، لكنه مع ذلك ممتنٌّ لما أهدتْ له من نـغمات مشتعلة وجمرات راقصة:
في موقدِ العمرِ أهداني اللظى نَغَماً وعلَّمتْني فـنـونَ الـرقصِ جـمــراتي
وفي مقدمته النثرية لديوانه (كي لا يميلَ الكوكب) التي اختار لها عنواناً لافتاً: (جهنّماتي الصغيرة) ! يقول: “أنا أحد أبناء النار، إخوتي أعواد الثِّقاب، والكبريت أبي، أتيتُ من فُوهّة الجحيم أبحث عن امرأةٍ تربّي معي جهنّماتي الصغيرة حتى يعشوشب اللهب” !
وأرحب ميدان تتجلى فيه جهنّماته الصغيرة هو ميدان الحب، حيث تشتعل نيران الهوى وتتوقد جمرات الصبابة:
مـوقـدٌ عـاشـقٌ تـؤجِّـجـه الـريـحُ بِـسِـحــرِ الأنــوثـةِ الـلـهَّــابِ
وأنا جمرةٌ من اللهبِ الطائشِ في موقدِ الهوى والشبابِ
وما الذي ستقضي هذه الجمرة وقتها فيه غير انتشاء رائحة الحرائق في أديمها، وترصُّد حرارة اللهب في جوفها المتوقِّد:
أشتمُّ رائحةَ الحرائقِ داخلي تزكو، وأكتشف اللظى بِشَغافي
وللجمراتِ أيضاً منطقها، فهي لا ترى في الاحتراق المتبادل بينها سوى تعبير عن حريّتها في إذكاء التوقُّد:
ودعينا نحترِقْ في ضَمَّةٍ إنَّ حرّيَّتَنا في الاِحتراقْ
ويعبِّر الشاعر في موضع آخر عن هذه الضمَّة النارية بأنها: (حوار بين نارين)، كما هو عنوان إحدى قصائده الغزلية في (أولمبياد الجسد)، فالنار تتوق إلى الالتحام بنارٍ أخرى تزيدها لهباً:
أهواكِ عاصفةً يمتصُّ مُهجتَها حــرفــي، فـيــجــتــرحُ الــنـيـــرانَ والـحُـــرَقـــا
ويرتـمي فـوق أوراقي فــيُشعلها لا يصدقُ الحرفُ حتى يُشعِلَ الورقا
وفي هذين البيتين يتجلى أحد أسرار (سارق النار)، وباعث إضافيّ من بواعث (شعرية الجسد) عند جاسم الصحيح، فهو يوظِّف نار الحسّ لإيقاد جذوة الإبداع داخله، فالشعر في النهاية هو ناره الكُبرى التي يحرص دائماً على استمرار توقُّدها بإضافة المزيد من الحطب والحرائق الصغيرة إليها، وستدرك أنه لم يختر عنوان ديوانه (ما وراء حنجرة المغنّي) عبثاً حين تقرأ في إحدى قصائد الديوان هذا الاعتراف الذي يكاد يبوح بكلِّ شيء: “ما زلتُ أركبُ موجةَ الأنثى إلى شطِّ القصيدةِ كي أُدافعَ بالقصيدةِ عن خيالي”، وكم كان الشاعر قريباً من أن يكمل دائرة هذا التوظيف المتسلسِل الذي يختصر رحلته الشعرية لو أضاف بعد هذا الاقتباس: ولكي أدافعَ بالخيالِ عن اختياري، فهذه فيما يبدو دائرة الوجود عند جاسم: جسدٌ يكتمل بالمرأة، وامرأةٌ تُلهِم القصيدة، وقصيدةٌ تستكشف وثبةَ الخيال والإبداع، وإبداعٌ يدافع –كما سيتبين في محور لاحق- عن حرية الاختيار عند الإنسان، وحرية اختيار تنفتح على أفق السؤال والشكّ في صحة الاختيار، لتسقط في بئر الحيرة والقلق، ريثما تمدُّ حبالها من جديد إلى الجسد الساعي نحو الاكتمال بالمرأة.
وبينما ما تزال تتعجب من (ناريَّة) هذا الشاعر وحرائقه التي لا تنطفئ، سيزداد مع القراءة عجبك وأنت ترى شواهد (مائيّته) تتكاثر أيضاً أمام ناظريك، منذ أن قال في ديوانه الأول (ظِلِّي خليفتي عليكم): “خشْعةُ الماءِ رفْرفتْ في كياني”، ثم ما زال بعد ذلك يشكو من فيضان الماء داخله: “وحين تفيضُ بُحيرةُ أجسادنا باتساع المكان”، وليس بعد الفيضان سوى الغرق، أحياناً بمياه الحقيقة: “ما زلتُ أغرقُ في مياهِ حقيقتي”، وأحياناً بماء البكارة وطفولة الأشياء:
غرِقتُ مِن كلِّ شيءٍ في طفولتِهِ وعُدتُ أقطُرُ مِن ماءِ الطُّفولاتِ
ومن تحصيل الحاصل –في شعر جاسم- الإشارة إلى ما تُومئ إليه بعض هذه المائيات من دلالات غريزية، كهذا الوصف المائيّ للقاءٍ حميم:
هتفَ المصبُّ بِنا فبـاكَــرَهُ مِـنّا الـفُـراتُ مُـخاصِـراً دِجْـلـةْ
نـهرانِ ما انـكـفـآ كـأنـهما مِن مُـتـعـةِ الـجَريانِ في حفْلةْ
من أعلى ألسنة اللهب إلى أقصى تدفُّق السيل تنبسط أجنحة هذه الكينونة، والشاعر نفسه مُدرك لهذا الامتزاج الفائر بين النار والماء في داخله، وقد جعل عنوان ديوانه الثاني شاهداً على هذا الامتزاج: (عناق الشموع والدموع)، كما يشتمل ديوانه (أولمبياد الجسد) على أكثر من إشارة حائرة من هذا الامتزاج، كقوله: “هل أنا جسمٌ من الماءِ أم النارِ؟ تحيَّرتُ فوحَّدتُهما ملءَ شعوري.. حارتِ الغرفةُ بي وانبهرتْ من كتلةِ الجمرِ التي تسبح في مجرى الغديرِ” !
وكما هو متوقّع فإن ملعبه المفضَّل لإظهار هذا الامتزاج في أعجب تدافع له هو ملعب الغريزة: فلمّا تعانقنا تجلَّت حديقةٌ مِن النارِ فجّرنا بأعماقِها بِئرا
لمحمود درويش قصيدة بعنوان (وجوه الحقيقة) يبدو فيها وكأنه يصف هذا الامتزاج المحيِّر بين رقصة النار الصاخبة واندفاق الماء الغامر عند جاسم الصحيح، يقول درويش: “الحقيقةُ أُنثى مجازيّةٌ.. حين يختلط الماءُ والنارُ في شكلها.. والحقيقة شخصيَّةٌ في القصيدةِ.. لا هِيَ ما هِيَ أو عكسها.. إنها ما تقطَّر من ظلِّها “.
كانت القصيدة –أو الأنثى المجازية بتعبير درويش- هي ترياق جاسم للشفاء من معضلة هذا التدافع المتشاكس داخله بين أسئلة النار الحارقة وأجوبة الماء الرخوة، بين ضجيج البركان الثائر وهدوء المحيط المكتنز بالأسرار، في النهاية قدَّمتْ القصيدة له عبر إكسير المجاز ما كان بحاجة إليه لتخفيف حِدّة هذا التدافع: ما تقطَّر من ظِلّ الحقيقة.
3- نهر الحيرة ومِجداف السؤال:
ثيمة كُبرى لا تخطئها عينُ القارئ لشعر جاسم الصحيِّح: ثيمة السؤال اللحوح المرتاب، منذ ديوانه الثاني (عناق الشموع والدموع)، ثم غدتْ ظاهرة لافتة جداً في شعره مع ديوانه الرابع (رقصة عرفانية)، واستمرت متوهِّجةً حتى ديوانه الرابع عشر: (طيور تُحلَّق في المِصيدة)، وعلى امتداد ربع قرن: “لم يـَـخْبُ قِنديلُ السؤال” على حدّ تعبيره، فالتفكُّر يقود لا محالة إلى الاستشكال، و”الوعيُ مِصيدةُ السؤال” كما يقول أيضاً، وإذا كان الوصف الأكثر رواجاً بين متلقّي شعر جاسم أنه شاعر الصبوة والغزل، فإن الوصف الأقرب إلى حقيقته الأعمق أنه شاعر الأسئلة المتوالدة، وهو الذي يقول:
ما انفكّ يفتنني السؤالُ فقادني كالسـامـريّ إلـى عـبـادةِ عِـجْـلِـهِ
ويقول: وا حـيـرتـي وأنـا كُـثـبـانُ أسـئـلـةٍ تعدو بها رِيحُ أسلافي إلى خَلَفي
ويقول: فما حصّنتُ بالأوهامِ نفسي كــفــانـي أن يُــــحـــصِّـنـــنـــي ســـؤالــي
والسؤال حِصنه المنيع؛ لأنه مبتدأ العلم ومُنتهاه: “فإنْ لم يكن بُــدٌّ مِن العِلم فلْيكنْ سؤالاً..”، ثم إنّ السؤال المفتوح على مِصراعيه هو أقصر طريق لإبقاء دهشة الطفولة داخل روحه، ولهذا كان يقول:
لا بُـدَّ لـي مِن سـؤالٍ فـي طُـفـولـتِـهِ يبقى، وإنْ ساقني عُمري إلى الشَّيبِ
ولماذا يبقى السؤال الطفوليُّ مُشرَعاً بامتداد العمر؟ لأن إجابته تظلُّ غالباً محدودة ومؤقّتة ومتلفّعة بأرديةِ الغموض، وكم يشقى (الطفل الكبير) بهذا الغموض، وكم تُوجعه هذه الحيرة، وهو وجع مُضاعَف؛ لأنّ هذا العالم الغامض بطبيعته لا يستطيع مجاراة قدرة (هذا الطفل) اللافتة على شرح نفسه وتفسير نهجه، فكأنّ ضَعف التجاوب الكوني مع هذه الأريحية التفسيرية وهذا الشرح المسهِب المِضياف عنده هو ما يسبِّب له كلَّ هذا الإحباط والقنوط، إذْ ينصرم العمر وهو يتأمل الوجود المصمَت من حوله دون قدرة على النفاذ، كزجاجٍ شفيف مُحاطٍ من كل جهاته بجدران صمّاء.
أمَّا أسئلته فما أكثرها، حتى أثقل حملها كاهله وهو يقطع بها دربه المتلوّي الطويل:
كم مِن سؤالٍ على مَتْني أطوفُ بِهِ في التيهِ والدربُ مصلوبٌ على قدمي
ولكنْ يبقى لغز الموت والمصير من أكثر الألغاز استدراراً لأسئلته، وقد قال: “الغيبُ مأساتيَ الكبرى”، كما قال أيضاً: “روحي تحِنُّ إلى الغيوب”، وفي قصائده الرثائية الوفيرة لا يكاد يملُّ من إعادة طرح السؤال نفسه على المراكب المغادرة لشواطئ الحياة، وكأنه (صوتٌ على باب الخلود) يتساءل:
مـاذا وراء البحـرِ غير مسـاحـةٍ صمّاءَ يحرسها الغموضُ المطبِقُ؟
وفي مقدمته النثرية لديوانه: (كي لا يميلَ الكوكب) يتأمل جاسم القبور فلا يراها سوى سِلال مهملات تُرمَى فيها مُسوَّدات الكتابة، وكما هو معتاد يتجاوز سريعاً هذا المشهد المنظور، نحو سؤاله الاستشرافيّ اللحوح: “ماذا وراء سِلال المهملات تلك؟”.
وهو لا يهنّئ الموتى بشيء كما يُهنّئهم بوصولهم لمرفأ الجواب وكوكب الأسرار، يقول هذا في رثائه لأبيه:
يا صاعداً كوكبَ الأسرارِ تسكنُهُ روحٌ محرَّرةٌ من كوكبِ الضجرِ
كما يقوله في رثاء غازي القصيبي:
واليومَ حيث دعاكَ أترابُ الصِّبا وتـجمَّعـوا: تِـرباً مقابـلَ تِــربِـهِ
الــيـــومَ تــعـــرفُ أيَّ لــغـــزٍ غــــامـضٍ ألقى الحقيقةَ في غَيابةِ جُبِّهِ
ويقوله أيضاً في رثاء محمد الثبيتي:
الـيـومَ أمـسـكـتَ بـالـمـعـنـى وطـائـرِهِ وطـاشَ بين يديكَ الـرِّيشُ والـزغَبُ
كفاكَ في الموتِ سِـرٌّ أنت كاشِفُـهُ فاهنأْ بِكشْفِكَ واستمتِع بِما يَهَبُ
والطريف أنه مع نفوره من الأجوبة اليقينية القرببة التي تحاول إغلاق دائرة السؤال، كما قال يوماً: “وطفِقتُ أسألُ واليقينُ/الشيخُ يغتصِبُ الجوابا”، وتضجُّره من حصارها له وتضييقها عليه: “ها نحنُ أسئلةٌ ضاقَ اليقينُ بها”، فإنَّ هذا كلَّه لم يمنعه من محاولة تقديم إجابة عن حكمة الغيب وخفاء الأقدار واتساع أفق المجهول:
ومــاذا لـــو بَـريـدُ الـــغــيــبِ وافَـــى وشُـقَّ لـنـا عـن الـمـكـتــوبِ ظَــرفُ
أكـنَّـا نـحتفـي بالأرضِ؟ نـجلو قـمــاشــتَــهــا؟ نـــشـــقُّ بـِــهـا ونـــرفـــو؟
وهـل يــبـقـى لـنـا شَــغَـــفٌ إذا ما تـــصـــالــحَ بـــيـنــنا عُـــنُـقٌ وســيـــفُ؟
ولكن في نهر الحيرة الذي يجول فيه هذا المركب القلِق بمِجداف السؤال، سيظلُّ هذا الجواب (الافتراضي) أقرب إلى ومضة تائهة وسط الضباب، فالسؤال في هذا النهر: مِجدافٌ أبديّ، إذْ يبدو أحياناً وكأنّ هدفه ليس الوصول بالمركب المضطرب نحو الضفة المستقرة، بل الاستمرار في التجديف إلى ما لا نهاية، فالضفاف المطمئنَّة والساكنة من بعيد تثير دائماً ارتيابه القلِق المتحرِّك، فهو “خائفٌ من طمأنينةٍ تُصدِئ النفس”، بينما يمنحه النهر امتيازَ التوجُّس: “هنا قلقي لا يتوبُ ونفسيَ مصقولةٌ بالشكوك”، أو كما يقول في ثلاث قصائد لاحقة: “محشوَّةٌ بالشكِّ روحي”، و: “شكِّي رديفي..”، و: “شكِّي يُقلِّبني على حَسَكاتِهِ”، ولهذا كلِّه لا يكاد يستثني شيئاً من نظرات ارتيابه:
لا شيءَ في الخلْقِ لم أغرقْ بـريـبـتِـهِ الـخلْقُ أجمعُ طُوفانٌ مِن الرِّيَبِ
أطفـو وأحمـلُ جُـثْـمانَ اليقيـنِ علـى لـوحٍ بفلسفةِ المجهولِ مُضْطربِ
وفي مواضع متعددة من شعره يرثي يقينَه القديم وطمأنينته الغابرة: “أنا اليقينُ الذي أركانُهُ انهدمتْ”، ويصوِّر ذاته وكأنها بحرٌ صاخب الأمواج:
غرِقتْ بِهِ سُفُنُ اليقينِ ولم أزلْ عـبـثـاً أشــدُّ حُــطــامَــهـا وأُلـملِـمُ
ونمتْ شكوكي في مداهُ أظافِراً طُولى، وما كلُّ الشكوكِ تُقلَّمُ
ويعجب حين يتذكر خطواته الأولى على الدرب؛ كيف تغيّرتْ رؤاه وتبدلّتْ أحواله:
صوفـيّـةُ الشـرقِ القديمـةُ لم تـعُـدْ تُذكي مزاميري بوهجِ غنائي
أأنـا أنـا الإنسـانُ في صــلـواتِـهِ- الأُولى يُـروِّضُ وحشـةَ الآنـاءِ ؟
يا صوتَ تاريخي سمـاحـةَ غـافِرٍ إنـي غــدرتُ بِـعِـفَّـةِ الأصداءِ !
وفي مقدمته النثرية لديوانه (ما وراء حنجرة المغني) مناجاة متهدِّجة لليقين المنحني لرياح الشكّ العاصفة، وسيتعاظم هذا الانكسار لاحقاً مُورِثاً إحساساً غامراً بالتيه والغُربة:
ما بين شكِّيَ واليقينِ مسافةٌ ضـيَّـعـتُ في غُــرُبـاتِـها عنـوانـي
في دواوينه الأخيرة؛ بدءاً من ديوانه (كي لا يميلَ الكوكب) سيتجلى الشك بصورة أكثر تماسكاً وعناداً، وستكبر الأسئلة، كما هو واضح في قصائده: (اعترافات لم تكتمل أورادها)، و(سُقراط.. السُّمُّ العبقريّ)، و(كتابي ترابُ الأرض)، و(دموع نون النخلة)، و(حسب تقويم الغراب)، و(العابر في التآويل)، وهو ما يومئ إليه قوله في قصيدة (ساكنٌ بين احتمالين):
عُـذتُ بِـالـشكِّ أن أبــوءَ بمعنًى فـي غـديــرٍ مـن الـقـنـاعــةِ ســـاكِــنْ
وقوله كذلك في قصيدة (لا عِشتُ شِركاً في هواكِ):
وأنا صديقُ (المؤمنين) وإنْ تكنْ روحي بأكثرِ ما ارتضوهُ مُشكِّكةْ
ومن اللافت أن هذا الشعر المرتاب كثيراً ما يستوحي (الهدهد السليماني)، فهذا الطير –بالإضافة إلى الغراب: معلِّمنا القديم- من أكثر الطيور استدعاءً رمزياً في شعر جاسم، ولكنّ رمزية الهدهد لا تُحيل عنده إلى معنى (النبأ اليقين) كما هو متوقع، بل على العكس: إلى معنى الشكّ والحيرة والشتات، يقول في (رقصة عرفانية): “كم جرحنا (هُدهُداً) بالشكِّ حين اختلَّتِ النجوى”، ويقول في (تضاريس الهذيان):
فكيف أجرُّ أقدامي وأمضي وهُدهُدُ رحلتي قَدَرٌ شتيتُ !
ويفسِّر الشاعر في ديوانه (كي لا يميل الكوكب) لماذا تبدو محاولات الهُدهد في إقناعه بما لديه من (نبأ يقين) غير مُجدية:
عندي شكوكُ سُليمانٍ، فمعذرةً إذا ذبحتُ برأسي (الهدهدَ) الفطِنا
وكنزوعٍ طبيعي ستبحث هذه الحيرة عن آبائها، فتمدُّ حبالها بعيداً نحو كبار الحائرين، ومن أبرزهم: أبوالعلاء المعري، وقد خصه الشاعر بالاستلهام في أكثر من قصيدة، مثل قصيدته الحائرة: (ارتطام بجدران الذات) التي أخلصها بالكامل لمناجاته، وفيها يقول:
شُـدّ فـي مُـهــرة اليـقـيـن رِكــابـي إنّ دربـــي مُـــعــــبّـــدٌ بــارتـــيـــابــي
آهِ يــا فـــاتِــحَ الـمجـاهـيـلِ مـاذا شدَّني من غموضكَ الخلّابِ
نـحنُ.. من نـحن؟ غيـر وحـدةِ ضِـدَّيــنِ: يــقـيــنٍ مُـبـطَّـنٍ بارتيابِ
ثم استحضره بعد ذلك في قصيدة (ساكنٌ بين احتمالين)، وفيها يقول:
لم يفتْني بأن أخفِّفَ وطْئي لم أخُنْ –يا أبا العلاءِ- المدافِنْ
كما استحضره كذلك في قصيدة (حسب تقويم الغراب)، فقال:
لم يـخْبُ قِنديلُ السؤالِ، ولم تَـخُنْ بأبي العلاءِ شَرارةٌ في (زَندِهِ)
ثم لن تعدم الشواهد المتكررة على استلهامه المستمر –غير المصرَّح به- لروح المعري وموقفه المنقبِض من العالم وجدوى العيش، كقوله مثلاً في قصيدة (ملائكة بلا سماء):
تُــكـــرِّرنـا الـحكـايـةُ كـلَّ يـومٍ كــأنَّ حــيـــاتَــنـا نــسـخٌ وحــذْفُ
إذا رحِمٌ هنا بصقتْ وليداً تفورُ على شِفاه الدهرِ (أُفُّ)
يبقى أن نقول: إن الشاعر –في موازاة كلِّ هذه الخلجات الحائرة- قد هيّأ جوابه لمن يُسارعون إلى الاستنتاج، فهو لا يرى أن سؤال الشكّ يتعارض مع الإيمان؛ لأنه كما يقول: “لا دليلَ يقودني نحو الحقيقةِ غير شكّي في الحقيقة”، وبصياغةٍ أكثر وضوحاً يقول في قصيدته (مناجاة عرفانية):
ما زالَ في الأرضِ ما يكفي مِن الغيبِ لــكــي أظـــلَّ غـــريــقــاً فـــيــكَ يـــا ربـــي
كــــثــــافــــةُ الله فــي نـــفــســي يُـــضـــاعِـــفـــهــــا شكِّي، فلا بدَّ مِن شكٍّ ومِن رَيبِ
لا بـــــدَّ لــــي مِــــن ســـــؤالٍ خـــــالــــدٍ أبــــــداً يـــــشــــدُّنــــي لـكَ بــالإيـــمــــانِ يـــا ربّــــي
وستجد أنه –حتى في دواوينه الأخيرة- يؤوب في كلّ مرة إلى روحانية شفيفة، فيقول: “يا ربُّ أقِلْني مِن عثراتِ العقلِ الواهنِ.. علِّمْ روحي كيف تجدِّدُ غابتَها أشجاراً وهواءْ… يا ربي لا تتركْ في العتمةِ قلبي.. لا تتركْ (يوسفَ) في أعماقِ الـجُبّ”، ويقول:
يا صائغَ الغيبِ والإيمانُ جوهرةٌ مِـمّا تصوغُ فأصلِح خدشَ إيماني
ويقول:
في ياءِ (يا ربُّ) ارتفعتُ ولم يزلْ جذْري بأعماقِ الثرى متبتِّـلا
مــا زِلــتْ مِــئـذنـةً تُــفـاوِضُ أُفــقَـهـا في حـيِّـزٍ أعـلـى لـتُـصبِحَ أطـولا
4- وتر النحيب المشدود على المقام العراقي:
في فاتحة ديوانه الـمِنبري المبكِّر: (أعشاش الملائكة) كتبَ جاسم الصحيِّح مقدمة نثرية بعنوان (أنايَ الشعرية)، كانت أقرب إلى مُرافعة حِجاجية، دفاعاً عن شعر الـمناسبات، وعن مشروعية الجمع بين الأنا الذاتية والأنا الجماعية في التعبير الشعري، والواقع أن سيلاً من الأسئلة لا يلبث أن ينهمر عليك وأنت تقرأ المجموع الشعري الكبير الذي ضمّ دواوين جاسم المِنبرية، فتتساءل: أهذا حقاً هو نفس الشاعر الحسِّي اللعوب والمتلذِّذ الطروب؟ تُرى من أيِّ بئرٍ غائرِ العويل يغترف حزنه الشجي كلما تبدَّل مِزاج القبيلة؟ ومن أين لشاعرِ اللهفةِ الحسّية والشكّ العقلي المتغلْغل إلى أقصى الروح هذا الاندماج المدهش في أجواء المراثي الطقوسية ومقامات الأحزان (الولائية) حتى يغدو فارسَها المجلّي وشاعرَها الأشجى، فينظم عشرات القصائد البكائية التي تكتنز بها ثلاثة دواوين تستغرق بمجموعها 600 صفحة من القطْع الكبير؟ تُرى أهي وشائج الذكرى؟ بصماتُ الطفولة؟ ملامح القرابة؟ وحدةُ التوجُّس؟ اشتراك المصير؟ حرارةُ الدم؟ جاذبية (النموذج الأسطوري) في التاريخ؟ رمزية الترفُّع والممانعة؟ أيقونة الكرب والمعاناة؟ ثم كيف يمكن الجمع بين النظرة المرتابة المدقِّقة في متن القصة بمجملها، وبين التصديق الخاشع المبهور بحاشية محددة من حواشيها؟ وهل كان شاعرُنا (شاعراً) بهذه المفارقة التوليفية بين الشكّ الأوليّ الواسع والتسليم الانتقائي المحصور حين قال في قصيدة (شُبّاكُكَ الـمَبْكَى):
دمُـكَ اليقيـنُ وما سِواهُ مُرشَّحٌ للشكِّ.. للتدليسِ.. للوسواسِ !
ثم حين قال في قصيدة (رحلة في جرح الحسين):
أقـيـسُ بـحـبِّـكَ حـجـمَ الـيـقـيـنِ فــحــبُّــكَ فــيــمــا أرى مــرجــعــي
خـلعـتُ الأسـاطيـرَ عنّي سِـوى أســاطــيـرِ عِـشـقِـكَ لـم أخــلــعِ
وجِـئْـتُكَ فـي نـشْـوةِ اللا عقولِ أجــرُّ جـــنـــازةَ عـــقـــلـــي مــعـــي !
الغريب أن الشاعر نفسه كان قد تعجَّب –قبلنا- من هذا الشجن الذي يعتريه ويُسيل في نهر الحزن قوافيه، على الرغم من انصراف نفسه إلى الاستمتاع بالحقول الأرضية، والتغنّي بمباهجها الراقصة: كيف تسنّى لشجر المراثي الكئيب أن يجد مكاناً رحباً وسط هذه الحديقة الصاخبة المزدحمة بأزهار الغزل وروائح الصبابة.. لولا (بئر العويل) المدفون بإحكام تحت تُربتها الناضرة:
قـفَّــيتُ روحيَ بالحقـولِ، فيا تُرى مِن أيِّ قافيةٍ أسايَ تسلّلا ؟
أحنو على شجرِ المراثي في دمي وأشُـدُّ غُـصناً بالعويلِ تهدَّلا
وهذا السبْق في التعجُّب والتعليل شاهد واضح على ظاهرة (الاكتفاء الشعري) عند جاسم، وأقصد بها: أن شعره يُـؤوِّل نفسَه بنفسه، حتى يكاد يبدو مُستغنياً عن الشرح والتفسير، ويعود هذا إلى أمرين: أولهما: الحساسية النقدية العالية عند الشاعر التي تمكِّنه من التقاط ثيماته المتواترة ومفارقاته الدلالية أيضاً، ومحاولة تأويلها إبداعياً في قصائد لاحقة، ليحقِّق قدراً من الانسجام في رؤيته الشعرية، وثانيهما: حرصه اللافت على البوح وكشف ذاته أمام المتلقي، وكأنه يدوِّن –بالشعر- سيرتَه الذاتية، وهذا الحرص على البوح هو ما يجعله أميل إلى التعبير الواضح والتصوير الـمُبين، وسيأتي تفصيل الحديث عن هذه السمة الأسلوبية في المحور السابع من هذا المقال.
من (بئر العويل) إذن يغترف الشاعر هذا الشجن الجماعيّ، ولهذا يقول في قصيدته (ملائكة بلا سماء): “أتينا مِن سُلالاتِ المراثي”، ويقول أيضاً في قصيدته (أعمى وتُخطِئني عصاي): “إنَّ الحزنَ بيتُ سُلالتي منذُ السُّلالةِ والعويلُ سليلُ أجدادي القديمُ.. وما أنا إلّا حفيدُ الحزنِ يحملني عويلي”.
أمَّا ما يؤكد أثر (الحمولة الرمزية) في إبقاء هذا الوتر الوجداني مشدوداً، وقادراً على مقاومة كل ارتخاء (عقلي) فهو: أن تجد الذاتُ الشاعرة في الرمز مِرآة لما تعانيه هي من مُكابدات خاصة:
الـــكـــــربـــلاءاتُ الـــتــي كـــابـــدتُـــهــا في النفسِ، شدَّتْني بثورةِ كربلا
بلَّلْتُ صوتيَ بالحسينِ، فما ترى أيـجِـفُّ صـوتٌ بالحسينِ تـبلَّلا؟
وهي تجد في هذا الرمز أيضاً عنواناً عريضاً يؤكد (العَود الأبديّ) الذي تتسم به المأساة الإنسانية، حتى كأنّ الزمن لا مهمةَ له سوى المحافظة على أظفاره الطويلة كي تنكأ في كلّ عهدٍ الجراح القديمة:
وكـلّـمـا عـاد في أحـجـارِ زَلَّـتِـهِ قابيلُ، أيقظَ جرحَ الكربلاءاتِ
وأمَّا ما يشهد لأثر (وشائج الذكرى والملامح الإنسانية) في استمرار هذا الحنوّ على (شجر المراثي) عند الشاعر فهو: ما يكتنزه هذا المجموع من قصائد رثاء وثناء موجّهة لشيوخ وأعلام وأصحاب يبدو أن أهمّ ما يجمعهم بالشاعر هو: العلاقات الإنسانية؛ بصرف النظر عن التوجُّهات الفكرية المتباينة، ولك أن تعود مثلاً في ديوان (أعشاش الملائكة) إلى قصيدته بالغةِ الشجا (دموع بين القُبّة والمِحراب) التي رثى بها إمام المسجد في قريته الصغيرة: علي الخليفة، وكذلك في ديوان (كاتب الوحي الأخير) إلى قصيدته التي رثى بها جاره (المؤذِّن)، لترى كيف تنهمر غيوم الوجْد عند جاسم حين يتجسد الدين في ملامح إنسانية نبيلة.
على أنّ وتر النحيب ما كان ليظلَّ مشدودَ الإيقاع؛ لو لم ينعقد أنغاماً وأشجاناً على المقام العراقي، إذْ يبدو العراق في شعر جاسم وكأنه وطن الروح، لا بإطاره الجغرافي (الرسمي)، بل بإرثه التاريخي الثقيل الذي يثير في نفسه الكثير من الأسى واللوعة والحنين، وهنا تحديداً نصل إلى الجرح، بل إلى نهر الجراحات داخله، فالعراق في وعيه الثقافي والشعري هو: خريطة كُبرى من الوجع، أو نسخة أخرى من (طريق الآلام) في المسيحية، وبسبب هذا الرمزية الوجدانية المكثَّفة لم يكن غريباً أن يقول الشاعر: “لم يكتملْ وطنٌ على خطِّ استواءِ العشقِ في روحي كما اكتملَ العِراقْ”، وأن يقول أيضاً:
فإذا انتميتُ إلى العراقِ فعاذِري أنَّ العراقَ عراقُ كلِّ الناسِ
والعراق حاضر دائماً في وجدان الشاعر، مهما كان الموضوع الشعري الذي يستقطب اهتمامه، فها هو ذا يتأمَّل مقلتي الحسناء، فلا يذكِّره بريقهما بشيء كما يذكِّره بنهري العراق:
خَطَرتْ مُقْلتاكِ فاخْضرَّ قلبي مُقْلةٌ (دِجْلةٌ)، وأخرى (فُراتُ)
وتذكِّرنا هاتان المقلتان النهريّتان بشاهد آخر مرّ بنا في المحور الثاني من المقال استحضر فيه الشاعر أيضاً نهري العراق حين: (هتفَ المصبُّ بِنا فبـاكَــرَهُ.. مِـنّا الـفُـراتُ مُـخاصِـراً دِجْـلـةْ)، أمَّا في قصيدته (الحب عزفٌ مثنّى)، فيحكي كيف برّح به الشوق إلى المحبوبة، ثم كيف أذكتْ وجْـدَه أغنيةٌ عراقية باكية كتب كلماتها الشاعر العراقي مظفّر النواب تحت عنوان: (للريل وحمد)، وفي تصوير هذا الانخطاف يقول جاسم:
أُصغِي لــ(مَرَّينَ بِيكُمْ) حيث يدهسُني (ليلُ القِطارِ)، ويبكي داخلي (حَـمَدُ)
وتصعيداً للعزف على (المقام العراقي) يتعجب الشاعر في ديوانه (وألنَّا له القصيد) من اقتران المآسي بالعراق: تاريخاً، وواقعاً، وأفقَ احتمالات:
ينمو العراقُ وليس في غدِهِ غدُ ويجودُ لكنْ ليس في يدِهِ يدُ
وطـنٌ ذخيرتُـهُ الـفَرادةُ في الأسى وكـذا جـمـيـعُ الأنـبـياءِ تفرَّدوا
وطـنٌ تــعــلَّـمَ مِــن ســـوادِ مـصــيــرِهِ ألّا يُـــفـــاجِـــئَــه مــصــيــرٌ أســودُ !
وللشاعر ملحمة شعرية بعنوان (سُقياكَ يا والدَ النهرين)، ألقاها في مهرجان بغداد الشعري قبل عشر سنوات، وتغنَّى فيها بالعراق ما شاء له التعلُّق، وبكى مآسيَه التاريخية ما وسِعه لسانُ الجرح:
هـــنـــا الـــعــــراقُ ولــولا مــاءُ دِجْـــلـــتِــهِ مـا كـانَ صلـصالُ هذا العالمِ انـعجنا
فـيـا قـديـماً تجلّى -والمـدى عَـدَمٌ- فمهَّدَ الأرضَ حتى أصبحتْ سَكَنا
تـالله يــا والِــدَ الـــنــهـــريـــنِ لـــو جــبــلٌ لاقَى من الدهرِ ما لاقيتَ لانطحنا
ما زلتَ كبشَ فِداءِ الأرضِ يذبحهُ ربُّ الــقـطــيـعِ لـكـي يُـــرضـي بِــهِ وَثَــنـا
ثم ما تزال حماسة الشجا تُحرِّض الشاعر حتى يعلن براءته من ثقافة الصحراء ومعلَّقات الأطلال، منحازاً لحضارة الماء وثقافة الأنهار:
أتــيــتُ أنـفضُ عـن نــفسي (معلَّـقـةً) مِــن الــــوصـــايــــا فـــلا ربْــــعــــاً ولا دِمَـــنـا
ولا تــــســـــلْ شــــاعـــــراً عـــمّـــا قـــبــــيــلــتُــهُ تـــحـــيـــا بِــمــيــراثِـــهـا مِــن شــقْـــوةٍ وعَــنــا
جـــدِّي الـــفـرزدقُ لـم يــبـرح يُـطــارِحُـهُ عــــمِّــــي جــــريـــــــرٌ سُــــبــــابــاً بــائِـــتـاً نـــتِـــنـا
دعني أُعاتِبُ حادي العِيسِ في لُغَتي: كم كانَ أهدرَ في الصحراءِ نهرَ غِنا !
لا تـــــخـــدعـــنَّـــكَ أســــفــــــارٌ مُــــذهَّـــبــــةٌ فـــربــمـا تـــحــمـــلُ الــدِّيــدانَ والـــعـــفَـــنـــا
والعشق لا منطق له، وإلّا فهل كان جرير والفرزدق يعيشان (ويتسابّان) في مدينة أخرى غير (البصرة) العراقية؟ وهل كان الشاعر نفسه قد (أهدرَ في الصحراءِ نهرَ غِنا) حين نظم قصيدتيه الـمُطوّلتين اللتين حاورَ بهما كلاً من: امرئ القيس، وعنترة العبسي في ديوانيه: (رقصة عرفانية)، و(قريبٌ من البحر)؟ ثم ما الذي سيبقى من الشعر العربي الذي نظمتْه (الحواضر) –ومِنها حواضر العراق- إذا أزلنا ميراث الصحراء منه؟
يبقى أن (مظلّة المناسبات) هي ما يشدّ خيوط النظم في معظم قصائد الدواوين المنبرية الثلاثة التي يضمُّها هذا المجموع الشعري، ليس فقط عبر طغيان (الأسلوب) المنبري فيها، بل أيضاً عبر هذا الحرص (الموضوعي) على شمول القصائد لأهمّ الأحداث التاريخية الفارقة والأعلام المؤسِّسين الذين يلهج بذكرهم الوسط العلمي والمحيط الشعبي، يُضاف إلى هذا مجموعة من القصائد الموجّهة لشخصيات ورموز معاصرة، وأخيراً: قصائد مكررة سبق نشرها في الدواوين (العامَّة)، ولهذا الملحظ الأخير دلالته، إذْ كأنّ هناك تمييزاً بين نوعين من القرّاء، فالقرّاء الذين يتلقّون هذه الدواوين المنبريّة ربما لا يتطلعون كثيراً لقراءة الدواوين الأخرى للشاعر، ولهذا لا بأس من إحضار بعض القصائد المناسبة لهم.
ويبقى لنا في ختام هذا المحور أن نقول: إن المقام العراقيّ -بكلّ ما فيه من جاذبية الأسى وأسى الجاذبية- لم يُنسِ هذا الشاعر الـهَجَريّ أحسائيّته، وقد تغنّى بها طويلاً على امتداد دواوينه؛ ولكنها كانت تظهر في كثير من الأحيان في صورة نخلة متوحِّدة أو واحةٍ منعزلة عمّا يحيط بها من رمال وكُثبان.