كان لفيلسوف القرن التاسع عشر الألماني أرثر شوبنهاور عدة أفكار مثيرة حول أشكال أجسام الحيوانات، وقد تأثر بكانط وأفلاطون والفكر الهندي الكلاسيكي، ورأى أنَّ عالم الأشياء الظاهرة («الظواهر») من حولنا -كل شيء من العشب إلى المجرة- مجرد وهم، وأنَّ ما يَكْمُن تحت عالم الظواهر ويوحده هو الإرادة؛ ليست إرادة هذا الشيء أو ذاك، بل الإرادة المُجرَّدة النهمة التي لا شكلَ لها.
في عالم الظواهر تتجسَّد هذه الإرادة في الرغبة الباطنة للحيوانات والنباتات تجاه الحياة. ومع أنَّ اهتمام شوبنهاور بالحيوانات كان اهتمامًا تقدُّميًّا إلى حد ما، إلا أنه اعتقد أنَّ البشر فقط -بل قلة منهم- قادرون على تجاوز الحاجات الأساسية كالغذاء والجنس والراحة لتحقيق درجة عالية من التأمُّل اللامبالي؛ لهذا اعتقد شوبنهاور أنَّ الحيوانات الدنيا تُبقي وجوهها قريبة من الأرض؛ لتعلف وتبحث عن الغذاء وتبتعد عن الحيوانات المفترسة و«كذلك الحيوانات العليا يبقى الرأس والجذع متحدَيْن خلافًا لرؤوس البشر التي تبدو حرَّةً على الجسد، كأنها محمولة بلا فائدة للجسد».
إن كان هذا الكلام عن التسلسل الهرمي للحيوانات والرؤوس الطافية يبدو غريبًا لنا، فإنَّ الفضل يعود إلى تشارلز داروين؛ فلقد علَّمنا النجاح التفسيري المذهل لنظرية التطور: ألَّا نرى الأنواع تعبيرًا عن مبادئ ميتافيزيقية، بل نتيجة إجمالية لعدد هائل من الطفرات العشوائية؛ فرأس الزرافة ليس بعيدًا عن الأرض؛ لترفع عينيها نحو النجوم وتتأمل أسرار الكون، بل لأنَّ الورق في مكان عالٍ.
لم يتراجع شوبنهاور عن رأيه الذي استثنانا –نحن البشر- منه فيما يتعلق بالمستويات «العليا» للإدراك، ونحن نفترض أنَّ البشر فقط هم من يفكِّر من أجل التفكير لا غير؛ فإننا نسعى إلى المعرفة لذاتها. ونحن النوع الوحيد الذي ينكبُّ على نوع من التأمُّل العقلاني يسميه أرسطوطاليس التنظير (theoria)، والذي اعتقد أيضًا اعتقادًا غير مفاجئ أنه أعلى لذة ممكنة.
لكن لاحظ عدد من الفلاسفة -ومنهم جاستن إيريك هالدور سميث- أنه من الصعب الإصرار على أنَّ العقل محصور على الإنسان دون افتراض أنه هبة إلهية أو تعريفه تعريفًا منحازًا على نحو مريب. قد لا تكون الحيوانات الأخرى تفكر بعمق، لكن يبدو أنها لا تنفك عن اتخاذ قرارات ذكية. إن كان «التفكير» هو القُدرة على التصرف تصرفًا «يناسب» ظرفًا ما؛ فالبطة حين تختار مكانًا لعشها والثعلب حين يطارد فريسته يتصرفان بعقلانية مثلما يفعل المهندس أو المحاسب.
ورغم ذلك، فإنَّ ما يبحث عنه الثعلب هو الغذاء والمأوى لا الحقيقة، وهو لا يتساءل عن حركات الشمس والقمر ومرور الفصول؛ بل هو منشغل تمامًا بألَّا يموت، وليس لديه الملكة العقلية للخوض في التفكير المجرد. إنَّ «الحقيقة» في جوهرها ظاهرة لُغوية، وقليل من الحيوانات تُظهِر قدرةً في اللغة، وعندما يتعلق الأمر بالمناقشة الفلسفية كالتي تقرؤونها الآن، فيبدو أننا فقط القردة الناطقة.
هذه القفزة -من «العقل» بوصفه قدرة تطورية لاتخاذ أفضل القرارات إلى «الحقيقة» بوصفها غاية التحقيق العقلاني- تثير إشكالًا، فإن كنا حيوانات متطوِّرة، فالتفكير أيضًا مَلَكة مُتطوِّرة وتعتمد على الأدمغة التي هي نتاج التطوُّر. وإن كان التفكير نِتاج التطوُّر، فإنه قد تطوَّر ليُساعدنا على البقاء. حتى الأشكال النظرية والمعقدة من التفكير، لا بد أنها تطورت لتعطينا أفضليةً ما في البقاء؛ حيث إنها تُمكننا من الانتصار في النزاعات أو إيقافها، وفي الإقناع؛ لنحصل على أكبر حصة من المصادر المتاحة. إننا لم نُطوِّر ملكة التفكير؛ لكي نتبصَّر في طبيعة الأشياء، بل لنُبق أنفسنا أحياء.
إذن، البحث في الحقيقة يعني توظيف الدماغ في شيء لم يُبنَ من أجله بالضرورة، لكن لا بأس؛ فيمكن للأشياء أن تملك أكثر من وظيفة، وربما كانت قدرتنا للوصول إلى الحقيقة صدفة جميلة وعرضًا جانبيًّا لعملية التطور، لكن لمَ يجب علينا أن نثق في أدمغتنا لتقوم بالعمل الإضافي؟ ماذا سيحدث إن كانت معرفتنا لما هو حقيقي ليست حقًّا ما سيُعيننا على البقاء؟ نحن على دراية كافية بحالات يكون الأفضل فيها تصديق أشياء غير حقيقية. في مسرحية البطة البرية لهينريك إبسن، يستحسن الدكتور المُتشائم ريلينغ «أكاذيب الحياة» تلك الأوهام غير الضارة التي يلجأ إليها الناس لاستكمال يومهم بسلام: «اسلب أكاذيب الحياة من الرجل العادي، وستسلبه سعادته»، وقد أثبتت بعض الدراسات أنه يرى المتشائمون العالم رؤية أدق من المتفائلين، ولكنَّ المتفائلين يعيشون عمرًا أطول.
إنَّ السؤال يتجاوز المُعتقدات الفردية الكاذبة، فلماذا ينبغي لنا تصديق أنَّ ما تقوله أدمغتنا حقيقة إن كانت قد بُنيَت لتعيننا على البقاء، أو بصورة أدق -ولو قليلًا- لنقل جيناتنا؟ كيف لنا أن نتأكد أنَّ أدمغتنا تُرينا الأشياء كما هي حقًّا، ولا تُرينا ما يُفيدنا تصديقه؟ الإجابة سهلة ، وهي أنَّ الحيوان الذي لا يعرف ما الحقيقي سيجد صعوبة في الازدهار، خلافًا للحيوان الذي يستطيع التفريق بين الحقيقي والكاذب. إن كنا مخطئين منهجيًّا حول ماهية العالم، فلن نكون ناجحين في هذا العالم، لكن إن كانت الانحيازات التي تُضلِّل حواسنا إزاء الواقع -من قبيل التفاؤل- قادرةً حقًّا على مساعدتنا في البقاء، فهذه الإجابة ليست صحيحة تمامًا؛ فربما لا يقودنا العقل بعيدًا جدًّا عن الحقيقة، لكن إن كان العقل ملكة مُتطورة، فلا نضمن اختيار الحقيقة دون المنفعة، وليس ثَمَّ نهج واضح يُحدِّد متى يجب ألا نأتمن العقل.
من الصعب أن نستخدم العقل لحلِّ هذه المشكلة، بالنظر إلى أننا بصدد الحديث عن مدى موثوقية العقل. في أحسن الأحوال، ربما نظن أنَّ الحقيقة هي حصيلة ثانوية نشأت من معاناة نوعنا من أجل البقاء؛ وفي أسوأ الأحوال، ربما لا نجد سبيلًا إلى الحقيقة أبدًا. هذه المشكلة تُماثل مسألة العلم؛ فإننا نعلم أنَّ المنهج العلمي ناجع عمليًّا، لكن كيف يمكننا اختبار نجوع المنهج العلمي؟ إحدى الأشياء التي لا نستطيع فعلها هي أن نُحقِّق في المنهج العلمي باستخدام المنهج العلمي؛ لأننا سنقع في [مُغالطة] الدَّور. وإذا كنا لا نستطيع إثبات نجوع العلم باستخدام العلم، فهل من المعقول الاعتقاد أنّ أدمغتنا المتطورة يمكنها إعطاءنا إجابة موثوقة حول ما إن كانت أدمغتنا المتطورة يمكنها أن تعطينا إجابات موثوقة؟
بالطبع، يمكننا قلب هذا التفكير رأسًا على عقب، إن كنا -معاشر البشر- مدفوعين بفكرة الحقيقة، ونسعى إليها من أجل ذاتها، فقد ينفعنا العثور عليها في البقاء. وبعد كل هذا، من الواضح أننا أنجح نوع على الكوكب -خصوصًا على حساب المخلوقات التي تخفض وجوهها أرضًا- لنأمل فقط أننا نعرف حقًّا ما نفعله على أكثر من صعيد.