أنظر إلى بعض ما فعلْتُه في الأربع وعشرين ساعة قبل كتابتي لهذه المقالة، فكان الآتي:
جلست ساعة أشاهد حلقة من مسلسل درامي أشاد به أصدقائي، فاتّضح أنه ليس على ذوقي، وقضيتُ عشرين دقيقة على البريد الإلكتروني أرد على صديق، ولكن في الحقيقة ليس له دور مهم في حياتي. وكالعادة، أضعتُ ساعة أو ساعتين على وسائل التواصل الاجتماعي. سأتوقف هنا؛ لأنَّ القائمة مملة للغاية، وهذه هي الفكرة تقريبًا أني قد قضيتُ وقتي الثمين في النشاطات غير الهادفة. وتحت خطر الإساءة إليكم، أراهن أنكم فعلتم ذلك أيضًا.
لكن كما لاحظ بعض الفلاسفة والحكماء، ثَمَّ شيء مذهل هنا: ما دمت سأموت، وأعلم أني سأموت؛ فلمَ أقضي وقتًا في كثير من الأشياء التي أهتم بها اهتمامًا عاديًّا؟ ولماذا أتصرَّف كأن وقتي ليس نادرًا؟ فكِّر في هذه المسألة، وربما تبدأ في الاتفاق مع ما تقوله الشخصية في المهابهاراتا -الملحمة السنسكريتية ذات المائتي ألف بيت-:”إنه أغرب شيء في العالم؛ حيث إنَّ مئات وآلاف الكائنات الحية يأتي أجلها في كل لحظة، لكنَّ الحمقى يحسبون أنفسهم لا يموتون ولا يستعدون للموت”. يشير سينيكا الرواقي إلى النقطة نفسها في رسالته عن قصر الحياة؛ إذ يؤنِّب أقرانه الرومان على تصرفاتهم، وكأنهم يملكون الوقت كله، وهم يعلمون -حق العلم- أنهم لا يفعلون.
حينما تفكِّر في الأمر، فقد تراه سخيفًا، لكنه مُرعب أيضًا، مثل أي شيء يتعلق بالموت؛ وربما هذا سبب تحاشينا له.
بالطبع، إحدى سبل فهم موروث علم النفس الذي نشأ مع سيغموند فرويد وتلميذه كارل يونغ -الذي أصبح نِدًّا له فيما بعد- هو أنَّ شخصياتنا تشكلت حول محاولة رفض واقعنا البشري ليس رفض محدودية زمننا فحسب، بل رفض انعدام سيطرتنا على مُجريات الحياة والناس وحياتنا العاطفية، وكما يقول المعالج النفسي بروس تيفت: “إننا نبذل جهدًا هائلًا؛ كي نتجاوز ما يُشعرنا أننا «مخنوقون، ومحبوسون، وعاجزون، ومكبلون بالواقع». إنَّ واقعنا محدود بطبيعته، لكننا سنفعل أي شيء؛ لئلا نواجه هذه الحقيقة”.
تصبح كثير من السلوكيات التي يصعب تفسيرها أكثر منطقية حين يُنظر إليها بهذه الطريقة؛ إذ تمثل جهودًا؛ لتفادي الشعور -على المستوى العاطفي- بأنَّ الحياة محدودة بمحدودية الإنسان. أهي فوبيا الالتزام؟ مجرد رغبة في الشعور بانعدام القيود؛ لتفادي حقيقة أنَّ الالتزام بعلاقة واحدة يعني حتمًا رفض الآخرين في الوقت الراهن ورفض حرية العزوبية أيضًا، أم هو التسويف؟ في الغالب هو رغبة لتفادي الحقيقة التي تقول: إنَّ البدء في مشروع يعني عدم إتقانه؛ فمن الأيسر عدم البدء والانغماس في خيالات أنك عندما تبدؤه مستقبلًا ستتقنه.
أو خذوا تجربتي الشخصية حول كل هذا؛ فلدي هوس أخذ ينمو لسنوات حول أساليب الإنتاجية الشخصية، وفهمت لاحقًا أنه يُشير إلى الشيء نفسه تقريبًا؛ لقد كانت محاولةً؛ لتفادي الشعور بالمحدودية واهمًا أنه في أي يوم من الآن -عندما تكون الأمور في نِصابها – سأصبح مؤهلًا ومتمكنًا من كل شيء.
إن كان هذا الإنكار يُسعدنا، فقد لا يكون سيئًا؛ فبعد كل شيء، يجب ألَّا نفترض وجود فضيلة خفية في مواجهة الحقائق المؤلمة لمُجرَّد مواجهتها؛ فإنه لا يُسعدنا، بل يُفرِّغ الحياة من قيمتها، ثم إننا إذا ما أصررنا على إنكار الواقع، يحرم الخائف من الالتزام نفسه من التجربة الغنية للعلاقات، ويحرم المُسوِّف نفسه من مزايا نشر عمله للعالم، حتى لو كان غير متقن. كما أنَّ هوسي بالإنتاجية زاد جدًّا بتقديم الكفاءة على ما عداها؛ لأنه كلما ازداد ما أستطيع فعله، ازداد شعوري بما يجب عليَّ فعله.
هذه السلوكيات -المُصنَّفة في التحليل النفسي تحت بند «العُصابيَّة»- «دائمًا ما تكون بديلًا عن المعاناة الطبيعية» كما يقول يونغ؛ فتجربة مواجهة الواقع تنطوي على المعاناة، ولكنها معاناة مُبرَّرة، أي: إنها استجابة مُناسِبة في مواجهة وضعنا الحقيقي. لذا فإنَّ تقبُّلَها -ولو قليلًا- يعني عيش حياة أكثر أصالةً، مع إحساس بالمعنى يفوق في قيمته الراحة العابرة للتجنُّب العاطفي.
كل هذا يُساعد في تفسير لماذا فنّ «التقبُّل» -وإن صار من مُبتذلات تطوير الذات- مهم جدًّا وصعب للغاية؛ إذ يُعد التقبُّل أحيانًا سلوكًا سلبيًّا مبالغًا فيه، كأنه يستلزم الاستسلام أمام ظروف غير مؤاتية، لكن التقبُّل الحقيقي لا يتعلق بقبول الواقع الراهن، كأن تُجبِر نفسك على البقاء في علاقة سامة، أو أن تتخلَّى عن جهودك في مقاومة الظلم الاجتماعي، وإنما الأصعب أن ترغب في مواجهة حقيقة الأمور كما هي، و ألا تختر الطريق الأسهل المُتمثِّل في الإنكار.
إنَّ هذا النوع من التقبُّل -تقبُّل حقيقة وضعنا كما هو- بعيد كل البعد عن السلبية ويتطلَّب شجاعة، وهذا ليس مناقضًا لسعينا إلى تطوير أنفسنا والعالم، بل إنه مطلب لا غنى عنه لتحقيق هذا. تقول المدربة والكاتبة الأمريكية كاثرين أندروز: «إننا نخلط بين التقبُّل وبين التعوُّد أو الرضا عن وضع لا يروقنا، والأمر ليس كذلك أبدًا، فالتقبُّل هو الخطوة الأولى في التغيير الحقيقي، فلا يمكنك تغيير شيء لا تتقبله ولم تعترف به أولًا».
هناك مُفارقة لطيفة في كل هذا، وهي: بالقدر الذي نستطيع به مواجهة قيودنا، تَكُفُّ هذه القيود عن أن تكون مشكلة حقيقية؛ فإنَّ معظم الكدر لا يأتي من القيود، بل من مصارعتنا لها. وكما أحب معلم الزن ميل وايتسمان أن يقول: «معاناتنا سببها إيماننا بوجود مخرج». إنها -في المقام الأول- فكرة أنَّ الأمور يجب أن تكون خلاف ما هي عليه -يجب أن نمتلك وقتًا لا نهاية له، أو يجب أن نحدد كيف تجري الأمور- ومن غير المريح مواجهة حقيقة أننا لا نملك هذه القدرة.
لكن لِمَ يجب أن تكون الاُمور خلاف ما هي عليه؟ لمَاذا نعتقد أنَّ الوقت المحدود إهانة -كأننا نستحق الخلود أو أننا محرومون من حقنا هذا- بدلًا من اعتقاد حقيقة أننا نملك وقتًا أصلًا؟
ليس من السهل التمسُّك بهذا الإدراك، وإلَّا لما ضيعت ساعة في مسلسل تلفزيوني ممل مجددًا، لكن عندما أفكر في الأمر من جديد، أتذكر أنَّ كوننا أحياء ليس بهذا السوء، مقارنةً بالبديل الوحيد.