ترجمة: هديل الدغيشم – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
يُبحِر العلاج الوجوديّ في النَفس البشرية، ليبلغ أعمق خبَاياها؛ فيَنتج تغيُّرٌ حقيقي.
شهدتُ خلال الستين عامًا الماضية جلّ تحولاتي، وبصفتي أخصائي نفساني مُمارِسٌ، فقد شهدتُها في مستشفياتٍ رسمية، ما بين عيادات نفسية طارئة، وعيادات الإقلاع عن الخمور والمخدرات، وعيادات خاصة، وجرّبتُها جميعًا في شبابي أثناء رحلات علاجي الشخصية. وتكمُن منفعة تلك الشدائد، رغم قسوتها، في أنها غيَّرت حياتي؛ ليبلغني الامتنان نحوها.
ليست التقلُّبات الشجيَّة إلا نتيجة أسىً عميق، وإن كان صاحبه موفَّقًا سيُعقِبها تقدّم مستمر. كانت تلك الفكرة واقعًا بالنسبة لي وللكثير ممّن عملت معهم. وأيّ نعمة جليلة تلك التي تَتمثَّل في التحرُّر من قيود الأسى؛ في الانطلاق سعيًا إلى كل ما هو ناجِعٌ؟ أيّ أمر أَوْلى من الإسهام في إنقاذ روح المرء، بل حقيقةً، الصراع معها؟
لكن ما أراه هذه الأيام في ثقافتنا هو ازدياد الميول إلى تجاوز جانب الصراع ذاك والانتقال بغتة إلى الجزء الانتقالي. لا يعني أن رغبتك في التجاوز السريع أمرٌ شائن، بل هو طبيعي. حينما يكون المرء كَدِرًا يأمُل العلاج سريعًا، أنا وأصدقائي نأمُل ذلك، ويُعَدّ ذلك الخيار الأمثل، بل إنها غريزة الإنسان. ولكن يظل هناك تساؤلات نوجِّهها أحيانًا إلى الغريزة، على سبيل المثال، مُعظَم الناس لا يَلطِمون إلا ذواتهم، لشعورهم بهَوانهم. وكذلك لا يتَفوَّه معظم الناس بأحاسيسهم؛ لأنها أحاسيسهم فحسب. وعلى خلاف ذلك، تَتَضاعَف الأفكار والافتراضات حول أولئك الذين تَتَوهَّم جرحك أو مضايقتك إياهم، وما يُرَدِّده ضميرك بشأنهم، وتتأمَّل في أحداث وظروف الموقف. رأيت العديد من المراجِعين يُحاولِون الاعتداء على مَن قد اعتدى عليهم، بَيْدَ أنهم قليلًا ما يُقبِلون على ذلك. حيث إنهم يدركون، أثناء فترة علاجهم، بأن مَن اعتدى عليهم غالبًا ما يكون من المقرَّبين أو العاشقين، وعليه لا يأمُلون أن يتذوقوا معاناتهم. كثيرًا ما يكون تأخير ردِّ الفعل أسلم من استعجاله، وخصوصًا ما يتعلق بالمشاعر.
إنّ المشاعر إشارات بليغة، تُحذِّرنا من الخطر، وتدفعنا إلى الإقدام على الفعلة في أوانها. ولكنها تبقى في غاية التعقيد والتنوع. على سبيل المثال، يشعر العديد من الناس أحيانًا بالامتهان أو عدم محبَّة الآخرين لهم، ولكنهم لا يتَّجهون إلى الانتحار أو المخدرات؛ إذ إنهم ببساطة يؤمنون بأنهم، كسواهم من الناس، لهم حقُّ العيش والنشأة، فقد يتقدّمون ويتجاوزون تلك الرسائل المعمّمة على ذواتهم؛ الرسائل المرتبطة بالفشل. وبذكر تلك الرسائل، كثيرًا ما يُقدِّمها أناس يشعرون هم ذواتهم بالامتهان أو عدم محبة الآخرين لهم، ويُظهِرون ذلك الاستحقار لضحاياهم الجهلة. بَيْدَ أن تلك الأفكار، إنْ استوجَبَ تكبّدها، تستغرِق وقتًا، وتتطلب كفاحًا، وتُسبِّب صراعات بين ذواتنا، لتجاوز تلك الظلُمات الخفيَّة، وبلوغ السلام.
صار العلاج العُمقيُّ والوجوديُّ يُشجِّع الآن التعايش -الذي يَصعُب بُلوغه- مع الجوانب المتناقضة من ذواتنا؛ تلك الجوانب المُعذَّبة أحيانًا، والمُحفِّزة أحايين أخرى، بعد جهدٍ جهيدٍ، لتُشعِرنا ببشريتنا؛ تُذكِّرنا بأن حياتنا مفعمة بالحيويّة. لنتناول الأمر برسمية، يعزز العلاج الوجودي ثلاثة مواضيع رئيسة: حرية المرء ليستكشف أهم شؤونه، والتأثير التجريبي أو الشامل لأهم شؤونه، والمسؤولية أو المقدرة على التجاوب أو التفاعل مع أهم شؤونه.
أما اليوم فالأمر مغاير؛ إذ يَسهُل تخطي تلك الحريَّة، والتأثير التجريبي، ومَلَكَة الاستجابة، كالصراع ما بين ما نحن عليه اليوم، وما نرجو بلوغه غدًا. يغمُرنا طوفانٌ من الأجهزة اليوم، فالتنظيمات، والصفقات الآلية، تبدو مُغرية للآخرين، بمن فيهم الآليين، للاتِّكال عليها لإتمام المهمة. سواء كان دواءً نفسيًّا، أو تطبيقات علاج نفسي، أو خطة ١٢ جلسة نفسية، أو الانشغال عن تصفُّح الشبكة. نجد سُبلًا غير معدودة نظنُّ من خلالها بأن ذلك الألم تلاشى، وأننا تجاوزنا معاناتنا، وصارت الحياة تجري بسلاسة.
ولكن السؤال الرئيس والمقلق: ما ثمن ذلك؟ ما ثمن الحياة الممنهجة ظاهرًا، بل كذلك باطنًا. حياة يشكّلها الروتين والقانون، تغلب حياةً تخبِط وتَصْفِق، ولكنها الأخرى، رغم ذلك منتعشةٌ؟ ما ثمن حياة تتقلَّب ما بين صراعات عاطفية وحالات من السخط؟ غالبًا يكون الموت ثمن ذلك، حرفًا ومجازًا، وأثبتت الإحصائيات ذلك. لنلقي نظرة على ارتفاع نِسب الاكتئاب، والإدمان، وشعور الوحدة المرتبط، غالبًا، بالأجهزة الذكية.
أُقدِّم ذكرياتي صورةً شفّافة لنحيب والديَّ على أريكة غرفة الجلوس، كنتُ حينها في الثانية والنصف من عُمري، وكان أخي كيلي، ذي السبع سنوات، قد وافته المنيَّة للتوِّ. كان عام ١٩٥٩، حينما قضى عليه جدري الماء وذات الرئة، كان آنذاك طفلًا حيويًّا نشيطًا. أثّرت تلك الفاجعة على الحالة النفسية لكامل الأسرة، لدرجةٍ لا يمكن استيعابها. وكل ما يمكنني قوله: إن والديَّ اللذين ألفتهما سابقًا، لم يبقيا كما كانا، بعد تلك الحادثة المفجِعة. رأيت أخي اللعوب الحنون، ذاك القائد البشوش، قد هلك، وحلَّ محلّه فراغ ساحِق، وغضب شديد، وحسرة ووَحشة.
تهاويت عند بلوغي الثلاث سنوات، غُمِرت بالرعاية ولكنها تلاشت. عانيت من وَحشة الليالي، ونَوبات الغضب. وكانت مشاعري متخبطة ما بين غضب وضَياع، إلى أن هَوَيت إلى عالمٍ عاجزٍ وَحِشٍ. أجزم أنني لو مررت الآن بمصيبة عام ١٩٥٩، فإنني سأتجاوزها حالًا بتناول الأدوية. ولكن عِوضًا عن ذلك حينها، جالَسني والداي، وقدّما كل ما بوسعهما لانتشالي من هاوية ألمي، وتدريجيًّا عند بلوغي الخامسة قرَّرا عرضي على محلِّل نفسي. ساعدني ذلك المحلل على إنعاش حياتي، ولا زلتُ حينها أعاني من مخاوف وحالات غضب، لكنه أخذ بيدي لمواجهتها، بدلًا من التخفي خلف الأقنعة هروبًا من تلك العِلَل المقويّة. أجلّ ما قدمه لي وجوده، كان حضوره أشبه بصخرة صمّاء، منَّ عليّ بأنْ أعبّر عن أي شعور أو قول. كنت متشبثًا بخيط رفيع، وظلّ سندًا راسخًا وداعمًا، إلى أن تجاوزت تلك الموجة.
أما الآن فكم طفل يُشجَّع ليكافِح ويَتجاوَز معضِلته، أو حتى ليُتمّ علاجه، بأسلوبٍ عاطفي مُحفِّز؟ وكم منهم قد مُنح سعةَ الوقت والمال ليكافح؟ أجزم بأنهم قلة؛ إذ إن أكثر ما يُشجّع على علاج الأطفال الآن تناول مضادات الاكتئاب، ومضادات القلق، وبعض مثبتات المِزاج. تنقذ تلك الأدوية حياة البعض أحيانًا، إلا أنها مُعزّزة من الشركات الدوائية وشركات التأمين، وبلا شك أن هدف تلك الشركات الأول هو المادة، والهوامش الربحية، وليس الاهتمام بالبشر وحياتهم، وأمل عيشهم الحياة التي يأملون.
أتساءل عمَّا كنت سأكون عليه لو أنني عُولجت بأساليب العلاج الحالية، لو أنني تجرَّعت وجع الوحدة، أو أنني كما تحدّاني محللي النفسي لتطوير مهاراتي وقدراتي الداخلية، كالإبداع، والفضول، والخيال. لقد شجعني لمواجهة مخاوفي والانطلاق في مساحاتي الشاسعة. احترمني واحترم قدراتي، مما حفّزني للرسم، ونَظمْ القصص والأفكار بشأن حَيرات الحياة، أو المغامرة بالجري في أراضٍ شاسعة، والتقلّب بين العلاقات، والإبحار في الأفكار. ولم أنغمس في تلك الأنشطة إلا بعد جهاد ورحلة علاجية جادّة.
تَكمُن المشكلة الأساسية في معظم التدخلات الحالية بأنها ذات بُعد واحد. على سبيل المثال؛ الأدوية النفسية تميل إلى تهدئة الناس في حالات القلق، أو إنعاشهم في حالات الاكتئاب. تَهدِف خُطَط العلاج المعرفي إلى تصحيح الرأي عن تلك الأفكار الموسومة باللاعقلانية (كالخوف من الطيران، وشعور الهوان)، لتصير أفكارًا منطقية لها أدلتها. تَهدِف العلاجات السلوكية إلى تعزيز العادات التكيّفيَّة التي يُمكِن تكييفها لاستبدال تلك التي يستحيل تكييفها، وهكذا. إلا أن مُعضِلة هذه الأساليب أنها تؤدّي الغرض بحسب أسسٍ محدودة. لو رغب المرء في العيش عيشةً هنيّةً، حسب حدود واضحة مقبولة ثقافيًّا، فإنه سيُدعَم بتلك الأساليب. ولو رغب في أن يعيش عيشة آمنة نسبيًّا ومنتظمة، فإنه سيتلقّى تلك العلاجات أيضًا. في حين أراد امرؤ من تلك الشعوب الضخمة، أن يعيش بُعدًا مُغايرًا في حياته. بُعد ذو معنى، مغمور بالحيوية، يحوي غنًى شخصيًّا وتبادليًّا، فالأمر مغاير، إذ ستواجِهُه تحديّات آنذاك.
بعد زمن من البحث، استنتج الأخصائي النفسي الوجودي، رولو ماي، أنّ العديد من كبار المُبدعين على مرِّ التاريخ أتمّوا أكمل إبداعاتهم، أثناء أعمق فترات وَهنهم. وأضاف ماي، في كتابنا: “علم النفس الوجودي” (١٩٩٥)، فصلًا عَنوَنه بـ: ”المُداوي المجروح“، يتناول عوامل نجاح المُعالج. حيث عرَّف ماي بالأخصائي النفسي الشهير أبراهام ماسلو، الذي كان وحيدًا وتعيسًا في طفولته، لكنه قدَّم نظريات عن العيشة المثالية، وتجارب الذروة. واسترسل ماي في وصف عددٍ من المشاهير، وآخرين مغمورين، من أولئك الذين واجهوا جوانب شخصياتهم الَمهيبة وتبنّوها، وبذلك تنعَّموا بحياةٍ إبداعية ومُنتجة.
أحيت نظريةَ ماي عددٌ من الباحثين البارزين، بمن فيهم كارل جونغ، وسيلفانو آريتي، وفرانك بارون، وماسلو نفسه، الذي صوَّر تحقيق الذات، الشخصية المثالية التي تُحقِّق ذاتها بإتمام إنجازاتها، وتحقيق أحلامها. وفي كتابه: “سيكولوجية العيش” (١٩٦٢)، كتب ماسلو: “حيّرتني إحدى الملاحظات التي رصدتها لسنوات، ولكنها بدأت تتضح الآن. تمحورتْ حول ما وصفته بالتحليل المبني على تناقضات ذوي تحقيق الذات. حيث كان معظم الراشدين الناضجين أشبه بصِبْية، وأعيانهم، أشدّهم غرورًا، وأبلغهم ذاتيةً، ولكن ما أيسر تلاشي تلك السمات؛ ليصيروا أشدّهم خنوعًا، وتجاهلًا لذواتهم، وانغماسًا في المصاعب”.
وأيّدت ذلك الأخصائية النفسية الإكلينيكية، والباحثة، كاي جيمسون. التي أعدّت عدة دراسات عن ثنائيّ القطب، ولها كتاب: “مَمسوس بالنار: الهَوَس الاكتئابي والأمزجة الفنيّة” (١٩٩٣). كانت جيمسون ذاتها مصابة بثُنائيّ القطب، ووصفتْ العديد من كبار الفنّانين على مر التاريخ، الذين كانوا كذلك يعانون من طيف ثنائيّ القطب، إلا أنهم أبدعوا فنونًا نموذجيّة للجمهور. عاش مُعظَم أولئك النجوم حياة عصامية، وانتحر العديد منهم، غير أن آخَرين عاشوا حياة رغيدة نعشة، نتج عنها نعيم وافر. يَكمُن السؤال الآن فيما لو كنَّا مَحَونا مصاعب الحياة هذه، وسطّحنا بيولوجيا الإنسان، ومهّدنا جُلّ سبل العيش باستخدام التقنية وتناول الأدوية؟ ما الذي سيحدث لو أننا تجاهلنا حاجة الناس لمواجهة شياطينهم، وآلامهم، ودموعهم؟ هل سيكون الإبداع الفني الناتج مشابهًا لإبداع فنَّان ألهمَته المعاناة، والحَيرة، والكَدح؟
إن أغلب العلاجات الشهيرة الآن -كالعلاج السلوكي المعرفي (CBT)- ذات مفعول قصير المدى، ونتيجة فاعليّتها متباينة. تُعَدّ فاعلة للتخفيف من بعض الأعراض، كالأفكار السلبية، وضعف الشهية، والرُّهاب. ولكن الأمر مُغاير عند النظر في مَصاعِب الحياة المعقدة، كالبحث عن المعنى والهدف، وصراعات الحُب.
هل خبرة المُعالِج، أو الجهاز المُوهِم بالتعاطُف، مماثِلة لخبرة مَن يتعاطَف صدقًا؟ تشمل العلاجات الجديدة تَقدُّم الواقع الافتراضي (VR) علاج مبنيٌّ على التعرض، لاضطراب ما بعد الصدمة، واستخدام الارتجاع العصبي اتّباعًا لإرشادات استخدام أجهزة الرنين المغناطيسي، وتطبيقات مناسبة لكل من القلق، والاكتئاب، ومتلازمة القولون العصبي. ما زالت أبحاث تطور تلك الأجهزة قائمة، بيد أنني أخشى أن نصل إلى عصرٍ جديدٍ شجاعٍ تطغى فيه العلاجات التقنية لتمحو الفُرَص والاستكشافات الشخصية.
هل تُعَدّ المواجَهة الافتراضية للقلق أو الرغبة مُماثِلة للمواجهة الواقعية؟ وهل علاج (التطبيق) مُماثِل لعلاج الإنسان (بصرف النظر عن المُعالِج المُصاب)؟ هل تَتشابَه خبرتا المُعالج المتعاطف، والجهاز الموهم بالتعاطف؟ وهل العلاقات المبنية على التوجيهات والإحصائيات مماثلة لتلك المتجددة، بقلقها ووَهنها، بتحدياتها ومفاجآتها؟
أشك في ذلك. وبيّنَتْ العديد من الدراسات المتصاعدة قيمة التواصل البشري؛ فالعلاقات الحقيقية أشبه بالعلاج. نرى الآن أن للعلاقات ”الآلية“ قصيرة المدى، قيمة. يمكن أن توصِّل الناس إلى أولئك المحترفين القلة، أو أن تساعد آخرين، من ذوي الإعاقة على السفر، أو أن تُعَزِّز لليافعين التعلُّم باستخدام أجهزتهم اليدوية. ولكن يبقى السؤال: هل توافق فكرة ”نعيش معًا، ونرحل معًا“، التي يتشبّث بها معظم أفراد المجتمع؟
أرى أننا نسير بعُجالةٍ تجاه مستنقع الهندسة الذي خشيه العديد من المعالجين الإنسانيين. إنه أسلوب يُلقي اهتمامه الأول على الجهاز، أو الآلية، أو الخوارزمية. بدلًا من قدرات المريض الفطرية للتطور. ليس إلا نموذج يُقنِّن معايير الاستقرار، والهدوء، والنظام، التي يوجدها دون تمييز لشخصيات الأشخاص ونشاطهم. وأخيرًا، نموذج واحد سيسلُب الكثير منا، ليمحو فضائلَنا، وليس كُرَبنا فحسب، وخبايا شخصياتنا المختلفة. مجموعة من الأحاسيس التي أجزم بأنني كنت سأتشرَّبها لو أنني خُدِّرت وأُوصلت بتلك الأجهزة في طفولتي:
تجربة الوحدة
قلق الحزن
جمود اليأس
رعشة الخوف
رهبة الانكسار
قلق التردد
مرارة الغيظ
وحشة الإحساس بالضياع
ولكن الأحاسيس المغايرة، التي تغمرني الآن، دون الاستعانة ”بتخدير“ أو ”توصيل“:
إبداع الفردانية
تذوّق الأسى
تطويع الشجن للفن
الخوف كمحفِّز للمواجهة
تواضع الهشاشة
أحيت الحَيرة قدراتي
عَزَّز الغيظ قوتي
حَفَّزتني الفوضى للفضول
ألهمني بلائي لاستكشاف جوانحي، وعلاجها بتلبية حاجاتها.
أظن أن الطبع المُهيمِن يُميّز بين الإنسان وبين المعيشة الآلية، لا يقتصر الأمر على الوعي؛ فالذكاء الاصطناعي الذي يُقدِّم إشارات ليَصير أشبه بروبوتات تَرصُد تقلُّبات درجة حرارة الطقس. لا يُعَدُّ وعيًا انعكاسيًّا، وما يُقصَد به مَقدرة الوعي على إدراك مستواه، حيث إن العلماء يعملون على آلات تتحكَّم بحساباتهم حسب البيانات المتلَقّاة، ودون تذوُّقٍ للمشاعر؛ إذ ستكون يومًا بديلًا للعمليات الكيميائية الحيوية التي تضمّ الفرح والترح. (ببساطة، ذلك وارد الآن حين تناول الأدوية النفسية).
وعلى النقيض، عقبات الذكاء الاصطناعي أشدّ تعقيدًا، إن لم تكن تعجيزيةً. حيث تتمثّل في تناقضات الحياة. وبتجربتي الطفولية لتلك المصيبة، لم تَتمثَّل في مجرَّد صورة، أو فكرة، أو شعور، بل في صور، وأفكار، ومشاعرَ متشابكةٍ؛ تَتَعارَض وتَتَصادَم فيما بينها. تشمل تلك التناقُضات شذَرات من الخوف في علاقات الحبّ، أو فُتاتٍ من الحزن أثناء لحظات الفرح، أو شعور بحسدٍ لأوَدِّ الأصدقاء. والعديد من الاختلافات الطفيفة، تعطي الحياة شجوها، وحدّتها: رهبتها. لنتأمَّل مدى سلبية تلك المشاعر وتأثيرها البالغ الأخّاذ:
يتكون الحزن من اليأس والأسى، أعمق شعور للفقد والحرمان. ولكن بيّنَت دراسات نموِّ ما بعد الصدمة أن الحزن يُشعِرنا بطبيعة الحياة العابرة، وبمعنى اللحظة، وحاجتِنا إلى التعاطف مع آلام الآخرين. وبالمقابل، فهو عنصرُ مقارَنة لتبايُن المشاعر؛ كالمتعة، والبهجة، والنشوة العفويَّة، التي تُسهِم بتعزيزها. وأخيرًا، يمكن أن ”يغمر“ الحزن أرواحنا، كما أشار راينر ماريا ريلكه في كتابه: “رسائل إلى شاعر شاب” (١٩٢٩)، للحزن أن يجذب شيئًا مُغايرًا، شيئًا حيويًّا. حيث كتب قائلًا: ”هل استطعنا رؤية ما لم تبلغه علومنا؟ ربما نكون تَجرَّعنا أحزاننا بطُمأنينةٍ بالغة، أبلغ من أفراحنا. ففي تلك اللحظات تَغمُرنا أشياء جديدة نجهلها”.
لا يتَّضح الضدّ إلا بوجود الضدّ؛ لولا الغضب لم نشهد السكون، ولولا الترَحَ لم نَستشعِر الفرح.
يحفّنا الخوف بالهون والوهن من جهة، ويوضِّح ما يَملأُنا من جهة أخرى. يُمكن أن يكون الخوف مُذِلًّا، بَيدَ أن البحوث بيّنت بأنه قد يُنبِّهنا لما يُمكن ممّا لا يُمكن أداؤه، فليس الخوف إلا خلفيّة للشجاعة، إذ ستبدو -الشجاعة- هشَّة دون الخوف، وتأثيرها على حياتنا ضئيلًا.. وهل كنَّا سنسعى للشجاعة لو لم يغمُرنا الخوف؟ هل سنسعى لبلوغ مجالات جديدة، ورؤى حيَّة، ومشاعر غَضَّة دون تجرُّع غُصَص من الخوف؟ مُحال أن يطرح السؤالَ مشجعو تقنية تجاوز الإنسانية المزعومة.
أما الغضب فمُحفِّز للخطر، والاندفاعية، والهيمنة، أشبه بانفجار ناسف يُهدِّد سلامة الآخرين. غير أن الدراسات بيّنت أن الغضب أيضًا أسلوب لدفاع المرء عن نفسه، المعزِّز الأول لتشجيع الذات وتقويمها. ألم يكن الغضب دافعًا أساسيًّا للحركات الثوريَّة، الذي نتجت عنه الحرية الشخصية. ولولا الغضب لصارت الرقَّة شفافة، ولم نتذوّق لذَّة اللطف.
بذرة الحسد تكمُن في الطمع بامتلاك مُمتَلَكات الآخرين، ويَتَنامى ذلك الحسد بتصوّر امتلاك ذلك النعيم. وليس الحسد إلا بذرة سَخَط جليّ؛ إذ يأمُل المرء بلوغ أكثر مما هو عليه. إلا أن لي تجربة استثنائية، تجربة مريض ومُعالِج؛ رأيتُ للحسد جانبًا خفيًّا فريدًا، يكمُن في إثارة الإلهام، ومواجهة الحياة وتحدّيها. نلمح بزوغ أمنياتنا بين أيادي أولئك المحسودين، فنُناضِل لنُحقِّقها. يُعَدّ ظاهر الحسد سَخَطًا، وباطنه جهادًا لبلوغ الرضا.
والشعور بالذنب يُنبّهنا إلى خطيئة قد ندمنا عليها، هو أشبه بمِطرقة في أعماق الضمير، تَجلِد مشاعر الكِبْر كافّةً. ويُحطِّم الشعورُ بالذنب كبرياءنا ويُهشِّم ثقتنا. وفي الآن ذاته أثبتت دراسات الأمراض النفسية بأن الشعور بالذنب -ونظيره الاجتماعي الخجل- يَحفِزانا للتقدُّم، ويُوَجِّهانا للانتفاع من قدراتنا الكامنة، ويَقودانا إلى مُداواة جِراح الآخرين. يصعب، إذن، السعي للتحسين دون الشعور بالذنب.
مفتاح علاجي، والعلاج الوجودي العميق بلا ريب، أنه يُعزِّز تكيّف التناقضات العاطفية والعقلية. أيّ أن أُحِبّ وأكره في آنٍ واحد، يوحشني الموت ويفتِنُني غموضه؛ غموض الحياة. أتخبَّط بالأفلام المرعبة، وتفتح لي أُفقًا فريدًا للحياة؛ لآمالي المستقبلية، وخيالي المُحلِّق. يبذل متخصص العلاج الوجودي العميق جهودًا جاهدة، بتواجده، ”ليقبض“ التناقضات التي تبزُغ تلقائيًّا في علاقاتهم مع مراجعيهم، إضافة إلى تناقُضات المُراجعين أنفسهم. وحينها يصبح العلاج الوجودي العميق أساس الخُنوع والتعجُّب، أما الشعور بالمغامرة، ورهبة العيش، فهي أساس ما ندعوه بالتحول ”الكامل“.
وحسب تجربتي الشخصية للعلاج، تنقّلت من بِقاعٍ شعورية إلى أخرى؛ ما بين رعب مُدقِع، ومكائد تدريجية، وتساؤلات عن ظروف حياتي. انتقلتُ، مثلًا، من العجز أمام تقلُّبات القدَر، إلى ثقةٍ متزايدة، فضولًا وشغفًا بما يُمكن بلوغه. عزَّز لي مُعالجاي، بمُلازَمتهما إيّاي، حتى غمرني الأمان لأواجه صراعي الداخلي. أخذا بيدي ”لأُواجه“ نفسي وأغوص في ”أعماقها“ لأرى حياتي الآن وكيف يمكن أن تكون، لأظهر من عالمي الضيق رغم أُلفه. وصرتُ أتردّد متقلِّبًا بين وَحشة ودَهشة، بين القلق المُفرِط مما كان يُرعِبني والمُكايدة بشأنه، من التواصل الاجتماعي، وخطر النموِّ بصحبة مُراجِعييّ، ومن العالم جُلّه.
بتُّ، بعد ثلاث سنين، قادرًا على استشعار جُلّ أفكاري، ومشاعري، وأحاسيسي. وانطلقت، كأولئك الذين عملتُ معهم، لأبلغ أهدافي، ولأنْ أبلغ مُناي بتقديري لحياتي. ونتج عن ذلك كلُّ خير؛ إذ لم أعد مُتشبّثًا بحياتي المثبِّطة السالفة، بل استبدلتُها بالحيويَّة والتقدّم؛ بمقوِّمات الحياة الأصيلة.
يُسهم بدن المريض وكيانه في تعزيز أيّ قرار يَنتُج عن رحلة العلاج، جربتُ بنفسي ما أسميه العلاج: ”الوجودي التكاملي“، الذي يضمُّ عددًا من الأساليب الفاعلة، تندرج تحت النهج الوجودي. وأنا مستعد، كمُعالِج، أن أبدي كل جهدي مع المرضى، من خلال أعمق، وأكمل، وأبلغ مقوّمات التواصل الحركيّ المحسوس الممكن.
على سبيل المثال، أثناء ممارستي مع أحد المرضى، أصير أشبه بسائحٍ مُرافِقٍ، كما عرَّف ذلك المحلل الوجودي إيرفين يالوم، لم أسلك سلوك ”طبيب“ رسميٍّ بكتابة وصفة دوائية. حاولتُ أن أبدو شخصًا عاديًّا، وليس مهندسًا. أتشَكّل حسب حاجة المريض البشري، وليس مجرد رزمة عمليات كهروكيماوية، أو مجرد علامة تشخيصية. لا أعني أني لن أحاول التعزيز لذلك المريض بأيّ وسيلة قد تكون مُجدية، بإحالة طبية أو باستراتيجية لحلّ المشكلة، بيد أنني سأبذل جهدي لأكون حاضرًا لأصاحب ذلك المريض، ليُطلق العنان فيُعبِّر عن عواطفه، ومشاعره، وخياله، وكل ما تخفيه كلماته. ويدعو ذلك إلى النظر في الأسلوب، وليس الفكرة فحسب. وتُعزِّز الطريقة الوعيَ ”الشامل“ بما يأمُله المريض، وما يَحرِمه من أمله، إذ غالبًا ما يعجز عن التعبير عنه. وبذلك فإن بدن المريض وكيانه يُسهِمان في تعزيز أيّ قرار ينتج عن رحلة العلاج.
لا يستطيع أو يرغب أيّ مريض في أن يجتهد ليبلغ ذلك المستوى، أيْ بأسلوبي العلاجي التكاملي، إلا أولئك القادرين على اتّباع ذلك المنهج، إذ يعطي أملًا بأنْ يغيّر المرء حياته، لتتفتح فيبلغ أفكارًا وتجارب وأحاسيس فريدة، وتتغيّر نظرته إلى الحياة ذاتها. وبناءً على ذلك، يمكن تغيير حياة المرء تغييرًا جذريًّا مؤثِّرًا قيّمًا، أيّ أنه باستطاعة أولئك المراجعين التأمُّل في ذواتهم، وتقدير الحياة من حولهم، وحينها يستشعرون خُنوع العيش، وعُجابه، ومخاطراته. يشعر من جرب هذا الشعور، بأنه يُعزِّز المعنى، والأسى، والرهبة.
السبب الرئيس خلف حاجتنا لهذا العلاج، أنّ مشاعر الجزع والرهبة تحفُّنا، وأساليب عيشنا ممنهجة ومربوطة بالعلاج الدوائي. نَحفِز الناس للتغيير، ولكن مُعزِّزات ذلك التغيُّر صارت تدريجيًا تحايلية؛ كبح هواجسنا المحزِنة، والنوم نومًا هانئًا، ورفع مستوى الإنتاجية، والعيش برزانة، وما إلى ذلك. ليست غاياتُ ذلك العلاج عبثيةً قطّ، بل إنها نقطة الانطلاق إلى طريقٍ رحبٍ فسيحٍ؛ لذّة العيش، ومَعناه، ومهابته.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.