ترجمة: مصطفى سمير – تحرير ومراجعة: بلقيس الأنصاري
هل يُمكن للنبضات الكهربائية في الدماغ أن تُفسِّر الحشوة التي تتألف منها الأحلام؟ ما الذي تكشفه كاشفات الوعيّ الجديدة؟
عام 2014، أدَّت نوبة من الدوار والقيء استمرت لمدة شهر إلى نقل امرأةٍ صينيّة -تبلغ من العمر 24 عامًا- إلى المستشفى. لم تكن هذه الأعراض غريبة عليها: فهي لم تكن قادرة قطّ على المشي بثباتٍ وعانت من الدوَار طوال حياتها تقريبًا. كانت هذه الأعراض خطيرة ومنهكة. ومع ذلك، ربما بدَت خفيفة تقريبًا عند تشخيصها بواسطة الأشعة المقطعية، والتصوير بالرنين المغناطيسي: كانت المرأة تفتقد غالبية دماغها -إن جاز التعبير. نعم، لقد كان معظم اللاعبين حاضرين على “خشبة مسرح” الدماغ: كانت القشرة المخيَّة -وهي الجزء الأكبر والأبعد من الدماغ المسؤولة عن معظم تفكيرنا وإدراكنا-، حاضرة وتمّ تفسيرها، القشرة الفرعية والدماغ الأوسط، مع وظائفهما التي لا تُعد ولا تُحصى والتي تشمل الحركة والذاكرة وتنظيم الجسم كانا حاضرين أيضًا، جذع الدماغ -الضروريّ للتحكّم في التنفس، والنوم، والتواصل مع بقية الجسم- كان حاضرًا ومُفسَّرًا.
لكن لا يوجد في أيّ من هذه الحقول غالبية عُملة الدماغ -الخلايا العصبية، الخلايا التي تطلق نبضات لنقل المعلومات أو ترحيل الأوامر الحركية. يصل هذا التمييز إلى المخيخ [cerebellum]، وهو تركيب يقع خلف جذع الدماغ وتحت القشرة المخيَّة. وهي لفظة لاتينية تقابل “الدماغ الصغير“، لا يشغل المخيخ شديد التكتّل إلا 10% من حجم الدماغ، ومع ذلك يحتوي في مكانٍ ما بين 50 – 80% من الخلايا العصبية في الدماغ. وفي الحقيقة، بهذا المعنى كانت المرأة الصينية في المستشفى تفتقد معظم دماغها. فعلى نحو لا يُصدَّق، وُلِدَت بدون مخيخ، لكنها نجحت في التغلّب على ذلك على مدى ما يقرب من عقدين ونصف من الحياة دون أن تدرك أنه مفقود. قارن ذلك مع السكتات الدماغية وآفات القشرة المخيَّة، التي تُعد الخلايا العصبية فيها جزءًا صغيرًا أمام الخلايا العصية في المخيخ. يمكن أن يفقد هؤلاء المرضى القدرة على التعرّف على الألوان أو الوجوه وفهم اللغة -أو قد يصابون بما يُعرف باسم “اضطراب الوعي“، حالة تؤدي إلى فقدان الاستجابة أو أيّ دراية واعية من الأساس.
قد يكون فهم الوعي هو التحدي العِلمي الأكبر في عصرنا. كيف يمكن للحشوة الفيزيائية، مثل النبضات الكهربائية، أن تُفسِّر الحشوة الذهنية، مثل الأحلام، أو الإحساس بالذات؟ لماذا تبدو شبكة الخلايا العصبية في دماغنا وكأنها خبرة، في حين لا تبدو شبكة من أجهزة الكمبيوتر، أو شبكة من الناس أيّ شيء، على حدّ علمنا؟ للأسف، تبدو هذه المشكلة مستحيلة. ومع ذلك، فإن الحاجة غير المُلباة لإحراز تقدّمٍ في اضطرابات الوعي، حيث يتراوح معدل التشخيص الخاطئ بين 9 – 40%، تتطلب منا بذل جهد أكبر. بدون بذل المزيد من الجهد، لن نعرف أبدًا ما إذا كان المرضى المصابون فاقدين للوعي حقًا، أو لا يستجيبون لكنهم واعين على نحوٍ خافٍ لديهم حياة داخلية حقيقية. بدون هذه المعرفة، كيف يتسنَّى للأطباء معرفة ما إذا كان من المرجح أن يتعافى المريض، أو ما إذا كان من الأخلاقي حجب العناية؟
يختلف العديد من المرضى الواعين على نحوٍ خافٍ عن أولئك الذين نعرفهم من الثقافة الشعبية، مثل الصحفي الفرنسي جان دومينيك بوبي. بعد إصابته بسكتةٍ دماغية أضرَّت بجذع دماغه، تُرك بوبي غير قادر على الحركة الإرادية باستثناء رمشه بجفنه الأيسر. من سريره في المستشفى، استخدم بوبي رمش العين لإملاء مذكراته عن تجربته المروعة، The Diving Bell and the Butterfly (1997). في حالة بوبي -التي يُشار إليها باسم “متلازمة المُنحَبِس”– كان فقدان السيطرة الإرادية ناتجًا عن تلفٍ في جذع الدماغ، وهو ضروريّ للسيطرة على بقية الجسم ومن ثمّ التواصل مع العالم الخارجي.
لا يشمل الوعي الخفيّ متلازمة المنحبس فحسب، بل يشمل أيضًا المرضى الذين يعانون من تلفٍ في القشرة المخيَّة. وفي هذه الحالة، يصعب تحديد الوعي الخفيّ؛ لأن القدرات العقلية التي يحتفظ بها هؤلاء المرضى من المحتمل أن تكون ضعيفة. على سبيل المثال، قد لا تستجيب هذه المريضة ليس لأنها غير واعية ولكن لأن الإصابة في قشرتها المخيَّة قد سلَبت قدرتها على فهم اللغة المنطوقة. وعلى عكس بوبي، تُظهر صورة التصوير بالرنين المغناطيسي لأدمغة هؤلاء المرضى تلَفًا دماغيًا واسع النطاق يثير عدم اليقين لطبيب الأعصاب وهو يحاول تحديد ما إذا كان أيّ شخص هناك. حتى بعد أن يفتح هؤلاء المرضى أعينهم ويستيقظون من الغيبوبة، غالبًا ما يتبع ذلك نقص كامل في الاستجابة أو الحركة الإرادية، مما يؤدي إلى التشخيص بالحالة الخضرية، المعروفة أيضًا باسم “متلازمة اليقظة غير الاستجابية”.
لاكتشاف الوعي الخفيّ لدى المرضى الذين شُخِّصوا باضطراباتٍ في الوعي، استخدم فريق دوليّ من الباحثين -بما في ذلك المشرف الحالي عليّ، مارتن مونتي-، مهمة ذكية تستثمر التشبيه الذهني الذي يمكن لبعض المرضى غير المستجيبين أن يولِّدوه حسب الطلب. قام الفريق بنقل 54 مريضًا -بدءًا من أولئك الذين لم يستجيبوا بشكلٍ متسق، إلى الآخرين الذين لا يستجيبون تمامًا- إلى داخل ماسح ضوئي للدماغ. هناك، قام الفريق بتصوير وظائف الدماغ، باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI)، من أجل استنتاج أيّ جزء، إن وجد، قد يكون واعيًا بشكلٍ خفيّ. قال مونتي: “في أقليةٍ صغيرة من الحالات، يمكننا استخدام التصوير بالرنين المغناطيسي؛ لاكتشاف بعض الدراية لدى المرضى الذين قد يبدون غير واعين من ناحيةٍ أخرى”.
طلب مونتي وزملاؤه في البداية من المرضى الذين يبدو أنهم غير واعين تخيّل المشي في منازلهم. قال أدريان أوين، باحث آخر مشارك في المشروع: “لقد رأينا وميضًا لنشاط الرنين المغناطيسي الوظيفي في التلفيف المجاور للحصين في جميع المشاركين باستثناء واحد”. لكن مطالبة الناس بتخيّل المشي في منازلهم لم تكن كافيةً. ولزيادة اطمئنانهم بأن الشخص الموجود في الماسح الضوئي كان يقظًا ويتبع التعليمات، طلبَ الباحثون أيضًا مهمة ثانية من شأنها إظهار نمط مختلف من التنشيط. أخيرًا، ذكرت ميلاني بولي، إحدى زميلات مونتي وأوين، أنه وفقًا للبحث، قد تعمل المهام المعقدة بشكلٍ أفضل من المهام البسيطة. ليردّ أوين: “ماذا عن التنس؟”.
لسنا بالضرورة فاقدين للوعيّ بسعادةٍ عندما نكون تحت يديّ الجراح
مما أسعد الباحثين أنّ الطلب من المشاركين الأصحاء أن يتخيّلوا لعب التنس أسفر عن بصمةٍ واضحة ومتسقة لتنشيط الدماغ. هل ستنجح نفس المهمة في المرضى الواعين بشكلٍ خفيّ؟ بمجرد الدخول إلى جهاز التصوير بالرنين المغناطيسي، طلب الباحثون من المرضى غير المستجيبين تخيّل إحدى المهمتين، لعب التنس أو المشي في منازلهم. أخبرني مونتي أن عدد المرضى الذين سيستجيبون بالضبط لم يكن أيّ شخص متيقِنًا منه. ولكن مع أول تمايل بالمضرب، إن جاز التعبير، وجد الفريق مريضًا غير مستجيب، بدا أنه يفهم مهمة التنس. استوفى المريض جميع معايير التشخيص بالحالة الخضرية، ولكنه في الواقع كان واعيًا.
كانت الدراسة الناتجة، التي نُشِرت لاحقًا عام 2010، متفائلة ورصينة في الوقت نفسه: خمسة من أصل 54 مريضًا مِمَن وُضِعوا في الماسح الضوئي كانوا قادرين على توليد صور ذهنية عند الطلب، وهو دليل على عقولٍ يمكنها التفكير والشعور والفهم ولكن ليس التواصل. أو هل يمكنهم ذلك؟ ماذا لو استطاع المرضى استخدام المهمتين للرد على الأسئلة، والإجابة بـ “نعم”، من خلال التشبيه الداخلي نفسه؟ باختصار، يمكن إيصال “نعم”، من خلال تخيّل لعبة التنس و”لا”، من خلال تخيّل التجول في منزلهم. مرّة أخرى، وجد الفريق نجاحًا في محاولتهم الأولى. عند طرح عدة أسئلة على المريض مثل: “هل اسم والدك توماس؟”، تلقّى الباحثون ردودًا مناسبة أُشير إليها بوساطة صورة البصمة لكل مهمة، المسجَّلة في التصوير بالرنين المغناطيسي. قال مونتي: “اتضح أنه حتى المرضى الذين يبدو أنهم في غيبوبة يمكن أن يكون لديهم وظيفة إدراكية أكثر مما يمكن رصده بالطرق السريرية القياسية”.
على خُطى مونتي وزملائه، استخدمت دراسة نُشرت عام 2018 -من لدن مجموعةٍ مختلفة من الباحثين، من جامعة ميشيغان-، مهمة مماثلة لمهمة التشبيه الذهني أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي لإظهار الوعي الخفيّ حيث لا يود أحد العثور عليه: التخدير. من المثير للقلق أن واحدًا من المتطوعين الخمسة الأصحاء الذين خضعوا للتخدير العام من أجل العِلم باستخدام عقار البروبوفول كان قادرًا على فعل ما ينبغي ألا يكون ممكنًا: إنشاء صور ذهنية عند الطلب في الماسح. كانت تداعيات ذلك واضحة: لسنا بالضرورة غير واعين بسعادةٍ عندما نكون تحت يديّ الجراح.
أظهرت مهمة التنس أثناء الرنين المغناطيسي الوظيفي أنه تحت حجاب التخدير العام والحالة الخضرية، يتوارى الوعي أحيانًا. لكنّ فعالية المهمة تعتمد على قدرة المرضى على سماع الأسئلة وفهم اللغة المنطوقة، وهو افتراض لا ينطبق دومًا على الأفراد المصابين بإصاباتٍ دماغية ويعانون من آفات مخيَّة.
يمكن أن يحدث الوعي أيضًا بدون فهم اللغة أو السمع. في حالة غيابهما، قد يبقى المريض يختبر الألم أو الملَل أو حتى الأحلام الصامتة. في الواقع، إذا كانت مناطق معينة فقط من القشرة المخيَّة متضررة، فقد تستمر الخبرات الواعية الحيّة مع بقاء المريض غير قادر على سماع الأسئلة التي يطرحها فريق مونتي. لهذا السبب، قد تغفل فحوصات التصوير بالرنين المغناطيسي كثيرًا عن الأشخاص الواعين. بدلاً من الاعتماد على التشبيه الذهني الذي يجب أن يُولَّد عن عمدٍ من لدن المرضى المصابين بإصاباتٍ دماغية، الذين يمكنهم سماع اللغة وفهمها، هناك حاجة إلى مؤشرٍ بديل للوعي -كاشف وعي فائق- لإشعال ضوءٍ خارق في الظلام.
إنّ الوعي لغز. تحاول العديد من النظريات العلمية تفسير لماذا تختبر أدمغتنا العالَم، بدلاً من مجرد تلقي المدخلات وإنتاج المخرجات دون الشعور. بعض هذه النظريات “موجودة”، على سبيل المثال، الإطار الذي طوّره الفيزيائي البريطاني السير رودجر بنروز، وعالِم التخدير الأمريكي ستيوارت هامروف. يربط بنروز وهامروف الوعي بالأنيبيبات الدقيقة، تراكيب شبيهة بالخيوط تساعد في تكوين الهياكل العظمية للخلايا العصبية والخلايا الأخرى. داخل الأنيبيبات الدقيقة، يمكن للإلكترونات أن تقفز بين أجزاء مختلفة. في الواقع، وفقًا للقواعد التي تحكم كوننا على مستوىً أصغر من الذرات، يمكن أن توجد هذه الإلكترونات في جزأين في وقتٍ واحد، وهي حالة تُعرف باسم “التراكب الكمومي”. يدخل الوعي إلى الصورة إلى حدّ كبير بسبب تأويل فيزياء الكم: الادعاء بأن الراصد الواعي ضروري لجسيمٍ مثل الإلكترون ليكون له موقع محدد في الفضاء، وبذلك يُنهي التراكب. كما قال هامروف في مقابلةٍ مع مسلسل Closer to Truth، على قناة PBS:
“لديك تراكب للاحتمالات التي تنهار على واحدٍ منها أو غيره، وعندما يحدث ذلك تكون هناك لحظة ما من الذاتية. بدا هذا وكأنه تمطيط ولا يزال يفعله كثير من الناس، ولكن كما قال شارلوك هولمز: إذا أزلت المستحيل، فإن كل ما تبقّى -بغض النظر عن أنه يبدو غير محتمل-، يجب أن يكون صحيحًا”.
هذا مفهوم بالنسبة إلى هامروف، ولكن ليس بالنسبة لي. متابعة للحكمة الهولمزية تلك “للقضاء على المستحيل”، أرفض الخلط بين الشبح الكمومي والوعي. شخصيًا أجد النظرية المعقدة للوعي التي طورها بنروز وهامروف، تتطلب فيزياء جديدة -الجاذبية الكميّة- لم تُطَّور بعدُ. ولكن ما هو أكثر من ذلك، إنّ إطار بنروز وهامروف يفشل في تفسير لماذا لا يشترك المخيخ في الوعي. تحتوي الخلايا العصبية المخيخيّة على أُنيبيبات دقيقة أيضًا. فلماذا يمكن أن يُفقَد المخيخ أو يتلف دون التأثير على العقل الواعي؟
النهج الذي أجده واعدًا أكثر يأتي من عالِم الأعصاب جوليو تونوني، في جامعة ويسكونسن. بدلاً من السؤال عن ما هي العمليات الدماغية أو التراكيب الدماغية التي تشارك في الوعي، يقارب تونوني السؤال من الاتجاه الآخر، ويسأل عن السِمات الأساسية الكامنة وراء الخبرة الواعية نفسها.
بالنسبة إلى السياق، قارن نهجه بسؤالٍ كبير آخر: ما هي الحياة؟ تنقل الكائنات الحيّة الصفات إلى نسلها -لذلك يجب أن تكون هناك معلومات وراثية تنتقل من الوالد إلى الطفل (أو الفصيل أو البذور). لكن الكائنات الحيّة تتطور أيضًا وتتكيف مع بيئتها-؛ لذا يجب أن تكون هذه المعلومات الجينية مرنة، وتتغير من جيلٍ إلى جيل. من خلال التعامل مع المشكلة من هذه الزاوية التصاعدية، ربما تكون قد تنبأتَ بوجود جزيء معقد مثل الحمض النووي، الذي يخزن المعلومات الجينية ولكنه يتحور أيضًا؛ مما يسمح بالتطور عن طريق الانتخاب الطبيعي. في الواقع، كاد الفيزيائي إروين شرودنجر أن يتنبأ بالحمض النووي في كتابه “ما هي الحياة؟” (1944)، من خلال عرض المشكلة من هذا الاتجاه. أما النهج المعاكس -النظر إلى الكثير من الكائنات الحيّة والتساؤل عما تشترك فيه- فقد لا يُظهِر لك الحمض النووي إلا إذا كان لديك مجهر قويّ للغاية.
مثلما أذهلت الحياة علماء الأحياء قبل 100 عام، فإن الوعي يذهل علماء الأعصاب اليوم. ليس من الواضح البتّة لماذا تُعدّ بعض مناطق الدماغ مهمة للوعي وغيرها غير مهمة له. لذا، يأخذ نهج تونوني في الاعتبار، بدلاً من ذلك، السِمات الأساسية للخبرة الواعية. عندما تكون لدينا خبرة، ما الذي يحددها؟ أولاً، كل خبرة واعية محددة. خبرتك عن اللون الأزرق هي ما يكون عليه، جزئيًا، لأن اللون الأزرق ليس أصفر. إذا لم ترَ قط أيّ لون غير اللون الأزرق، فلن يكون لديك على الأرجح مفهوم أو خبرة عن اللون. وبالمثل، إذا كان مذاق جميع الأطعمة متماثلاً تمامًا، فلن يكون لخبرات التذوق أيّ معنى وستختفي. يُعرف هذا المطلب المتمثّل في أن كل خبرة واعية يجب أن تكون محددة بـ التمايز.
العقل الواعي مثل المجتمع الديمقراطي، أمَّا العقل اللاواعي فمثله مثل المجتمع الشمولي
لكن في الوقت نفسه، الوعي متكامل. هذا يعني أنه على الرغم من أن الموضوعات في الوعي لها كيفيات مختلفة، فإننا لا نختبر كل صفة على حِدة. عندما ترى كرة سلة منطلقة نحوك، فإن لونها وشكلها وحركتها يرتبطون معًا في كلٍّ متماسك. أثناء اللعبة، لا تكون أبدًا على درايةٍ باللون البرتقالي للكرة بشكلٍ مستقلّ عن شكلها المستدير أو حركتها السريعة. على نفس المنوال، ليس لديك خبرات منفصلة لمجالاتك البصرية اليمنى واليسرى -إنهما مترابطان كمشهد مرئيّ كامل.
حدد تونوني التمايز والتكامل على أنهما سِمتان أساسيتان للوعي. وهكذا، تمامًا كما أن السِمات الأساسية للحياة قد تقود العالَم إلى استنتاج وجود الحمض النووي، فإن السِمات الأساسية للوعي قادت تونوني إلى استنتاج الخصائص الفيزيائية للنظام الواعي.
لا بد للمهندسين المستقبليين لكاشفات الوعي، أن ينتبهوا جيدًا: هذه الخصائص هي بالضبط ما يجب أن تبحث عنه مثل هذه الآلة الرائعة في أدمغة المرضى غير المستجيبين. لأن الوعي محدد، يجب على النظام الفيزيائي مثل الدماغ أن يختار من بين مجموعةٍ كبيرة من الحالات الممكنة ليكون واعيًا. وكما هو الحال مع العلاقة بين الحياة والحمض النووي، يعتمد هذا الاستنتاج بشكلٍ حاسم على مفهوم المعلومات. الخبرات هي معلوماتية لأنها تستبعد الخبرات الأخرى: طعم الشوكولاتة ليس مثل طعم الملح، ورائحة الورود ليست مثل رائحة القمامة. نظرًا إلى أن هذه الخبرات معلوماتية والدماغ يتماهى مع الوعي، فإننا نستنتج أنّ مع زيادة وعي الفرد تزداد المعلومات في الدماغ أيضًا. في الواقع، عندما يمتلئ الدماغ بالمعلومات، يزداد مخزونه من الحالات المحتملة.
إن هذا الحال شأنه شأن لعبة الجلّاد. أولاً، خذ بعين الاعتبار لَعِب الجلّاد باللغة الإنجليزية. تحتوي الأبجدية الإنجليزية على 26 حرفًا، وكل حرف تمّ تخمينه بشكلٍ صحيح يُضفي معلومات بشكلٍ معتدل عن الكلمة التي يتمّ الكشف عنها. الأحرف الشائعة مثل “e” أقلّ إفادة معلوماتيًا، والحروف النادرة مثل “x” أكثر إفادة معلوماتيًا (في النهاية، كم عدد الكلمات الإنجليزية التي تتألف من الحرف “x”؟)، لكن تخيّل لعب لعبة الجلاّد باستخدام نصٍّ صيني، الذي يحتوي على الآلاف من الحروف. كل حرف غنيّ بالمعلومات لأنه يتكرر بشكلٍ أقلّ من أيّ حرف باللغة الإنجليزية تقريبًا، مثل منارة نادرة تشير إلى مناسبةٍ خاصة. وهكذا، نظرًا إلى أن النصّ الصيني يحتوي على مخزونٍ أكبر من الحروف المحتملة، يمكن الفوز بلعبة الجلاّد بأكملها من خلال تخمين حرفٍ واحد.
هذا هو الحال أيضًا مع الدماغ: عندما يكون مخزون حالات الدماغ المحتملة أكبر، يزداد محتواه المعلوماتي، وكذلك سعته للخبرات الواعية شديدة التمايز. لكن في الوقت نفسه، يعتمد الوعي على التكامل: يجب على الخلايا العصبية أن تتواصل وتتشارك المعلومات، وإلا فإن الكيفيات الموجودة في الخبرة الواعية لم تعد مرتبطة ببعضها بعضًا. قد يبدو هذا المطلب المتزامن لكل من التمايز والتكامل وكأنه مفارقة. هنا، تُقدِّم الاستعارة المأخوذة من تونوني مزيدًا من البيان: الدماغ الواعي هو مثل المجتمع الديمقراطي. لكل فرد الحرية في الإدلاء بصوتٍ مختلف (التمايز)، والتحدث مع الآخر بحرية (التكامل). ومن ناحيةٍ أخرى، يشبه العقل اللاواعي المجتمع الشمولي. قد يُحظر على المواطنين التحدث بحريةٍ مع بعضهم بعضًا (انعدام التكامل)، أو قد يُجبرون جميعًا على التصويت بنفس الطريقة (انعدام التمايز).
مثلما يعتبر كل من التمايز والتكامل ضروريين للديمقراطية، فإنهما ضروريان أيضًا للوعي. هذا ليس مجرد تفكّر نظري: تستند أفكار تونوني إلى الملاحظات السريرية. من بين أكثر هذه البيانات إقناعًا هي تقارير عن مرضى، مثل المرأة الصينية المجهولة، التي تفتقر إلى المخيخ لكنها مع ذلك تحتفظ بالوعي. اتضح أن المخيخ هو مجتمع شمولي. خلاياه العصبية، على الرغم من كثرتها، لا تتواصل بحرية مع بعضها بعضًا. بدلاً من ذلك، تنتظم الخلايا العصبية المخيخية في سلاسل: كل خليّة عصبية ترسل رسالة إلى الخليّة العصبية التالية أسفل السلسلة، ولكن هناك القليل من الاتصال بين السلاسل، ولا توجد استجابات رجعية تسير في الاتجاه الآخر أسفل السلسلة. من باب تصوّر أسلوب الاتصال هذا، يمكنك أن تتخيّل العديد من الأشخاص يقفون في طابور، كل منهم يربت على كتف الشخص التالي. وهكذا، مع أن المخيخ يحتوي على غالبية الخلايا العصبية في الدماغ، فإن خلاياه العصبية تشبه المواطنين في مجتمعٍ قليل أو معدوم التكامل. بدون تكامل لا يوجد وعي. من ناحيةٍ أخرى، فإن القشرة المخيَّة هي مجتمع حُرّ. من باب تصوّر أسلوب الاتصال الخاص به، تخيّل مجتمعًا من الأشخاص يتفاعلون بحرية، ليس فقط مع جيرانهم ولكن أيضًا مع الأشخاص البعيدين في جميع أنحاء المدينة.
بالطبع، لا يكون الوعي موجودًا دومًا في القشرة المخيَّة. ففي الليل، أثناء نوم بلا أحلام، يكون التمايز مفقودًا. تُجبر مجموعات كبيرة من الخلايا العصبية على الاتفاق، وتُطلِق معًا بنفس النمط. يمكن للباحثين الذين يتنصتون باستخدام EEG (وهي تقنية تسجّل النشاط الكهربائي للدماغ من فروة الرأس)، سماع هذه الخلايا العصبية وهي تهتف معًا مثل حشد مترابط في ساحةٍ رياضية. يحدث فقدان التمايز عينه أثناء نوبة الصرع المعممة، عندما تُطلق مجموعات كبيرة من الخلايا العصبية معًا بسبب عاصفة جامحة من الإثارة. عندما تتقيد الخلايا العصبية باتفاقٍ ما، يتلاشى الوعي من العقل.
تُعرف نظرية تونوني القائلة بأن كلاّ من التمايز والتكامل مطلوبان للوعي بنظرية المعلومات المتكاملة (IIT). من خلال استعمال (IIT)، يمكن للمرء أن يتنبأ بشكلٍ منهجي بمناطق الدماغ التي تشارك في الوعي (القشرة المخيَّة)، وأيّها ليست مشاركة فيه (المخيخ). في السريريات، تساعد الأفكار المستمدة من (IIT) الباحثين فعلاً في استنتاج أيّ من المصابين بإصاباتٍ دماغية واعيًا وأيّهم ليس واعيًا. بناءً على ما تقوله (IIT) بشأن ما ينبغي أن يبدو عليه النظام الواعي، يمكن للباحثين استنتاج نوع الاستجابة التي يجب أن يعطيها الدماغ الواعي بعد نبضة طاقة -كاشف الوعي أكثر تقصّيًا بكثيرٍ من التفكير في التنس أثناء التصوير بالرنين المغناطيسي.
كما يحبّذ مونتي القول، إن الأمر أشبه بالطرق على الخشب لاستنتاج كثافته من الصوت الناتج. في هذه الحالة، يتمّ إيصال “الطَرق” باستخدام ملف من الأسلاك لخَلق نبضة مغناطيسية، وهي تقنية تُسمى “التحفيز المغناطيسي عبر الجمجمة” (TMS). ثمّ يستخدم الباحثون EEG للاستماع إلى “صدى” هذه البلبلة المغناطيسية، واكتشاف نوع “المجتمع” الذي يمثِّله هذا الدماغ بالذات.
إذا كانت الاستجابة معقدة للغاية ومتكاملة ومتمايزة، فإننا نتعامل مع مجتمع تعددي؛ تستجيب مناطق الدماغ المختلفة بطرق مختلفة؛ من المحتمل أن يكون المريض واعيًا. ولكن، إذا كانت الاستجابة موحدة، تظهر نفسها في كل مكان، فإننا نتعامل مع مجتمع شمولي، ومن المحتمل أن يكون المريض غير واعٍ.
قُدِّمت المقاربة أعلاه -أفضل نسخة حتى الآن من كاشف الوعي- من لدن فريقٍ دوليّ من الباحثين بقيادة عالِم الأعصاب مارسيلو ماسيميني، في جامعة ميلانو عام 2013. تُعرف هذه التقنية رسميًا باسم “مؤشر التعقيد المضطرب”، ويشار إليها أحيانًا كـ “zap-and-zip”، لأنها تتضمن أولاً تعريض الدماغ لنبضةٍ مغناطيسية، ثمّ النظر في مدى صعوبة استجابة EEG للضغط، أو الكبس، كمقياس لتعقيدها. استخدم الباحثون مسبقًا خاصية zap-and-zip، لتحديد ما إذا كان الفرد مستيقظًا، أو نائمًا بعمق، أو تحت تأثير التخدير، أو في حالة اضطرابٍ في الوعي مثل الحالة الخضرية. وسرعان ما يمكن لهذه المقاربة أن تخبرنا أيًّا من المرضى -الإصابات الدماغية- غير المستجيبين (فضلاً عن المرضى الذين تمّ تخديرهم لأجل الجراحة) واعيًا بشكلٍ خفيّ: لا يزالون يشعرون ويختبرون، على الرغم من عدم القدرة على التواصل. في الواقع، هذا هو أقرب عِلم على الإطلاق وصل إلى “تحديد ما لا يمكن قياسه كميًّا”، على حدّ وصف مجلة Science Translational Medicine لهذا الإنجاز.
قد يمكننا اللجوء إلى آلات الذكاء الاصطناعي وتقييم ما إذا كانت واعية
لكن يبقى هناك المزيد من أسرار الوعي. أتحرّى حاليًا في مختبر مونتي بجامعة كاليفورنيا، لوس أنجلوس، وراء سبب إظهار الأطفال الذين يعانون من اضطرابٍ وراثي نادر يسمَّى “متلازمة أنجلمان“، نشاطًا دماغيًا كهربائيًا يفتقر إلى التمايز حتى عندما يكونون يقظين ويختبرون العالَم من حولهم. ليس هناك شكّ في أن هؤلاء الأطفال واعين، كما يرى المرء بوضوح من مشاهدة طيفهم الغنيّ بالسلوك الهادف. ومع ذلك، فإن وضع قبعة التخطيط الكهربائي للدماغ على رأس طفلٍ مصاب بمتلازمة أنجلمان يكشف عن المجتمع الشمولي الاستعاري لتونوني -الخلايا العصبية التي يبدو أنها مقيدة بالاتفاق.
من خلال إظهار أنواع نشاط الدماغ التي تُعتبر ضرورية للوعي والتي تُعتبر غير ضرورية له، يمكن للمرضى الذين يعانون من متلازمة أنجلمان تقديم تبصّرات عن الوعي تُماثل تلك التي يقدّمها المرضى الذين يفتقرون إلى جزءٍ من المخيخ أو كلّه. أظهر عملي الأخير في هذا المجال أنّه على الرغم من الهتاف الصاخب الذي كشف عنه المخطط الكهربي للدماغ في متلازمة أنجلمان، فإن الخلايا العصبية مع ذلك تُغيّر سلوكها عندما ينام هؤلاء الأطفال: لا تزال تهتف بصوتٍ أعلى، وهتافها أقلّ ثراءً وتنوعًا. أنا متفائل أنه عندما يقوم شخص ما أخيرًا بقياس الصدى العصبي من خلال التعريض والكبس [zap-and-zip]، في الأطفال المصابين بمتلازمة أنجلمان، فإن ذلك سيؤكد أن تقنية zap-and-zip حساسة بدرجةٍ كافية لتمييز الوعي عن النوم الخالي من الأحلام. إذا لم يكن كذلك، فسوف يعود إلى لوحة الرسم التي تخصّ جهاز كشف-الوعي.
قد يكون الوعي هو آخر حدود العِلم. إذا استمرت (IIT) في توجيهنا في الاتجاه الصحيح، فسنطوِّر طرقًا أفضل لتشخيص اضطرابات الوعي. ربما نستطيع في يومٍ من الأيام حتى اللجوء إلى آلات الذكاء الاصطناعي -العقول المحتملة على عكس عقولنا- وتقييم ما إذا كانت واعية أم لا. هذا ليس خيالاً علميًا: العديد من المفكرين الجادين -بمَن فيهم الفيزيائي الراحل ستيفن هوكينج، ورجل الأعمال التكنولوجي إيلون ماسك، وعالم الكمبيوتر ستيوارت راسل في جامعة كاليفورنيا، بيركلي، والفيلسوف نيك بوستروم في معهد مستقبل الإنسانية في أكسفورد- أخذ التطورات الحديثة في الذكاء الاصطناعي على محمَل الجد، ويشعرون بقلقٍ عميق بشأن الخطر الوجودي الذي يمكن أن يشكّله الذكاء الاصطناعي على المستوى البشري أو غير البشري في المستقبل. متى يكون نزع القابس عن الذكاء الاصطناعي أخلاقيًا؟ أيًّا كان من سينزع القابس عن الذكاء الاصطناعي الفائق في العقود القادمة، سيرغب في معرفة، مهما كانت أفعالهم مُلحّة، ما إذا كان هناك حقًا عقل اصطناعي ينزلق إلى الظلام أم مجرد كمبيوتر رقميّ معقَّد يصدر أصواتًا تحاكي الخوف.
مع أن هذا التحدّي الدقيق لم نواجهه بعد، فإن العلماء والفلاسفة يكافحون بالفعل لفهم التطور الحديث لأعضاء مصغَّرة تشبه-الدماغ نامية في أطباقٍ ثقافية خارج الجسم. في الوقت الحالي، تساعد هذه “الأدمغة المصغَّرة” الباحثين في الطب البيولوجي على فهم الأمراض التي تصيب الدماغ، ولكن ماذا لو طوّرت وعيًا في النهاية -والقدرة على المعاناة- مع نموّ الهندسة البيولوجية بشكلٍ أكثر تعقيدًا في السنوات القادمة؟ كما تُبيِّن تحديّات الأدمغة المصغَّرة والذكاء الاصطناعي، فإن دراسة الوعي قد تخلَّت عن جذورها المستترة ولم تعد مجرد تسلية في البرج العاجي. إن فهم الوعي مهم حقًا؛ ففي النهاية، تعتمد رفاهية العقول الواعية عليه.
المصدر
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.