القبول الجذري | جوشوا كولمان – ت: محمد كزو

المشاعر المؤلِمة التي تتجنّبها تنمو ملتوية في الظلام، ويمكنك استعادة حياتك بمواجهة أحزانك وصراعاتك.
قد تُصاب بأشياء فظيعة، كـ: المرض العُضال، أو تُغيّر حادثة قدرتك على القيام بالأنشطة التي تجعل حياتك مُمتعة وذات مغزى، أو تُقرّر زوجتك أنّها تريد شخصًا آخر. وحتَّى لو كنتَ محظوظًا بما يكفي لتتجنَّب الأحداث الضخمة التي قد تغيّر حياتك، فستواجه خيبات الأمل أو الأذى أو الإهانات، التي تتطلَّب منك فَهْم الطُّرق العديدة التي قد يكون الوجود فيها مؤلِمًا.
وهكذا، حتمية المعاناة مكتوبة في كل جانب من جوانب ماضينا المشترك؛ حيث شغلت بال الفلاسفة، مثل: أرسطو، وسقراط، والرّواقيّين، والأبيقوريّين، والمتشائمين. لقد قام القادة الدِّينيّون بتعليم المؤمنين معنى المعاناة -مُذ تصوَّر البشر الأرواح أو الآلهة لأوّل مرّة-؛ إذ ظهر الاعتقاد بأنّ تفسيرنا للأحداث يحدّد تجربتنا مع الألم، كما في كتابات القرن السابع البوذيّ «الدارماكرتي Dharmakīrti»، وفي القرن الحادي عشر مع الموسوعيّ الإسلامي ابن الهيثم Ibn al-Haytham، ثمّ أصبحت عالميّة المعاناة واضحة من خلال الأعمال الفنية -على سبيل المثال لا الحصر-، كـ: منحوتة مايكل أنجلو Michelangelo غير المُكتملة «روندانيني بييتا Rondanini Pietà (64-1552)»، أو من خلال ج. س. باخ J. S. Bach، في «شاكون دي مينور Chaconne in D Minor (20-1710)».
لكن رغم هذه الحكمة ووِجهات النَّظر المُتراكمة جميعها، ما زلتُ في حيرة مِمّا سأقوله لِبعض أصدقائي أو عُملائي الذين يعانون من الألم؛ حيث لا جسم جديد للمرأة المُصابة بسرطان المِبيض في مرحلته الرابعة، ولا عمود فقريّ جديد لصديقي الذي تعرّض لإصابةٍ شديدة في النخاع الشوكي بسبب حادث تزلّج، ولا حلول مباشرة أيضًا، للآباء والأمهات الذين لَم يعُد أطفالهم البالغون يريدونهم في حياتهم –مجال تخصَّصتُ فيه خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة، من إجماليّ 40 سنة كطبيب نفسيّ-؛ لذا من المألوف أن يسأل هؤلاء الناس أسئلة مثل: «هل سأموت وحيدًا على سرير المستشفى دون أطفالي أو أحفاد يريحونني؟ مَن سيدفنني؟ هل سيفتقدني أطفالي بمجرّد رحيلي؟».
وعليه، لم يدرّبني أحد على أسئلةٍ كهذه، وأنا متأكّد من أنّني أجبتُ جوابًا أخرق وغير ذي جدوى في السنوات القليلة الأولى، عندما بدأتْ تغمرني الإحالات بعد تأليف كتابي الأوّل عن القطيعة، بعنوان: «عندما يتأذَّى الآباء When Parents Hurt»، سنة 2007. ولكن بعد العمل مع الكثير من الآباء المنفصِلين على مدى الخمس عشرة سنة الماضية، وإجراء بحثي الخاصّ من خلال مركز المسح والاستطلاع، في جامعة «ويسكونسن University of Wisconsin Survey Center»، الذي تمّ تلخيصه في كتابي الجديد، بعنوان: «قواعد القطيعة Rules of Estrangement»، سنة 2021، اكتشفتُ ببطءٍ شيئًا مهمًّا، ألا وهو: كلَّما حاولنا تجنّب الحقائق المؤلِمة أكثر أو التهرُّب منها؛ أصبحنا أكثر تشابكًا في مخالِب أحضانها.
لقد وجدتُ إرشادات في بحث عالِمة النَّفس مارشا لينهان Marsha Linehan -مؤسِّسة العلاج السّلوكي الديالكتيكي-، وكان البحث تحت عنوان: «عبر البؤس يمرّ طريق الخروج من الجحيم»، حيث تقول فيه: «رفضك قبول البؤس الذي هو جزء للخروج من الجحيم؛ يسقطك في الجحيم». ما المعنى الذي يفترضه عنوان بحثها هذا؟ إنّه دلالة مباشرة على «القبول الجذريّ» لِما أنت عليه الآن، ويعني هذا الأخير أنَّك لن تُحارب ما تشعر به في هذه اللحظة، فهل تشعر بالحزن؟ اُشعر بالحزن، ولا تحكُم عليه، ولا تحاول دفعه بعيدًا، ولا تُقلِّل من شأنه، ولا تحاول التحكُّم في مروره، بل استدر نحوه بدلًا عن الابتعاد عنه.
بيدَ أنّني تعلَّمتُ هذا الدَّرس بالطريقة الصعبة؛ حيث بدأ جزءٌ من اهتمامي بمسألة «القطيعة»، عندما عَلَّقت ابنتي الاتصال بي عدّة سنوات -في أوائل العشرينيات من عُمرها-؛ إذ انفصلتُ عن والدتها، ولكنَّني تزوجت في النهاية، وأنجبت المزيد من الأطفال؛ ما جعلها تشعر بالتشرّد حتى أصبحت بالغة، وذلك بطرقٍ لم أكن أفهمها تمامًا. فوجدت نفسي أتدرّب يوميًّا -خلال تلك السنوات الرهيبة من قطيعتي- على كل خطأ أبويّ ارتكبته على الإطلاق، وأصبحت الذكريات الرقيقة التي بدَت منيعة على المراجعة، مليئة بالشكوك والنقد الذاتي. دفعتني هذه الأوقات التي عرفتُ فيها أنّني كنتُ بعيدًا عن أفضل ما لديّ من رعايةٍ أبويّة، إلى الانخراط في دورةٍ تكوينية: «لو لَم أقل ذلك، ولَم أفعل ذلك، ولَم أكتب ذلك»، حتّى اعتقدتُ في مرحلةٍ ما -بدل الاستمرار في هذا الطريق- أنّه: «قد لا تتحدّث ابنتك معك أبدًا مرّة أخرى، وعليك قبول أنّ آخر مرّة رأيتَها فيها هي الأخيرة». لم يكن هذا الاعتقاد صوتًا قاسيًا أو ناقدًا، بل كان أشبه بمشورةٍ حكيمة من قِبل جزء منّي خاضع للرقابة، ومن المفارقات الغريبة أنّ اعتقادي هذا كان مطمئنًا في خضم ذلك الواقع الكئيب. ساعدني هذا الاعتقاد في التوقّف عن محاربة شيء لم يتغيّر، وحرَّرني لأكون أكثر انفتاحًا على مواجهة الطُّرق التي خذلتُها فيها؛ وهو الفعل الذي أدَّى في نهاية المطاف إلى مصالحتنا المُباركة.
يؤكّد «القبول الجذريّ» على أهمّية مواجهة وضعنا الحاليّ بتداعياته الفظيعة كلّها، ومهما كانت عبارات مثل: «هذا ليس عدلًا»، و«أنا لا أستحقّ هذا»، و«ليس هذا ما يفترض أن يكون»، صحيحة، إلّا أنّها تزيد من معاناتنا فحسب. ولاستخدام مثال عاديّ، تخيّل نفسك عالقًا في حركة المرور، وهو موقف لا تملك فيه تحكُّمًا يُذكر، حيث يُغري هذا الموقف بتوبيخ نفسك لِعدم المغادرة مبكّرًا، أو للعيش في مدينةٍ مزدحمة، أو لِكُره الشَّخص الذي تسبَّب في اختناق حركة المرور؛ لأنّه لم يتحقّق من مقياس البنزين قبل مغادرة المنزل. فإنَّنا في هذه اللحظات إمّا أن نُصاب بالجنون بسبب هذا الظلم كلّه، أو نأخذ نفَسًا عميقًا، ونتقبّل الأمر كما هو؛ لأنّه فوق استطاعتنا.
ورغم ذلك، فليس الشعور بالوقوع ضحية للحياة بِطُرقٍ صغيرة أو كبيرة، هو وحده ما يسبّب المعاناة، بل يقع أحيانًا عندما نحاول استبدال الأفكار المؤلمة بأفكارٍ سعيدة. يلخّص هذه الحقيقة عنوان البحث الذي أعدّه عالِما النَّفس ماثيو كيلينجسورث Matthew Killingsworth، ودانييل جيلبرت Daniel Gilbert، سنة 2010، والموسوم بـ: «العقل الشَّارد عقل غير سعيد»؛ إذ وَجد كيلينجسورث وجيلبرت، أنّ الناس كانوا أقلّ سعادة؛ عندما حاولوا تجنّب التفكير في الحاضر من خلال التفكير في الماضي أو المستقبل، وإن شئت فقل: إنّ محاربة ما كانوا يشعرون به -ولو في ظلِّ الأفكار السعيدة- كان أكثر كرهًا من قبول حالتهم الحاليّة. أو كما في المقولة المنسوبة إلى لاوزي Laozi -مع شكّ في نسبتها إليه-، التي تقول: «الاكتئاب من الماضي، والقلق من المستقبل، والفرح في الحاضر».
لذا، فإنَّ العيش في الحاضر لا يلزم أن يكون معنَاه أن نحظى بالمزيد من الفرح، أو بأيّة بهجةٍ في هذا الشأن، وإذا حدث أيّ شيء من هذا، فالتركيز على الحاضر المباشر قد يزيد من حدّة شعورك بالحزن أو الخوف أو الغضب. ورغم ذلك يمكننا اكتساب تحكّمًا ووعيًا متزايدين، حول مدّة اختبارنا للحقائق المؤلمة وشدته من خلال مواجهتها في الوقت الحاضر. ويمكننا في السياق نفسه إعادة تفسير معنى الأحداث المؤلمة، واتخاذ إجراءات لتقليل الألم، وتقليل المسافة التي يقطعها، بواسطة جوانب أخرى من حياتنا. فمواجهة أفكارنا ومشاعرنا وجهًا لوجه، قد يحرّرنا أيضًا من تقدير جوانب حياتنا الإيحائية التي لا علاقة لها بالحدث المُثير للقلق: أولئك الذين نحبّهم، وأولئك الذين يحبّوننا.
بينما يتَّضح لنا مثال على التّوجه نحو المشاعر المؤلمة في عمل عالِمة النَّفس والأعصاب ليزا فيلدمان باريت Lisa Feldman Barrett، التي تنصح الناس بالدخول في «دقّة» عواطفهم. محاولتك التعمّق أكثر في استكشافك ووصفك لكل شيء؛ يجعلك حزينًا، واسأل نفسك هل هو مجرّد حزن، أو في الحقيقة هو يأس، أو كآبة، أو بؤس، أو عذاب، أو رفض، أو انعدام أمن، أو غَمّ، أو هزيمة؟ هل هو مجرّد غضب؟ أو استياء، أو حنق، أو تهيّج، أو غيرة، أو انزعاج، أو مرارة؟
ولذا لا بدَّ من طرح السؤال: لماذا يجب أن تصبح أكثر دِقّة؟ حيث وَجَدت باريت -التي كتبت كتابًا، بعنوان: «كيف تُصنَعُ العواطف؟»، سنة 2017-، أنّ التحليل العاطفي الدقيق مرتبط بانخفاض الاحتياجات للأدويّة، وبقلّة أيام الاستشفاء من الأمراض، وبمرونةٍ أكبر في تنظيم المشاعر؛ وعليه توصينا باريت، بعدم إمعان النَّظر في هذا الشعور، وإنّما محاولة استكشاف شكله وحدوده لزيادة تعريفه.
لاحظت باريت أنَّ الثقافة تحدّد بشكلٍ كبير ما نسعى إليه، وكيف تصنع عواطفنا، فيما لا تتّفق –في هذا- مع باحثين، مثل عالِم النَّفس بول إيكمان Paul Ekman، الذي يعتقد أنّ لكلّ عاطفة توقيعها العصبيّ الذي يمكن تحديده بصورةٍ مماثلة بواسطة الثقافات؛ لذا لاحظتْ -بدلًا من ذلك- أنّ بعض الثقافات ليس لها مفهوم موحّد للتجارب التي يجمعها الغربيّون معًا على أنّها «عاطفة». ثمّ سرَدت الأمثلة التالية: الإفالوك ميكرونيزيا في أيسلندا، والشعب الباليني في إندونيسيا، والفولاّني في غرب إفريقيا، والإلونغوت في الفلبين، والكالولي بابوا في غينيا الجديدة، والمينانغكابو في إندونيسيا، والبينتوبي في أستراليا الغربية، والسّاموا في نيوزيلندا الجديدة، باعتبارها ثقافات لا تميّز المشاعر كشيء يحدث داخل الفرد؛ بل كأحداث تتطلَّب شخصين أو أكثر.
ويمكن العثور أيضًا على قوّة «القبول الجذريّ»، في «العلاج بالتعرّض»، وهو شكل من أشكال العلاج السّلوكي المعرفي (CBT)، حيث يتمّ توجيه المشاركين فيه إلى الزيادة تدريجيًّا في حدّة الأحداث، أو النتائج التي يخشونها، أو يخافونها، أو يَسعون إلى تجنّبها. ويمكن إجراء هذا النوع من العلاج، إمّا عن طريق تخيّل التجربة عندما يتمّ توجيه – جنديّ مثلًا مُصاب باضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) لاستعادة حدثٍ مؤلم من الحرب، أو عندما يذهب شخص ما يخشى التحدّث أمام الناس إلى مقدِّم البرامج، ثمّ يطلب منه -مع مرور الوقت- الصعود على خشبة المسرح؛ لكي يتحدّث أمام الجمهور.
ينطلق «العلاج بالتعرّض» نظير «القبول الجذريّ»، من فرضيّة أنّ ما يبقى في الظّلام ينمو في الظّلام، ويتحقّق هذا الصفاء بشكلٍ أفضل من خلال النَّظر بعمقٍ أكبر في وجه ما نخشاه، لا أن نسير في الاتّجاه المعاكس. إنَّك ستشعر بالذّعر مثلًا عندما تشاهد فيلم رعب للمرّة الأولى، ولكن ما مدى خوفك في المشاهدة الخامسة، ناهيك عن المشاهدة العاشرة للفيلم نفسه؟ يستنتج عقلك في مرحلةٍ ما -لِعدم حدوث أيّ شيء فظيع- أنّه يجب عليك الذّهاب للتحقّق من بريدك الإلكتروني، أو الحصول على شيء لِتأكله. والموازي مع فيلم الرّعب ذاك أنه كلَّما عرّضنا أنفسنا لِما نخشاه وقبلناه قبولًا جذريًّا؛ قلّلنا من قبضته علينا، وتجنّبنا مواجهة مخاوفنا كلَّما أحكمت قبضتها علينا.
قد تَسمح لنا مواجهة الموت بالشّعور بمزيدٍ من القبول والامتنان لكوننا على قيد الحياة
ثمَّة تقنية أخرى مُستخدمة في «العلاج بالتعرّض»، وهي «الغمْر»، التي توظّف تقنية «السَّهم المتَّجه للأسفل»، والمقصود أنّك تبدأ التفكير في الحدث الذي يزعجك، وتستمرّ في النزول، ثمّ النزول، ثمّ النزول، حتّى تصِل إلى أسوأ سيناريو لك على الإطلاق. أضربُ هنا مثلًا، اكتشفت جينيفر Jennifer، أنّ زوجها يخونها، وعندما واجهته اعترف بذلك، وقال: إنّه كان يحبّ المرأة الأخرى، ويريد التقدّم بطلب الطّلاق. كانت جينيفر محطَّمة لأسبابٍ مفهومة، وتعاني من ألمٍ شديد، ومع ذلك، كانت لديها مشكلة كبرى، وكانت هذه هي الطّريقة التي أرهبها بها عقلها، وأخبرها أنّ ذلك كان خطأها، وبأنّها لن تقع في الحبّ مرّة أخرى، وربّما يكون الأهمّ من ذلك أنَّ الألم الذي كانت تعانيه لا يطاق. طلبتُ من جينيفر أن تكتب -باستخدام نموذج فيلم الرّعب- فقرة عن توقّعاتها المُقنعة تمامًا حول المستقبل والمعتقدات، وعن افتقارها إلى القيمة المُخيفة بتفاصيلها كلّها، ثمّ وجّهتها لكتابتها كل يوم، وقراءتها مرارًا وتكرارًا لمدّة 5 إلى 15 دقيقة، حتّى بدأ قلقها وعواطفها في التلاشي في أحد الأيام. لقد ثنّيتها عن إلهاء نفسها؛ لأنّني علمتُ أنّ عقلها لا يمكنه الشّعور بالملل المناسب من فيلم الرعب، إلّا إذا كانت تشاهده بكثافة؛ لذا بدأ قلقها يتراجع بمرور الوقت، وبدأت أفكارها تتحدّى بتلقائيةٍ معتقداتها المسبِّبة للأمراض. وقد تطلَّب الأمر نظير معظم التدخلات النفسية ممارسة واجتهادًا يوميًّا؛ ولذا تمكَّنت بالوقت والجهد من تقصير مدّة معاناتها وشدتها؛ بالذهاب نحوها مباشرة بدل الابتعاد عنها.
تبدو تقنيات «الغمْر» و«التعرّض» مشابهة لمَا تفعله أنت، أيّ: تكرار الأحداث السلبية وإعادة تشغيلها إلى ما لا نهاية دون أيّة نتيجة إيجابية، لكنّ الهدف ليس مجرّد الهوس بمخاوفك أو بمشاعرك الصعبة؛ بل تخصيص وقت محدود عن وعيّ كلّ يوم عادةً بتعليماتٍ من مُعالِج مدرّب على العلاج المعرفي السّلوكي (CBT)؛ لتتحمَّل تدريجيًّا المزيد من معتقداتك السيّئة، حتّى تتوقف المشاعر عن أن تكون مُقنعة للغاية.
إنّ التأمّل اليقظ طريق شائع لمُمارسة «القبول الجذريّ»؛ لأنّ الهدف هو ملاحظة أيّة أفكار ومشاعر تنشأ، ثمّ تعود إلى التنفّس أو الشِّعار أو أيّ إلى شيء آخر يثبّت المُمارسة في الوقت الحاضر؛ لذا فالفرق بين «التأمّل»، وتقنيات «التعرّض»، أنَّ الأخير يشجّع قصدًا على تذكّر أسوأ السيناريوهات، بينما يُطلب من المتأمّلين عادةً ملاحظة ما يظهر كلّه -إيجابيًّا كان أو سلبيًّا-، وقبوله، ثمّ مشاهدته يمضي.
ربّما يكون التمييز بين التعرّض والتأمّل ضعيفًا، بينما يشجع التأمّل المُسمَّى: «ماراناساتي Maranasati الوعي بالموت»، الأفراد على التفكير المتكرِّر في وفاتهم، كما ورَد في قول بوذا: «تّأمّل الموت أسمَى تأمّلات اليقظة الذهنية كلّها»؛ إذ تمنحُنا مواجهة الموت شعورًا بمزيدٍ من القبول، والامتنان لكوننا على قيد الحياة. وهكذا يذكّرنا التأمّل أنّه البديل الأفضل رغم آلام الحياة ومضاعفاتها. وإذا كنت تريد التّدرُّب على مواجهة رحلتك التي لا مفرّ منها، فهناك تطبيق يُسمَّى: «“We Croak أتكلَّم بجدِّية».
ثُمَّ إنّ الأدوية المخدِّرة قد توفّر أيضًا فرصة لـ«القبول الجذريّ»؛ فقد ثبتَ أنّها مفيدة في علاج الأمراض النفسيّة، مثل: الاكتئاب، والقلق، واضطراب ما بعد الصَّدمة (PTSD)، وقضايا نهاية الحياة. غير أنّ آلية اشتغالها غير مفهومة تمامًا. وعليه؛ أعتقد أنّ جزءًا من فعالية المخدِّر يكمن في الطريقة التي ينزعون بها قدرتنا على تنظيم ما يدخل ويخرج من أذهاننا أو التحكُّم فيه، فيما نقبع نحن تحت تأثير أولئك العملاء الأقوياء. فقد تنتج تجربة إعادة الميلاد التي يتمّ الإبلاغ عنها كثيرًا أثناء اللّقاء المخدِّر جزئيًّا عن الاضطرار إلى مواجهة مخاوفك وقبولها جذريًّا -سواءً حقائقها المُرعبة أو الجميلة- ورؤية أنّك لست مدمَّرًا؛ إذ تصمد سلامة السفينة رغم قذفها ذهابًا وإيابًا في البِحار المضطربة.
لأجل هذا؛ جادل طبيب الأطفال والمحلِّل النَّفسيّ دونالد وينيكوت Donald Winnicott، بأنّ الرُّضّع والأطفال الصِّغار يَعُونَ موقف الوالد وتصرّفه باللَّعب المستقل في حضور الأم، إذ كانت جُلُّ أبحاث عِلم النَّفس -إن لم تكن كلّها- تدور حول الأمهات حتى آخر عَقدين من الزمن، عندما اكتشفنا الآباء. حيث تسمح «بيئة الاحتفاظ»، في سيناريو اللَّعب ذات الاهتمام الأبويّ المتوفِّرة للرُّضّع، باستكشاف بيئتهم بمزيدٍ من الثّقة والشعور بالأمان، بينما وجد منظِّروّ التعلّق اللّاحقون، مثل ماري أينسوورث Mary Ainsworth، أنّ الأطفال الذين شَعروا بالتعلّق الآمن كانوا أكثر مَيلًا إلى المغامرة في استكشافهم، مِن أولئك الذين كانوا أقلّ تعلّقًا بالأمان.
في الإطار ذاته، وصفَ وينيكوت العلاج بأنّه شكل من أشكال اللَّعب، حيث يستكشف العملاء النِّطاق الكامل لأفكارهم أو مشاعرهم بدعمٍ من مُعالِجهم. على سبيل المثال، ما أفعله كطبيب نفسيّ هو الاستماع كثيرًا، وأنصح بذلك حيثما أمكن، وأقدّم اقتراحات عند الاقتضاء، لكنّني أقدّم أيضًا استعدادًا لا لِسماع ألم عُملائي فحسب، ولكن للقيام بذلك أيضًا دون مقاطعتهم، أو نصحهم، أو تحدّيهم للنَّظر في تفسيراتٍ أخرى. فبدلًا من طمأنتهم بأنَّ الخَطْبَ ليس سيّئًا للغاية، وأنَّ الأمور ستتحسَّن، وأن لا بدَّ أن تتغيّر، فأنا -على الأرجح- أقبلُ آلامهم المفهومة، بجانب أنّ وضعهم قد لا يتحسَّن؛ إذ قد يزداد الأمر سوءًا في الواقع، وواقعهم الحاليّ المؤلم قد يكون الوضع الطبيعي الجديد. لقد استغرق الأمر منّي سنوات لأرى القيمة العلاجيّة في مجرّد الصمت بجانب السّماح لِعُملائي بالوصول إلى تفاصيلهم دون محاولة تحسينه، وأنا إذ ذاك؛ أزيدُ فقط -في عمليّة الاستماع والاهتمام- قبولي الجذريّ لِوضعهم المؤلم.
ولكن يريد أكثر الناس غالبًا النصيحة والتّوجيه من مُعالِجهم، ويسعدني إلزامهم بذلك، لكن عليهم أوّلًا إدراك أنّني أستطيع تحمّل سماع مدى قوّة أفكارهم أو مشاعرهم المؤلمة، ومدى بؤس أفعالهم، ومقدار ما يشعرون به من اللّوم على نتائج حياتهم، فإذا تمّ ذلك كُنتُ قادرًا على مساعدتهم بشكلٍ أفضل في التحرّك نحو التعاطف مع الذّات، لا سيَّما في الحالات التي يُثقَلون فيها بمشاعر النقد الذّاتي المُستمرّة؛ إنّ قبول عيوبنا جذريًّا -الطُّرق التي تؤذي بها أفعالنا مَن نحبّهم، والطُّرق التي لم نكن نتمنَّى أن نكون عليها- ليس أفضل فرصة لنا للخلاَص في نَظر أولئك الذين نؤذيهم فحسب؛ لكنّها أفضل فرصة لنا لتغيير علاقتنا بمشاعرنا عميقة الذَّنب، أو الحزن، أو النَّدم.
قد يظلّ القبول الجذريّ أضعف من إسكات الأصوات الصَّاخبة التي تهدّد رفاهيّتك.
لكن لماذا يَشيع الشعور بالقلق؟ لأنّ أدمغتنا لم تتطوَّر لإبقائنا سعداء؛ إذ تطوَّرت لإبقائنا على قيد الحياة فحسب. وحيث تُضخِّم عقولنا الأخطار المُحتملة إلى هذا الحدّ؛ فأولئك الذين فشلوا في تقييم التهديدات الحقيقية، لم يعيشوا طويلًا بما يكفي لِنَقل جيناتهم. على سبيل المثال، إذا كان أسلافي اليهود قد قالوا: «ديكتاتور، ومفكّك، ستقلق كثيرًا أنت أيضًا»، وبقوا في أوروبا الشرقية؛ فلن يعيشوا طويلًا بما يكفي لِنَقل جيناتهم المثيرة للقلق إليَّ وإلى ذرّيتي. وإن شئت فقل: لا ينبغي تكليف فريق الشخصيات العقليّة المُزعجة الكارثيّة المفرطة في التّعميم والانتقاد الذّاتي الذي يخلق المعاناة الشديدة التي لها قيمة تكيفيّة بالمسؤولية عن العرض. إذ يُعتبر «القبول الجذريّ» طريقة لتقول: «لقد حظيتَ باهتمامي، شكرًا لك على قلقك مِن كون الأمور فظيعة كما تصفها، وقد تكون بهذا السَّوء في المستقبل أيضًا، وقد أخذتُ ما تريد قوله على مَحمل الجدّ، لكنّني الآن سأنظر بوعيّ ما الذي سيظهر»، بينما تمرّ كثير من المشاعر المؤلمة دون تدخّلنا، فتلك التي تسبّب المعاناة الشديدة تتطلّب منّا المزيد، وإذا لم نحقّق في الأفكار أو المشاعر المُزعجة ولم نقبلها؛ يصبح جُزؤنا الذي يعتقد أنّنا في خطرٍ حقيقيّ، أعلى صوتًا، وأكثر إلحاحًا.
أقولُ -من ناحيةٍ أخرى-: إنّ أهمّ شيء تعلَّمته -باعتباري طبيبًا نفسيًّا- أنّ ما يصلح لشخص، لن يفيد آخر. وهكذا، تظلّ ممارسة «القبول الجذريّ»، أو أيّ أسلوب من الأساليب الأخرى التي وصفتُها هنا، علاجًا ضعيفًا للغاية، لإسكات الأصوات الصَّاخبة المقنِعة التي تهدّد رفاهيّتك. وإذا كان الأمر كذلك، فقد تحصل على مساعدةٍ أفضل في الإجراءات والأنشطة التي تبعدك عن اجترار أفكارك، مثل: التمارين المكثَّفة، والموسيقى الصاخبة، والأصدقاء الدَّاعمين، وقضاء الوقت في الطبيعة، والعطاء من أجل الآخرين، وتنمية التعاطف مع الذَّات.
ويمكن للثقافة أيضًا تحديد مدى صعوبة العمل الذي نحتاجه للهروب من قيود معتقداتنا المؤلمة؛ فهناك أدلّة متزايدة على أنّ الثقافات ذات المعدّلات العالية من عدم المساواة الاجتماعية -كالتي في الولايات المتحدة، أو الصين، أو الهند-؛ لديها معدّلات اكتئاب وقلق أعلى بكثير من تلك التي تعاني انخفاضًا في عدم المساواة الاجتماعية، مثل: ألمانيا، واليابان، والدّول الإسكندنافية؛ لذا ذهبت الأبحاث الحديثة لعالِمة النَّفس إيريس ماوس Iris Mauss، وزملائها، إلى أنّه كلمَّا سعينا وراء السعادة بنشاطٍ أكبر -باعتبارها سعيًا فرديًّا كما هو موصوف عادة في الولايات المتحدة-؛ أصبحنا أكثر تعاسة ووِحدة واكتئابًا، وعلى النّقيض من هذا، ففي تلك البلدان حيث تعرف السعادة شكلًا من أشكال المشاركة الاجتماعية بدلًا من السَّعي الفردي؛ تكون النتيجة سعادة أكبر.
ولأنّ مصائرنا مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالآخرين، فالأمريكيون فقراء من حيث العلاقات، ورغم ثروتنا الهائلة؛ فإنَّنا أكثر عُزلة، وأكثر قبليّة، وأكثر وِحدة. في حين أنَّ ممارسة «القبول الجذريّ»، التي نفضّل تجنّبها هي الطريقة المُهمّة لمواجهة الحقائق، ويمكن للأصدقاء والعائلة الدَّاعمة أن تجعل فعل القبول أقلّ رعبًا، وأقلّ وِحدة، ومن ثَمَّ أقلّ إيلامًا، كما كتبت فيرجينيا وولف virginia Woolf، في رواية: «السَّيدة دالواي»، سنة (1925)، إذ قالت: «إنّه لأمرٌ خطيرٌ للغاية؛ أن تعيش وَلَو يومًا». لكنَّ الأمر يُصبح أكثر خطورة؛ حين نصوغ طُرقنا بمفردنا.
(وفق اتفاقية خاصة بين مؤسسة معنى الثقافية، ومجلة إيون).
تُرجمت هذه المقالة بدعم من مبادرة «ترجم»، إحدى مبادرات هيئة الأدب والنشر والترجمة.
الآراء والأفكار الواردة في المقالة تمثّل وِجهة نَظر المؤلف فقط.